الثلاثاء، 29 أبريل 2014

التيارات الثورية، والانقلاب، ومسار الإصلاح. أحمد سالم

التيارات الثورية، والانقلاب، ومسار الإصلاح
وأمور أخرى
أحمد سالم


بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد..

فهذا تحرير أرجو أن يكون نقلياً عقلياً مؤيداً بالحجة والبرهان ينتفع به أهل العقل والروية والفهم والفقه حتى ولو لم يوافقوه، ولم أقصد أن أخاطب به من يقابله بهواه فيرده بهواه، ويذهب ليبحث عن حروف مصفوفة كتبتها أيد مؤدلجة تريد الحفاظ على جمهورها على طريقة الشؤون المعنوية وغسيل عقول الأفراد تزعم أن فيها رداً يطمئن هوى التابع ويسكن ضميره، وليحرك التابع لسانه ليقول: قد رد فلان وفلان، فلا زالت البصيرة في الدنيا مذ ذرأها الله قليلة وإن الله بعث الأنبياء ومن بعدهم أهل العلم ورثتهم ليبينوا الحق ولم يضمن لهم أن يتبعهم عليه الناس.
وبعد..
فقد كانت التيارات الحركية الثورية – لاحقا - قبل الربيع العربي في حيرة من أمرها، فبين ملاحظاتهم على التيارات الجهادية ونظرياتها من قتال العدو القريب قبل البعيد، حتى تقريب العدو البعيد نفسه، وبين ملاحظاتهم على التيارات الدعوة المنسحبة من المجال العام فيما لا يخص الدعوة؛ كانت حقيقة مشروعهم عمليًا تؤول إلى مسار الأحزاب والمشاركة السياسية الذي بدأه الإخوان، وليس لهم ممارسة حركية يمكن أن تميزهم، خاصة مع تعذر سلوك الطريق المسلح كما سبق، ومن هنا اكتفوا بالحركة في الإطار الذي سمحت به دولهم .
لقد أحدثت ثورات ما يسمى بالربيع العربي رجَّة شديدة على المستوى الفكري، ربما تكون أبعد أثرا مما أحدثته على المستويين السياسي والاجتماعي.
فقد بدا – ظاهريا على الأقل – أن الربيع العربي قد أنفذ خرقا في التصورات الإسلامية التقليدية، التي توزعت بين الاتجاهات الدعوية، والاتجاهات الجهادية، واتجاه الإخوان المسلمين والدائرة القريبة منه التي رأت المشاركة في (اللعبة) السياسية. أبدت الثورات أن هناك خيارات أخرى غير تلك المسارات المعروفة.
لقد مثّل الربيع العربي الفرصة الهائلة أمام تلك التيارات لتجد ذاتها، وتخرج من عباءة حركة الإخوان، وتدلل على صحة نظريتها – ومن ثم تعطي لوجودها نفسه المشروعية اللازمة للاستمرار وتحقيق المكسب الاجتماعي - ؛ فها هي الثورات: يمكن عن طريقها التغيير، دون العمل المسلح، ودون المشاركة في لعبة سياسية زائفة، ودون الانكفاء على النفس وممارسة الدعوة، سواء صحبها شرعنة الأنظمة أم لا.
لما جاء الربيع العربي= انخدع به كثير من هؤلاء، كما انخدع به كثير من قليلي العلم بالشرع أو قليلي البصر بالواقع، أو كلاهما، وصاروا يرددون – جميعا - أسطورة الحراك السلمي وقدرته بمجرده على تغيير الأنظمة، وجعلوا هذا هو مشروعهم الذي يعطيهم هويتهم ويكون هو نطاق عملهم وحركتهم، وهو في الوقت نفسه المشروع الذي يستطيعون المزايدة به على من يركز على المسارات الأخرى العلمية والدعوية وحتى السياسية، التي كانوا يشاركونها الحركة والتصورات منذ فترة ليست بعيدة،والتي شاركوها نفس الحركة والتصورات بعد الربيع العربي لفترة ليست قصيرة حتى حدوث الانقلاب!
ولما جاء واقع الانقلاب في مصر= جاءت معه الحقيقة الصلبة التي جهلها من غرهم جهلهم بالشرع وجهلهم بالواقع وموازين القوة والعلاقات فيه.
هذه الحقيقة الصلبة التي يدل عليها الشرع والعقل والتاريخ والواقع:
أن الحراك السلمي بكل صوره ليس قوة في نفسه، وليس شيئًا هو قوة في نفسه من بداية التاريخ إلى نهايته إلا السلاح والشوكة، وفقط.
والحراك السلمي بكل صوره مثله مثل الإعلام، ومثله مثل المسارات السياسية والقانونية، ومثله مثل الإصلاح الثقافي والمجتمعي، ومثله مثل أي سبيل آخر يسلكه الناس لتحصيل الحق أو دفع الظلم = كلها سبل غرضها أن تؤثر في قرار القوة المسلحة، لكنها كلها لا تستطيع أن تجابهها، غرضها أن تحرك الق الحقيقية داخلية كانت أو خارجية لتقوم بالتغيير لا أنها هي بنفسها تغير.
ولذلك إذا لم تكن القوة المسلحة قابلة للاستجابة أو كان الصراع معها هي نفسها= فمصير أي مقاومة غير مسلحة، من أي نوع، تدخل في صراع صفري مع قوة مسلحة= هو الهزيمة والفشل.
هذا هو منطق القوة والسنن الكونية منذ ابني آدم إلى أن يختم الله للمؤمنين بالسلطان آخر الزمان بجيش وسيف، لا بثورات سلمية على الطواغيت المستبدين، وقوى الكفر والاستكبار العالمي !
إن الخلل الموجود عند التيارات المحافظة من السلفيين وغيرهم – وقد كنت منهم - هو عجزهم عن بناء شرعي صحيح لحكم الحراك السلمي بأنواعه، فأنت تجدهم بين رجلين: إما مانع يمنع منها أبدا لنظرته لغالب وقائعها وأن مفاسدها أكبر، وإما من يعلق الحكم في كل واقعة على حدة، فيريد في كل واقعة حراك أن ينظر في مفاسدها ومصالحها بخصوصها ليقضي فيها بما تستحقه، وهذه الطريقة الثانية أصح لما فيها من مراعاة المتغيرات.
أين الخلل إذن؟
الخلل هو أن تحرير المصالح والمفاسد في كل واقعة يفتقر إلى علم، وإحاطة بواقع، يحتاج العلم والإحاطة به للإلمام بأدوات كثيرة.
وأنا أقول بوضوح: إن كثيرا من المشاهير المتصدين للفتيا في الوقائع والنوازل ليس لديهم إلمام كاف بأدوات النظر هذه؛ لتعلقها بعلوم لا يشتغل بها الفقهاء في زماننا للأسف، كما أن الخطط المطروحة للجمع بين الفقهاء والمختصين بهذه العلوم لم تنجح حتى الآن !
ومن ثم: فلا النظر الفقهي المحافظ في الحراك السلمي مكتمل مسدد، ولا النظر الثوري المخدوع بأكذوبة الحراك السلمي وقدرته على التغيير مكتمل مسدد.
ومما يبين لك تشعب العوامل والبيانات التي ينبغي على الفقيه – والسياسي بطبيعة الحال، ولكن الكلام في تلك الكلمة عن الشرعيين لا السياسيين، فالسياسيون لهم مصائبهم التي تضيق عنها الكلمات والبيانات- ؛ مما يبين لك ذلك؛ أن أذكر على عجل أهم العوامل والمحددات التي أراها تتعلق بضبط الاحتجاج السلمي:
إن وسائل الاحتجاج السلمي هي ضرب من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد ترتقي أحياناً حتى تكون أحد وسائل العزل الشرعي للحكام، هذه هي تكييفاتها الفقهية الممكنة.
والبحث فيها بإطلاق القول ببنائها على المصالح والمفاسد هكذا بدون تفكيك لهذه الجملة وتحليل لبنيتها وفقاً لمعطيات الواقع= لا يعد فتوى شرعية منضبطة.
فالحقيقة إن الخروج بحكم شرعي على أية وسيلة من وسائل الاحتجاج السلمي ضد السلطة يعتمد على تحديد أربعة عوامل – مبدئيا - :
أولا : موقف القوة المسلحة الأساسية في الدولة منك: (عداء -تأييد- حياد).
ثانيا : قوة الدولة نفسها ودرجة إحكامها لقبضتها، ووحدة السلطة فيها أو تعدد أجنحتها.
ثالثا: مستوى أهدافك، ودرجة تعارضه مع إرادة الدولة وقوتها العسكرية.
رابعا: قدرتك على الحشد، ونوعية هذه الحشد، وتعدد أطيافه، وقدرتك على الحفاظ على السلمية التامة التامة (لتفهم معنى السلمية التامة: لا يوجد في السلمية التامة مسلحون وليس فيها أن تصرخ مع أول ضحايا: سلمية ماتت)، وقدرتك على تحمل سقوط الضحايا، ثم قدرتك على إعادة التجمع بعد الفض، وقدرتك على البقاء على ذلك زمناً طويلاً، وتناسب كل هذا مع المصلحة التي ترجوها من ورائه، والفساد الذي سيحدث لو لم تفعله.
هذه المتغيرات الأربعة تتفاعل نسبها لتنتج حكماً مختلفاً في كل قضية، ودون التبصر فيها، وحسابها بدقة كبيرة= فإن المنظّر والفاعل في تلك الحراكات هو سائر خبط عشواء، ليس على هدى.
إن الحراك السلمي – دون حساب العوامل المذكورة، بحيث تكون دالّاتها مائلة نحو منفعة حراكك - ؛ مثله مثل المسار السياسي، مثل باقي المسارات الإصلاحية = تحسِن شبكة القوى الحقيقية في العالم أن تبتلعها داخلها، إنها لا تسدها تماما، لكنها لا تسمح لها أن تأخذ من السلطة إلا القدر الممكن إعطاؤه بحسب مرونة السياسة الميكافيلية وبراجماتيتها، ومتى تجاوزت تلك المسارات الإصلاحية الخطوط الحمراء – التي وضعتها شبكة القوى نفسها – فإن تلك الشبكة تتجاوز خيار الابتلاع، لخيار الإجهاز والقضاء.
وكل مسار من هذه المسارات - سواء الحراك السلمي أو غيره - = إن لم يحسن اختيار الجزء الذي يتحرك فيه، والمطلب الذي تساعده عليه الظروف المحيطة؛ سيفشل فشلا ذريعا، وتكون آثاره كارثية على المشاركين فيه وعلى الجسم الذي ينتمون إليه كله ولو لم يشارك فيه.
لقد صدَّق المخدوعون هؤلاء أن حراكا سلميا وقفت القوة المسلحة لتشاهده ولم تطلق نحوه رصاصة= أنه نجح في إسقاط نظام، الحقيقة :هذا تفكير يبعث على الضحك، للأسف!
إن أول نقطة تفكير في أي حراك سلمي هي: أن تبحث عن موقف القوة المسلحة منه، هل ستؤيده، أم ستقف منه موقف الحياد أو شبه الحياد، أم ستعاديه؟
دعنا نضرب أمثلة على الحالات الثلاث لتفهمها:
1- تقف القوة المسلحة موقف التأييد : كما في حراك ثلاثين يونيو = ساعتها لن ترى نقطة دم واحدة.
2- تقف القوة المسلحة محايدة أو شبه محايدة: كما في ثورتي تونس ومصر = وحينها سترى فقط الدماء التي أسالتها الشرطة قبل انسحابها، أو الدماء التي أراقها النظام في محاولته اليائسة لمواجهة الحراك دون عون من قواته المسلحة (معركة الجمل مثالاً ).
3- القوة المسلحة معادية = هنا نرحب بك يا صديقي في عالم القوة الحقيقية، هنا أكلمك عن مجزرة رابعة الإجرامية وما سبقها وما تلاها، هنا أكلمك عن جرائم كتائب المجرم الهالك القذافي، هنا أكلمك عن مذابح الزنديق بشار الأسد، وإن شئت عدت بك إلى تواريخ أقدم من هذا، وإن شئت ذهبت بك بعيدا عن العرب إلى الصين وإيران – ملهمة كثير من الثوريين كما سنشير -
إذا لم يحسِن الداعي للحراك السلمي التفكير في القضية الأولى هاهنا: وهي موقف القوة المسلحة منه، وظن أن حيادها كتأييدها كعدائها= فما هو إلا مغرور سفيه لا يحسن التفكير، وليس أهلا لأن يقرر مصير دجاجتين، فكيف بقطاع كبير من أحسن الناس.
أنت أمام ثوري يريد من خيرة المسلمين أن ينزلوا ليواجهوا بصدور عارية رصاص سلطة غاشمة ظالمة لا ترقب فيه إلا ولا ذمة، ويراهن – تصريحا أو بينه وبين نفسه – على أن تلك الدماء هي وقود الثورة المقدسة – قد يقلب ماركسيا للحظات!،- أو أنها تبذل رخيصة في سبيل افتداء مصلحة الدين المقدمة على النفس ، والمضمون واحد مع اختلاف التزويق الأيديولوجي، وهو في كلا الحالتين: كلام فارغ عن المضمون، مخالف لسنن الكون: الشرعية، وحتى الثورية!
فيم يفكر إذن الثوري، الذي يعلم أن العزَّل لن ينتصروا على البارود؟
ببساطة : يفكر أن تتحول تلك الثورة لثورة مسلحة ، أو أن ينقلب رجل شريف من داخل الجيش لينقذنا من هذه المذبحة، أو أن تغضب أمريكا على القاتل، وتعلن فجأة أنها تحذر السلطات من مغبة أفعالها ؟! – فنحن قد اتفقنا، ضمنيا على الأقل، أن القوة والقوة فقط هي التي ستغلب- .
فنحن نقول: إن هناك أمرًا في غاية الأهمية في العلوم الإنسانية: وهو البحث في درجة احتمالية التوقعات التي تبنى عليها التوقعات التي تبنى عليها التصرفات.
الآن ما درجة احتمال أحلامك هذه، وما هي فرص حدوثها، ومتى ستحدث، وهل هي - إذا حدثت- خير أم شر : ؟
أجب عن هذا إجابة نزيهة، وإن كنت أعلم صعوبة الإجابة هاهنا لأنك تحتاج أن تتخلص من حماستك العمياء هذه، وتحتاج مع ذلك لأدوات تحقق لك علما صحيحا بالواقع.
سأجيبك أنا الإجابة التي تكره، وأترك لك الإجابة التي تحب.
احتمالات تحول الحراك السلمي الحالي إلى ثورة مسلحة= معدومة؛ لأن الحراك نفسه لم ينجح في تكوين كتلة حرجة يؤدي قمعها من قبل السلطة لتحرم مسلح عام، أو حتى أن يميل جناح مسلح في السلطة لها، فالحراك محصور في (بعض) الإسلاميين، في عزلة كبيرة عن أغلب شرائح المجتمع المسحوق تحت وطأة المعاناة الاقتصادية والخلل الأمني.
واختيار أن يرفع الإسلاميون وحدهم السلاح= هو انتحار جماعي، فطبيعة الإسلاميين في مصر غير ملائمة للعمل العنيف، حتى جهاديوهم ! ، فالغالب الأعم من إسلاميي مصر لين ضعيف قليل الحيلة، وقد دلت التجربة على ذلك عقب الانقلاب نفسه، فكيف بغير الجهاديين الذين يراد أن يلقى بالآلاف منهم تحت النار، فضلا عن المعاقبة الجماعية لذويهم ومن يمت لهم بصلة، ولعموم الإسلاميين، فضلا عن شرعنة النظام المقاوم للإرهاب، وقد دلت التجربة الجهادية في مص في أوجها في التسعينات على كل تلك المعاني، فقد انتهت تلك الحقبة بالفشل الذريع للجهاديين، الذين لم يحققوا أي مكاسب تذكر، واحترقت زهرة شبابهم في مواجهات محتومة الفشل مع الأمن، وقبع أغلبهم في السجون، أو تراجع فكريا، ومنحوا نظام مبارك أفضل فترات شرعيته في التسعينات في ظل مقاومته (للإرهاب)، تلك الشرعية التي انحسرت في العشرية اللاحقة مع انسحاب الجهاديين من المشهد، حيث تقلصت تلك الشعبية اجتماعيا وسياسيا بحراكات أقل كلفة بكثير!
أما ما يحلم به البعض من حصول انشقاق في الجيش، أو تكرار التجربة السورية ودخول مجاهدين غير مصريين = فإن هذا سيفتح الباب على مصراعيه لأتون رهيب من الحرب الأهلية، في ظل حاضنة شعبية غير مؤيدة لك أولا، وغير مؤيدة للعنف ثانيا وثالثا وعاشرا.
وفي بلد كمصر = فإن هذا سيفتح الباب لتدخلات دولية سافرة ، وتحول مصر لساحة صراع دولي لا يعلم مداه إلا الله ، لا يستبعد أن يسفر عن احتلال عسكري مادي !
فضلا عن دخول الغلاة من التكفيريين ، ونشوء ميليشيات مسلحة ، لكل ولاؤها ، وممولها ، وندخل في صراع قطع الرؤوس والتفجير ، ونكرر بؤس وشقاء السوريين .
ولو حصول انشقاق في الجيش؛ فإن هذا سيفضي لتطاحن بالأسلحة الثقيلة ، تزهق فيه الأرواح والأموال ، ثم يستولي الجناح الأقوى على السلطة (انقلاب) ، ولن يسلم لك السلطة بطبيعة الحال !!! ، فإن الجيش على قلب رجل واحد في نبذ الإخوان وإزاحتهم من المشهد ، وإلا لحصل الانقلاب ثاني يوم وقوعه ، بل لما وقع أصلا ، كما يعلم أي محلل سياسي مبتدئ !
وأنا موقن أن بعض هؤلاء الثوريين الجاهلين بالشرع والواقع يعلم كثيرا من هذه العواقب، ولكنه لا يريد التدبر فيها كي لا يفيق من سكرة نشوته، بل قد يرى هذا نصرا عظيما، وأنها فرصة لتغيير الخريطة، والفوضى الخلاقة، وتقريب العدو، وغيرها من نظريات الجهاديين التي جرت الويل والخراب على المسلمين لأكثر من ثلاثة عقود، والتي لا يسع فقيها عاقلا متزنا في عقله ودينه أن يبيحها لأجل طموحات جنونية، لا يبيحها شرع ولا عقل.
ومع فرض أنك وقوع احتمال الانقلاب داخل الجيش دون خسائر، أو استفاقة ضمير أمريكا= فسؤالي الثاني: ما الذي سيحدث حينها؟!
هل سيخرج الجيش من السياسة وتولي أمريكا دبرها لمصر وتتركها في حالها؟
أم سيتم إعادة إنتاج النظام في دورة جديدة يمتدح فيها الجيش الشريف الذي انقلب على الخائن وإن مشكلتنا يا جماعة مع السيسي لا مع جيش مصر؟!
هذا الجنرال الشريف الذي تحلمون بانقلابه هل سيترككم هو ومن وراءه ويذهب ليجلس في الظل ويكتفي بأنه حمى الثورة؟!
ولو فعل فإلى متى؟
إنما هي مجرد جولة جديدة سيخوضها النظام لابتلاع الحراك الجديد وإعادة إنتاج المشهد.
يقول عالم الاجتماعي الأمريكي اليساري (جيمس بتراس James petras ): (( للسياسة الخارجية الأمريكية تاريخ طويل من تنصيب الأنظمة الاستبدادية التي تساند سياساتها ومصالحها الإمبريالية طالما أبقت على التحكم في شعوبها، وتمويل تلك الأنظمة وتسليحها ودعمها.
في الماضي عمل الرؤساء الجمهوريون والديمقراطيون عن كثب ولمدة تربو على 30 عامًا مع ديكتاتورية تروجيلو بجمهورية الدومينيكان، قاموا بفرض نظام دييم الاستبدادي في فيتنام، وتوطئوا مع جيلين من أنظمة عائلة سوموزا الإرهابية في نيكارجوا...إلخ
وحينما تحدت الانتفاضات الشعبية تلك الديكتاتوريات المدعومة أمريكيًا، وبدا من المحتمل نجاح الثورات الاجتماعية والسياسية، كان رد فعل واشنطن هو اتباع سياسة ذات مسارات ثلاث: النقد العلني لانتهاكات حقوق الإنسان والمطالبة بإصلاحات ديمقراطية، العمل سرًا على إرسال إشارات دعم للحكام، وثالثًا البحث عن نخبة بديلة يمكن أن تحل محل الأنظمة القائمة وتحافظ على أجهزة الدولة وأنظمتها الاقتصادية، وتدعم مصالح الولايات المتحدة الاستراتيجية الإمبريالية.
لا تبقي الولايات المتحدة على علاقات استراتيجية دائمة، بل فقط على مصالح إمبريالية. أي الحفاظ على أجهزة الدولة العميلة. وبما أن الديكتاتوريات تفترض أن علاقاتها بواشنطن استراتيجية، فإن قادتها يصابون بالصدمة حينما تتم التضحية بهم كأشخاص من أجل إنقاذ جهاز الدولة)).
ولو كان يمكن حدوث هذا بدون الخسائر التي تحدث الآن= لساغ سلوك هذا الطريق ولو بإعادة إنتاج النظام طلباً للتخفيف، لكن واقع الخسائر لا يجعل الثمن المدفوع الآن مشروعاً دفعه أبداً ما دامت المعطيات تقول إن أفقه هو إعادة إنتاج النظام.
هذا هو منطق النظر وفق المعطيات المتاحة إلا أن يشاء ربك خرقاً لنظامها، والفقيه الذي يفتي الناس فتيا يتحرى براءة ذمته من دماء الناس المترتبة عليها يوم القيامة= لا يملك إلا أن يبني على المعطيات المتاحة ويجود النظر فيها، ويكمل نقص أدواته مستصحباً الورع والخوف من الله ومن تحمل دماء الناس.
وهو إن أخطأ= فحسبه سعيه وتحريه واجتهاده وأنه بنى على المعطيات الصلبة والظنون المنتجة للأحكام الشرعية.
أما الفتيا في دماء الناس بالاحتمالات البعيدة والأحلام والأماني وشاذ التوقعات= فهي فتيا محرمة حتى لو قدر الله وقضى وحدث هذا التوقع البعيد لأسباب خارجة عن إطار النظر المتاح.
إذا فكرت جيدا في هاتين المسألتين : نسبة احتمال حصول أحلامك المعلقة بيد أمريكا اليمنى ويد الجيش اليسرى.
فهنا السؤال الأهم، وهو:
إن سيناريوهات توقعات هاتين المسألتين: هل تساوي قيمتها الزج بأكثر من خمسة آلاف من خيرة شباب مصر ليقتلوا عزلًا؟!
هل تساوي الزج بأكثر من عشرين ألفا من شباب المسلمين في المعتقلات؟!
هل يساوي مع ما معكم من الظن حدوث أكبر كارثة دموية في تاريخ هذا التيار؟!
أي دين وأي شرع وأي عقل سليم هذا الذي يدخل بصدر أعزل لشباب في أعمار الزهور صراعا صفريا مع قوة غاشمة ظالمة مسلحة مدعومة غربيا؟!
عزيزي الثوري: بالدين والشرع والعقل والفطرة هذه ليست ثورة، هذا انتحار، هذه مذبحة تاريخية تحرق موارد أربعين سنة بلا ثمن.
تقول: وكيف كان ينبغي أن أواجه الانقلاب؟
أقول لك: دعني أذكرك بالخطأ الأول الذي أدخلك في هذه المحرقة أولا.
هل تذكر ما قلت لك من انخداعك الذي أدخلك المحرقة هو أنك واجهت الانقلاب متأثراً بخدعة الربيع العربي، متأثراً بخدعة الحراك الجماهيري الذي يستطيع أن يرغم أنف النظام.
وأنت بانخداعك بهذا المنطق لم تحسن التفريق بين النظام حين تتخلى عنه القوة المسلحة التي فيه، وتدعم - أو على الأقل تقف محايدة، وبين النظام حين يكون مدعوماً بالقوة المسلحة، أو (وهذه هي الأصعب) حين يكون نفس النظام هو القوة المسلحة.
بالتالي أنت فكرت هكذا: سأنزل وأتظاهر بأعداد غفيرة وأعتصم وأطيل أمد الأزمة!
حتى ماذا يا صديقي؟ = حتى يتنحى السيسي، أو يتم الانقلاب عليه.
وما الذي معك ليرضخ لك الجيش ؟
بمنطق القوة الحقيقي في العالم: ليس معك شيء، أنت أعزل، لا تملك أن تدفع عن نفسك ضربة سكين، وبمنطق الحراكات السلمية وقدرتها على المناورة والتأثير على القوى الحقيقية (هذه لمن يتكلم عن الثورة الإيرانية): حراكك السلمي للأسف كان حراك تيار، وليس حراك كتلة حرجة متمددة اجتماعيًا داخل الشعب، والفرق بين هذين الحراكين كنت ستفهمه لو كان عندك ما أشرت لك به من العلم الضروري بالواقع وأدوات فهمه.
قد يعسر على القوة المسلحة بدرجة ما أن تواجه حراكًا شعبيًا متعدد الأطراف والطبقات، وهذا العسر مرتبط أيضا بموازناتها الداخلية والخارجية، وإلا فقد تواجهه وتجعل مواجهتها معه صفرية كسوريا وليبيا وساعتها يصبح الانتصار بالسلمية وهم.
لكن قدرة القوة المسلحة على المواجهة الدموية مع تيار تصبح أسهل بكثير، خاصة إذا نجحت في عزله مجتمعيا بوسائلها المتعددة.
إذن أنت الآن في حراك سلمي معزول مجتمعيا، تخوض به صراعًا صار صفريا مع جنرالات لو تراجعوا للخلف؛ لن يسلموا من محاكمات، فضلاً عن أن التراجع للخلف نفسه معناه فقدان الجيش داخليا والقوى المرتبطة به خارجياً لسطوتها وسيطرتها على السياسة وموازين القوى المصرية.
وهذه الأخيرة لا يمكن لهم أن يسمحوا بها، وسيخوضوا صراعاً دمويا حتى العظم؛ كي لا يصلوا لها، ومعهم قوة دولة مسلحة وقلوب لا ترحم وأنت أعزل.
فإن قلت: معي الله ؟
قلت: لن أخوض فيما يتعلق بهذه النقطة سواء ما يتعلق بموجبات النصر أو لا، لكن أقول لك شيئًا واحداً:
إن الله عز وجل هو من خلق سنن الكون، وكتاب الله بين أيدينا لن تجد فيه موضعا فيه ذكر المادة والمادية وتحصيلها مثل الجهاد، حتى إن الله نبه فيه على أمور من أدق ما يكون، حتى نبه المقاتلين ألا يغفلوا عن السلاح و(المتاع) حال الصلاة! ، فأي اعتبار لمنطق القوة والحرص عليها فوق هذا؟!
إن الله سبحانه وتعالى لم يأمر المسلمين بأن يخوضوا قتالا هم فيه عزل من السلاح صدورهم عارية رجالا ونساء وأطفالا ليموتوا لا نكاية لهم في عدو ، ولا قال لهم أنا معكم، وسأنصركم، لمجرد أنكم مظلومون، أو محقون، ولو لم يكن لكم شوكة ولا بأس، بل أمرهم في حال العجز والضمور: بالصبر حتى يتمكنوا بالإعداد.
إني أقول: إن من يقول ذلك الرد (المخدّر) للبسطاء: الله معنا، أو سينصر الله المظلوم= ليس فقط جاهلا بالشرع، ولا هو (درويش)، بل إنه مجرم، محاسب بين يدي الله على جريمتين على الأقل: أعظمهما: الافتراء على الله ورسوله وكتابه، وتشريع ما لم يأذن به الله، فإننا نعلم بالاضطرار من كتاب الله وسنة رسوله وتصرفات السلف ومدونة الفقه الإسلامي أن الله لم يشرع للناس أن يموتوا من غير مصلحة، ولا نكاية، فضلا عن ترتب المفاسد العظيمة على ذلك. فهذا الافتراء على الشرع ، والتواكل المقيت، له عواقب دينية وخيمة، في الدنيا، ليس أقلها تيئيس الناس من الدين، بل تشككهم من الدين ، إذا جعلت تشحنهم بأن النصر مع الصبر – الصبر في ساحات الجهاد مع القتال والشوكة، أو الصبر بترك الفعل مع العجز، لا القتل صبرا بإلقاء نفسك للحتف دون منعة ولا مصلحة -، وأن الله ناصرنا لا محالة؛ ثم يفيق الشباب على سراب، فيكفروا بك أو بالدين!، أما الجريمة الأخرى الواضحة التي سيسأل عنها ذلك الدرويش المخدر المغرور: فهي التغرير بهؤلاء الشباب المساكين، الذين أطاعه بعضهم جهلا، وصدق النبي صلى الله عليه وسلم حين قال للناس الذين أبوا أن يدخلوا النار لما أمرهم قائد السرية، وامتنعوا قائلين ما خرجنا إلا لنفر من النار: لو أطاعوه لدخلوا النار!
إن كتاب الله وسنة نبيه وتاريخ المسلمين كله ليس فيه أن ينزل المسلمون جحافل غزيرة ليموتوا بصدور عارية، إن الله سبحانه لم يقل للمسلمين انزلوا من البيوت للشوارع رجالا ونساء وأطفالا وقفوا أمام الرصاص وموتوا.
فإن قلت: نحن ندفع الصائل ؟
قلت: الصائل في كلام الشرع والفقهاء كلهم ليس لك أن تنزل لتطلبه في الشوارع وتقف أمام رصاصه عارياً.
فإن قلت: أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر؟
قلت: كثير من الفقهاء أن ذلك لا يجوز لك وأنت تعلم أنك مقتول.
فقد قال سعيد بن جبير لابن عباس: آمر إمامي بالمعروف ؟، قال ابن عباس: إن خشيت أن يقتلك؛ فلا.
وقال عبد الواحد بن زياد للحسن البصري: يا أبا سعيد، أرأيت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أفريضة هو؟ قال: لا يا بني، كان فريضة على بني إسرائيل، فرحم الله هذه الأمة وضعفهم، فجعله عليهم نافلة!
وقال وكيع بن الجراح في الأمر والنهي: مروا بها من لا يخاف سيفه ولا سوطه.
وقيل لسفيان الثوري – وهو من أعظم السلف منابذة للسلاطين الجورة وإنكارا عليهم - : ألا تأتي السلطان فتأمره؟ قال: إذا انبثق البحر فمن يسكره ؟!
وسئل الإمام أحمد: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واجب، على المسلم؟ قال: نعم، قال: فإن خشي؟ قال: هو واجب عليه حتى يخاف، فإذا خشي على نفسه؛ فلا يفعل.
وسئل: متى يجب على الرجل الأمر والنهي؟ قال: ليس هذا زمان نهي إذا غيرت بلسانك، فإن لم تستطع فبقلبك، وذلك أضعف الإيمان. وقال : لا تتعرض للسلطان، فإن سيفه مسلول.
فهذه تقريرات للصحابة والتابعين وتابعيهم وكبار الفقهاء، لا يقدر أحد معها أن يتهمهم بعجز ولا خيانة وعمالة، كما يلغ هؤلاء الحمقى في ردغة الخبال على كل من خالفهم، وقال بمثل ذلك.
فإن قال قائل: المجاهدون بذلك محتسبون، يضحون بأنفسهم، وذلك اختيارهم؟
فأقول أولا: هذا ليس على إطلاقه، فلو كان لذلك الاحتساب فائدة، في مصلحة، أو دفع مضرة، أو تنكير، فلا بأس، أما إن تمحضت المفسدة، أو كثرت وعظمت على المصلحة؛ فلا ينبغي أن يمكّن من إتلاف نفسه، وتضييع عياله وأهله، أو فجع المسلمين فيه من غير مقتض، فليست نفسه ملكا له من كل وجه حتى يغرر فيها من غير مصلحة دينية!
يقول الغزالي في بيان مراتب الأمر والنهي:
أن يعلم – يعني المحتسب - أنه يصاب بمكروه، ولكن يبطل المنكر بفعله، كما يقدر أن يرمي زجاجة الخمر فيكسرها ويريق الخمر، أو يضرب العود الذي في يده ضربة مختلطة فيكسره في الحال ويتعطل عليه هذا المنكر، ولكن يعلم أنه يرجع إليه فيضرب رأسه، فهذا ليس بواجب وليس بحرام بل هو مستحب)).
ويقول: ((يجوز للمحتسب، بل يستحب له: أن يعرض نفسه للضرب، إذا كان لحسبته تأثير في رفع المنكر، أو في كسر جاه الفاسق، أو في تقوية قلوب أهل الدين))، فكيف بما يزيد الفاسق بطشا وإجراما، ويكسر قلوب المؤمنين، ثم هو لا يرفع منكرا ولا يحق مصلحة؟! ، ثم انظر إلى فقه الأئمة في اشتراطاتهم وتقييداتهم، من غير غرور فارغ، ولا حماس أحمق، وكبّر أربعا على حال بعض من ينسب نفسه للشرع وعلومه، يصول على كل من يخالفه بالسب والتخوين والتهوين والازدراء، مع ملاحظة أن الغزالي يتكلم عن مجرد ضرب المحتسب، لا قتله!
ثم أقول ثانيا: قد يسكت عن ذلك إن كان الضرر يقع على فاعل ذلك فقط – وليس هؤلاء الثوريون داخلين في ذلك بالمناسبة، فأغلبهم الأعم الأكبر لا ينزل مظاهرات، أو ينزل مرات نادرة في مظاهرات مأمونة للظهور فحسب، ويكتفون بالتهييج والتثوير، وهم آمنون في أسرابهم، عندهم قوت يومهم، أو مسافرون، أو يبحثون عن فرصة السفر بالخارج براتب ممتاز، أو مختبئون، وهم غير مطلوبين، وغالبهم مغمورون، لا فضل لهم على من يقتل في الشارع، كي يقال إنهم هاربون بأنفسهم كبعض الشخصيات المشهورة التي فرت بعد الانقلاب، أو من يترتب على اعتقالهم هزيمة نفسية للتيار مثلا!
أقول: قد يقبل ذلك إن كان الضرر يعود عليهم وحدهم، سواء أكانوا الداعين الذي لا يضارون أصلا، أو النازلين الذين يتعرضون للقمع وحدهم،، ولكن الواقع أن الضرر متعد، يقع على الأبرياء من عوام الناس أكثر مما يقع عليهم، فيقع القتل غير مفرق بين رجل وامرأة، أو كبير وصغير، أو ثوري أو مارّ.
وتقريرات العلماء واضحة في ذلك، وأنه لو اغتفر أن يحتسب الآمر بالمعروف في حق نفسه، فليس له ذلك في حق غيره.
قال الغزالي: (( إذا كان يتعدى الأذى من حِسْبته إلى أقاربه وجيرانه؛ فليتركها؛ فإن إيذاء المسلمين محذور كما أن السكوت على المنكر محذور !)).
ويقول: ((فإن علم أنه يضرب معه غيره من أصحابه أو أقاربه أو رفاقه؛ فلا تجوز له الحسبة، بل تحرم؛ لأنه عجز عن دفع المنكر إلا بأن يفضي ذلك إلى منكر آخر)).
ويقول العلامة عز الدين بن عبد الملك في شروط الأمر والنهي: (( أن يغلب على ظنه أنه إن نهاه لا يلحقه مضرة، ولا يزيد المنهيَ عنه أيضا في منكراته متعنتا.
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له نوعان: أحدهما أن يصيب القائم به أذى، والآخر أن لا يضر بنفسه، ولكن تحدث مفسدة أخرى نحو أن يقتل رجل بريء، أو يزيد مرتكب المنكر تماديا وإصرارا، وغير ذلك. أما النوع الثاني من رد الفعل: فأجمع العلماء على عدم القيام بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من هذا الوجه)) .
وجماع ذلك كله ما ذكره ابن القيم رحمه الله: ((إنما أوجب على الأمة إنكار المنكر؛ ليحصل به المعروف الذي يحبه الله ورسوله، ولكن إذا أفضى إنكار المنكر إلى حدوث آخر شر منه لم يجز)).
ويقول: ((إنكار المنكر أربع درجات: الأولى: أن يزول ويخلفه ضده، الثانية: أن يقلَّ وإن لم يزل بجملته، الثالثة: أن يخلفه ما هو مثله، الرابعة: أن يخلفه ما هو شر منه، فالدرجتان الأوليان مشروعتان، والثالثة موضع اجتهاد والرابعة محرمة)).
ومع ذلك كله : فإن كلمة الحق بلغت آذان هذا السلطان مرارا، أنت هنا لا تنزل لتقولها له، أنت هنا تنزل لتموت تحت قدميه بلا ثمن، ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم هذا لينزل الناس عدداً يقتلون عزلا.
فإنه قد يقع لبعض من لا تحقيق له في العلم، ولا يفهم مراد الفقهاء، فضلا عن معاني الحديث؛ قد يقع بعضهم على كلمة هنا أو هناك من تسويغ الفقهاء أن يجود الرجل بنفسه، لكن من يقدر أن يأتي بكلام العلماء أن يسلم المئات فضلا عن الآلاف أنفسهم للقتل حنف أنفهم، ويجعل ذلك من جنس ما ورد في هذا الحديث عن كلمة الحق عند السلطان الجائر؟!
وأمامك تاريخ المسلمين وخير القرون وأشراف الصحابة وأشجعهم أرني فيهم من فهم أن من أعظم الجهاد أن ينزل المسلمون عزلا ليتلقوا الموت؟
هل كان الصحابة الذين لم يفعلوا هذا مع سلاطين الجور ، والفقهاء من التابعين ومن بعدهم من كبار العلماء الذني أوردنا قليلا من كلامهم = جبناء؟!!
لا تقل لي أين سلاطين الجور من حكامنا، لأن هذا غفلة منك عن موطن الحجة، فأنت تزعم أن هذا جهاد يكون مع كل سلطان جائر، لا الكافر فقط، وأنا أقول لك ما أكثر سلاطين الجور في تاريخنا لم يسلك معهم أهل الدين من الصحابة ومن بعدهم إلا سبيلين:
- إما الصبر لعدم وجود الشوكة، أو لوجودها مع غلبة المفسدة، أو لاشتراط كفره .
- وإما القتال مظنة الغلبة ونقصان المفسدة عند توفر أدواته .

أما حراك سلمي تخوض به صراعا صفريا مع قوة مسلحة مدعومة داخليا وخارجيا تتلقى فيه الرصاص أعزلا = فهذا لا أصل يجيزه لا من النقل ولا من العقل !!.
وبالتالي: ينبغي أن تعترف بخلل تصوراتك، وأن تطلب غاية ما تطلب أن يعذرك الناس لأنك بنيت على خدعة الربيع العربي ولم تظن أنك مقتول هكذا، وأن تتوقف عن إلقاء الناس للتهلكة هكذا في طريق مسدود وحائط مغلق، لا أن تستمر في مواصلة هذه الكارثة ثم لا تكتفي بهذا بل تزايد على مخالفيك!
أما عن موقف حزب النور، فأقول:
- أما أصل قولهم بعدم صحة المواجهة؛ فصواب، أما منطلقات قولهم ودوافعه وباقي تصرفاتهم ومواقفهم؛ فهي واحدة من أقبح الضلالات في تاريخنا.
وأعظم الناس ضلالا حتى الكافر قد يُهدى لشيء يسير من الحق لكنه ينطلق فيه ومعه وبه ويزيد عليه ضلالا وفجورا لا نظير له.
والذين يعيرون من اختار عدم المواجهة هنا لعبثيتها، ويقولون له: هكذا يقول النور، رغم أنه ينكر سائر ضلالات النور= هؤلاء ليسوا طلاب حق، وإنما هم طلاب تشويه، يضعفون عن مقارعة الحجة بالحجة ، كمن يعير من لا يكفر تارك الصلاة بأنه مرجئ لأنه هكذا يقول المرجئة !
ليست كارثة النور في خيار عدم المواجهة، وإنما في دخولهم في الباطل ودعمه وتزيينه والثناء عليه والكذب على الناس وخداعهم باسم الشرع.
وحزب الضلال هذا ايضاً حين يخدع نفسه ويغش الناس ويقول عن كل رافض للمواجهة أنه صوب موقف حزب النور= فهو بهذا يعمل عمل الرافضة حين يدخلون في تراجم الشيعة كل من أظهر ولاية أهل البيت أو الشدة على بني أمية.
ماذا كان ينبغي أن نفعل مع الانقلاب إذن ؟، ما الذي كان ينبغي فعله لمواجهة الانقلاب؟
بداية: ننتهي من مسألة المواجهة المسلحة للانقلاب : من الواضح أن جمهور الصف الثوري لا يرى بديلاً عن السلمية، من ناحية التصريحات المعلنة على الأقل، فإن نصوص الإخوان المسلمين في ذلك قطعية، وهي تصل إلى حد التبروء من خلافها.
ويراوغ بعض الثوريين من غير الإخوان، ويقول إنه مع الخيار المسلح إن اختارته الأمة، ومن الواضح تلك الأمة التي يغرق في توثينها لن تختار هذا الخيار إلا في ظروف نادرة.
بالنسبة لرأيي: الحديث عن مواجهة الانقلاب مواجهة مسلحة هو عبث، ففي وسط التشابكات الموجودة= لا يجيز الشرع مثل هذا فيما أرى، كما أنه لا قدرة، وقد أشرت إلى ذلك فيما مضى بما فيه كفاية.
يبقى الخيار الثاني، وهو ما اختاره الإخوان في البداية، وتابعهم عليه بعض الإسلاميين لأسباب سبق وشرحتها من قبل، وهو خيار: التظاهر والاعتصام.
واتفقنا أن هذا كان نتيجة لتصورهم أن منطق الربيع العربي في يناير سيعمل هاهنا أيضاً، أستطيع أن تفهم هذا، لكن ما لا أفهمه :هو كيف اختاروا المضي في نفس الطريق بعد الفض وقد وضح لكل ذي عقل أن المنطق الذي يدار الأمر به لا صلة له بوهم الربيع العربي؟!
في تحليلي أن اختيار الاستمرار لم يُبْنَ على نظر عقلي وفقهي بقدر ما بُنِيَ على خليط من اليأس وخوف مغبة الرجوع للوراء.
ومن هذه اللحظة اختفى النظر العقلي والشرعي، وسارت الأمور بعقلية المقامر كما أشرت من قبل : يستمر في النزيف والخسارة رجاء فوز يجبُّ ما قبله.
لقد كان سقف المطالب والتوقعات عند الإخوان المسلمين مرتفعا إلى السماء قبل الفض، وهو عودة مرسي، وهو ما يمثل لقادة الانقلاب مطلبا عبثيا، ولكن: رغم الفض وفظاعة دلالته على خطأ حسابات القوى: فإن أي تراجع للخلف بعد سقف المطالب والطموحات التي تم شحن الناس به= لم يعد مقبولا،
وهذا يدلك على ما أريده هنا : أن الاعتذار لمن اختار خيار المواجهة بأنه ظن أن لن يقتل هذه المقتلة= فقد صلاحيته بالقبول بالاستمرار في نفس الخيار الخاطئ رغم جريمة الفض وما تلاها حتى اليوم.
نعود للخيار الصائب، ماذا كان هو ؟
أصبت عن نفسي بحالة من الصداع من كثرة ذِكْر الإخوان المسلمين للتجربة التركية، وأنا درست هذه التجربة دراسة مفصلة دقيقة، فهي من بدايتها - أي منذ سقوط السلطنة العثمانية - حتى الآن= واحدة من أكثر التجارب الإسلامية ثراء، وأعظمها فائدة، فقط لمن يفهم كيفية الاستفادة من التجارب.
وتوقعت من كثرة ذكر الإسلاميين والإخوان الذين يستحضرونها أنهم درسوها جيدا وانتفعوا بها، حسناً: هذا الظن كان خطأ مني، فقد اتضح أنهم لم يتعلموا شيئاً.
التجربة التركية تصور لك دولة عسكرية في لب سياستها، معلمنة حتى النخاع، في مقابل تيار إسلامي يتوسل بالمسار السياسي، وظروف دولية ترى مصالحها مع الجيش.
تعرض هذا التيار لانقلابين، أحدهما مباشر وصريح عام 1980 ، والآخر مبطن عام 1997م .
وقد أكثر الإخوان بعد الانقلاب عليهم من الاستبشار بالعاقبة السيئة لمنظمي الانقلاب الأول، والعاقبة الحسنة عموما للإسلام السياسي في تركيا، والتي جعلته اليوم يتجاوز هذه العقبات، ويترأس الحكم.
العجيب والمسكوت عنه هاهنا: لماذا لا يحكون للناس كيف واجه الإسلام السياسي في تركيا الانقلابين؟
في الانقلابين: خلع في الأول بدون مقاومة ، وفي الثاني: استقال أربكان طواعية من الحكومة بعد تهديدات بالانقلاب الصريح.
لماذا فعل أربكان هذا؟، لماذا نزل على رأي الفسدة؟، لماذا لم يجيش قوته التصويتية ورجال حزبه في مظاهرات عريضة؟
الجواب: لأنه اتخذ القرار الصحيح.
بلا شك ساعده على اتخاذ القرار أن منطق الربيع العربي وأوهامه لم يكن مستحضرا عنده، لكني أرى أيضا أن أردوغان لو وقع في نفس الظروف؛ سيتخذ نفس قرار أربكان ولن يغتر بالزيف.
العقل المسدد الذي يحسن حساب القوى؛ يعلم أن لحظة المواجهة الصفرية مع القوة المسلحة هي لحظة التراجع خطوة للوراء، خطوة تجعل التدخل العسكري في حده الأدنى؛ فالجيش ما زال مضطرا للحفاظ على كذبة المدنية، وتراجعك للوراء خطوة ومحافظتك على أن يبقى تدخله في الحد الأدنى، وأن يظل الأمر في دائرة البدائل السياسية= هو القرار الصائب، ما دمنا وصلنا للحظة المواجهة الصفرية هذه.
نعم كان القرار الصائب يا دكتور مرسي هو التراجع: إما بالانتخابات المبكرة مباشرة، أو الاستفتاء عليها بدون مراوغة تؤجلها لن يقبلها الجيش، وبدون الدخول في خطوة عنترية لن يجني أحد من ورائها شيئاً.
استقل وأعلن رفضك لما حصل، دون القذف بالناس لأتون محترق.
أنتم ترون الخيار المسلح كارثياً، وأنا معكم أنه كارثي، ولكني أقول: إن كل كارثيته موجودة وفي الخيار الذي سلكتموه وتظنونه سلميا.
أربكان نزل على رأي الفسدة، وأردوغان نزل على رأيهم أكثر ووافق في حكومته على أشياء كانت سببا رئيسا في سقوط ربكان عام 1997م.
هذه هي التجربة التركية التي كنتم تمتدحونها، هكذا واجهت الانقلابات، وهذا هو المنطق الوحيد لمن يختار المسار السياسي : طول النفس داخله.
لو كنا فعلنا ذلك كانوا سيأخذوننا من بيوتنا قتلا واعتقالاً؟
لا أدري حقيقة أين أنتم الآن؟
وهل اختلف مصيركم؟
لو كنتم اخترتم خيار عدم المواجهة= ماذا كان سيحدث أسوأ من قتل خمسة آلاف شخص أو يزيد وأسوأ من اعتقال عشرين ألف شخص أو يزيد؟!!
العرب (وعقلاء الدنيا معهم يقولون): من لا يحسن الفر= لا يحسن الكر، ومن أقدم في الموضع الذي شرع له فيه أن يتحيز إلى فئة= قُتل لا محالة.
لماذا الاستعجال مازال الحراك على الأرض يتمدد ؟
أقول: بقطع النظر عن صحة هذا، لماذا لا تريدون فهم المعضلة الأساسية هنا :لو سلمنا أن الحراك سيتمدد ويسقط الانقلاب، إلامَ سيسقطه؟ إلا إعادة إنتاج للنظام، فهو لن يسقط إلا بطريقة احتواء تحافظ على بنية النظام، لذلك فالغاية التي تحلمون بها حتى لو حصلت: لا تساوي ثمرتها وفائدتها أبداً خمسة آلاف قتيل وعشرين ألف معتقل، لا تساوي هذه الكارثة أبداً.
وكم نسبة أن يعود مرسي مع هذا الحلم؟
أريدك أن تتذكر معي أن أي حلم لك ليس فيه عودة مرسي يعد كلا شيء.
كم نسبة أحلامك هذه وكم تساوي؟
كم يساوي كل ها لتنفق عليه موارد أربعين عاماً وخمسة آلاف شاب وعشرين ألف معتقل؟
ثمن باهظ جدا جدا من أجل جيفة مشكوك في بلوغها.
يقول عالم الاجتماعي الأمريكي اليساري (جيمس بتراس James petras ): (( للسياسة الخارجية الأمريكية تاريخ طويل من تنصيب الأنظمة الاستبدادية التي تساند سياساتها ومصالحها الإمبريالية طالما أبقت على التحكم في شعوبها، وتمويل تلك الأنظمة وتسليحها ودعمها.
في الماضي عمل الرؤساء الجمهوريون والديمقراطيون عن كثب ولمدة تربو على 30 عامًا مع ديكتاتورية تروجيلو بجمهورية الدومينيكان، قاموا بفرض نظام دييم الاستبدادي في فيتنام، وتوطئوا مع جيلين من أنظمة عائلة سوموزا الإرهابية في نيكارجوا...إلخ
وحينما تحدت الانتفاضات الشعبية تلك الديكتاتوريات المدعومة أمريكيًا، وبدا من المحتمل نجاح الثورات الاجتماعية والسياسية، كان رد فعل واشنطن هو اتباع سياسة ذات مسارات ثلاث: النقد العلني لانتهاكات حقوق الإنسان والمطالبة بإصلاحات ديمقراطية، العمل سرًا على إرسال إشارات دعم للحكام، وثالثًا البحث عن نخبة بديلة يمكن أن تحل محل الأنظمة القائمة وتحافظ على أجهزة الدولة وأنظمتها الاقتصادية، وتدعم مصالح الولايات المتحدة الاستراتيجية الإمبريالية.
لا تبقي الولايات المتحدة على علاقات استراتيجية دائمة، بل فقط على مصالح إمبريالية. أي الحفاظ على أجهزة الدولة العميلة. وبما أن الديكتاتوريات تفترض أن علاقاتها بواشنطن استراتيجية، فإن قادتها يصابون بالصدمة حينما تتم التضحية بهم كأشخاص من أجل إنقاذ جهاز الدولة)).
ولو كان يمكن حدوث هذا بدون الخسائر التي تحدث الآن= لساغ سلوك هذا الطريق ولو بإعادة إنتاج النظام طلباً للتخفيف، لكن واقع الخسائر لا يجعل الثمن المدفوع الآن مشروعاً دفعه أبداً ما دامت المعطيات تقول إن أفقه هو إعادة إنتاج النظام.
هذا هو منطق النظر وفق المعطيات المتاحة إلا أن يشاء ربك خرقاً لنظامها، والفقيه الذي يفتي الناس فتيا يتحرى براءة ذمته من دماء الناس المترتبة عليها يوم القيامة= لا يملك إلا أن يبني على المعطيات المتاحة ويجود النظر فيها، ويكمل نقص أدواته مستصحباً الورع والخوف من الله ومن تحمل دماء الناس.
وهو إن أخطأ= فحسبه سعيه وتحريه واجتهاده وأنه بنى على المعطيات الصلبة والظنون المنتجة للأحكام الشرعية.
أما الفتيا في دماء الناس بالاحتمالات البعيدة والأحلام والأماني وشاذ التوقعات= فهي فتيا محرمة حتى لو قدر الله وقضى وحدث هذا التوقع البعيد لأسباب خارجة عن إطار النظر المتاح.
ولو فرح المغرور بتغير خارق للمعطيات وظن هذا من صواب إلقائه بالناس في المحرقة= فسيحزنه أن يلقى هذا هباء منثورا بين يدي ربه.

فات أوان هذا بعدما اختار الإخوان قرارهم بعد الانقلاب، وفات أوانه أكثر بعد مجزرة الفض والتي صار التراجع بعدها كارثي الآثار على الجماعة.
وهنا تأتي المرارة : أنه لا غنى لك عن التوقف، وسيظل هو القرار الصائب شرعا وعقلا، فقط ستزداد فاتورة الخسائر كلما مضى الوقت قبل اتخاذ القرار الحتمي، وأي استمرار هو مقامرة تحلم بفوز يُنْسِي الخسائر، وهذا الفوز الذي تحلم به مقامرة ربما يأتي – قد يأتي بعد أجيال كما يقول بعضهم !- لكنه بعيد الحصول، لا يساوي دم مسلم واحد، وطبيعته وصورته إن حصل= ستظل مرتبطة بإعادة إنتاج النظام.
ولا أرى دينا أو شرعا الاستمرار: في إلقاء الناس ليموتوا مع غايات مظنونة، وهي إن حصلت ليس فيها شيء أحسن مما كان معروضا عليك ورفضته قبل 3/7 .
هل تسمي هذا استسلاماً؟
جميل: وأنا أسمي ضده انتحاراً.
وهذا الاستسلام فعله الأتراك يوماً وهاهم اليوم يحاكمون من انقلب عليهم.
هل ترى هذا ليس حلاً، وأنه يلقي بك في بئر اليأس؟!
أقول لك: كذلك الهزائم في تاريخ الأمم لا ينجو الإنسان منها بأن يواصل النزيف ويلقي رقبته تحت سيف عدوه وإنما سبيل الإفاقة أن يعترف أولاً بواقع الهزيمة ويعيد التخطيط والسعي مستفيداً من أخطائه.
لو سألنا أي إسلامي عن الحل أمام سيطرة القوة الغربية على العالم سيبدو الحل الذي سيقوله أيا كان غير متناسب مع الموقف الجلل. القضية ليست أن تقول حلا والسلام القضية في أن تقول حلا مشروعا ومقدورا ويكون بالفعل حلاً وليس وهما يأتي فوق رأسك بكارثة.
في تاريخ الأمم كلها وخاصة قبل الفض: الحل في مثل هذا هو ما ذكرت لك أي شيء غير هذا يساوي محرقة وقد كان.
لو راجع إخواننا تعليق محمود عبد الحليم الإخواني الكبير على رفض الإخوان الهدنة مع عبد الناصر (لكي تعلم أن في 1954 لم يتم اختيار التراجع بل رفضوه) وكيف يقول: سامح الله إخواننا على رفضهم للهدنة= سيرى حجم الحسرة في كلامه، وحجم تكرار الأخطاء الكارثية الذي يجيده الإسلاميون.
البنا نفسه لم يقاوم الحكومة بعدما فعلته مع الجماعة، قبل موته ولا قاوم الإخوان ، ربما يرى البعض خطأ خيارهم لكن هذا ليس قبيحا.
هذا خيار يظل مطروحا دائما في أي مواجهة. أتدري لم انتصر النظام على ثورة يناير؟ لأنه أحسن تطبيق هذا الحل
الآن:
هل ترى رأيي هذا الآن خطأ؟
جميل: ولكن كن منصفا على الأقل، واعترف بأن قرار المواجهة من البداية كان خطأ؟!
كلا!، لا توافقني على أن القرار خطأ، ولكن - أسألك بالله - : هل من يرى أن قرار المواجهة من البداية خطأ وفقا للمعطيات والأدلة والأسس التي سقتها = مهزوم مخذول مخذِّل ، أما صاحب فقه وعقل وإن خالفتَه ؟!
أنت تريد أن تسقط الانقلاب بنفس طويل من الضحايا خلال خمس سنوات.
جميل: أنا ارى أن أصول الشرع والدين لا تجيز هذا بل هو من أعظم الباطل في الفتيا في دماء الناس وأعراضهم.
وكل ما تخوف به الناس عند التراجع قد حدث بالفعل أسوأ منه، وكل يوم خوفت فيه الناس بالسجن والتعذيب والقتل إن تراجعوا= حدث أفظع منه في اليوم الذي يليه رغم إنهم لم يتراجعوا.
هذه قوة غاشمة تخوض معركة صفرية، هذه الدماء= لا تبرأ ذمة مفتي يفتي ببذلها إلا ما شاء الله.
ماذا تقول للناس؟
انزلوا وموتوا لكي لا يعتقلوني من البيت ؟
اتق الله ربك.
والله أنا لا أمنع أن يؤدي التراجع إلى ظلم وشدة لمدة لكني أوقن أنه سيتراجع بعدها فالدولة لايست بالضعف الذي يهزمها حراك سلمي وليست بالقوة التي تجعلها تتحمل ضريبة قمع طويل لا داعي له بعد تراجع الحراك.
وأنا أقول هذا متحملا ضريبة أن يصيبني ضرر استمرار شيء من القمع بعد التراجع؛ فأنا لن أفتي الناس ببذل دمائهم لكي أظل آمناً في بيتي.
ليس ثم جهاد يمدح ولا تذكر فيه فئة قليلة وفئة كثيرة وهو بصدور عارية وعدة معدومة ، والصبر خير كله.
يقول الشيخ: من كان عاجزا عن إقامة الدين بالسلطان والجهاد ففعل ما يقدر عليه من النصيحة بقلبه والدعاء للأمة ومحبة الخير وفعل ما يقدر عليه من الخير= لم يكلف ما يعجز عنه.
وأخيرا، فيما يتعلق بالجانب الشخصي، ويعلم الله أنه أقل أهمية عندي مما سبق:
لقد كتبت ما تقدم، وفيه شيء كثير مما يزعم الكذابون أننا كنا نسكت عنه خوفا، ولا والله ما بنا لا خوف التصريح ولا خوف المواجهة، ولكنه العقل والشرع والدين، كلها هي التي تخول للفقيه أن ينظر في صورة الأمر ومآله ويختار ما يرضي ربه لا يدغدغ به عواطف الناس.
وإني أشهد الله أني لا أطمئن لاستكمال أدواتي للكلام في هذا الأمر، ولا أرى نفسي أخلو من سؤال الله لي على نفس كلامي لا عن مضمونه.
ولم أكن أتكلم بهذا إلا مذاكرة وتفقها مع إخواني، ولست مشغولا ببلاغه، فلست الفقيه الذي ينتظره الناس أو تتعين عليه الفتوى.
واخترت أن أبلغه اليوم رجاء مصلحة يغفر الله لي بها إثمَ دخولي في هذه الأبواب التي أخشى الله أن أتكلم فيها، ويظن بعض الناس أني أسكت عنها خوفاً، وإني أرجو أن يكون هذا آخر عهدي بتلك الأبواب حتى يشتد عودي، وإني أسأل الله أن يهيئ للناس فقهاء حقا وصدقا يبينون لهم.
وأنا أعلم كم السب والتخوين واتهامات الزور المكررة والجديدة التي سيتم اختراعها= لكن ليس هذا هو ما يمنعني من البيان، فأنا إذا اخترت البيان= لم أرجع عنه خوف سفاهة السفهاء.
كان في النفس أشياء أخرى فيها معلومات وتفاصيل تقوي بعض ما ذكرته هنا،وفيه أيضا موقفي من التحليلات الفقهية الخاطئة لمن يشجعون الناس للنزول، لكني اخترت إمساك لساني عنها رضا مني بقدر البيان الضروري، وطمعاً في أن أسجل هذا يوما في كتاب يبين تفاصيله.
وليس ما قلت هنا حكمة بعدية بل هو كلام سمعه مني أكثر أصحابي خلال أول أسبوعين من الانقلاب وقبل الفض بكثير بل حتى صورة الفض قلتها لهم، ولا يلومني أحد على عدم إظهار هذا فلا أراه واجباً علي.
لقد دخلت طلب العلم منذ عشرين عام بالضبط، وأنا من يومها أراجع نفسي، وأصحح خطأها، وكانت عندي الجرأة على أن أقول تراجعت عن هذا الرأي وعن ذاك الكتاب، وظللت قرابة خمسة أعوام لا أكتب حرفا لأحكم نفسي وأستكمل أدواتي، وإني لا أبريء نفسي من زلل ونقص.
والله يشهد أني لا أقول إلا ما أراه دينا، وأني لا أتحرك بأمر أحد، ولا صلة لي من أي نوع بحكومة من أي نوع، ولعنة الله عليَّ إن كنت من الكاذبين.
وإني اسأل الله أن يهدينا جميعا للصواب، وأن يغفر لمن نحسبهم شهداء، وأن يصبر أهاليهم، وأن يفك أسر المسجونين، وأن يكشف الظلم عن المظلومين.
وأسأله سبحانه أن يهدينا للحق واتباعه، وأن يكفينا شر الباطل، ويرزقنا اجتنابه، وأن ينزع ما في قلوب المؤمنين من غل ويجمعنا في جنته إخوانا.

اللهم اغفر لي وارحمني وعافني واعف عني، وآخر دعواي أن الحمد لله رب العالمين.