السبت، 21 يونيو 2014

الحرب الأيديولوجية آخر مقال للعلامة صالح الحصين رحمه الله

آخر مقال للشيخ صالح الحصين قبل وفاته: 

الحرب الأيديولوجية

2014-6-20 | معالي الشيخ صالح بن عبدالرحمن الحصينآخر مقال للشيخ صالح الحصين قبل وفاته: الحرب الأيديولوجية
بقلم: د. صالح بن عبدالرحمن الحصين (رحمه الله) / الرئيس العام السابق لشؤون الحرمين


 
(كتب المؤلف -رحمه الله- هذه المقالة في محرم 1434، وتأخر نشرها لأنه كان حريصا على التحقق من دقة كافة الاقتباسات-بالرجوع لمصادرها الأساسية- قبل النشر، وهو مالم يسعفه الوقت ولا الوضع الصحي من تحقيقه في مواضع محدودة جدا من هذه المقالة، وحيث إن الاقتباسات غير المحققة من مصادرها الأساسية محدودة جدا، وهي لا تؤثر على مصداقية المقال، فقد رؤي نشر المقال بعد وفاته –رحمه الله- كما تركه دون تغيير أو تبديل أو حذف أو اضافه، خاصة وأن الاقتباسات المقتصرة على المصدر الثانوي قد وردت ضمن ملخصات أبحاث مؤتمر علمي).
 
بدأ إعلان هذه الحرب (الحرب الأيديولوجية) التي سميت فيما بعد "الحرب على الإرهاب"، وظهرت في صورتها الباردة والساخنة بتصريحات واضحة لا تحتمل التأويل من قبل عدد من السياسيين والعسكريين ورجال الفكر الغربيين وبعض اللجان الرسمية هناك، وذلك منذ ما يزيد عن عقدين من الزمن.
 
فور انهيار الشيوعية اشتهر تصريح سكرتير حلف شمال الأطلسي "ولي كلاس" Willy Claes بحلول الإسلام محل الشيوعية عدواً للغرب (شرقيه وغربيه)، وبدأت تسمية الإسلام "العدو الأخضر" بعد أن غاب عن الوجود العدو الأحمر (الشيوعية).
 
وجاء في مجلة ألمانية متخصصة في الدراسات الاستراتيجية:
 
"في الحقيقة تبديل العدو بعدو آخر فكرة تبلورت في أشهر معدودة، إن الزحف العراقي على الكويت عجل في هذا الأمر ولكن ذلك ليس هو السبب الأصل، فمع سقوط الدول الشيوعية بدأ حلف الناتو في البحث عن استراتيجية جديدة المسار (الاتجاه) .... كان هنري كيسنجر خلال هذه الأزمة هو المتسلط الشرس، فأعلن في الربيع في مؤتمر غرف التجارة الدولية: "أن الإسلام العربي هو العدو الجديد أو العدو القادم"... البعض خفف اللهجة، لكن التوافق على ذلك حاصل".  
 
ونقل الدكتور محمد السماك، أنه: ((في منتدى الشؤون الأمنية الدولية في ميونخ عام 1991م، رفع ديك تشيني وزير الحرب الأمريكي في عهد بوش الأب شعار "الإسلام العدو البديل". وأنه في عام 1993 دعا رئيس مجلس النواب الأمريكي آن ذاك نيون جينجرتيش المجلس إلى وضع إستراتيجية كاملة لمحاربة "التوليتارية الإسلامية")) أهـ.
 
الجنرال جون كاليفان John Galvin الذي شغل منصب القائد الأعلى لقوات حلف الأطلسي NATO's Supreme Allied Commander منذ يناير 1987 حتى يونيو 1992، جاء في بعض تصريحات له عن الآفاق المستقبلية للحلف: "لقد ربحنا الحرب الباردة، وههنا نحن نعود إلى الصراع القديم إنه صراع المجابهة الكبيرة مع الإسلام" كما ذكر د. محمد السماك.
 
وأخيرا، فقد سمع العالم تصريح الرئيس الأمريكي السابق، بوش الصغير، وهو يصف حروبه ضد الإسلام بأنها "الحرب الأيديولوجية للقرن الحادي والعشرين".
 
النصوص أعلاه لا تعدو أن تكون نتفا من تصريحات متعددة تؤكد حقيقة "الحرب الأيديولوجية"، ومن البداية تم الربط بين الإسلام والإرهاب، تم ذلك على أصعدة مختلفة مدعومة بزخم إعلامي هائل، فلم ينتصف العقد الأخير من القرن الماضي حتى كانت أوروبا كلها تشاهد الفيلم الوثائقي عن الإرهاب "في سبيل الله" For the Sake of Allah وكانت أمريكا كلها تشاهد الفيلم الوثائقي "الجهاد في أمريكا" Jihad in America
ومما يعضد ما ذكر، الاقتباسات الصريحة الآتية:
 
"أكدت لجنة الحادي عشر من سبتمبر أن مصطلح الحرب على الإرهاب مصطلح مضلل، وأوصت بإعادة تسميته ليحوى: تأكيدا أيديولوجيا أكبر ضد الاسلام"
"The September 11 Commission stressed that the term war on terrorism was misleading and recommended that it should be renamed to place greater ideological emphasis against Islam"
 
وأما الجنرال ويسلي كلارك، فقد قال: إن حرب الولايات المتحدة ضد الإرهاب كانت "حربا على الإسلام".
 
General Wesley Clark, said that the US war against terrorism "was a war over Islam"
 
يفسر الدافع لهذه الحرب الأيديولوجية، ديفيد ستارتمان David Stratman، حيث يرى أن قادة الغرب يعتقدون أن الإسلام هو المانع الحقيقي لهم في السيطرة على أرض الإسلام، إذ يقول: "الإسلام السياسي يناسب تماما احتياج قادة أمريكا لعدو Political Islam perfectly suits the needs of America's rulers for an enemy، وإن البقاع التي يملكها المسلمون، في الشرق الأوسط وفي آسيا الوسطى، هي المناطق الأكثر استراتيجية في العالم... إن الولايات المتحدة الأمريكية لا يمكنها قط تبريرغزو هذه المناطق قبل إقناع الشعب الأمريكي إبتداءً، بأن المسلمين في حاجة لمثل هذا الغزو إما لأنهم متطرفون خطرون، أو لغرض جلب الحرية لهم the US could never justify attacking these nations without first convincing Americans that Muslims need either to be attacked because they are dangerous terrorists- or liberated"..
 
ثم يقول: "تصوير الإسلام على أنه العدو يخدم دور إسرائيل كجبهة متقدمة للإستعمار الغربي في الشرق الأوسط، وبناء على هذا السيناريو فالمسيحيون واليهود الذين يجمعهم تراث يهودي-مسيحي Judeo-Christian مشترك يهدف  لتنحية المسلمين، مدعوون لدعم الدولة اليهودية التي تقوم على التطهير العرقي الوحشي savage ethnic cleansing ضد المسلمين المتطرفين".
 
أما الدكتور مراد هوفمان، فيفسر هذا الدافع بأنه "الموروث الثقافي" في الغرب، والذي ظل حيا في ثقافة الغرب حتى بعد أن خف ميزان الدين وسيطرت العلمانية، مما يعني تجذره في عمق الثقافة الغربية وأنه ليس مجرد أمر طارئ، أو رد فعل لحدث، يقول الدكتور هوفمان:
 
"لن يكون من العدل اتهام الثقافة الإمبريالية الأورأمريكية... بعدم التسامح بشكل كلي تجاه الأديان ومظاهر التدين، بل على العكس فقد يُظهر أكثر الناس استنارة اهتماما اجتماعيا ببعض الأديان، كالبوذية والثيوسوفية Theosophy، وفي الواقع يستطيع المرء في أوروبا أو الولايات المتحدة أن يتبع المرشد الروحي الهندي الذي ينتمي له، أو يمارس سحر الهنود الحمر الشاماني دون خطر أن يفقد عمله أو حياته، طالما الأمر ليس مما يتعارض مع العمل أو المؤسسة السياسية... إلا إذا كان هذا الدين هو "الإسلام"، فالإسلام هو الدين الوحيد الذي لا يشمله التغاضي اللطيف أو التسامح".
 
ثم يؤكد ثبات هذا الموقف بقوله: "أصبحت إدانة الإسلام جزءاً لا يتجزأ من العقلية الأوروبية"، يضيف تأكيدا لهذه الحقيقة: "سيكون وهماً خطيراً أن نعتقد أن الروح الصليبية قد تلاشت"..." اليوم، قد لا يكون البابا هو من يدعو للحملة ضد الإسلام، ولكن (الدعوة ضد الإسلام حقيقة) تكون من مجلس الأمن بالأمم المتحدة حين يدعو إلى التدخل لفرض حظر سلاح على دولة مسلمة هي (في واقعها) ضحية للعدوان...
 
وإذا سبرت غور النفس الأوروبية (العامة) ولو بإحداث خدش صغير لسطحها، لوجدت تحت الطبقة الرقيقة البراقة عداء للإسلام يمكن استدعاؤه وتوظيفه في أي وقت، وهذا بالضبط ما يحدث في أوروبا في العشرين سنة الماضية".
هذا من الجانب النظري، ومن شواهد الواقع التطبيقي يمكن أن نورد الآتي، على سبيل التمثيل:
 
كان العداء للإسلام المحور الرئيس فيما أدخل من تعديلات على المهام الأمنية لحلف شمال الأطلسي منذ قمة بروكسل عام 1993 وجرى تثبيته في قمة واشنطن عام 1999 ورافق ذلك تعديل كامل لصياغة المهام الأمنية على مستوى الجيوش الوطنية في الدول الأعضاء.
 
أما بخصوص أمريكا، فيوجد دافع مستمد من الإيمان بنصوص دينية، يُصوره الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر  بقوله، بعد أن أشار إلى معتقدات الفكر الديني المتطرف، والمتنامي، في أمريكا: "وانتقل تأثير معتقدات هذه الطائفة الى سياسات الإدارة الامريكية بصورة تدعو للقلق"، وذكر بأن: " تحقيق هذه المعتقدات يعتبرمسئولية شخصية -لدى المؤمنين بها- لا بد لهم من الوفاء بها"، وأضاف بأن: "من أبرز أجندة المؤمنين بهذه المعتقدات الدعوة للحرب في الشرق الأوسط ضد الإسلام، والدعوة ليأخذ اليهود جميع الأرض المقدسة ويطردوا غيرهم".
 
 
ويصوره Jonathan Clarke & Stefan Halper في تلخيصهما للخطوط الرئيسية لتفكير المحافظين الجدد، في ثلاثة أمور:
 
 
الاعتقاد المبني على أساس ديني؛ أن المقياس الصحيح للخُلق السياسي هو مدى الرغبة والعزم في مكافحة الخير (الذي يمثلونه) للشر.
 
التأكيد على أن ما يجب أن تُعتمد عليه العلاقات بين الدول هو القوة العسكرية والعزيمة على استعمالها.
 
التركيز في البداية على الشرق الأوسط والإسلام العالمي كتهديد لمصالح أمريكا في الخارج.
 
يتردد دائما وبصورة ملحة ملفته للنظر على ألسنة السياسيين والاستراتيجيين والمحللين الأمريكان والأوربيين: "ربحنا الحرب الباردة ضد الشيوعية، فعلينا أن نستعمل الإستراتيجية نفسها والتكتيكات نفسها في الحرب ضد الإسلام". 
 
من نماذج "التكتيكات" التي استخدمها الغرب ضد الشيوعية في الحرب الباردة نشاط منظمة "جلاديو"GLADIO التي أنشأتها المخابرات الأمريكية والإنجليزية، حيث كانت تقوم بتفجيرات في فرنسا وبلجيكا وإيطاليا وتنسبها لليساريين بقصد سحب تعاطف الناس مع الأحزاب اليسارية، حتى لا تصل إلى الحكم، ومن أفظع هذه النشاطات تفجير غرفة انتظار الدرجة الثانية في محطة قطار روما في عام 1980، حيث قتل 85 شخصا وجرح كثيرون ونسب التفجير في ذلك الوقت إلى المنظمة اليسارية "الألوية الحمراء" وكانت النتيجة عدم وصول الحزب اليساري للحكم، ولكن بعد انتهاء الحرب الباردة صدر تقرير برلمان روما يكشف أن العملية تمت بيد المخابرات الأمريكية بالتعاون مع عناصر من المخابرات الإيطالية.
 
ومثل ذلك تماماً استخدم الغرب الوسائل نفسها في حربه الباردة ضد الإسلام على سبيل المثال:
 
أحصى تقرير الـ "يوروبول" Europol annual report  الصادر عام 2007 -بعنوانEU Terrorism Situation and Trend Report- أحصى الهجومات الإرهابية ضد دول الإتحاد الأوربي في عام 2006 فبلغت (498)، منها واحدة فقط نسبت للمسلمين، حين أتهم شابان لبنانيان بمحاولة تفجير قطارات في ألمانيا، و424 نسبت للانفصاليين و55 لليساريين والباقي لليمينيين، وقد حوكم الشابان وحكم عليهما بالسجن، ولكن لفت النظر أن أحدهما لم ينفذ في حقه الحكم، وتبين فيما بعد أنه عميل للمخابرات الألمانية وأنه هو الذي ورط الشاب الآخر، مما أوجب إعادة المحاكمة.
 
مثل ذلك، عمل المخابرات الأمريكية حين أغرت الشاب الصومالي محمد عثمان محمد (19 عاما) عام 2008م بمحاولة التفجير في مكان عام فوفرت له السكن وأعطته المال والمتفجرات، لكي تُظهر أن شاباً مسلماً حاول القيام بعملية إرهابية. 
 
ومثل عمل المخابرات الأمريكية في عام 2011 حيث هيأت الظروف لشاب باكستاني (رضوان فردوس) Rezwan Ferdaus وأعطته التمويل المالي وهيأت له متفجرات وطائرة (هواة) ذات تحكم عن بعد وتسهيلات زائفة، بقصد إظهار أن مسلماً حاول القيام بعملية إرهابية. 
 
في قصص متعددة بعضها افتضح، وبعضها بقي في طي الكتمان - وكما في كل العمليات الإرهابية التي تقوم بها الحكومات وتسميها الموسوعة البريطانية Encyclopedia Britannica بـ “Establishment Terrorism” فإن الغرب في حربه الباردة ضد الشيوعية، أو بعد ذلك ضد الإسلام، كان لا يأبه أن يكون من بين ضحاياه في عملياته الإرهابية أبرياء لم يكونوا أهدافاً بالذات، بل كان لا يأبه أن يكون مثل هؤلاء الضحايا من مواطنيه.
 
نموذج لهذه العمليات الإرهابية الحكومية التي انكشفت في آخر عام 2001 إرسال ظروف إلى رجال الكونجرس وكبار الصحفيين بداخلها بكتوريوم وباء الجمرة الخبيثة Anthrax ورسائل تحمل هذه الكلمات: "الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، الله أكبر"، ولم يعرف السياسيون وخاصة رجال الإدارة والمحللون الصحفيون والكتاب الكلل وهم يحذرون الشعب الأمريكي من "الإرهابيين المسلمين"، وأنهم حازوا السلاح البيولوجي وبدأو استخدامه.
 
ودخل الرعب كل بيت في أمريكا وشحت التطعيمات ضد الوباء، لمدة أكثر من شهر، حتى كشفت الدكتورة "باربرا روزمبرج" Dr. Barbara Hatch Rosenberg خبيرة السلاح البيولوجي أن البكتوريوم داخل الظروف مصدره معامل الجيش الأمريكي، فخمدت الضجة، وبالطبع لم تكن "روزمبرج" هي أول من اكتشف هذا، كانت الإدارة الأمريكية بلا شك على معرفة بذلك من أول يوم.
 
ومن بين ثلاثمائة مليون مواطن أمريكي، لم يسأل واحد منهم لماذا خدعتنا حكومتنا الديمقراطية، وسمحت بالرعب وتداعياته أن تدخل كل بيت، وبتزييف حقيقة الواقعة وهي تعرفها من أول يوم، إن لم تكن المتورطة فيها. 
 
ولم توجه التهمة رسمياً إلى العَالِم في معامل الجيش الأمريكي " بروس، أي، أيفر" Bruce Edwards Ivins إلا في أغسطس عام 2008 ، وبعد أن مات المتهم بأسبوع، وبالطبع الميت لا يستطيع أن يفشى سراً، ولا يكذب الخبر الزائف عنه. 
 
في الحرب مع الشيوعية منع توازن القوى والفزع من نشوب حرب نووية أن تتحول الحرب الباردة إلى ساخنة، وإن كادت في مناسبتين اثنتين، أما فيما يتعلق بحرب الغرب مع الإسلام فكان الأمر أيسر، وشنت في عام 2001 الحرب من قبل اتحاد من أربعين دولة ضد دولة مسلمة فقيرة وضعيفة ظلت تحت الحصار الاقتصادي والسياسي والإعلامي فترة ليست قصيرة، شُنت هذه الحرب بمبرر حادث الحادي عشر من سبتمبر، وظهر بعد ذلك من وثائق البنتاجون أنها كان يخطط لها قبل ذلك بأكثر من سنتين. 
 
من الطبيعي أن يكون للمملكة العربية السعودية بحكم أنها "مركز الإسلام" الحظ الأوفى من هذه الحرب وأن تجرب المملكة مواجهة وسائلها وتكتيكاتها، بالإضافة إلى وسائل جديدة لم يفكر الغرب الحر في استخدامها ضد الاتحاد السوفييتي كما صرحت نصوص "تقرير اللجنة الأمريكية للتحقيق في حادث الحادي عشر من سبتمبر".
 
كانت الإدارة الأمريكية منذ عام 1995م قد وضعت المؤسسات الخيرية السعودية تحت المراقبة الدقيقة "التجسس" بغية الحصول على معلومات تتكئ عليها بالضغط على المملكة لتحجيم نشاطها الإغاثي والدعوي، وبالرغم من استمرار هذه الجهود حتى تاريخ صدور التقرير في عام 2004 م إلا أنها لم تحصل على أي معلومات تتكئ عليها في اتهام تلك المؤسسات بالصلة بالإرهاب ولكن ذلك لم يمنع الإدارة الأمريكية من جهود الضغط على المملكة لتحجيم نشاطها الإنساني.
لم يمض على حادث الحادي عشر من سبتمبر ثلاثون ساعة حتى كانت شاشات التلفزيون في أمريكا وفي العالم تمتلئ بالصور الكاملة لأمير بخاري وعدنان بخاري الطيارين السعوديين، وتشرب العالم الخبر بأن الإدارة الأمريكية تعرفت على هوية شخصين من الطيارين الخاطفين ولم يؤثر في رسوخ هذه الفكرة في شعور العالم أنه عُرف فيما بعد أن عدنان بخاري لا يزال حيا وأن أمير بخاري مات قبل الحادث بمدة، وكان النادر من الناس من عرف أن عدنان بخاري قبل أن يظهر صورته على شاشة التلفزيون كان قد غُيّب ولم يمكن لأحد الاتصال به ولم يتمكن من فضح الكذبة.
 
من أغرب الوسائل التي اُستعملت في الحرب الباردة ضد المملكة تطبيق حِكْمة الاستراتيجي الصيني القائلة: "أن أسهل طريقة لهزيمة عدوك، أن تجعله يستعمل سلاحه ضد نفسه وأن تورطه في أخطاء مدمرة لقوته". 
 
على سبيل المثال: بعد أن نجحت أمريكا في دفع المملكة بأن تحجم نشاطها الإنساني الإغاثي والدعوي خارج المملكة، أقنعتها في يناير 2004 في أن يشترك مسئول سعودي يتحدث باسم المملكة مع مسئول من أكبر أعضاء الإدارة الأمريكية في عقد مؤتمر صحفي يعلنان فيه على العالم بالصوت والصورة أن عددا من المكاتب السعودية الخيرية في الخارج تدعم الإرهاب، ويتقدمان متضامنين بالطلب من الأمم المتحدة لتصنيف تلك المكاتب داعمة للإرهاب، وطبيعي أن لا تتردد الأمم المتحدة في إجابة هذا الطلب، رغم أنه طلب ظالم. 
 
المتلقي العالمي للخبر لم يلق بالاً لأسماء تلك المكاتب ولم يفكر في التعرف على مواقعها، وإنما تركزت لديه فكرة ظلت راسخة عنده "أن المملكة العربية السعودية تحت غطاء العمل الإنساني كانت تعمل على دعم الإرهاب العالمي"، لاسيما من يعرف منهم ان  تلك النشاطات الخيرية السعودية كان يشرف عليها وزير في الحكومة وتدعم بالملايين من المسئولين الحكوميين وأعضاء الأسرة المالكة، كما لم يؤثر عليه صدور تقرير لجنة الحادي عشر من سبتمبر، بعد عدة أشهر، والذي يتضمن نصوصا صريحة تكذب هذا الادعاء. 
 
*** 
وفي خطوة عملية جدية أبعد من ذلك، كان للمملكة نصيب من تفكير العدو في استخدام وسائل أكثر سخونة، فبعد الهزيمة السهلة والسريعة للجيش العراقي انفتحت شهية الولايات المتحدة لتكرار التجربة في أماكن أخرى وسرعان ما بدأت البحث عن حصان طروادة لاستخدامه في العمليات ضد المملكة كما حدث في حالتي: أفغانستان والعراق، فاتصلت بالمعارضة في إنجلترا ولما لم تجد لديها الاستجابة المطلوبة حاولت التجربة مع المعارضة في المنطقة الشرقية فوجدت ليونة من بعض السفهاء.
 
في هذا الصدد جهدت الحكومة الأمريكية في حشد الشهود من الإدارة الأمريكية وممن تسميهم "الخبراء" خلال أكثر من عام (2003- 2004) لتهيئة الرأي العام الأمريكي ولإقناع الكونجرس والأمة الأمريكية بالـمبرر الكـافي لاتخاذ إجراء ساخن ضد المملكة، لأنها "البيئة المفرخة للإرهاب العالمي"، الذي تحاربه أمريكا وأوروبا ودول أخرى . 
 
وحماية الله وحدها لـ "مركز الإسلام"، ومن بعد لم يكن لأحد من البشر دور في دفع هذا البلاء سوى صمود المقاومة العراقية التي أوقعت العدو في مستنقع صار طموحه أن يخرج منه، وكان ذلك سبباً لمراجعة العدو خططه، بشأن المملكة خاصة، ومن ثم تغيير إستراتيجيته.
 
ولما فوجئ العالم بما نشرته وكالات الأنباء عن تسريبات محادثات بوش وبلير حول الموضوع، دهش لأنه حتى ذلك الوقت كان يظن أن أمريكا "صديقة" للمملكة!!
 
بعد هذا كله، غريب أن يظل كثيرون من بيننا يرددون ببلاهة مصطلح "الحرب العالمية ضد الإرهاب" أو "الحرب ضد الإرهاب العالمي" وهو اصطلاح يعني الربط بين الإسلام والإرهاب.
 
إن هذه الحرب فاشلة لا محالة، رغم كثرة ضحاياها البريئة، وإن انتصار الإسلام قادم، ويرجع ذلك إلى أنه الحق، ويشهد لذلك أنه مع كل هذا التشويه العالمي للإسلام، والكيد الكبير في حربه، اقتصاديا وثقافيا وعسكريا، ظل الإسلام في واقع الحال يتقدم بنفسه فيكسب ليس الغوغاء والجهلاء برشوة "الغذاء والدواء"، إنما يكسب كبار المثقفين في الغرب من فلاسفة وعلماء وكتاب وقساوسة، (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ).
 
ولعله من المناسب أن نستحضر هنا مقولة صموئيل هنتنجتون:
 
"لقد أنتصر الغرب على العالم، ولم يكن ذلك بفضل سمو أفكاره أوقيمه أو دينه، ولكن بتمكنه الهائل من تنفيذ العنف المنظم"..
 
"The West won the world not by the superiority of its ideas or values or religion but rather by its superiority in applying organized violence." - Samuel P. Huntington 
 
ولكن تاريخ المقاومة الفلسطينية ضد العدو الصهيوني، والمقاومة الأفغانية ضد الاتحاد السوفيتي سابقا وحاليا ضد أمريكا وحلف شمال الأطلسي رغم التفاوت الكبير في ميزان القوى، كاف ليثبت لمليار وستمائة مليون من المسلمين أن شعورهم بالذلة والمسكنة والهوان إنما جاء فقط من عند أنفسهم.
 
لم تذهب مرارة الأسى من حلوقنا ونحن نتذكر أن بعض الصحف السعودية واجهت بكل بلاهة انسحاب الحكومة الأفغانية من كابل عام 2001 بالشماتة والسخرية، مع أن التاريخ أثبت لنا -إذا ما قيست الأمور بالنتائج- أن ذلك الانسحاب كان من أنجح التكتيكات الحربية، إذا ما أعتبر أن هزيمة المحارب تحدد استرتيجيا بعجزه عن تحقيق أهدافه، أوإذا انتهى الأمر بجر العدو إلى بؤرة الرمال المتحركة.
 
الغرب عاجز عن مواجهة الإسلام بالقوة المادية أو المعنوية، وعليه فإن فشل المسلمين وذهاب ريحهم إنما هو فقط باستجابتهم لمكر العدو في التفريق والتنازع بينهم ودخول الوهن والخذلان في قلوبهم [وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ]، [وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ].
 
المشكلة الحقيقية تكمن في كيف تدخل في القلوب الحقيقة التي عَبَّرت عنها الآيات الكريمات: [...وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ]، [...وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ]، [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ].

رائع هو.. إحسان الظن

رائع هو.. إحسان الظن


   الحمد لله وبعد: فمن شيم المؤمنين إحسانُ الظنون بعباد الله, فلا يتبعون سوءَ الظنّ إلا عند غلبة الشبهة, مع ذلك فلا يحقِّقُون سوءَ ظنّهم, بل يحملون لإخوانهم أعظمَ المعاذير, وأجمل المحامل, فيقول الصالح لنفسه وقد بلغه عن أخيه سوءٌ: لعلّ الخبرَ لا يثبت, لعلّها نميمةٌ وبهتان, لعلّ أخي المسلم الذي قيلت فيه القالةُ لم يقصد, لعلّه كان ناسيًا, لعلّه كان غافلًا, لعلّه لعلّه.. فيستطيلُ في تلمّس أعذارِ أخيه, فيروح وقد أراحَ فؤاده من حرارة الأحقاد, ووساوس المعاداةِ, فيكسب بذلك أربح التجارات, إذ قد ربح أجره, وربح راحة نفسه, وربح محبّة الناس له, وربح النُّجحَ في أموره لحسن نيّته, فالله شكور حميد, وربح حُسن العاقبة في الدنيا, فكم ممن قصد الإضرار بعبدٍ ثم تاب وأناب وشكر ذلك المضرور على إحسانِ ظنٍّ نفعه ولم يضرّه.
    والطباع سراقةٌ, والجبلّات نزّاعة, وإنّما الحلم بالتحلّم, ومن فروع الحلم حسنُ الظنِّ, ويتأتّى بالدُربة والممارسة وتعلّمِ أسبابِ ذلك, وتلمّحِ موارده, والبحثِ عن متمماته, وفحصِ غوائلِ النفسِ, وتنظيفِ دغائلِها على من لا يستحقون سوى الإحسان.
قال الله تبارك وتعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ” قال بعض السلف: من جعل لنفسه من حُسْن الظَّن بإخوانه نصيبًا، أراح قلبه. وقال رجل لمطيعِ بنِ إياس: جئتُك خاطبًا لموَدَّتك. قال: قد زوجتُكَهَا على شرط أن تجعل صدَاقَهَا أن لا تسمع فيّ مقالة النَّاس.

ومرض الشافعي رحمه الله، فأتاه بعضُ إخوانه يعوده، فقال للشافعي: قوَّى الله ضعفك. فقال الشافعي: لو قوى ضعفي لقتلني. قال: والله ما أردت إلَّا الخير. فقال الشافعي: أعلم أنك لو سببتني ما أردت إلا الخير. ألا رحمة الله على المُطّلبي, ما أحكمه وأرحمه وأحسن ظنه!
 ومن رام النجاة فليأخذ بأسبابها, وليتعلّق بِعُراها, وما ثمَّ إلا توفيقُ الله تعالى وهُداه, وقد جعل الله لذلك أسبابًا فمنها:
 أن يلتمسَ الأعذارَ للمؤمنين، قال ابن سيرين رحمه الله: إذا بلغك عن أخيك شيء فالتمس له عذرًا، فإن لم تجد، فقل: لعل له عذرًا لا أعرفه. وفي التماس الأعذار راحة للنَّفس من عناء الظَّن السَّيئ، الذي يشغلها ويقلقها، وفيه أيضًا إبقاءٌ على الموَدَّة، وحفاظ عليها من الزوال والانتهاء. وكان بعض الصالحين يردّد:
تأنَّ ولا تعجلْ بلومِكَ صاحبًا   ...   لعلّ له عذرٌ وأنتَ تلومُ
ومنها: إجراءُ الأحكام على الظاهر، وإيكالُ أمر الضَّمائر إلى الله العليم الخبير، واجتناب الحكم على النِّيَّات، فإنَّ الله لم يكلِّفنا أنَّ نفتِّش في ضمائر النَّاس. لذا فالاكتفاء بظاهر الشَّخص، والحكم عليه من خلاله، من أعظم بواعث حُسْن الظَّن، وأقوى مثبتاته.
إذا ساء فِعلُ المرء ساءتْ ظنونهُ   ...   وصدّق ما يعتاده من تَوَهّمِ
قال أبو حامدٍ رحمه الله: إنَّ الخطأَ في حُسْن الظَّن بالمسلم، أسلمُ من الصَّواب بالطَّعن فيهم، فلو سكتَ إنسانٌ مثلًا عن لعن إبليس، أو لعن أبي جهل، أو أبي لهب، أو من شاء من الأشرار طول عمره، لم يضرَّه السُّكوت، ولو هفا هفوة بالطَّعن في مسلم بما هو بريء عند الله تعالى منه فقد تعرّض للهلاك، بل أكثرُ ما يُعْلمُ في النَّاس لا يحلُّ النُّطق به؛ لتعظيم الشَّرع الزَّجرَ عن الغيبة، مع أنَّه إخبار عما هو متحقِّق في المغتاب.
هذا وقد أجاز العلماء بعض صور سوء الظن, كمن بينه وبين آخر عداوةٌ, ويخاف على نفسه من مَكْرِه، فحينئذ عليه أن يحذَرَ مكائدَهُ ومَكْرَه؛ كي لا يصادفه على غرَّة فيُهلِكَه. ومن ذلك من أظهرَ المعصية وتخلف عن الطاعة بلا عذر, كما قال ابن عمر رضي الله عنهما: كنَّا إذا فقدنا الرَّجل في صلاة العشاء وصلاة الفجر، أسأنا به الظَّنَّ. رواه البيهقي بسند صحيح.
قلت: وشتّان بين ظنِّهم وظنِّ أحدِ الناس الذي فقد جارَهُ عن شهودِ الجماعة بضعةَ أشهر, فأخذ في الكلام في عرضه, والحطِّ من قدره, وأن فيه من سيما المنافقين, وكذا وكذا.. ولم يكلّفْ نفسه السؤالَ عنه, ولا احتمالَ حسنِ الظن به. وفي أحد المجالس بعدما أرغى وأزبد وانتفخ بالباطل, ردّ عليه أحد جيرانه: إن فلانًا الذي ما زلتَ تتكلمُ فيه قد كان مصابًا بمرض خطير ألزمه البيت ستّة أشهر, ثم توفاه الله بعدها, فأُسقطَ في يدِ صاحبنا! ولكن بعد خراب البصرة!
إن حسن الظن هو القاعدة, وسوؤه مع مبرّره الملحُّ هو الاستثناء, فإن انقلب الاستثناءُ قاعدةً هَلَك الناس! قال عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه: لا يحلُّ لامرئ مسلم يسمع من أخيه كلمةً يظنُّ بها سوءًا، وهو يجد لها في شيء من الخير مخرجًا.
 وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: من علم من أخيه مروءةً جميلةً فلا يسمعنَّ فيه مقالاتِ الرِّجال، ومن حَسُنت علانيته فنحن لسريرته أرجى.
فعلى المؤمنِ الناصحِ لنفسه أن لا يبحث لها عن المعاذير والمخارج, وأن لا يُرْكِبَهَا قلائصَ التأويلِ التي لا تُغني عنه من الحق شيئًا, في إساءة الظن بما لم يؤذن له فيهم من المؤمنين, بل عليه أن يسيءَ الظن بنفسه, ويحسن الظن بالعباد, وقد حسم رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر فقال: "إيَّاكم والظَّن، فإنَّ الظَّن أكذب الحديث، ولا تحسَّسوا، ولا تجسَّسوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، وكونوا عباد الله إخوانًا" رواه أحمد, قال النَّووي: المراد: النَّهيُ عن ظنِّ السَّوء، وقال الخطَّابي: هو تحقيقُ الظَّن وتصديقُه دون ما يهجسُ في النَّفس، فإنَّ ذلك لا يُمْلَك. ومراد الخطَّابي: أنَّ المحَرَّمَ من الظَّن ما يستمرُّ صاحبُه عليه، ويستقرُّ في قلبه، دونَ ما يعرض في القلب ولا يستقر، فإنَّ هذا لا يكلَّفُ به.
ومن جميل أقوالهم: السِّتر لما عاينت، أحسن من إذاعة ما ظننت. وقال أحد الزُّهاد الحكماء: أَلقِ حُسْنَ الظَّن على الخَلْق، وسوءَ الظَّن على نفسك، لتكون من الأوَّل في سلامة، ومن الآخر على الزيادة.
بارقة: تكلّم أحدهم على الحسن ثم ندم واعتذر؛ فعفى عنه وأوصاه بقوله: لا تخرجنّ من بيتك وفي نفسك أنك أفضلُ من مؤمن تلقاه قط.
إبراهيم الدميجي

aldumaiji@gmail.com

أي بُنَيَّ المُبتعث

أي بُنَيَّ المُبتعث


في مجاهل بحر اليابان وفي سنة 1876م ولد الطفل "هيديو نجوشي" في إحدى الجزر الصغرى في اليابان لأسرة بلغ بها الفقر حدًّا جعل أباه يهجر أسرته حين علم أن طفلاً ثانياً في طريقه إلى الحياة! وأُهمل هذا الطفل إهمالاً جعله يسقط في مدفأة فاحترقت يده اليسرى حتى شاهت، وأوذيت يده اليمنى إيذاء كاد يفقد نفعها، فكان أن اجتنبه التلاميذ في المدرسة لما في جسده من وصمات وتشويه، فهمّ الصبيّ بالانتحار هربًا من مآسيه الجسدية والمالية والمعنوية، ولكن الله صرف عنه ذلك, فقد قدم جرّاح نابِهٌ إلى القرية حينها، وعالج يده اليمنى علاجًا ناجعًا.
 واعترف "نجوشي" للجراح بالجميل اعترافاً جعله يقرّر لتوّه أن يكرّس نفسه للطب, ومن ثمّ علاج المرضى والأخذ بأيديهم نحو العافية الجسدية؛ فمن رِحم المعاناة يولد الإبداع.
فجدّ واجتهد, ولم يبال بمشاق التعليم وصعوبات الدراسة واختلاف اللغة وغزارة العلوم التي يحتاج أن يهضمها أولًا ليقف على قدميه في ساحِ الطب, فتقدّم وثابر بعزيمة وصبْرٍ يبزّ عظماء المخترعين, ومن أقواله عن نفسه محدّثًا لها وسائقًا لها لبر النجاح: سأكون نابليون الذي ينقذ البشرية, لا نابليون الذي يفتك بها، إنني أستطيع الآن أن أعيش معتمدًا على نعاس أربع ساعات في الليل.
 وكان "نجوشي" مفلسًا، ولكن متى كان الإفلاس عائقًا عن التحدّي العلمي؟! فعوّض هذا العصامي الفولاذي نقص ماله بزيادة جهده, فعمل في صيدلية على أن يكفل صاحبها مصاريف دراسته. وبعد أن تخرج من كلية الطب, سافر إلى الولايات المتحدة وعرض خدماته على الهيئة الطبية في الجيش في واشنطن مقابل نفقاته فقط؛ فقبلوه لتقديرهم للروح العلمية فيه, وهيأت له مؤسسة "روكفلر" للأبحاث الطبية معملًا يجري فيه تجاربه وينجز أبحاثه بهدوء وجَلَد.
 وشرع الشاب "نجوشي" يعمل وحده, لا يشاركه أحد على الإطلاق في إجراء التجارب والقيام بالبحث العلمي، فانتهى به ذلك الإخلاص والدَّأَبُ لقطف بعض أطيب الثمرات الخالدة في الطب الحديث؛ فهو الذي أنتج أول عينة خالصة من جراثيم الزهري، وكشف عن أثر الزهري في الشلل العام وفي الشلل البطيء, وأخيرًا استطاع في سنة 1918م أن يعزل طفيليّ الحمى الصفراء؛ فلما كسب الشهرة والثروة عاد هذا الوفيُّ لبلده اليابان، وكرَّم أمه العجوز، وجثا على ركبتيه أمام الصيدليّ الذي أنفق على دراسته الطبية اعترافاً له بالجميل.
 ثم انطلق إلى إفريقيا _ حيث الوباء الفتّاك _ ليدرس الحمى الصفراء التي كانت تفتك بساحل الذهب من أوله إلى آخره، فأصابته هذه الحمى التي صرعته بعدما نجح في كشف سرّها, ومات سنة 1928م عن اثنين وخمسين عامًا.
ولي ثلاث وقفات عجلى مع تلك القصة المؤثرة:
الأولى: لست بصدد نقد الابتعاث, فهو في مجملة رافد عظيم للتقدم الحضاري الدنيوي في المجالات التجريبية المختلفة, إنما أُسجّلُ تحفّظي على ابتعاث من هم دون سن النضج (وهو في العادة بعد المرحلة الجامعية) فقد أفرز هذا التساهل انحرافات فكرية وأخلاقية لدى بعض فلذات أكبادنا. كذلك أنبّه لضعف معيار الجودة النوعية في اختيار المبتعثين, وذلك بتدني سقف المقابلة والامتحان مما نتج عنه ضعف ملحوظ في المستوى الدراسي لدى نسبة غير قليلة أثناء الابتعاث. وبالجملة فلا بد للمبتعث من حَصانتين: إيمانية لدفع الشهوات المحرمة, وعلمية لدفع الشبهات المضللة.
الثانية: التحول الاجتماعي والانقلاب الصناعي في أي أمة لا بد أن يسبقه تحوّل ثقافي أخلاقي إيجابي, وبحسب البعد المنهجي وعمقه للأمة يكون تسارع قطعها للمسافات الزمانية للرقي المدني الحضاري, مع التنبيه إلى ضرورة وجود الإرادة ثم الإرادة ثم الإرادة لدى المسؤولين لبناء ثقافة عمليّة (دراماتيكية) مجتمعيّة مستمرة, وليس مجرّد هبّات هنا وهناك, فيتفرّق الجهد وينقطع العمل, مما يثقل الكاهل بأعباء وتكاليف لم نكن بحاجة لها لو وُجدت المتابعة الدقيقة والحزم الصارم مع المتلاعبين والمختلسين والانتهازيين ونحوهم.
ومن الثقافة المحتاجة للتعزيز لدينا: ثقافة الجديّة, والنظام, وعدم الاستنكاف من العمل اليدوي, ونشر ثقافة العصاميّة دون الشرانق المعتمدة على كدِّ والديها.
لقد احتاجت اليابان إبّان قفزتها الشاهقة السريعة من نظام الإقطاع إلى النظام الصناعي والتجاري لخمسة عشر عامًا فقط! (ما يعادل خمس خطط خمسية فقط في بلداننا اليوم) فاستدعت الخبراء الأجانب في مختلف فروع المدنيّة الصناعية الذين وجدوا في مساعديهم اليابانيين العطش العلمي للروح الصناعية, فشربوا علوم معلميهم وطبقوا تجاربهم _ تحت أعينهم _ فلم يمض خمسة عشر من الأعوام حتى صار المتعلّمون أقرانًا لمعلميهم, فابتدأوا صناعة وطنية يابانية نقلت اليابانيين من خيام الجلود والأكواخ إلى المصانع وناطحات السحاب, ومن بدائية المحراث والمطرقة لعصر الأجهزة المعقّدة.
ثالثًا: ليس الابتعاث دليل نقص في بلد المبتعث, فلا زالت الحضارة تنتقل من بلد لآخر مع تغيير لغتها وملبسها, فهي لا تموت ولكن تنتقل, وقد كانت جامعات الأندلس تستقبل المبتعثين من بلاد أوروبا عقودًا طويلة, حتى كانت لغة العرب هي لغة العلم والثقافة وزيّهم هو لباس الحريّة والتنوير, حتى بين أولاد ملوك ونبلاء وأشراف ومثقفي أوروربا في ذلك الحين السعيد.
رابعًا: رسالة مودّة لسفراء بلادهم في الأخلاق والجديّة وحب العلم والعمل من المبعثين من الجنسين:
 أي بُني المبتعث: سلام الله عليك, وأسبغ عليك نعمه ظاهرة وباطنة, وأحاط دينك ودنياك بحفظه, وردّك لأهلك سالمًا غانمًا, خذ مني هذي الوصايا الموجزة التي دفقها الفؤاد المفعم بالمحبة لك وحسن الظن بك:
اعلم أنها سنين قلائل ستطوى سريعًا من تحت قدميك وسيترتّب على إنجازك لها مصير مستقبلك في حياتك, فأنت من تفصّل الثوب الذي ستلبسه غدًا بإذن الله.
واحفظ أمانة الله التي أودعكها وهي دينك, فمن فقد دينه فليس عنده شيء يُبكى عليه بعد, فاتق الله وعظّم شعائره وحرماته وحدوده, واحذر ذنوب الخلوات ومنها ما كان بعيدًا عن رقيب قومك, وقد أوصى أحد سلفك صاحبه حين سافر قائلًا: لا يكن الله أهون الناظرين إليك. وإياك والمشتبهات الفكرية, وارجع لأهل العلم فيما أشكل عليك. ثم الزم الوسطية, واعلم أنها صراط الله, فكل من زاد فيها أو نقص منها فقد غوى.
وكن واضح الهدف, حسن التخطيط لبلوغه, متحلّيًا بالجديّة والانضباط.
 ولتكن حسن المظهر, نقيَّ المخبر, واسع الأفق, رحب الصدر, دمث الأخلاق, مراعيًا للمفاسد والمصالح, مفرّقًا بين المداهنة والمداراة, واترك أثرًا طيبًا في كل من تتعامل معهم, ولتكن خير سفير لدينك وبلدك وأهلك.
بارقة: جامعة الوصايا: اتق الله حيثما كنت "ألم يعلم بأن الله يرى" 
إبراهيم الدميجي
صحيفة الاقتصادية

مقال ذو صلة: 

رقيقةُ المجاهدين لابن القيم



الحمد لله معزِّ من أطاعه وناصرِه, ومذلِّ من عصاه وخاذِلِه, جعل الجلال والجمال هالةً على رايات المجاهدين, والصلاة والسلام والبركة على من بعثه الله هاديًا مجاهدًا مبشّرًا نذيرًا, أما بعد:
فما بال أقوم يرومون إبطال ذروة سنام الإسلام بذريعة إسقاط مدّعِي الجهاد, فيهدم الأصل التالد لشجرة الجهاد بحجة كسر عودٍ دخيل عليها, ويغلق باب القتال في سبيل الله عامّة بشبهة سدّ الطريق على غلاته الذين أخذتهم صولته وحماسته ومعمعان لهيبه عن حسن متابعة إمام المجاهدين الذي لا يقبل الله جهادًا إلا ما كان على شرعته وسنته, ولا يدخل أحدٌ من أمته على الله إلا من بابه وحسن التأسّي به, فالقتال في سبيل الله عبادة, وشرطا قبول العبادة الإخلاص والمتابعة, والحماسة مالم تُضبط بالوحي فهي وبال.
 يا قوم: متى كان الناس معيارا للشريعة؟! ومتى كانت حروبنا ضد الخوارج مانعة من قتال الكفرة؟!
الجهاد باق إلى قيام الساعة بنا أو بغيرنا " وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم" وفريضة الوقت هي إقامته وبيان حدوده وضوابطه وأحكامه لا هدمه وإبطاله.
والخوارج باقون, ومن لف لفهم من البغاة والظلمة وقطاع الطرق ومتصيدة الأخطاء باقون كذلك, والعبرة ليست بديموتهم في ميدان الابتلاء, بل في المصلحين لما انثلم من بناء الجهاد والمجددين لما اندرس من معالمه ونافخو روح الحماسة الإيمانية في صدور أهله, فما تركه قوم إلا ذلوا وأُديل عليهم وأُبدلوا.
وكما يُقاتل الكافر المحارب بأمر الشريعة؛ فكذلك يقاتل الخارجي المارق, فهم شرّ قتلى تحت أديم السماء, فهم مبدّلةٌ متهوّكة غلاة. قال الإمام أحمد رحمه الله: صح الحديث في الخوارج من عشرة أوجه وقد رواها مسلم في صحيحه وروى البخاري منها ثلاثة أوجه حديث علي وأبي سعيد الخدري وسهل بن حنيف, وفي السنن والمسانيد طرق أخر متعددة. وقد قال صلى الله عليه وسلم في صفتهم ( يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية. أينما لقيتموهم فاقتلوهم; فإن في قتلهم أجرا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة; لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد ).
هذا وإن الحرب العوان معهم أو مع من أٌمرنا بحربهم ليست شرًّا محضا وإن احترق بِأتُونها الأبرياء, بل هي كَيرُ امتحانٍ لمعادن الرجال, ومعيار دقيق لصدقهم مع ربهم "الم . أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون . ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين" وفي حديث صاحب السهم لما خر شهيدًا وقد أصابه السهم في ذات المكان الذي رغبه: "صدق الله فصدقه الله" رواه النسائي بسند صحيح في قصة شريفة.
وروى الإمام أحمد بسند صحيح حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له, وجعل رزقي تحت ظل رمحي, وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري, ومن تشبه بقوم فهو منهم" ومن فروعه الرباط في سبيل الله, ويكفيه أن أجره مستمر بازدياد وهو في قبره, فعن سلمان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات فيه جرى عليه عمله الذي كان يعمل, وأجري عليه رزقه, وأمن من الفتان" رواه مسلم, وعن سهل بن سعد رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها، وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها" متفق عليه.
ألا ما أصدق وأعطر آهات الراغبين في الانتظام في سفر الخالدين من الذين أنعم الله عليهم.
لئن قرّب الأبرارُ في العيد أنعُماً ... وَضَحَّوْا لمولاهم بعيراً فَما ليا؟
فيا ربِّ فاقبـلها قرابينَ راحتي ... فئاماً من الكفار أضحتْ بَوَاليا
أيا مبتغي الفردوس عجّل بصارمٍ    ...   وكن صادق الإقبال عند التلاقيا
فإن تحيَ عشت العز في كل لحظةٍ ...  وإن كانت الأخرى ستلقى المراقيا
فأسأل ربّي أن تكونَ منيّتي   ...   بعيداً عن الأوطان للشّرك غازيا
فخذ من دمائي يا سميعاً لدعوتي   ...   فما أطيب الآلام إن كنت راضيا
لئن عَزّ ديني واستبيحت جوارحي    ...   فأين مقام العزّ إلا مقاميا؟
إن الحديث عن الجهاد والنصر والاستشهاد لَيسعدُ النفسَ المؤمنة ويهزّها طربًا وأُنسًا, ومن قرأ القرآن والسنة رأى أن الجهاد بأنواعه محورٌ هامّ يقوم عليه ساق الإيمان بالله وبكريم موعوده. وقد تكلّم العلماء كثيرًا فضائله وبيان منزلته وتفاصيل أحكامه, وذهب جمع إلى أنه أشرف النوافل بإطلاق, ومهما كثر عديد القُربِ فيبقى منها لذروة السنام ذروة السنام!
ومن أمثل ما رأت عيني صحائف خطتها يراعة ابن القيم رحمه في زاد المعاد في كلامه عما بعد الهجرة وتدرج الشريعة في فريضة الجهاد, ويكأنما يصهل بها في محتدم الطعان ويهتف بها لمن رام نعيم الجنان.
 قال الإمام ابن القيم في الزاد (63-80) - بتصرف واختصار -:
فلما استقر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وأيده الله بنصره بعباده المؤمنين الأنصار، وألف بين قلوبهم بعد العداوة والإحن التي كانت بينهم، فمنعته أنصار الله وكتيبة الإسلام من الأسود والأحمر، وبذلوا نفوسهم دونه، وقدموا محبته على محبة الآباء والأبناء والأزواج، وكان أولى بهم من أنفسهم، رمتهم العرب واليهود عن قوس واحدة، وشمروا لهم عن ساق العداوة والمحاربة، وصاحوا بهم من كل جانب، والله سبحانه يأمرهم بالصبر والعفو والصفح حتى قويت الشوكة, واشتد الجناح، فأذن لهم حينئذ في القتال، ولم يفرضه عليهم، فقال تعالى: (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير ) [ الحج : 39 ] .
ثم فرض عليهم القتال بعد ذلك لمن قاتلهم دون من لم يقاتلهم فقال: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ) [ البقرة : 190 ] .
ثم فرض عليهم قتال المشركين كافة، وكان محرما، ثم مأذونا به، ثم مأمورا به لمن بدأهم بالقتال، ثم مأمورا به لجميع المشركين، إما فرض عين على أحد القولين، أو فرض كفاية على المشهور.
والتحقيق أن جنس الجهاد فرض عين إما بالقلب، وإما باللسان، وإما بالمال، وإما باليد، فعلى كل مسلم أن يجاهد بنوع من هذه الأنواع.
أما الجهاد بالنفس ففرض كفاية، وأما الجهاد بالمال ففي وجوبه قولان: والصحيح وجوبه؛ لأن الأمر بالجهاد به وبالنفس في القرآن سواء، كما قال تعالى: (انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون) [ التوبة : 41 ] وعلق النجاة من النار به ومغفرة الذنب ودخول الجنة فقال: ( يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم ) [ الصف : 10 ] وأخبر أنهم إن فعلوا ذلك أعطاهم ما يحبون من النصر والفتح القريب، فقال: ( وأخرى تحبونها ) [ الصف : 13 ] أي: ولكم خصلة أخرى تحبونها في الجهاد، وهي: ( نصر من الله وفتح قريب ) وأخبر سبحانه أنه: ( اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ) [ التوبة : 111 ] وأعاضهم عليها الجنة، وأن هذا العقد والوعد قد أودعه أفضل كتبه المنزلة من السماء، وهي التوراة والإنجيل والقرآن، ثم أكد ذلك بإعلامهم أنه لا أحد أوفى بعهده منه تبارك وتعالى، ثم أكد ذلك بأن أمرهم بأن يستبشروا ببيعهم الذي عاقدوه عليه، ثم أعلمهم أن ذلك هو الفوز العظيم.
فليتأمل العاقد مع ربه عقد هذا التبايع، ما أعظم خطره وأجله، فإن الله عز وجل هو المشتري، والثمن جنات النعيم والفوز برضاه، والتمتع برؤيته هناك. والذي جرى على يده هذا العقد أشرف رسله وأكرمهم عليه من الملائكة والبشر. وإن سلعة هذا شأنها لقد هيئت لأمر عظيم وخطب جسيم:
قد هيئوك لأمر لو فطنت له   ...   فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
مهر المحبة والجنة بذل النفس والمال لمالكهما الذي اشتراهما من المؤمنين، فما للجبان المعرض المفلس وسوم هذه السلعة، بالله ما هزلت فيستامها المفلسون، ولا كسدت فيبيعها بالنسيئة المعسرون، لقد أقيمت للعرض في سوق من يريد، فلم يرض ربها لها بثمن دون بذل النفوس، فتأخر البطالون، وقام المحبون ينتظرون أيهم يصلح أن يكون نفسه الثمن، فدارت السلعة بينهم ووقعت في يد: ( أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ) [ المائدة : 54 ].
لما كثر المدعون للمحبة طولبوا بإقامة البينة على صحة الدعوى، فلو يعطى الناس بدعواهم لادعى الخلي حُرقَة الشجي، فتنوع المدعون في الشهود، فقيل: لا تثبت هذه الدعوى إلا ببينة ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) [ آل عمران : 31 ] فتأخر الخلق كلهم، وثبت أتباع الرسول في أفعاله وأقواله وهديه وأخلاقه، فطولبوا بعدالة البينة، وقيل: لا تقبل العدالة إلا بتزكية ( يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ) [ المائدة : 54 ] فتأخر أكثر المدعين للمحبة، وقام المجاهدون فقيل لهم: إن نفوس المحبين وأموالهم ليست لهم, فسلموا ما وقع عليه العقد فإن ( الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ) وعقد التبايع يوجب التسليم من الجانبين، فلما رأى التجار عظمة المشتري وقدر الثمن وجلالة قدر من جرى عقد التبايع على يديه ومقدار الكتاب الذي أثبت فيه هذا العقد عرفوا أن للسلعة قدرًا وشأنا ليس لغيرها من السلع، فرأوا من الخسران البين والغبن الفاحش أن يبيعوها بثمن بخس دراهم معدودة تذهب لذتها وشهوتها وتبقى تبعتها وحسرتها، فإن فاعل ذلك معدود في جملة السفهاء، فعقدوا مع المشتري بيعة الرضوان رضى واختيارا من غير ثبوت خيار، وقالوا: والله لا نقيلك ولا نستقيلك، فلما تم العقد وسلموا المبيع قيل لهم: قد صارت أنفسكم وأموالكم لنا، والآن فقد رددناها عليكم أوفر ما كانت وأضعاف أموالكم معها ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ) [ آل عمران : 169 ] لم نبتع منكم نفوسكم وأموالكم طلبا للربح عليكم، بل ليظهر أثر الجود والكرم في قبول المعيب والإعطاء عليه أجل الأثمان، ثم جمعنا لكم بين الثمن والمثمن.
وتأمل قصة جابر بن عبد الله رضي الله عنهما, وقد اشترى منه صلى الله عليه وسلم بعيره، ثم وفاه الثمن وزاده، ورد عليه البعير، وكان أبوه قد قتل مع النبي صلى الله عليه وسلم في وقعة أحد، فذكّره بهذا الفعل حال أبيه مع الله، وأخبره ( أن الله أحياه ، وكلمه كفاحا ، وقال : يا عبدي تَمَنَّ عليَّ ) فسبحان من عظم جوده وكرمه أن يحيط به علم الخلائق، فقد أعطى السلعة، وأعطى الثمن، ووفق لتكميل العقد، وقبل المبيع على عيبه، وأعاض عليه أجلّ الأثمان، واشترى عبده من نفسه بماله، وجمع له بين الثمن والمثمن، وأثنى عليه ومدحه بهذا العقد، وهو سبحانه الذي وفقه له وشاءه منه.
فحيهلا إن كنت ذا همة فقد     حدا بك حادي الشوق فاطو المراحلا
وقل لمنادي حبهم ورضاهم     إذا ما دعا لبيك ألفا كواملا
ولا تنظر الأطلال من دونهم فإن     نظرت إلى الأطلال عدن حوائلا
ولا تنتظر بالسير رفقة قاعد     ودعه فإن الشوق يكفيك حاملا
وخذ منهم زادا إليهم وسر على     طريق الهدى والحب تصبح واصلا
وأحي بذكراهم سُرَاكَ إذا دنت     ركابك فالذكرى تعيدك عاملا
وإما تخافن الكلال فقل لها     أمامك ورد الوصل فابغي المناهلا
وخذ قبسا من نورهم ثم سر به     فنورهم يهديك ليس المشاعلا
وحي على وادي الأراك فقل به     عساك تراهم ثم إن كنت قائلا
وإلا ففي نعمان عندي معرف الـ     أحبة فاطلبهم إذا كنت سائلا
وإلا ففي جمع بليلته فإن     تفت فمنى يا ويح من كان غافلا
وحي على جنات عدن فإنها     منازلك الأولى بها كنت نازلا
ولكن سباك الكاشحون لأجل ذا     وقفت على الأطلال تبكي المنازلا
وحي على يوم المزيد بجنة الـ     خلود فجد بالنفس إن كنت باذلا
فدعها رسوما دارسات فما بها     مقيل وجاوزها فليست منازلا
رسوما عفت ينتابها الخلق كم بها     قتيل وكم فيها لذا الخلق قاتلا
وخذ يمنة عنها على المنهج الذي     عليه سرى وفد الأحبة آهلا
وقل ساعدي يا نفس بالصبر ساعة     فعند اللقا ذا الكد يصبح زائلا
فما هي إلا ساعة ثم تنقضي     ويصبح ذو الأحزان فرحان جاذلا
لقد حرك الداعي إلى الله وإلى دار السلام النفوس الأبية، والهمم العالية, وأسمع منادي الإيمان من كانت له أذن واعية، وأسمع الله من كان حيا، فهزه السماع إلى منازل الأبرار، وحدا به في طريق سيره، فما حطت به رحاله إلا بدار القرار فقال: ( انتدب الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا إيمان بي وتصديق برسلي أن أرجعه بما نال من أجر أو غنيمة أو أدخله الجنة، ولولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلف سرية، ولوددت أني أقتل في سبيل الله, ثم أحيا ثم أقتل, ثم أحيا ثم أقتل ).
وقال: ( مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يفتر من صيام ولا صلاة حتى يرجع المجاهد في سبيل الله، وتوكل الله للمجاهد في سبيله بأن يتوفاه أن يدخله الجنة، أو يرجعه سالما مع أجر أو غنيمة ).
وقال فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى: ( أيما عبد من عبادي خرج مجاهدا في سبيلي ابتغاء مرضاتي، ضمنت له أن أرجعه إن أرجعته بما أصاب من أجر أو غنيمة، وإن قبضته أن أغفر له وأرحمه وأدخله الجنة )
وقال: ( من قاتل في سبيل الله من رجل مسلم فواق ناقة، وجبت له الجنة ). وقال: إن في الجنة مئة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة).
وقال لأبي سعيد: ( من رضي بالله ربًّا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا، وجبت له الجنة ) فعجب لها أبو سعيد فقال: أعِدها علي يا رسول الله، ففعل، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( وأخرى يرفع الله بها العبد مئة درجة في الجنة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض ) قال: وما هي يا رسول الله؟ قال: ( الجهاد في سبيل الله ).
وقال: ( من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار ) وقال: ( لا يجتمع شح وإيمان في قلب رجل واحد، ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في وجه عبد ).
وقال: ( مقام أحدكم في سبيل الله خير من عبادة أحدكم في أهله ستين سنة، أما تحبون أن يغفر الله لكم وتدخلون الجنة؟ جاهدوا في سبيل الله، من قاتل في سبيل الله فواق ناقة؛ وجبت له الجنة ).
وقال لرجل حرس المسلمين ليلة في سفرهم من أولها إلى الصباح على ظهر فرسه لم ينزل إلا لصلاة أو قضاء حاجة: ( قد أوجبت فلا عليك ألا تعمل بعدها ) وقال: ( من بلغ بسهم في سبيل الله ، فله درجة في الجنة ).
وقال: ( إن الله يدخل بالسهم الواحد الجنة: صانعه يحتسب في صنعته الخير، والممد به، والرامي به. وارموا واركبوا، وأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا، وكل شيء يلهو به الرجل فباطل إلا رميه بقوسه، أو تأديبه فرسه، وملاعبته امرأته، ومن علمه الله الرمي فتركه رغبة عنه، فنعمة كفرها) رواه أحمد وأهل السنن وعند ابن ماجه ( من تعلم الرمي ثم تركه ، فقد عصاني ) وقال: ( من مات ولم يغز ولم يحدث به نفسه، مات على شعبة من نفاق ) وذكر أبو داود عنه: ( من لم يغز، أو يجهز غازيا، أو يخلف غازيا في أهله بخير؛ أصابه الله بقارعة قبل يوم القيامة ).
وقال: ( إذا ضن الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعينة، واتبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله، أنزل الله بهم بلاء، فلم يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم )
وقال تعالى: ( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) [ البقرة : 195 ] ، وفسر أبو أيوب الأنصاري الإلقاء باليد إلى التهلكة بترك الجهاد، وصح عنه صلى الله عليه وسلم: ( إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف ).
وصح عنه : ( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا ، فهو في سبيل الله ) وصح عنه : ( أن من جاهد يبتغي عرض الدنيا ، فلا أجر له ) وصح عنه أنه قال لعبد الله بن عمرو: ( إن قاتلت صابرا محتسبا، بعثك الله صابرا محتسبا، وإن قاتلت مرائيا مكاثرا، بعثك الله مرائيا مكاثرا، يا عبد الله بن عمرو على أي وجه قاتلت أو قتلت، بعثك الله على تلك الحال ).
اللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام نسألك الشهادة في سبيلك مقبلين غير مدبرين, ومخلصين غير مخلطين, ومستنّين غير مبدلين, إله الحق آمين, وصل اللهم وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
إبراهيم الدميجي
1/ شعبان/ 1435