الثلاثاء، 11 مارس 2014

الاستخفاف بالدماء

الاستخفاف بالدماء

الحمدُ للهِ وحدهُ ،و الصَّلاةُ والسَّلامُ على منْ لا نَبِيَّ بعدهُ ، أما بعدُ :
فَإِنَّ النَّاظرَ بعينِ البصيرةِ في عالمِ النَّاسِ اليومَ ، و ما جَرَى ويجري في بعضِ البلادِ الإسلاميةِ منْ ثوراتٍ داميةٍ – نسأل الله أن يحفظ بلاد المسلمين وأهلها – ؛ ليتألم ويخشى أن يكون اقترب واقعنا من حديث النبي صلى الله عليه وسلم ، حيث أخرجَ الحافظُ الطَّبرانيُّ-رحمهُ اللهُ- في :”المعجمِ الكبير” 14493 بإسنادٍ صحيحٍ عَنْ عَابِسٍ الْغِفَارِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:”يَتَخَوَّفُ عَلَى أُمَّتِهِ سِتَّ خِصَالٍ: إِمْرَةُ الصِّبْيَانِ، وَكَثْرَةُ الشُّرَطِ، وَالرِّشْوَةُ فِي الْحُكْمِ، وَقَطِيعَةُ الرَّحِمِ، واسْتِخْفَافٌ بِالدَّمِ، وَنَشْوٌ يَتَّخِذُونَ الْقُرْآنَ مَزَامِيرَ يُقَدِّمُونَ الرَّجُلَ لَيْسَ بِأَفْقَهِهِمْ وَلا أَفْضَلِهِمْ يُغَنِّيهِمْ غِنَاءً” .
وإزاءَ هذا الواقعِ الأليم ؛ فإِنَّهُ لحقيقُ بنا جميعاً أن نطرحَ جملةً منَ التَّساؤلاتِ المهمةِ؛ منْ أجلِ الإجابةِ عليها منْ مشكاةِ النُّبوةِ ؛ حَتَّى يَعِيَ المؤمنُ موطنَ قدميهِ ؛ وإلى أينَ تَتَّجهُ الأُمَّةُ :
1-أَيُّهما أعظمُ عندَ اللهِ أَنْ تُنتهكَ حُرمةُ دَمِ المسلمِ ؛ بسفكِ دمهِ ، وإراقةِ دَمهِ ، أَمْ تُنتهكَ حرمةُ بيتِ اللهِ الحرامِ ؟
2-ما هي النُّظرةُ الشَّرعيةُ لمنْ ينضمُ في ركبِ هذه الثَّوراتِ أو يُلهبُ حماسَ رجالها؛ مِنْ خطباءِ الفتنةِ ومؤجِّجي نيرانِ الثورةِ ، ولكأَنِّي أنظرُ إليهم جميعاً وهم يُلقونَ في مسامعِ الثُّوارِ أنِ امضُوا في طريقكم : فإِمَّا النَّصرُ وإِمَّا الشَّهادةُ!!
3-ما موقفُ أَئِمَّةِ السُّنةِ منْ هذه الثَّوراتِ في بواكيرِ ظهورها ، وبعدَ استفحالِ شأنها ؟
أَيُّها القارئُ الكريمُ إِنَّ الحقيقةَ الشَّرعيةَ الَّتي لا مجالَ للنِّقاشِ فيها ،  أوِ الجدالِ حولها أَنَّ حرمةَ المسلمِ أعظمُ عندَ اللهِ منْ حرمةِ بيتهِ الحرامِ ؛ فقد أخرجَ ابن ماجةَ في سننه بإسنادٍ صحيحٍ برقم 3932 مِنْ حَدِيثِ عبد الله بن عَمْرو قَالَ : (رَأَيْت رَسُول الله – صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم – يطوف بِالْكَعْبَةِ وَيَقُول : مَا أطيبك (وَأطيب) رِيحك ، مَا أعظمك (مَا أعظم) حرمتك ، وَالَّذِي نَفْس مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لحُرْمَة الْمُؤمن أعظم عِنْد الله حُرْمَةً منكَ مَاله وَدَمه ، وَأَن لَا يظنّ [ بِهِ ] إِلَّا خيرا) .
إذنْ فما بالُ النَّاسِ اليومَ قدِ استَخَفُّوا بالدِّماءِ ؛
 فإذا هي تُراقُ هُنا وهناكَ ؟!
وما بَالُهُمْ قد استهتروا بأرواحِ النَّاس ؛
فإذا هي تُزهقُ في كلِّ مكانٍ ؟!
ألم يدرِ هؤلاءِ ولو مَرَّةً في تأريخِ حياتِهم أَنَّ حرمةَ دَمِ المسلمِ أعظمُ عندَ اللهِ منْ حرمةِ بيتهِ الحرامِ ؟!
إِنَّ الحقيقةَ المرَّةَ الَّتي يجبُ أن نفصحَ عنها  بكلِّ صدقٍ وأمانةٍ بلا تلجلجٍ أَوْ مواربةٍ؛ فإذا هِي في وُضوحِها وسُطوعِها ؛ كَالشَّمسِ في رَائعةِ النَّهارِ أَنَّ نظرةَ الشَّارعِ لِكُلِّ خَائضٍ في الدِّماءِ ، أوْ مُسعِّرٍ لنيرانِ الفتنةِ التَّي يكونُ منْ ورائِها سفكُ الدِّماءِ سواءٌ بالتَّنظيراتِ السَّمجةِ الحمقاءِ أمْ بالتَّحليلاتِ السياسيةِ الهوجاءِ؛
أنَّ عقولَ هؤلاءِ جميعاً هباءٌ في هباءٍ ؛
وفي هذا الشأنِ أخرجَ البزارُ في:”مسنده” : (1/461-برقم3047) بإسنادٍ صحيحٍ بإسنادهِ عَنِ الْحَسَنِ ، عَنْ أُسَيْدِ بْنِ الْمُتَشَمِّسِ ، قَالَ : خَرَجْنَا مَعَ الأَشْعَرِيِّينَ ، فَانْصَرَفْنَا ، فَتَعَجَّلَ نَفَرٌ أَنَا مِنْهُمْ فَانْقَطَعْنَا مِنَ النَّاسِ ، فَجَاءَتْ جَارِيَةٌ عَلَى بَغْلَةٍ ، فَأَدْنَيْتُهَا مِنْ شَجَرَةٍ فَأنْزَلْتُهَا ، ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى مَجْلِسِي ، فَقَالَ لِي أَبُو مُوسَى : أَلا أُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُحَدِّثُنَا ?
 قُلْنَا : بَلَى ،
 قَالَ : بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ الْهَرْجُ ،
 قُلْنَا : مَا الْهَرْجُ ؟
قَالَ : الْقَتْلُ وَالْكَذِبُ ،
فَقُلْنَا لِلأَشْعَرِيِّ : أَكْثَرَ مِمَّا نَقْتُلُ الْيَوْمَ ؟
 قَالَ : إِنَّهُ لَيْسَ بِقَتْلِكُمُ الْكُفَّارَ .
فَسَكَتْنَا فَمَا يُبْدِي أَحَدٌ مِنَّا عَنْ وَاضِحَةٍ ،
قَالَ : قُلْنَا فَمَاذَا ؟
 قَالَ : قَتْلُ الرَّجُلِ أَخَاهُ ،
قُلْنَا : وَمَعَنَا عُقُولُنَا يَوْمَئِذٍ ،
 قَالَ : لاَ .
تُنْزَعُ عُقُولُ أَكْثَرِ زَمَانِكُمْ أَوْ أَكْثَرِ أَهْلِ زَمَانِكُمْ ، وَيُخَلَّفُ لَهَا هَبَاءٌ مِنَ النَّاسِ ، يَحْسِبُ أَكْثَرُهُمْ أَنَّهُ عَلَى شَيْءٍ وَلَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يُدْرِكَنِي وَإِيَّاكُمْ تِلْكَ الأَيَّامُ ، وَمَا أَعْلَمُ لِي وَلَكُمْ مِنْهَا مَخْرَجًا فِيمَا عَهِدَ إِلَيْنَا نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم ، إِلاَّ أَنْ نَخْرُجَ مِنْهَا كَمَا دَخَلْنَا فِيهَا لاَ نُحْدِثُ فِيهَا شَيْئًا.
وفي لفظِ أحمدَ في: ” مسندهِ” 19492 بإسنادٍ صحيحٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ الْهَرْجَ قَالُوا وَمَا الْهَرْجُ قَالَ الْقَتْلُ قَالُوا أَكْثَرُ مِمَّا نَقْتُلُ إِنَّا لَنَقْتُلُ كُلَّ عَامٍ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ أَلْفًا قَالَ إِنَّهُ لَيْسَ بِقَتْلِكُمْ الْمُشْرِكِينَ وَلَكِنْ قَتْلُ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَالُوا وَمَعَنَا عُقُولُنَا يَوْمَئِذٍ قَالَ إِنَّهُ لَتُنْزَعُ عُقُولُ أَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ وَيُخَلَّفُ لَهُ هَبَاءٌ مِنْ النَّاسِ يَحْسِبُ أَكْثَرُهُمْ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ وَلَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ قَالَ عَفَّانُ فِي حَدِيثِهِ قَالَ أَبُو مُوسَى وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مِنْهَا مَخْرَجًا إِنْ أَدْرَكَتْنِي وَإِيَّاكُمْ إِلَّا أَنْ نَخْرُجَ مِنْهَا كَمَا دَخَلْنَا فِيهَا لَمْ نُصِبْ مِنْهَا دَمًا وَلَا مَالًا .
و أخرج نعيم بن حماد في كتاب:”الفتن” : (1/62 ، رقم 107) عَنْ حذيفةَ-رضي الله عنه- بإسنادٍ صحَّحهُ الهنديُّ في “كنز العمال” : (11/179) رقم 31126: (تَكُونُ فتنةٌ تعرجُ فيها عقولُ الرِّجالِ حَتَّى مَا يكادُ تَرى رَجُلا عاقلاً ) .
و أخرجَ الحاكم في “مستدركه ” برقم 8350 بإسنادهِ  عن طارقِ بن شهابٍ عنْ منذرٍ الثوريِّ عَنْ عاصمِ بنِ ضمرةَ عنْ عَليٍّ رضيَ الله عنهُ قالَ : جُعِلتْ في هذهِ الأمةِ خمَسُ فتنٍ : فتنةٌ عامَّةٌ ، ثُمَّ فتنةٌ خَاصَّةٌ ، ثُمَّ فتنةٌ عامَّةٌ ، ثُمَّ فتنةٌ خَاصَّةٌ ، ثُمَّ تَأتي الفتنةُ العمياءُ الصَّمَّاءُ المطبقةُ الَّتي تَصيرُ النَّاسُ فيها كالأنعامِ ) .
وقال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد و لم يخرجاه ، ووافقهُ الذَّهبيُّ وهو كذلك إنْ شاءَ اللهُ .
وشتانَ شتانَ بينَ منْ يُنزعُ عَقْلُهُ عندَ الفتنةِ حتى أصبحَ يهرفُ بما لا يعرفُ ، بكلامٍ أشبه بالهذيانِ ؛ فإذا النَّاسُ يَقذفونَ أنفسهم في أتونِ الفتنةِ ،  وبينَ إمامٍ راسخٍ ارتوى منْ معينِ السُّنةِ ؛ فإذا هو يُعالجُ الفتنةَ بالحكمةِ والبصيرةِ في ضوءِ منهاجِ النبوة :
أَخْرجَ الخلالُ في :”السُّنة” : (1/132-برقم89) بإسنادٍ صحيحٍ ،  قال :أخبرني محمد بن أبي هارون ومحمد بن جعفر أنَّ أبا الحارثِ حَدَّثَهُم قالَ : سألتُ أبا عبدِ الله[يعني : الأمامَ أحمدَ] في أمرٍ كانَ حَدَثَ ببغدادَ ، وَهَمَّ قومٌ بالخروجِ ؛ فقلتُ :  يا أبا عبد الله ما تقولُ في الخروجِ معَ هؤلاءِ القومِ ؛ فأنكرَ ذلكَ عليهم ، وجعلَ يقولُ :  سُبحانَ اللهِ !! الدِّماءَ الدِّماءَ لا أرى ذلك ، ولا آمرُ به . الصَّبرُ على ما نحنُ فيه خيرٌ من الفتنةِ : يُسفكُ فيها الدِّماءُ، ويُستباحُ فيها الأموالُ ، ويُنتهك فيها المحارمُ .
 أَما علمتَ ما كانَ النَّاسُ فيه يعني أيامَ الفتنةِ ؟! قلتُ : والنَّاسُ اليومَ أليسَ هم في فتنةٍ يَا أبا عبد الله ؟!
 قالَ : (وإنْ كانَ فإنَّما هي فتنةٌ خَاصَّةٌ فإذا وقعَ السَّيفُ عَمَّتِ الفتنةُ ، وانقطعتِ السُّبلُ . الصَّبرُ على هذا ، ويَسلمُ لك دينُكَ خَيرٌ لكَ ، ورأيتُه يُنكرُ الخروجَ على الأئمةِ ، وقالَ الدِّماءَ  ، لا أَرَى ذلكَ ، ولا آمرُ بهِ) .
و ها هو الإمام ابنُ حزمٍ الأندلسيُّ يَخُطُّ كلمتَهُ المضيئةَ بعدَ نتاجِ خبرةٍ عميقةٍ ،  وأحداثٍ مريرةٍ عايشها بنفسهِ ؛ إذْ عاصرَ فتنةَ البربرِ الَّتي اجتاحتْ دولةَ بني أميةَ في الأندلسِ ، وكيف كانتِ الآمالُ المعقودةُ على كُلِّ ثائرٍ منها تؤولُ في عاقبة أمرها إلى مآسٍ وأحزانٍ وشرٍّ وفسادٍ- ؛ فيقول-رحمهُ الله- في كتابهِ :”الأخلاق والسِّير” : (ص/84) :
” نُوَّارُ الفتنةِ لا يَعْقِدُ ” .
والنُّوارُ : الزَّهْرُ ، ويُقالُ : عَقَدَ الزَّهرُ : إذا تضامتْ أجزاؤهُ فصارتْ ثمراً .
ومعنى كلامهِ-رحمهُ الله- أَنَّ للفتنةِ مظهراً برَّاقاً يخدعُ النَّاسَ في أَوَّلِ وهلةٍ ؛ حتى إذا انبهرَ النَّاسُ بصورتها ، وعقدوا الآمال عليها ، سُرعانَ ما تموتُ وتتلاشى ؛ مثلما هي الزَّهرةُ تموتُ قبل أن تتفتَّحَ ، وتُعطِّيَ ثمرتَها .
ألا ؛ فليتقِ اللهَ كُلُّ امرئ في نَفْسِهِ في دماءِ المسلمينَ ، وليحذرْ أشدَّ الحذرِ أنْ يَلقَى اللهَ وقد تخوَّضَ في دَمِ امرئٍ مسلمٍ بغيرِ حقٍّ ؛ سواءٌ كان ذلكَ بكلمةٍ أو إشارةٍ أو حَتَّى أدنى من ذلك ؛ فإِنَّها مِنْ ورطاتِ الأمورِ الَّتي قَلَّما ينجو منها الإنسانُ-نسألُ اللهَ العفوَ والعافيةَ.
وفي الختامِ : أَتَضرَّعُ إلى اللهِ أنْ يحقنَ دماءَ المسلمينَ في مشارقِ الأرضِ ومغاربها ، وأنْ يُعيذنا جميعاً من الفتنِ ما ظهرَ منا وما بطنَ إِنَّه-جلَّ وعلا- لَطيفٌ حَليمٌ ،  جَوادٌ كَرِيمٌ .



رابط الموضوع : http://www.assakina.com/taseel/6800.html#ixzz2veuq6nEC

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق