السبت، 31 مايو 2014

الغلو أسبابه وأبعاده. الشيخ سعد البريك

الغلو أسبابه وأبعاده

10-06-1432 12:07

الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وعلى آله وصحبه وبعد :
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً بيده ثم قال :" هذا سبيل الله مستقيماً "، قال: ثم خط عن يمينه وشماله ثم قال :" هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه "، ثم قرأ { وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل} . رواه النسائي برقم 11174) ، والإمام أحمد برقم 4437) واللفظ له ، والحاكم في المستدرك برقم 2938).
فقد ذكر تعالى الصراط مفرداً للدلالة على أن طريق الحق واحد لا يتعدد، وجمع السبل للتنبيه على أن طرق الضلال متشعبة وكثيرة .
وقال تعالى في سورة البقرة { يخرجهم من الظلمات إلى النور} ، قال العلامة الشنقيطي رحمه الله: المراد بالظلمات : الضلالة ، وبالنور الهدى ، وهذه الآية يفهم منها أن طرق الضلال متعددة لجمعه الظلمات، وأن طريق الحق واحدة لإفراده النور. (أضواء البيان 1/158) .
وكما أن أمة الإسلام وسط بين الأمم ، ودين الإسلام وسط بين الأديان لقوله {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً}، فإن أهل السنة والجماعة هم وسط بين الفرق الضالة والمناهج المبتدعة ، وهم الفرقة الناجية . عن عوف بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة فواحدة في الجنة وسبعون في النار وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة فإحدى وسبعون في النار وواحدة في الجنة والذي نفس محمد بيده لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة واحدة في الجنة وثنتان وسبعون في النار قيل يا رسول الله من هم قال الجماعة". رواه ابن ماجة برقم 3992) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 1083).
فأهل السنة والجماعة وسط بين الفرق كلها ، يتمسكون بروح الإسلام، ويتمثلون وسطية الشريعة دون إفراط أو تفريط ، ودون غلو أو تساهل ، يرشدون إلى الحق من تنكب الصراط ، ويأخذون بيد من انحرف عن جادة الصواب .
وكما هو معلوم ، فإن صور الانحراف عن الوسطية متعددة ، لكنها ترجع في الغالب الأعم إلى سببين : إما تساهل وتفريط ، وإما غلو وإفراط . وبما أن الغلو هو أخطرها وأكثرها ضرراً على الوسطية فإني سوف أتناول في هذه المحاضرة : أسباب الغلو ، وأبعاده على المستوى العقدي والمستوى الدعوي والمستوى الأمني والمستوى الاجتماعي .

*_ معنى الغلو لغة واصطلاحاً :
ـ الغلو لغة : مجاوزة الحد .
ـ أما اصطلاحاً فقد تعددت تعريفات أهل العلم له ، نذكر منها :
1 ـ قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: الغلو مجاوزة الحد، بأن يزاد في الشيء، في حمده أو ذمه على ما يستحق ونحو ذلك. ( اقتضاء الصراط المستقيم 1/328) .
2 ـ وقالت اللجنة الدائمة في فتوى لها : (والغلو هو: التعمق في الشيء والتكلف فيه، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الغلو فقال: " إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين" رواه أحمد وغيره بإسناد صحيح ) . ( فتاوى اللجنة الدائمة الفتوى رقم 8946 ) .
*_ مظاهر الغلو :
للغلو مظاهر متعددة منها ما هو في الاعتقاد ، ومنها ما هو في والعمل ومنها ما هو في الحكم على الناس، وللشيخ الدكتور عبد السلام بن برجس العبد الكريم كلام نفيس في مظاهر الغلو ـــ سأكتفي بنقل قوله فيما يتعلق بالغلو في الاعتقاد لخطورته ولكونه متعلق بمادة هذه المحاضرة ــــ حيث يقول : ( من مظاهر الغلو : الغلو في الاعتقاد ، والعمل ، والحكم على الناس .أما الغلو في الاعتقاد : فهو مجاوزة الحد فيما شرع الله تعالى من الأمور الاعتقادية . فإن الله تعالى إنما أنزل الكتاب وبعث المصطفى صلى الله عليه وسلم ليكون الدين كله لله ، والغالي لا يكتفي بما أنزل تعالى من الشريعة الكاملة ، بل يسعى إلى الزيادة على ما شرع الله ، ومخالفة ما قصده الشارع من التيسير على المكلفين إلى التشديد على نفسه وعلى غيره ، ونسبة ذلك إلى شرع الله تعالى .والغلو في الاعتقاد أخطر أنواع الغلو ؟ ذلك بأن الاعتقاد درجة عالية من جزم القلب بما فيه من رأي أو فكر أو شرع ، فأصعب ما يكون انتزاعها ؛ لأن صاحبها يدافع عنها كما يدافع عن دمه وماله وعرضه ، ومعلوم أن الغالي إنما يعتقد ما يتوهم أنه شرع الله وليس كذلك ، بل إنما يعتقد فكرا أو رأيا مصدره الهوى .وقال : ومن أبرز الأمثلة على هذا النوع من الغلو : غلو الخوارج وهم الفرقة المعروفة في جسم الأمة الإسلامية منذ العصر الأول : إنهم فئة قادهم الغلو في الحكم على صاحب المعصية إلى إلحاقه بمن وقع في الكفر بالله عز وجل ، فكان هذا الغلو الاعتقادي دافعا لهم إلى سلسلة من الجرائم الكبرى بحق الأمة الإسلامية :حيث دفعهم إلى تكفير حكام المسلمين بمجرد الوقوع في المعاصي ثم تكفير عامة من لم يقنع بقولهم هذا من المسلمين ، فكفروا المجتمعات المسلمة فقاتلوا المسلمين ، وخرجوا على حكامهم ...ومن هنا جاء كتاب الله تعالى وجاءت السنة النبوية بالتحذير الشديد من الغلو ، وبيان عواقبه الوخيمة في أمور الدين وأمور الدنيا . ففي مسند الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة جمع : هَلُمَّ الْقُطْ لِي ، فَلَقَطْتُ لَهُ حَصَيَاتٍ ، هُنَّ حَصَى الْخَذْفِ ، فَلَمَّا وَضَعَهُنَّ فِي يَدِهِ ، قَالَ : " نَعَمْ ، بِأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ . وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالْغُلُوِّ فِي الدِّينِ .قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في " اقتضاء الصراط المستقيم " هذا عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقادات والأعمال ، وسبب هذا اللفظ العام: رمي الجمار ، وهو داخل فيه مثل : الرمي بالحجارة الكبار ، بناء على أنه أبلغ من الصغار ، ثم علله بما يقتضي مجانبة هدي من كان قبلنا ، إبعادا عن الوقوع فيما هلكوا به . وأن المشارك لهم في بعض هديهم يخاف عليه من الهلاك . ا هـ .
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ " قالها ثلاثا . رواه مسلم في صحيحه عن ابن مسعود .قال الخطابي في " معالم السنن " المتنطع : المتعمق في الشيء ، المتكلف للبحث عنه على مذاهب أهل الكلام الداخلين فيما لا يعنيهم ، الخائضين فيما لا تبلغه عقولهم . ا هـ .
فهذا خبر عن هلاك من وقع في التنطع الذي هو ضرب من الغلو في الكلام ونحوه ، فدل على أن عقوبة الغالين من المتقدمين والمتأخرين هو : الهلاك ، ولهذا لا يقوم لأهل الغلو دولة ، ولا تجتمع الأمة عليهم ، كما قال الإمام وهب بن منبه - رحمه الله تعالى - في الخوارج كنموذج للغلو ، عند مناصحته لمن وقع في رأيهم : ( فوالله ما كانت للخوارج جماعة قط إلا فرقها الله على شر حالاتهم ، وما أظهر أحد منهم قوله إلا ضرب الله عنقه ، وما اجتمعت الأمة على رجل قط من الخوارج.ولو أمكن الله الخوارج من رأيهم لفسدت الأرض ، وقطعت السبل ، وقطع الحج إلى بيت الله الحرام ، وإذن لعاد أمر الإسلام جاهلية ، حتى يعود الناس يستعينون برءوس الجبال كما كانوا في الجاهلية ، وإذن لقام أكثر من عشرة أو عشرين رجلا ليس منهم رجل إلا وهو يدعو إلى نفسه بالخلافة ، ومع كل رجل منهم أكثر من عشرة آلاف يقاتل بعضهم بعضا ، ويشهد بعضهم على بعض بالكفر حتى يصبح الرجل المؤمن خائفا على نفسه ودينه ودمه وأهله وماله ، لا يدري أين يسلك أو مع من يكون .
غير أن الله بحكمه وعلمه ورحمته نظر لهذه الأمة فأحسن النظر لهم ، فجمعهم وألف بين قلوبهم على رجل واحد ليس من الخوارج). أ . هـ كلام الشيخ البرجس . (بتصرف من بحوث ندوة أثر القرآن في تحقيق الوسطية ودفع الغلو) .

*_ من أسباب الغلو :
للغلو أسباب كثيرة ، تختلف باختلاف كل بيئة ، وتتباين بين مجتمع وآخر ، بل ربما اختلفت من شخص لآخر ، ولذا فإني سوف أذكر في هذه العجالة أهم الأسباب العامة التي تؤدي إلى الوقوع في الغلو :
1 ـــ الجهل ، وقلة البضاعة في فقه روح الشريعة وفهم مقاصدها .
فإذا لم يتحصن الشخص بالعلم الصحيح ، فقد يقع في الغلو والتطرف. قال الشاطبي رحمه الله : البدع لا تقع من راسخ في العلم وإنما تقع ممن لم يبلغ مبلغ أهل الشريعة المتصرفين في أدلتها .
ولا يرفع من خطورة الجهل ، ما يتصف به بعض أصحابه من ورع أو زهد ، فبعض الغلاة قد يكون لهم نصيبٌ من الإخلاص ، أو غَيْرَة على محارم الله تعالى ، وقلبُهم يمتلئ حماسًا لدينِ الله عز وجل وإقامةَ شرعِ اللهِ في الأرض الأمرُ الذي أدَّى ببعض الناس إلى أن يغترَّ بهم , ويقعَ في حبالهم .
لكن هذا الإخلاصُ وهذا الحماسُ لا يكفي وحده ليكون الإنسان على المنهج الحق . فالأمرُ كما قال الصحابيُّ الجليلُ أبو عبد الرحمن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حينما أنكرَ على تلك الطائفة التي كانت تذكرُ اللهَ بطريقةٍ غير شرعيّة , وعلى كيفيّةٍ غير نبويّة ، وقد قالوا له: والله يا أبا عبد الرحمن ! ما أردنا إلا الخيرَ . فقال عبد الله بن مسعود : " وكَمْ مِنْ مُريدٍ للخير لن يصيبَه " . (أخرجه الدارمي 1 / 68 - 69 وصححه الألباني في " السلسلة الصحيحة " 5 / 11 ) .
فينبغي الاعتبارَ بما كان عليه الخوارجُ الأوائلُ من كثرة العبادة ، والزهد والتقشّف والورع ، وحسنِ النّيّة والقصد ، مع الشجاعة والتضحية بالنفس ، لكن لما خرجوا عن السّنّة , وخالفوا خيارَ الأمّة - وهم أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم - واستقلُّوا بفهومهم دون فَهْمِ الصحابة للقرآن والسنّة ؛لم تشفع لهم تلك العبادات , ولا أنجتهم عند الله حُسْنُ النّيّات ، بل وَرَدَ في الأخبار النبويّة التحذيرُ منهم , والتنفيرُ عنهم , وبيانُ ضررِهم على الأمّة الإسلامية , مثلُ قولِـه صلى الله عليه وسلم - والخطابُ لأصحابه رضي الله عنهم - : " يخرج فيكم قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم وعملكم مع عملهم ويقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية " . (رواه البخاري برقم 5058)
وَمِنْ هنا نُدْرِكُ خطرَ هؤلاء القوم على عقيدة المسلمين وأمْنِهم ودينهم وسلامتهم , ولا ينبغي إطلاقًا الاغترارُ بما يظهرُ من صلاحهم , وحماسهم لهذا الدّين . فلا بُدَّ أنْ يكونَ الحماسُ والغَيْرَةُ منضبطةً بعلم وبصيرة , ومبينةً على فقه وحكمة ورويّة .
والمقصودُ : أنَّه لا ينبغي للمسلم أَنْ يغترَّ بما يظهره الغلاة من العبادة والزهد ، حتى لا يقعَ في حبالهم ، ويلا نخدعَ ببدعتهم وضلالهم .
ولم يزلْ العلماءُ الناصحون قديمًا وحديثًا : ينبهون على خطورة هذا المسلك - أعني النظرَ إلى عبادة الرجل وزهده , ونسيانِ بدعته وضلاله - وسأذكرُ مثالاً واحداً يبين ذلك ويزيد الأمر وضوحًا :
لما كان عمرو بن عبيد - كبيرُ المعتزلة - زاهدًا عابدًا : اغترَّ به بعضُ النّاس , وغفلوا بدعتَه وضلالَه , فقد كان المنصور يعظِّم ابنَ عبيد ويقول : كلّكم يمشي رويد كلّكم يطلب صيد
غير عمر بن عبيد .
فعلَّقَ الحافظُ النّاقدُ الذهبيُّ رحمه الله تعالى على ذلك بكلامٍ نفيسٍ فقال:" قلت : اغترَّ بزهده وإخلاصه ، وأغْفلَ بدعتَه " أهـ . (سير أعلام النبلاء 11/130 ).
2 ــ الطعن في العلماء الربانيين الراسخين ، المشهود لهم بالعلم والنظر الثاقب في مقاصد الشريعة الإسلامية ، والبصيرة التي يميزون بها بين المصالح والمفاسد .
إنما وقع من وقع في الغلو بسبب الطعن في الأئمة والعلماء والقَدْح فيهم واتهامهم بشتى أنواع التُّهَم , وَرَمْيهُمْ بأصنافٍ من العظائم ,مثل اتهامهم بالعمالة والجبن والمداهنة والنفاق , وأنهم علماء السلاطين، إلى غير ذلك من الكذب والبهتان الموجود في قواميسهم .
ولا شك في أن هذا سيؤدي إلى سقوط هيبة أهل العلم بين الناس , وضعف الثقة فيهم، وحينئذ يتخذ الناسُ من الغلاة رؤساءَ فيفتونهم بغير علم ولا بصيرة , فلا تسأل بعد ذلك عن التطرف الانحراف والضلال الذي يحصل في عقائد الناس وأفكارهم !! ولا تسأل أيضًا بعد ذلك عن الفوضى واختلال الأمور واختلاطها في واقع النّاس وحياتهم !! .
فالعلماءُ هُمُ الأمناءُ على دين الله , وواجبٌ على كلّ مكلَّفٍ أخذُ الدِّين عن أهله كما قال بعض السلف : إن هذا العلمَ دينٌ فانظروا عمن تأخذون دينكم .
3 ــ بتر النصوص وأقوال أهل العلم بما يوافق أهواءهم ، والاستدلال ببعض النصوص دون بعض ، وفي هذا تحذير واضح في القرآن الكريم، قال تعالى {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب}.
فالتعلق بظواهر ألفاظٍ من كلام العلماء المحققين , دون عرضها على العلماء , بل يعتمدُ على فهمه , وربما قال حجّتُنا موقع كذا ، أو كلامُ فلان ، أو مطوية كذا ، وقد يستدل بكلام احد العلماء دون أن يعرف مقصودَه بذلك الكلام.
إن اجتزاء النصوص بما يوافق أهواء الغلاة هو أمر درجوا عليهم منذ أن نبتت نابتة الخوارج ، حين استدلوا على مطالبتهم بإبطال التحكيم بين علي ومعاوية رضي الله عنهما بقوله تعالى { إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ}، وهو ما جعل علياً رضي الله عنه ينتقد صنيعهم بقوله :"كلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ ". (رواه مسلم 2517)
ولعل ما حملهم على ذلك هو اتباع الهوى ، ولذا حذر تعالى من اتباع الهوى بقوله{ أفرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا}.
ومما يحتم وقوع متبع الهوى في الغلو : التعصب لشخصٍ يعظمه ، بقبول رأيه أو الاستماع له أكثر من غيره ، وإن كان ذلك الغير أتقى لله وأكثر علماً وأعمق فقهاً. وربما أبغض من يشاركه في العلم والاتباع حسداً وبغياً ، كما أنكرت اليهود نبوة محمد صلى الله عليه وسلم حسداً وبغياً رغم يقينهم بصدق رسالته .
وإذا صار الهوى هو القائد والدافع ؛ صار أهله شيعاً يتعصب كل منهم لرأيه ويعادي من خالفه .قال الشاطبي رحمه الله : ( كل مسألة حدثت في الإسلام فاختلف الناس فيها ولم يورث ذلك عداوة ولا بغضاء ولا فرقة ، علمنا أنها من مسائل الإسلام ، وكل مسألة طرأت فأوجبت العداوة والتنابز والتنافر والقطيعة علمنا أنها ليست من أمر الدين في شيء ، فيجب على كل عاقل أن يجتنبها ، ودليل ذلك قوله تعالى {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}.فإذا اختلفوا وتقاطعوا كان ذلك لحدث أحدثوه من اتباع الهوى ، فالإسلام يدعو إلى الألفة والتحاب والتراحم والتعاطف، وكل رأي أدى إلى خلاف ذلك فخارج عن الدين ) . (الموافقات 186 ) .
4 ــ ومن أسباب الغلو : الحماس والعاطفة . والعاطفة التي لا تضبط بالشرع تصبح عاصفة . فالتوازن وضبط الحماس والاتكاء من الثوابت الراسخة في كل قول أو فعل أمور مطلوبة في هذا الباب .
لا ننكر أن للمشاعر حقها في التفاعل ، أما الأفعال فلا بد أن تكون مضبوطة بهدي الكتاب والسنة ومقاصد الشرع وضوابط المصلحة .
ولهذا نجد أن العلماء يربطون الحماسَ والغَيرةَ للدّين الموجودةَ عند الشباب بالحكمة والبصيرة حتى تؤتي ثمارها , وتكون عاقبتُها إلى خير وفلاح .
يقول العلامة الشيخ صالح الفوزان : " الغَيرةُ على الدِّين ، والحماسُ لا يكفيان ، لابُدَّ أن يكونَ هذا مؤسَّسًا على علمٍ وفقهٍ في دين الله عز وجل ، يكونُ ذلك صادِرًا عن علم , وموضوعاً في محلّه , والغَيرةُ على الدِّين طيّبةٌ , والحماسُ للدِّين طيّبٌ , لكن لا بُدَّ أن يُرَشَّدَ ذلك باتباع الكتاب والسنَة . ولا أَغْيَرَ على الدّين ، ولا أنصحَ للمسلمين من الصحابة رضي الله عنهم ومع ذلك قاتلوا الخوارجَ لخطرِهم وشرِّهم " ... وقال أيضاً: " لأنهم جماعةٌ اشتدُّوا في العبادة والصلاة والصيام وتلاوة القرآن , وعندهم غَيرةٌ شديدةٌ , لكنّهم لا يفقهون ! وهذه هي الآفَة!.
فالاجتهادُ في الورع والعبادة لابُدَّ أن يكون مع الفقه في الدّين والعلم ، ولهذا وصفهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم لأصحابه : بأنَّ الصحابة يحقرون صلاتهم إلى صلاتهم ، وعبادتهم إلى عبادتهم ثم قال : يمرقون من الإسلام كما يمرقُ السّهمُ من الرّميّة ، مع عبادتهم ومع صلاحهم ومع تهجّدهم وقيامهم بالليل ، لكن لما كان اجتهادُهم ليس على أصلٍ صحيحٍ ، ولا على علمٍ صحيحٍ صارَ ضلالاً ووبالاً ، وشرًّا عليهم وعلى الأمّة " أهـ . (محاضرات في العقيدة والدعوة 3/359-360).
ويدخل في باب العاطفة : نشر الحكايات والرؤى والمنامات :ولذا فلا ينبغي أن نعجب إذا سمعنا من يقول أنه رأى فلاناً ممن فجروا أنفسهم ينغمس في أنهار الجنة ، وأن فلاناً تعانقه الحور العين، وغير ذلك ممن الشائعات والادعاءات التي أساسها الكذب والوهم .
5 ــ ومن أسباب الغلو : مجالسة الغلاة . قال تعالى { وإذا رأيتَ الذينَ يَخُوضونَ في آيَاتِنا فأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فيِ حَديثِ غَيرِهِ و إمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيطانُ فلاَ تقعُدْ بَعدَ الذِّكْرَى معَ القَومِ الظَّالِمينَ* وما علَى الذينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهم مِّن شيءٍوَلكِن ذِكْرَى لَعلَّهُمْ يَتَّقُونَ}، وهذا أمر للمؤمن بأن يتجنب ويبتعد عن المشككين وأهل الانحراف والتأويل الباطل وأصحاب الهوى .
قال مجاهد في معنى قوله : (الذين يخوضون): هم الذين يقولون في القرآن غير الحق. وقال ابن العربي: وهذا دليل على أن مجالسة أهل الكبائر لا تحل. وقال ابن خويز منداد: من خاض في آيات الله تُركت مجالسته وهُجر. ( القرطبي في التفسير7/ 12- 13) .
قال تعالى{هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب و أخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله} عن عائشة رضي الله عنها قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية{هو الذي أنزل عليك الكتاب} إلى قوله: {أولوا الألباب} قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإذا رأيت الذين يتَّبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمَّى اللهُ، فاحذروهم ". (رواه البخاري 4547) .
ولما سئل الشيخ ابن باز رحمه الله عن مجالسة أهل البدع والأهواء ، أجاب : لا يجوز مجالستهم ولا اتخاذهم أصحاباً، ويجب الإنكار عليهم وتحذيرهم من البدع، نسأل الله العافية.( مجلة الفرقان، العدد 100 في ربيع الثاني 1419هـ.)
6 ـــ ومن أسباب الغلو :استفزاز المتدينين :
لا يخفى الدور الاستفزازي الذي يقوم به دعاة التغريب الذين يسعون إلى قتل الفضائل ونشر الرذائل ومحاربة الحسبة والدعوة ، وحملوا راية التغريب ظناً منهم أنهم بذلك يسعون في نهضة الأمة، وأساءوا من حيث ظنوا أنهم أحسنوا ، وحاربوا التدين وهاجموا الدعوة للتخلص من هيمنة الدين على الحياة ، بزعم السعي إلى نهضة على المستوى التقني والحضاري والمعرفي والثقافي. فبشروا بمشروع هجين مستورد اصدق ما يمكن تسميه به هو " المشروع الشهواني" ، لأن هدفه يرمي إلى فتح أبواب الشهوات على مصاريعها ، وإن حاولوا أن يوهموا المسلمين أنهم يسعون إلى البناء والتنمية واللحاق بالقوى الأخرى في مجالات القوة الاقتصادية من صناعة و زراعة و علوم وتقنية وغيرها ، فهؤلاء لا هم لهم إلا الشهوات وصدق الله تعالى القائل {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا}.
ولما كانت الأمة تأوي إلى ركن مكين من النص المعصوم في الكتاب والسنة ، فقد عمل أصحاب هذا المشروع على تقويض النص وتجاوز الثوابت بل وبعضهم وقع في الطعن في الذات الإلهية ، ظناً منهم أن ذلك سيؤدي إلى تلاشي قدسية النص ويسقط حجج المتدينين وينفض الناس عن التدين . فلكي تكون كاتباً مبدعاً لا بدّ أن تطعن في بعض ثوابت الدين ، حتى ولو وصل بك الأمر إلى وصف ما لا يُعجبك من الأحاديث النبوية الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتّوحش والعنصرية ومصادمة حقوق الإنسان !!.
ولكي توصف بأنك مفكر ومنظر له حضوره التام في كافة المحافل والمنتديات ، فإنه يجب عليك أن تثبت ما يؤهلك لذلك ، كأن تجعل رب العالمين والشيطان سواءاً ، بقولك عنهما إنهما وجهان لعملة واحدة (تركي الحمد) وأن تصف الله بأنه إله قاس (بدرية البشر) ، وأنه إله سجان جلاد ( هاني النقشبندي) ، وأن الله لا يقوى على وزارة الاعلام (عبدالله بن بخيت ) ، وأن تقول عن الله : "الله الذي استأثر بالهناء ... ألم يخن الله نفسه؟" ، "وساوس الله وساقه وخلخاله" . (وردة عبدالملك في رواية الأوبة) .
فإن لم يمكن تقويض النص ، فلا بد من العمل على الحد من تأثيره.وفي ذلك يقول أحدهم : ( إذا تحدثنا عن المشاكل التي يسببها الزواج بأكثر من امرأة واحدة ثاروا في وجيهنا باسم الدين. إذا تحدثنا عن استغلال خرافة تفسير الأحلام ثاروا في وجيهنا باسم الدين. إذا تحدثنا عن السحر والخزعبلات الأخرى ثاروا في وجيهنا باسم الدين. إذا تحدثنا عن الخزعبلات المربوطة بالجن ثاروا في وجيهنا باسم الدين. إذا تحدثنا عن الهيئة ثاروا في وجيهنا باسم الدين. أشياء كثيرة أخرى ما أن يقترب منها الكاتب حتى تجدهم ينقضون عليك باسم الدين ) . ( عبدالله بن بخيت ، جريدة الرياض السبت 18 ربيع الآخر 1431 ، العدد 15258 ) .
فإن لم يُجدِ ذلك ، فلا بد من تأويل النص ، فالاختلاط سائغ بدليل دخول نبي الله يوسف عليه السلام على النسوة ، وكشف الوجه جائز بحجة وجود خلاف فقهي حول وجوبه ، والسينما ضرورة لأنها تفتح آفاقاً ثقافية ومعرفية والدين حثنا على العلم والتعلم ، والالتزام بشعائر الإسلام الظاهرة تشدد وتزمت ، والدين يسر وسماحة ، واتباع أقوال أهل العلم حجر على العقول وتعطيل لملكة التفكير والله أمرنا بالتفكر والتدبر ... ألخ .
ولا زلنا نفاجأ بين الفينة والأخرى بمقال من هنا ولقاء من هناك ، وتحقيق صحفي من هنالك ، ونسمع في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة ما يفوق الحصر من التصريحات والندوات واللقاءات لكثير من الكتاب والمعلقين والصحفيين ممن اتخذ العلمانية له منهجاً ، حول ما هو من الإسلام وما ليس منه ، ما يجوز وما لا يجوز ، وما يباح وما لا يباح ، وهذا عجب عجاب ، فهل يسوغ أن ينصب العلمانيون أنفسهم دعاة وقضاة يعتلون منابر الفتوى والتوجيه والإرشاد ، في بلد مليء بالعلماء الربانيين وبالدعاة الصادقين المخلصين نحسبهم كذلك والله حسيبهم ولا نزكي على الله أحداً .
هذا الطرح أدى إلى استفزاز بعض الشباب المتحمس ، فتلقفهم الغلاة وأقنعوهم بأن التكفير والتفجير هو الحل ، وأن القضاء على هذه المنكرات يكون بالخروج عن جماعة المسلمين وإسقاط العلماء واستباحة الأرواح .


*- أبعاد الغلو :
بالاستقراء يمكن تقسيم أبعاد الغلو على مستويات أربعة : المستوى العقدي ، والمستوى الدعوي ، والمستوى الأمني ، والمستوى الاجتماعي .
أولاً المستوى العقدي :
1 ــ تكفير حكام ومجتمعات المسلمين : ولهم في ذلك شبه كثيرة منها : مسألة الحكم بغير ما أنزل الله ، دون النظر إلى التفصيل في هذه المسألة ما بين كفر وظلم وفسق .
ومنها شبهة موالاة الحكام لغير المسلمين ومظاهرتهم على المسلمين .
ولا تخفى ردود أهل العلم على هذه الشبهات وغيرها ، وليس هنا مجال بسطها .
وبنوا على ما سبق تكفير الحكومات ، وتكفير أعضائها بأعيانهم ، وكفروا بقية أفراد النظام حتى وصل بهم الغلو إلى تكفير أعيان الشرط بشبهة أنهم أعوان النظام الكافر ، وقد سوغ لهم هذا استباحة دماء المسلمين من رجال الأمن والشرطة .
واشتط بعضهم فكفر عموم المسلمين بحجة أن من لم يكفر الكافر فهو كافر ، دون أن يلتفتوا إلى شروط التكفير وموانعه .
بل إنهم جعلوا الوطن دار حرب فاستهدفوا الآمنين والمفاصل الاقتصادية والمواقع الاستراتيجية ، لشبه وحجج قامت في عقولهم جعلتهم يسترخصون الأرواح ويستبيحون الأموال ، دون أن يلتفتوا لتحذير أهل العلم والفقه من ذلك .
والعجيب أن أحدهم لو سئل عن حكم شرعي جزئي لنصح السائل بسؤال أهل العلم الموثوقين في دينهم المعروفين بعلمهم وأمانتهم !!.
تساهل في الدماء والأرواح ، مقابل تحرٍ ودقة زائدة في المسائل الفرعية الجزئية !!.
قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم وفي أمثالهم:"سيخرج قوم في آخر الزمان أحداث الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من خير قول البرية لا يجاوز إيمانهم حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم يوم القيامة ". (رواه مسلم 2511) .
2 ـــ الخروج ومفارقة جماعة المسلمين : إذ بات ولاؤهم الحقيقي لجهات خارجية تستخدمهم ـ من حيث شعروا أم لم يشعروا ـ أدوات لهدم الدار فوق رؤوسهم ورؤوس إخوانهم من المسلمين .
فهؤلاء جعلوا طاعتهم وولاءهم لأشخاص يحركونهم بالخطابات الحماسية والرسائل الانترنتية والعبارات المشفَّرة ، عبر قنوات عميلة ومواقع مشبوهة ، ولا يُعرف هؤلاء بعلم ولا فقه ولا حرص على مصالح الأمة وقضاياها .
ولا يرون في أعناقهم بيعة لولاة الأمر ، ولا يعتقدون بوجوب طاعتهم في غير معصية الله ، ولا يتبعون منهج النصح والدعاء لهم .
قال النبي صلى الله عليه وسلم :" من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية ومن قاتل تحت راية عمية يغضب لعصبة أو يدعو إلى عصبة أو ينصر عصبة فقتل فقتلة جاهلية ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها ولا يتحاش من مؤمنها ولا يفي لذي عهد عهده فليس مني ولست منه". (رواه مسلم 1848) .
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره وأن لا ننازع الأمر أهله وأن نقوم أو نقول بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومه لائم". (رواه البخاري 6774 ) .
ثانياً : المستوى الدعوي :
1 ـــ تنفير الناس من التدين. فعلى الرغم من أن الغلاة يدعون أنهم يسعون لنصرة الدين والدفاع عن الإسلام ، إلا أن أفعالهم الدموية والتخريبية والعبثية التي لا تقرها شريعة ولا يرضاها دين ولا يقبلها عقل ، شوهت الدين ونفرت الناس من التدين ، بحيث صار الرجل يسترجع إذا عرف أن ولده سار في ركب الصالحين واستقام مع المستقيمين ، وأكب على تلاوة كتاب الله وحفظه وسماع المحاضرات النافعة والمشاركة في الأنشطة الدعوية ، بعد أن كانت أمنيته التي يتمناها ـ شأنه شأن كل أب ـ أن يرى ولده في يوم من الأيام مستقيماً صالحاً مصلياً صواماً قواماً .
فهل الدعوة إلى الله تكون بإزهاق الأرواح المسلمة وقتل الأنفس المؤمنة، والنبي صلى الله عليه وسلم ما زال ينكر على أسامة بن زيد رضي الله عنه قتله الرجل المشرك الذي روى سيفه من دماء الصحابة ، ولما رأى بارقة السيف فوق رأسه قال : لا إله إلا الله "، فقتله أسامة متأولاً ، فما زال النبي صلى الله عليه وسلم ينكر عليه ويردد : "يا أسامة أقتلته بعد ما قال : لا إله إلا الله "، حتى قال أسامة تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم . (رواه البخاري برقم 4269) .
وعن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول صلى الله عليه وسلم:" يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا". ( رواه البخاري برقم 69) .
وهل الانتصار للملة والشريعة كما يزعم هؤلاء يكون بالتدمير والتخريب وزعزعة الأمن وترويع المسلمين الآمنين . والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:" المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ".
لا شك في أن هؤلاء يشوهون الإسلام بأعمالهم وينفرون الناس من الدين السمح ـــ الذي أزله لله رحمة للناس ـــ بسوء تصرفاتهم ، ويخدمون أعداء الإسلام من حيث يشعرون أو لا يشعرون. وصدق المصطفى صلى الله عليه وسلم حين قال :" إن منكم منفرين ".
2ـــ إشغال العلماء والدعاة بالرد عليهم دون ما هو أهم ، ما أضاف إلى أعبائهم الدعوية أعباءاً جديدة.
فبدلاً من أن يمضي الدعاة في مشروع تعريف العالم بالإسلام خصوصاً بعد الإساءة للنبي صلى الله عليه وسلم ومهاجمة الإسلام واتهامه بالتطرف والوحشية ، والإساءة إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فإنهم وجدوا أنفسهم مضطرين للانكفاء والالتفات نحو الداخل لمعالجة أسس وجذور هذا الخلل الفكري .
كل هذا تطلب من العلماء والدعاة جهوداً كبيرة للرد على أصحاب هذا الفكر وتجلية شبهاتهم ، فكانت هذه الجهود على حساب جهود أخرى كان ينبغي أن توجه للخارج ذباً عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن دين الإسلام في خضم الحرب العالمية على الإرهاب التي تهدف في حقيقتها إلى تشويه صورة هذا الدين العظيم .
ثالثاً : المستوى الأمني :
1 ـــ زعزعة الأمن بالتفجير وقتل الناس ، فاستباحوا دماء الناس وأرواحهم وأموالهم ، وزعزعوا الأمن . وقدموا الفرصة سانحة للطامعين وأصحاب المصالح للتدخل في شؤون المملكة بحجة عدم قدرتها على ضبط الأمن ، وحماية حقول النفط.
2 ـــ تقديم الذريعة للمتربصين بالوطن للتدخل في أمور وطنية سيادية، أذكر منها قضية التعليم لأهميتها .
فقد أعطت أفعال الغلاة الدموية الفرصة للغرب للتدخل في مناهج التعليم ، بحجة أن هذه المناهج تعلم الإرهاب وتربي الطلاب على كره الآخر وتكفيره ومعاداته ، ساعدهم في ذلك بعض المأجورين والمارقين الذين تطوعوا للبحث عن كل نص يمكن إدانة المناهج به ولو كانت دلالته موهمة أو محتملة .
فبرزت بعض الأصوات مطالبة بتغيير المناهج في المملكة ، ومن ذلك :
قدم النائب ( جيم دافيس ) من الحزب الديمقراطي عن ولاية فلوريدا في مجلس النواب الأمريكي مشروع قرار في ( يونيه سنة 2002 م ) حول المناهج السعودية ، ركز فيه على مطالبة الحكومة الأمريكية بالتدخل المباشر لتغيير مناهج التعليم السعودية. وقامت لجنة أمريكية لها علاقة بموضوع المناهج التعليمية في المملكة ، بوضع تقرير مفصل قدمته للإدارة الأمريكية ، انتقدت فيه :
أ ــ سياسة التعليم لأنه يقوم على الإسلام ، والدراسات الإسلامية تشكل جزءاً رئيساً في الكتب المقررة ، وحتى الكتب العلمية تشير إلى الإسلام .
ب ـــ السعوديون يقولون إن الإسلام هو أساس الدولة والمجتمع والقضاء والتعليم والحياة اليومية .
ج ـــ المناهج السعودية لا تعترف بأي حق لليهود في فلسطين وأرض إسرائيل .
د ـــ المناهج السعودية تقدم قضية فلسطين بأنها احتلها اليهود الأجانب .
هـــ ترفض المناهج إلغاء الجهاد كما يدعو لذلك بعض المسلمين ، مثل الطريقة القادرية .
و ـــ المناهج السعودية تركز على فصل النساء عن الرجل ، وتركز على حجاب المرأة .
ز ـــ وصف المنهج بأن ما تقوم به بعض النساء من كشف أجسامهن للرجال الغرباء بأنه ذنب كبير .
وكتب " توماس فريدمان " مقالاً بعنوان : " إما أن تتخلص أمريكا من الشاحنات الصغيرة أو يتخلص السعوديون من المناهج الإسلامية المدرسية " . نشر في جريدة " نيويورك تايمز " ، ومن أبرز ما ورد فيه انتقاده " لكتاب المدرسة الخاص بالسنة العاشرة ( الأول ثانوي) والمنتشر في جميع المدارس السعودية لأنه يتضمن نصاً يقول : إنه واجب على المسلمين أن يتآخوا فيما بينهم ... ".
وكتب " نيل ماكفار كوهار " مقالاً بعنوان : " وجهات النظر المتطرفة والمعادية للغرب في المدارس السعودية ، ونشر في صحيفة " نيويورك تايمز " في 18 / 10 / 2001 م ، انتقد فيه كسابقه مطالبة " الدروس الصفية في الكتب المدرسية المقررة من المسلمين أن يكونوا موالين لبعضهم البعض". وأضاف منتقداً : إن حجم مقررات التربية الإسلامية التي تدرس في المدارس السعودية كما يقول بعض أولياء أمور الطلاب يعادل ثلث المنهج ، وكلها تركز على المواضيع الدينية.
ويأتي التكفيريون بأفعالهم المرفوضة ، وتصرفاتهم الخارجة عن وسطية الاسلام وروح الشريعة وقواعد الملة ، والتي أنكرها العلماء والدعاة والعقلاء ، فأكدوا بهذه الأفعال مزاعم التغريبيين ، وكأن العملية تبادل أدوار بينهم ، فهذا يكتب بقلمه ، وذاك يؤكد بأفعاله!!.وبين هؤلاء وأولئك وقف أهل الوسطية ينافحون عن الدعوة ومحاضن الخير ويدافعون عن المكتسبات والانجازات .
رابعاً : المستوى الاجتماعي :
1 ـــ زعزعة الأمن الفكري ، وذلك بمحاولة إسقاط العلماء وتهميشهم، لإدراكهم أن العلماء هم صمام الأمان الذي يحبط ويفشل ما يخططون له من قتل وتخريب.وإذا أسقط العلماء خلت الساحة أمامهم لبث أفكارهم وسمومهم .
فالعلماء عند التكفيريين هم علماء سلطة ، وزبانية الظلمة ، ومفتون للحكام وفق ما يشتهون ، لا يفقهون الواقع ، علماء حيض ونفاس ، علماء الوراق الصفراء وحسب ، منافقون ، مداهنون ، يبيعون دينهم بعرض من الدنيا قليل.
وكان من آثار هذه الآفة الخطيرة أن تبلبلت أفكار كثير من الشباب . فمنهم من ضل طريق الهدى وصار يتبع ما يرسمه له متبعوا أهوائهم ووقعوا في حزبية مقيتة أو عصبية جاهلية منتنة. ومنهم من صار بينه وبين العلماء فجوة كبيرة ووحشة عظيمة فابتعد عنهم بل وقع في أعراضهم ، وبات يلهث خلف من يفسدون في الأرض بدعوى الإصلاح تارة بالعلمنة وتارة بالتغريب وتارة ببث روح الفرقة والشقاق في المجتمع .
2 ـــ تضييع الطاقات الشابة وتبديدها حيث استقطب هذا الفكر شريحة من الشباب مستغلاً حماسهم وغيرتهم على الدين والدعوة ، واستياءهم التجاوزات التي يقوم بها التغريبيون ، فاندفعت إليه هذه الفئة بإخلاصها وحبها لدينها ظناً منها أن اعتناق هذا الفكر نوع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فجعلها طاقات هدم وتخريب في الأمة بدلاً من أن تكون طاقات بناء .
فكم من الشباب الغض الطري قتل جراء تمسكه بهذا الفكر ؟.
وكم من شاب فاعل مؤثر منتج ذهب ضحية لتنفيذ مخططات هذا الفكر ؟.
هذا ما تيسر جمعه وكتابته ، والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
الفهرس :
1 ـ مقدمة في وسطية أهل السنة والجماعة.
2 ـ معنى الغلو لغة واصطلاحاً .
3 ـ مظاهر الغلو :
أ ـ الغلو الاعتقادي .
ب ـ الغلو في العمل .
ج ـ الغلو في الحكم على الناس .
4 ـ أسباب الغلو :
أ ـ الجهل .
ب ـ الطعن في العلماء.
ج ـ بتر النصوص .
د ـ الحماس والعاطفة .
هـ ـ مجالسة الغلاة .
و ـ استفزاز المتدينين .
5 ـ أبعاد الغلو :
أ ـ أبعاده على المستوى العقدي :
ـ تكفير حكام ومجتمعات المسلمين .
ـ الخروج ومفارقة جماعة المسلمين
ب ـ أبعاده على المستوى الدعوي :
ـ تنفير الناس من التدين.
ـ إشغال العلماء والدعاة بالرد عليهم دون ما هو أهم .
ج ـ أبعاده على المستوى الأمني :
ـ زعزعة الأمن بالتفجير وقتل الناس
ـ تقديم الذريعة للمتربصين بالوطن.
د ـ أبعاده على المستوى الاجتماعي :
ـ زعزعة الأمن الكري في المجتمع .
ـ تبديد طاقات الشباب وتضييعها .
مغرب يوم الجمعة 21/8/1432 هـ

رقيقةُ المجاهدين لابن القيم



رقيقةُ المجاهدين
لابن القيم
الحمد لله معزِّ من أطاعه وناصرِه, ومذلِّ من عصاه وخاذِلِه, جعل الجلال والجمال هالةً على رايات المجاهدين, والصلاة والسلام والبركة على من بعثه الله هاديًا مجاهدًا مبشّرًا نذيرًا, أما بعد:
فما بال أقوم يرومون إبطال ذروة سنام الإسلام بذريعة إسقاط مدّعِي الجهاد, فيهدم الأصل التالد لشجرة الجهاد بحجة كسر عودٍ دخيل عليها, ويغلق باب القتال في سبيل الله عامّة بشبهة سدّ الطريق على غلاته الذين أخذتهم صولته وحماسته ومعمعان لهيبه عن حسن متابعة إمام المجاهدين الذي لا يقبل الله جهادًا إلا ما كان على شرعته وسنته, ولا يدخل أحدٌ من أمته على الله إلا من بابه وحسن التأسّي به, فالقتال في سبيل الله عبادة, وشرطا قبول العبادة الإخلاص والمتابعة, والحماسة مالم تُضبط بالوحي فهي وبال.
 يا قوم: متى كان الناس معيارا للشريعة؟! ومتى كانت حروبنا ضد الخوارج مانعة من قتال الكفرة؟!
الجهاد باق إلى قيام الساعة بنا أو بغيرنا " وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم" وفريضة الوقت هي إقامته وبيان حدوده وضوابطه وأحكامه لا هدمه وإبطاله.
والخوارج باقون, ومن لف لفهم من البغاة والظلمة وقطاع الطرق ومتصيدة الأخطاء باقون كذلك, والعبرة ليست بديموتهم في ميدان الابتلاء, بل في المصلحين لما انثلم من بناء الجهاد والمجددين لما اندرس من معالمه ونافخو روح الحماسة الإيمانية في صدور أهله, فما تركه قوم إلا ذلوا وأُديل عليهم وأُبدلوا.
وكما يُقاتل الكافر المحارب بأمر الشريعة؛ فكذلك يقاتل الخارجي المارق, فهم شرّ قتلى تحت أديم السماء, فهم مبدّلةٌ متهوّكة غلاة. قال الإمام أحمد رحمه الله: صح الحديث في الخوارج من عشرة أوجه وقد رواها مسلم في صحيحه وروى البخاري منها ثلاثة أوجه حديث علي وأبي سعيد الخدري وسهل بن حنيف, وفي السنن والمسانيد طرق أخر متعددة. وقد قال صلى الله عليه وسلم في صفتهم ( يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية. أينما لقيتموهم فاقتلوهم; فإن في قتلهم أجرا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة; لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد ).
هذا وإن الحرب العوان معهم أو مع من أٌمرنا بحربهم ليست شرًّا محضا وإن احترق بِأتُونها الأبرياء, بل هي كَيرُ امتحانٍ لمعادن الرجال, ومعيار دقيق لصدقهم مع ربهم "الم . أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون . ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين" وفي حديث صاحب السهم لما خر شهيدًا وقد أصابه السهم في ذات المكان الذي رغبه: "صدق الله فصدقه الله" رواه النسائي بسند صحيح في قصة شريفة.
وروى الإمام أحمد بسند صحيح حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له, وجعل رزقي تحت ظل رمحي, وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري, ومن تشبه بقوم فهو منهم" ومن فروعه الرباط في سبيل الله, ويكفيه أن أجره مستمر بازدياد وهو في قبره, فعن سلمان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات فيه جرى عليه عمله الذي كان يعمل, وأجري عليه رزقه, وأمن من الفتان" رواه مسلم, وعن سهل بن سعد رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها، وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها" متفق عليه.
ألا ما أصدق وأعطر آهات الراغبين في الانتظام في سفر الخالدين من الذين أنعم الله عليهم.
لئن قرّب الأبرارُ في العيد أنعُماً ... وَضَحَّوْا لمولاهم بعيراً فَما ليا؟
فيا ربِّ فاقبـلها قرابينَ راحتي ... فئاماً من الكفار أضحتْ بَوَاليا
أيا مبتغي الفردوس عجّل بصارمٍ    ...   وكن صادق الإقبال عند التلاقيا
فإن تحيَ عشت العز في كل لحظةٍ ...  وإن كانت الأخرى ستلقى المراقيا
فأسأل ربّي أن تكونَ منيّتي   ...   بعيداً عن الأوطان للشّرك غازيا
فخذ من دمائي يا سميعاً لدعوتي   ...   فما أطيب الآلام إن كنت راضيا
لئن عَزّ ديني واستبيحت جوارحي    ...   فأين مقام العزّ إلا مقاميا؟
إن الحديث عن الجهاد والنصر والاستشهاد لَيسعدُ النفسَ المؤمنة ويهزّها طربًا وأُنسًا, ومن قرأ القرآن والسنة رأى أن الجهاد بأنواعه محورٌ هامّ يقوم عليه ساق الإيمان بالله وبكريم موعوده. وقد تكلّم العلماء كثيرًا فضائله وبيان منزلته وتفاصيل أحكامه, وذهب جمع إلى أنه أشرف النوافل بإطلاق, ومهما كثر عديد القُربِ فيبقى منها لذروة السنام ذروة السنام!
ومن أمثل ما رأت عيني صحائف خطتها يراعة ابن القيم رحمه في زاد المعاد في كلامه عما بعد الهجرة وتدرج الشريعة في فريضة الجهاد, ويكأنما يصهل بها في محتدم الطعان ويهتف بها لمن رام نعيم الجنان.
 قال الإمام ابن القيم في الزاد (63-80) - بتصرف واختصار -:
فلما استقر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وأيده الله بنصره بعباده المؤمنين الأنصار، وألف بين قلوبهم بعد العداوة والإحن التي كانت بينهم، فمنعته أنصار الله وكتيبة الإسلام من الأسود والأحمر، وبذلوا نفوسهم دونه، وقدموا محبته على محبة الآباء والأبناء والأزواج، وكان أولى بهم من أنفسهم، رمتهم العرب واليهود عن قوس واحدة، وشمروا لهم عن ساق العداوة والمحاربة، وصاحوا بهم من كل جانب، والله سبحانه يأمرهم بالصبر والعفو والصفح حتى قويت الشوكة, واشتد الجناح، فأذن لهم حينئذ في القتال، ولم يفرضه عليهم، فقال تعالى: (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير ) [ الحج : 39 ] .
ثم فرض عليهم القتال بعد ذلك لمن قاتلهم دون من لم يقاتلهم فقال: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ) [ البقرة : 190 ] .
ثم فرض عليهم قتال المشركين كافة، وكان محرما، ثم مأذونا به، ثم مأمورا به لمن بدأهم بالقتال، ثم مأمورا به لجميع المشركين، إما فرض عين على أحد القولين، أو فرض كفاية على المشهور.
والتحقيق أن جنس الجهاد فرض عين إما بالقلب، وإما باللسان، وإما بالمال، وإما باليد، فعلى كل مسلم أن يجاهد بنوع من هذه الأنواع.
أما الجهاد بالنفس ففرض كفاية، وأما الجهاد بالمال ففي وجوبه قولان: والصحيح وجوبه؛ لأن الأمر بالجهاد به وبالنفس في القرآن سواء، كما قال تعالى: (انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون) [ التوبة : 41 ] وعلق النجاة من النار به ومغفرة الذنب ودخول الجنة فقال: ( يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم ) [ الصف : 10 ] وأخبر أنهم إن فعلوا ذلك أعطاهم ما يحبون من النصر والفتح القريب، فقال: ( وأخرى تحبونها ) [ الصف : 13 ] أي: ولكم خصلة أخرى تحبونها في الجهاد، وهي: ( نصر من الله وفتح قريب ) وأخبر سبحانه أنه: ( اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ) [ التوبة : 111 ] وأعاضهم عليها الجنة، وأن هذا العقد والوعد قد أودعه أفضل كتبه المنزلة من السماء، وهي التوراة والإنجيل والقرآن، ثم أكد ذلك بإعلامهم أنه لا أحد أوفى بعهده منه تبارك وتعالى، ثم أكد ذلك بأن أمرهم بأن يستبشروا ببيعهم الذي عاقدوه عليه، ثم أعلمهم أن ذلك هو الفوز العظيم.
فليتأمل العاقد مع ربه عقد هذا التبايع، ما أعظم خطره وأجله، فإن الله عز وجل هو المشتري، والثمن جنات النعيم والفوز برضاه، والتمتع برؤيته هناك. والذي جرى على يده هذا العقد أشرف رسله وأكرمهم عليه من الملائكة والبشر. وإن سلعة هذا شأنها لقد هيئت لأمر عظيم وخطب جسيم:
قد هيئوك لأمر لو فطنت له   ...   فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
مهر المحبة والجنة بذل النفس والمال لمالكهما الذي اشتراهما من المؤمنين، فما للجبان المعرض المفلس وسوم هذه السلعة، بالله ما هزلت فيستامها المفلسون، ولا كسدت فيبيعها بالنسيئة المعسرون، لقد أقيمت للعرض في سوق من يريد، فلم يرض ربها لها بثمن دون بذل النفوس، فتأخر البطالون، وقام المحبون ينتظرون أيهم يصلح أن يكون نفسه الثمن، فدارت السلعة بينهم ووقعت في يد: ( أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ) [ المائدة : 54 ].
لما كثر المدعون للمحبة طولبوا بإقامة البينة على صحة الدعوى، فلو يعطى الناس بدعواهم لادعى الخلي حُرقَة الشجي، فتنوع المدعون في الشهود، فقيل: لا تثبت هذه الدعوى إلا ببينة ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) [ آل عمران : 31 ] فتأخر الخلق كلهم، وثبت أتباع الرسول في أفعاله وأقواله وهديه وأخلاقه، فطولبوا بعدالة البينة، وقيل: لا تقبل العدالة إلا بتزكية ( يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ) [ المائدة : 54 ] فتأخر أكثر المدعين للمحبة، وقام المجاهدون فقيل لهم: إن نفوس المحبين وأموالهم ليست لهم, فسلموا ما وقع عليه العقد فإن ( الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ) وعقد التبايع يوجب التسليم من الجانبين، فلما رأى التجار عظمة المشتري وقدر الثمن وجلالة قدر من جرى عقد التبايع على يديه ومقدار الكتاب الذي أثبت فيه هذا العقد عرفوا أن للسلعة قدرًا وشأنا ليس لغيرها من السلع، فرأوا من الخسران البين والغبن الفاحش أن يبيعوها بثمن بخس دراهم معدودة تذهب لذتها وشهوتها وتبقى تبعتها وحسرتها، فإن فاعل ذلك معدود في جملة السفهاء، فعقدوا مع المشتري بيعة الرضوان رضى واختيارا من غير ثبوت خيار، وقالوا: والله لا نقيلك ولا نستقيلك، فلما تم العقد وسلموا المبيع قيل لهم: قد صارت أنفسكم وأموالكم لنا، والآن فقد رددناها عليكم أوفر ما كانت وأضعاف أموالكم معها ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ) [ آل عمران : 169 ] لم نبتع منكم نفوسكم وأموالكم طلبا للربح عليكم، بل ليظهر أثر الجود والكرم في قبول المعيب والإعطاء عليه أجل الأثمان، ثم جمعنا لكم بين الثمن والمثمن.
وتأمل قصة جابر بن عبد الله رضي الله عنهما, وقد اشترى منه صلى الله عليه وسلم بعيره، ثم وفاه الثمن وزاده، ورد عليه البعير، وكان أبوه قد قتل مع النبي صلى الله عليه وسلم في وقعة أحد، فذكّره بهذا الفعل حال أبيه مع الله، وأخبره ( أن الله أحياه ، وكلمه كفاحا ، وقال : يا عبدي تَمَنَّ عليَّ ) فسبحان من عظم جوده وكرمه أن يحيط به علم الخلائق، فقد أعطى السلعة، وأعطى الثمن، ووفق لتكميل العقد، وقبل المبيع على عيبه، وأعاض عليه أجلّ الأثمان، واشترى عبده من نفسه بماله، وجمع له بين الثمن والمثمن، وأثنى عليه ومدحه بهذا العقد، وهو سبحانه الذي وفقه له وشاءه منه.
فحيهلا إن كنت ذا همة فقد     حدا بك حادي الشوق فاطو المراحلا
وقل لمنادي حبهم ورضاهم     إذا ما دعا لبيك ألفا كواملا
ولا تنظر الأطلال من دونهم فإن     نظرت إلى الأطلال عدن حوائلا
ولا تنتظر بالسير رفقة قاعد     ودعه فإن الشوق يكفيك حاملا
وخذ منهم زادا إليهم وسر على     طريق الهدى والحب تصبح واصلا
وأحي بذكراهم سُرَاكَ إذا دنت     ركابك فالذكرى تعيدك عاملا
وإما تخافن الكلال فقل لها     أمامك ورد الوصل فابغي المناهلا
وخذ قبسا من نورهم ثم سر به     فنورهم يهديك ليس المشاعلا
وحي على وادي الأراك فقل به     عساك تراهم ثم إن كنت قائلا
وإلا ففي نعمان عندي معرف الـ     أحبة فاطلبهم إذا كنت سائلا
وإلا ففي جمع بليلته فإن     تفت فمنى يا ويح من كان غافلا
وحي على جنات عدن فإنها     منازلك الأولى بها كنت نازلا
ولكن سباك الكاشحون لأجل ذا     وقفت على الأطلال تبكي المنازلا
وحي على يوم المزيد بجنة الـ     خلود فجد بالنفس إن كنت باذلا
فدعها رسوما دارسات فما بها     مقيل وجاوزها فليست منازلا
رسوما عفت ينتابها الخلق كم بها     قتيل وكم فيها لذا الخلق قاتلا
وخذ يمنة عنها على المنهج الذي     عليه سرى وفد الأحبة آهلا
وقل ساعدي يا نفس بالصبر ساعة     فعند اللقا ذا الكد يصبح زائلا
فما هي إلا ساعة ثم تنقضي     ويصبح ذو الأحزان فرحان جاذلا
لقد حرك الداعي إلى الله وإلى دار السلام النفوس الأبية، والهمم العالية, وأسمع منادي الإيمان من كانت له أذن واعية، وأسمع الله من كان حيا، فهزه السماع إلى منازل الأبرار، وحدا به في طريق سيره، فما حطت به رحاله إلا بدار القرار فقال: ( انتدب الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا إيمان بي وتصديق برسلي أن أرجعه بما نال من أجر أو غنيمة أو أدخله الجنة، ولولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلف سرية، ولوددت أني أقتل في سبيل الله, ثم أحيا ثم أقتل, ثم أحيا ثم أقتل ).
وقال: ( مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يفتر من صيام ولا صلاة حتى يرجع المجاهد في سبيل الله، وتوكل الله للمجاهد في سبيله بأن يتوفاه أن يدخله الجنة، أو يرجعه سالما مع أجر أو غنيمة ).
وقال فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى: ( أيما عبد من عبادي خرج مجاهدا في سبيلي ابتغاء مرضاتي، ضمنت له أن أرجعه إن أرجعته بما أصاب من أجر أو غنيمة، وإن قبضته أن أغفر له وأرحمه وأدخله الجنة )
وقال: ( من قاتل في سبيل الله من رجل مسلم فواق ناقة، وجبت له الجنة ). وقال: إن في الجنة مئة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة).
وقال لأبي سعيد: ( من رضي بالله ربًّا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا، وجبت له الجنة ) فعجب لها أبو سعيد فقال: أعِدها علي يا رسول الله، ففعل، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( وأخرى يرفع الله بها العبد مئة درجة في الجنة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض ) قال: وما هي يا رسول الله؟ قال: ( الجهاد في سبيل الله ).
وقال: ( من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار ) وقال: ( لا يجتمع شح وإيمان في قلب رجل واحد، ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في وجه عبد ).
وقال: ( مقام أحدكم في سبيل الله خير من عبادة أحدكم في أهله ستين سنة، أما تحبون أن يغفر الله لكم وتدخلون الجنة؟ جاهدوا في سبيل الله، من قاتل في سبيل الله فواق ناقة؛ وجبت له الجنة ).
وقال لرجل حرس المسلمين ليلة في سفرهم من أولها إلى الصباح على ظهر فرسه لم ينزل إلا لصلاة أو قضاء حاجة: ( قد أوجبت فلا عليك ألا تعمل بعدها ) وقال: ( من بلغ بسهم في سبيل الله ، فله درجة في الجنة ).
وقال: ( إن الله يدخل بالسهم الواحد الجنة: صانعه يحتسب في صنعته الخير، والممد به، والرامي به. وارموا واركبوا، وأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا، وكل شيء يلهو به الرجل فباطل إلا رميه بقوسه، أو تأديبه فرسه، وملاعبته امرأته، ومن علمه الله الرمي فتركه رغبة عنه، فنعمة كفرها) رواه أحمد وأهل السنن وعند ابن ماجه ( من تعلم الرمي ثم تركه ، فقد عصاني ) وقال: ( من مات ولم يغز ولم يحدث به نفسه، مات على شعبة من نفاق ) وذكر أبو داود عنه: ( من لم يغز، أو يجهز غازيا، أو يخلف غازيا في أهله بخير؛ أصابه الله بقارعة قبل يوم القيامة ).
وقال: ( إذا ضن الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعينة، واتبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله، أنزل الله بهم بلاء، فلم يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم )
وقال تعالى: ( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) [ البقرة : 195 ] ، وفسر أبو أيوب الأنصاري الإلقاء باليد إلى التهلكة بترك الجهاد، وصح عنه صلى الله عليه وسلم: ( إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف ).
وصح عنه : ( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا ، فهو في سبيل الله ) وصح عنه : ( أن من جاهد يبتغي عرض الدنيا ، فلا أجر له ) وصح عنه أنه قال لعبد الله بن عمرو: ( إن قاتلت صابرا محتسبا، بعثك الله صابرا محتسبا، وإن قاتلت مرائيا مكاثرا، بعثك الله مرائيا مكاثرا، يا عبد الله بن عمرو على أي وجه قاتلت أو قتلت، بعثك الله على تلك الحال ).
اللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام نسألك الشهادة في سبيلك مقبلين غير مدبرين, ومخلصين غير مخلطين, ومستنّين غير مبدلين, إله الحق آمين, وصل اللهم وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
إبراهيم الدميجي
1/ شعبان/ 1435

الأربعاء، 7 مايو 2014

معشر الدعاة: تواصوا بالحق والصبر

معشر الدعاة: تواصوا بالحق والصبر
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
   فلا بد للداعي إلى الله تعالى من وسيلة توصل علمه إلى الناس, وأياً تكن هذه الوسيلة فهي لا تكاد أن تخرج في الغالب عن وعظ أو حوار أو إنكار أو مدارسة أو تعليم أو مكاتبة ونحو ذلك, وقد اكتنف ذاك السبيل النبوي بعض من لا دربة له ولا سابق خبرة ولا كفاية علمٍ فغبّشوا بعض مسالكه على غيرهم ودفعًا لغلوائهم هذه مشاركة ببعض المهمات التي كتبتها لنفسي المقصرة ولإخوتي سائلًا ربي التوفيق والهدى والسداد.
    فمن المهمات بين الإخوة في المحاورة والمدارسة: تجريد النية للعليم الخبير سبحانه, وتصفيتها من شوائب الرياء وعوالق السمعة وحبائل التصدّر وغوائل الظهور, وقاني الله وإياك ذلك, وجعلنا من المخلِصين المخلَصين, فكل شيء لغير وجه الله يضمحل, وقد كان الإمام النووي رحمه الله تعالى يكتب ويحرّر المطوّلات حتى إذا كلَّ ألقى القلم وهو يتمثل:
لئن كان هذا الدمع يجرى صبابة      على غير ليلى فهو دمع مضيّع
   وقد قيل: تخليص الأعمال مما يفسدها أشد على العاملين من طول الاجتهاد. نعم فمن رأى إخلاصه فإخلاصه محتاج لإخلاص!
    ومن المهمات: مراعاة المتابعة للسنّة, ومن لوازم المتابعة الرفق_إلا في حالات خاصة كالمعاند المستكبر_ ومراعاة أحوال المخاطبين, والتدرج, قالت عائشة رضي الله عنها: "إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام, ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر؛ لقالوا: لا ندع الخمر أبدًا, ولو نزل: لا تزنوا؛ لقالوا: لا ندع الزنا أبدًا". قال ابن حجر في الفتح "أشارت إلى الحكمة الإلهية في ترتيب التنزيل، وأن أول ما نزل من القرآن الدعاء إلى التوحيد، والتبشير للمؤمن والمطيع بالجنة، وللكافر والعاصي بالنار، فلما اطمأنت النفوس على ذلك أنزلت الأحكام، ولهذا قالت: ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر؛ لقالوا: لا ندعها؛ وذلك لما طبعت عليه النفوس من النفرة عن ترك المألوف".
 ومن ذلك ما جرى للإمام المجدد محمد بن عبدالوهاب في ابتداء دعوته فإنه إذا سمع المشركين يدعون زيد بن الخطاب, قال: الله خير من زيد, تمريناً لهم على نفي الشرك بلين الكلام نظراً إلى المصلحة وعدم النفرة. ذكره عنه المجدد الثاني عبد الرحمن بن حسن رحمهما الله.
    ومن المهمات: بين الإخوة تحرير محل النزاع قبل الخوض فيه, وتحرير معاني الكلم قبل إلقائها في خضم التدافع, وفي الردود تحريرُ محل النزاع وتحديد محور النقاش ونقطة البحث وعدم الخروج عنها إلا بعد إنهائها, والإشارة لذلك, دفعاً لخلط الفهم عند القارئ أو السامع, وفائدة ذلك أن لا يتشعّب الحديث في شجون لا علاقة لها بصلب النقاش.
     هذا وتحرير معاني الألفاظ والمصطلحات عند أهل الفن الداخل تحت مظلته النقاش يختصر الكثير, قال شيخ الإسلام: "فاللفظ المشتبه المجمل إذا خص في الاستدلال وقع فيه الضلال والإضلال وقد قيل: إن أكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء".
    ومن المهمات: إحسان الظن بأخيك, وحمل كلامه على أحسن محامله, فإن لم تجد فقل: لعل له عذراً لا أعلمه.
تأنّ ولا تعجل بلومك صاحباً      لعلّ له عذراً وأنت تلومُ
   ومن المهمات؛ الفرح بالحق حيث كان, ولو ممن تدارسه والحذر من آكل الحسنات الحسد, فافرح بالحق ولو جاءك على صفة المناظرة, فالمُدارسة والمناقشة من طرق التحصيل والتثبيت للعلم لمن أصلح الله حالهم. والرحمة بالخلق سيما المؤمنين, ومن محاكّ الصدور الفرح بالحق من فيّ الخصم, وهذا من خلق السادات, وعادات السادات سادات العادات, وممن اشتهروا بذلك الإمام الشافعي رحمه الله تعالى.
    ومن المهمات: الحلم والصفح وقول الحُسنِ واختيار رقيق اللفظ وليّن العبارات "وقولوا للناس حسناً" "وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم" قال ابن الجوزي رحمه الله: "إذا خرجت من فيّ عدوك لفظة سفه, فلا تلحقها بمثلها تلقحها, فنسل الخصام مذموم".
    ومن المهمات: تذكر زوال الدنيا وأن كل شيء هالك إلا وجهه, سبحانه وبحمده, وان الأجل أقرب مما نتصوّر:
وأبرح ما يكون الشوق يوماً      إذا دنت الديار من الديار
   وقد كان إمام السنة أحمد كثيراً مايتمثل بـ:
وما هي إلا ساعة ثم ساعة       ويوم إلى يوم وشهر إلى شهر
مطايا يقربن الجديد إلى البلى     ويدنين أشلاء الصحيح إلى القبر
   ومن المهمات: الهرب الصادق واللجأ والاعتصام من موجبات غضب الله تعالى, كالشرك والبدع والذنوب, كما قال عنها ابن القيم: "فهذا منذر بسيل عذاب قد انعقد غمامه, ومؤذن بليل بلاء قد ادلهم ظلامه, فاعزلوا عن هذا طريق هذا السيل بتوبة نصوح ما دامت التوبة ممكنة وبابها مفتوح". 
    ومن المهمات: الصبر على طريق الهدى والحق, وإن كنت وحدك فإبراهيم الخليل عليه السلام كان أمة وحدة, وإذا عظم المطلوب قل المساعد, واصبر هنيهة فعن قريب تنقضي, فمن استطال السفر ضعف مسيره.
    ومن المهمات: رد الخلاف إلى الله (لكتابه) ولرسوله (لسنته).  قال شيخ الإسلام: "وهكذا مسائل النزاع التي تنازع فيها الأمة في الأصول والفروع, إذا لم تُردّ إلى الله و الرسول لم يتبين فيها الحق, بل يصير فيها المتنازعون على غير بيّنة من أمرهم, فإن رحمهم الله أقرّ بعضهم بعضاً ولم يبغ بعضهم على بعض, كما كان الصحابة في خلافة عمر و عثمان يتنازعون في بعض مسائل الاجتهاد فيقرّ بعضهم بعضاً ولا يعتدي عليه, وإن لم يُرحموا وقع بينهم الاختلاف المذموم, فبغى بعضهم على بعض إمّا بالقول مثل تكفيره وتفسيقه, وإما بالفعل مثل حبسه وضربه وقتله, وهذه حال أهل البدع و الظلم".  
     ومن المهمات: مراقبة الله تعالى في التعامل مع المخالف مهما كان حاله, قال شيخ الإسلام: "ما جزيت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه "إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون" وقال تعالى: "وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً إن الله بما يعملون محيط".
ويشتموا فترى الألوان مسفرة      لا صفح ذل ولكن صفح أحلام
    ومن المهمات: تعلّم أصول المدارسة والحوار والمناظرة؛ ومن ذلك حسن الاستماع, ومن لم يحسن الاستماع لم يحسن القول, والإيجاز, وحسن الإيجاز: أن لا تبطئ ولا تخطئ, وترك التكرار إلا لحاجة, فتكراره إلى أن يفهمه من يفهمه يكون قد مله من فهمه, وخير الكلام ما لم يحتج بعده لكلام, وخير الكلام ما قلّ ودلّ ولم يطل فيمل, ويكفي من القلادة ما أحاط بالعنق, ويكفي متين القول عن حواشيه, ومنها: عدم الاغترار بكثرة الحجج إن لم يكن لها حقيقة.
إن كان في العيّ آفات مقدرة       ففي البلاغة آفات تساويها
    تكلم رجل عند معاوية رضي الله عنه فهذر _أي: خلط وتكلم بما لا ينبغي_ ثم قال: أأسكت يا أمير المؤمنين؟ فقال: وهل تكلمت؟! وقال أحدهم: رأيت عورات الناس بين أرجلهم, وعورة فلان بين فكيه.
رأيت اللسان على أهله       إذا ساسه الجهل ليثاً مغيراً
    ومنها: ترك ما يموت بتركه من الباطل, قال حاتم الطائي: إذا كان الشيء يكفيكه الترك؛ فاتركه. وبعض الرد وتكراره يحيي الشبه في النفوس, التي ربما همدت ونُسيت بترك طَرْقها.
    ومنها: الأناة والهدوء, حتى ينتهي مقال أخيك سواء شفاها أو كتابة, فضيق العطن والعجلة ليست من سيما أهل العلم, وتكلّم بعلم, أو اسكت بحلم.
    ومنها: ترك الظن الباطل, وهو العريّ عن برهانه, كما قيل: ثبت العرش ثم انقش.
    ومن المهمات: أن يعلم أن كلامه المكتوب والمسموع والمشاهد معدود من عمله, ومحفوظ في سجلات الكرام الكاتبين, ومنها: أن يعمل بقوله قدر طاقته, قال زبيد اليامي: اسكتتني كلمة ابن مسعود عشرين سنة: من كان كلامه لا يوافق عمله فإنما يوبخ نفسه.
    ومنها: أن يقول الحق لا تأخذه فيه لومة لائم, ولمّا تكلم جلساء معاوية رضي الله عنه والأحنف ساكت, فقال معاوية: يا أبا بحر, مالك لا تتكلم؟ فقال: أخافكم إن صدقت, وأخاف الله إن كذبت. وقد قال الأول: إذا لم تقل الحق فلا تقل الباطل. وكلّ كلمة لها من الله طالبٌ فمعتق أوموبق. "ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت" وجماع ذلك: "ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد".
    ومنها: ألا يعتقد ثم يستدل, حتى لا يزيغ البصر فتتبعه البصيرة. والذنوب كلها شؤم "فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم".
    ومنها: أن لا يُبدي ولا يبدأ في الإسلام رأياً ليس له فيه إمام, بل يتبع ولا يبتدع فقد كفي.
     ومن المهمات: أن يحرّر كلامه قبل نقله, وأن يكون عنده ميزان وبصيرة بالمقولات التي بين يديه, حتى لا يكون إمّعةً, قال رجل لعلي: أترى أننا نظن أنك على الحق وفلاناً على باطل؟ فقال علي: "ويحك يا فلان! الحق لا يعرف بالرجال, اعرف الحق تعرف أهله" وانظر جواب الشيخ أبا بطين رحمه الله لما سئل: لو كان هذا حقاً ما خفي على فلان...".   
    ولا للاصطفاف على غير علم, والتخندق على غير حلم, والنصر الأعمى بلا حكمة, بل لابد من النضج الخلقي والعلمي.
    ومنها: اللين في الخطاب, والحكمة في الموعظة, والسهولة في الأسلوب, والتعريض دون التصريح عند الحاجة, فإن لم ينجع فبما بال أقوام, وآخر العلاج الكي. "فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك".  والعامة تقول: الكلام الليّن يغلب الحق البيّن.
    ومنها: اعتبار اختلاف الرأي لا يفسد الود فيما يسوغ فيه الخلاف, وهذا حال السلف الصالح. ومما يلحق بذلك؛ أن لا يشترط قبول الطرف المقابل لرأيه واجتهاده, بل يكفيه أن يستمع له ويفهمه, والحوار الهادف المنضبط هو من قبيل تدارس العلم، ومن أسباب نمائه وتثبيته ونشره, فهو مأجور من هذه الحيثيّة.
    ومنها: أن لا يردّ البدعة بأختها, بل بالسنة. قيل لإمام دار الهجرة مالك رحمه الله تعالى: الرجل يأمر بالسنة؟. قال: نعم. قيل: أيجادل عنها؟ قال: لا. ونبيّنا صلوات الله وسلامه عليه زعيم بيت في ربض الجنّة لمن ترك المراء وإن كان محقاً.
    ومنها: الحذر من أن تأخذه العزة بالإثم, قال ابن مسعود رضي الله عنه: من قيل له: اتق الله, فقال: انشغل بنفسك, فقد أخذته العزّة بالإثم, وما أقلّ من يسلم من ذلك في مضائق المناظرات. ومن توابع تيك المنقبة؛ اعتبار الرجوع عن الخطأ فضيلة -عملياً- وعدم التردد في ذلك, وأن يتحلّى بالفروسية في مُسايفة الكلم ومُثاقَفَةِ الخُطب, وأن التواضع للحق, وكسر نخوة النفس, خير في العقبى والأولى من الإعناق في باطل مشوب بتأويل.
وملاك القول أن من علامات التوفيق ألا تفرح بعجاج الجدل ونقع المراء.
    وبالجملة؛ فمِن حُسنِ سياسة الناس في التعليم والمدارسة والمناظرات والمحاورات لين الجانب وبسط الوجه وبشاشة العبارات وإرادة الخير للمقابل ظاهراً وباطناً, وهناك خيط رفيع بين الحوار "المدارسة" وبين المراء "المهاترة" وإرادة العلو في الأرض, وهي مذمومة ولو كانت بحق, ناهيك عن كونها بالباطل!
    فإن كانت المدارسة هكذا وإلا فلتكسر الأقلام ولتمزق الصحائف، فكل حزب بما لديهم فرحون، قد تلبّس الشيطان أفئدتهم فأوحى إليها زخرف القول غروراً، فتناولت العزة بالإثم أناملهم فكرعت في الكبر, وخاضت في الباطل.
    جعلنا الله جميعاً طلاب حق, وأخذ بأيدينا وهدانا سبيل المنعم عليهم، وأبعدنا عن موارد الغضب ومواطن الضلال، آمين.
    سبحان ربك رب العزة عما يصفون, وسلام على المرسلين, والحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
إبراهيم الدميجي
صحيفة آفاق نيوز

aldumaiji@gmail.com