حينما تخنق الفروع أصلها, وتمنع الوسائل غايتها!
الحمد لله, وبعد: فمن ألف باء فهم المسائل حسن التصور لها إجمالاً, أما تحقيق حدود التفاصيل فهو ميدان اختلاف الرأي, وفي دائرته يكون السجال مؤيدًا بالبراهين.
كمسلمين لدينا كلية مطلقة لا تقبل الجدل والتمحّك, ولا الضبابية والتمحّل, تلك هي محورية تحقيق العبادة لله جل وعلا.
فهذا القدر الكلي مجمع عليه, لذا فمنه المنطلق في الحوار وإليه العود في الترجيح.
فموضوع الغاية من الخلق محسوم بآية الذاريات, إنما الشقاق يكون بالقفز الفكري أو الشعوري خارجه! لذلك فطريقة القرآن هي رد الناس إلى هذه الغاية مهما تلونت سبلهم وأسبابهم, فيستحيل أن يتعدد الحق في نفسه, إذن فلا بد من مرجعية مهيمنة وحاسمة, تلك بلا تردد هي حاكميّة الوحي المنزل.
دعونا نقف على أمثلة متنوعة الألوان والرسوم حتى ندرك خداع النفس الأمارة لصاحبها حينما تتلفع له بقناع النصح والوداد المُخفي لما تحته من وجه الحقيقة الآثمة!
ثَمّ خمسة أمثلة, الأول: مثال الفقيه المبرّر بليّ أعناق النصوص لما يراه من تقديم مصلحة دنيا الناس على دينهم بتضخيم جانب أمن الجسد على أمن الديانة.
فحينما يتوسع الفقيه في منطق تسويغ فعل السياسي خارج حدود المقبول, وينشغل بترقيع خَللِ السياسي في مقابل تضخيم خوف المآلات بحجة - أو شبهة – دفع ورفع الفتن المتوهّمة, فنحن هنا أمام مثال لتقزيم الأصل وهو تحقيق العبادة لرب العالمين في سبيل حفظ دنيا لفرد أو جماعة. وكم من مبطل بلباس ناصح!
ولا نعني بذلك إلغاء القصد النبيل للفقيه, فهو أمر قد جاءت به الشريعة وعظّمت شأنه, فلا يقوم الدين إلا بدنيا صالحة, والتاريخ شاهد صدق, إنما المطلوب أن يُحجّم الأمر بقدره الشرعي فلا يكون هو الأصل دون تحقيق العبادة لله.
وللتوضيح نقول: تحقيق العبودية عبادة محضة ومحور لا يقبل التجزئة, أما غير ذلك فهي وسائل لتحقيقها لا غير, فهذه الوسائل ملحقة بالعبادات من جهة أنها تفضي إليها لا أنها هي.
قال تعالى: "والفتنة أشد من القتل" فالفتنة حينما تصرف عن الأصل الأعظم وهو الإيمان فهي بلا ريب أشد من قتل يُتلف الجسد وتبقى بعده حياة الإيمان. وفرض الوقت هو أن تُحفظ العبادات ووسائلها بحيث لا تنقلب الوسيلة غاية ولا الفرع أصلًا, وبالمقابل لا يجوز أن تُلغى الوسيلة بحيث لا يبقى للمرء بعدها لغايته وصول.
فحاكم الشام – على سبيل المثال لا الحصر – قد بدّل الدين وغيّر الملة وحارب الشريعة, فليس من الحكمة الشرعية في شيء أن يؤمر الناس بمسالمته وهو يظنون أنهم قادرون على إبداله بالصالح في الدين والدنيا.
الثاني: الغيور المنكِر المتحمس الذي ترتاح نفسه للّجَجِ والخصام, والعجلة, والبداءة بالتغيير بسلاطة اللسان وسوء الظن وتفتيش النيات وكشف العورات والفرح – عمليًّا – بالزلات, ونشر المنكرات وإشاعتها بقصد حربها وكسرها, والتساهل في اتهام أهل العلم والفضل بالتقصير في القيام بأمر الدين, ووصمهم بالمداهنة وبيع الآخرة نظير عمالةٍ من سلطان.. ونحو ذلك مما قد كُفيه ولم يكلّف به, ولكن أبت عثرتُه إلا أن تُكرعه حمأة البغي!
وقد يزيد هذا العَجولُ بلا علم ولا حلم فينكر باليد ما ليس تحت يده ومما ليس مأذونًا له فيه, وقد يستطيل بغيًا فيستطيب إشهار السيف على من حرّم الله في سبيل إقامة أمنيةٍ لا يراها خارج جمجته الحيرى! فيفرح بدرس نواقض الإسلام دون درس موانع التكفير بل يرعيها أذنًا صماء, فيكتفي بالأولى ليركض بها في نكيره, ويتعمّد الإغماض عن الثانية لأنها تقيد حريّة طيشه! ويكأنما نسيَ أن شارع الأولى والثانية واحد. وكم من مريدٍ للخير لم يبلغْه, وكم من كارثة لا ترقؤها الأيام ابتدأها من يظن فعلَه صالحًا! "ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرًا لهم وأشد تثبيتًا"
يا صاحبي: إنكار المنكر فرض على الأعيان أو الكفايات بحسب الأحوال, فاحرص على اعتدال رمّانة ميزانك بلا وكس ولا شطط, فلا تقعد عن إنكارٍ مشروع, ولا تتخوض مالم تأمرك به الشريعة.
الثالث: الداعي إلى سبيل ربه ولكن عبر التوسع فيما يراه وسيلة جاذبة للناس للخير الذي يدعوهم إليه, فيركب المشتبه, ويتوسع فيما اختُلف فيه, وينسلخ من ضوابط من أجازوا له ما هوي مرحلة بعد أخرى حتى تظهر عورة منهجه بعد سقوط آخر ورقة للتوت ولو من غيره ممن استنّوا طريقته, بل َربّما عصى ربه في سبيل طاعته! والله طيب لا يقبل إلا طيبًا, ولم يجعل هداية خلقه وطبّ قلوبهم وأجسادهم فيما حرّم عليهم, وليس كل طريقٍ للحق موصلٌ وإن نبل هدف سالكيه.
فقف إذن حيث وقف سلفُك الصالح, فإنهم عن علم وورع وحكمة وتوفيق كفّوا "فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون"
الرابع: المرء مع أسرته من زوج وذرية, فيسعى لأن يملأ أعمارهم بهجة وسرورًا, ويتذكر فصول الحب وحسن المعشر والرحمة والكرم ونحوها, ولكنه في غفلة هائلة عن النصح الحقيقي والشفقة التامة والحب الصادق الذي يفضي به إلى أن يأخذ بأيدهم إلى رضوان الله والجنة.
جميل جدًّا أن ترسم الضحكة والبسمة على محياهم شريطة أن تعمل على أن يستمر هذا معهم بعد رحيلهم عن هذه الدار الصغيرة الزائلة, فاعمل على رسم الهدف النهائي الأخروي وصِلْهُ بمباهج الدنيا التي لا تحلو أصلًا إلا مع طاعة الله. فإن رأيت فرعًا أمَّارًا بالسوء فاهتف به: "والآخرة خير وأبقى" "ورزق ربك خير وأبقى"
الخامس: المؤمن مع نفسه في حال زجرها أو إكرامها, فمن شق عليها بأطرِها على مسير لم تؤمر به, ولم يرفق بها في طريقٍ صالحٍ حتى كلّته وملّته, فحبس غريزته تأثّمًا دون إفراغها فيما سخّر لها خالقها من المباح, أو أطلقها حول الحمى, ثم أولجها الحمى, حتى إذا طرقت الحرام وألِفت العصيان لم يسمع لنداء الإيمان في قلبه ركزًا!
وكما أن الإيمان لا يصح دون علم؛ فكذلك العلم لا ينفع دون إيمان, وتأمل كيف جمعهما ربنا بقوله: "قال الذين أوتوا العلم والإيمان"
فإحسان العبادة غاية الصدّيقين, والرفق بالنفس مع الحزم معها وسيلة تحقيق هذا المقصد الأعلى بإذن ربنا الأعلى, ومتى طغت الوسيلة على الغاية هلكت الراحلة والراحل, والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا به.
ومضة: ضع يدك على فؤادك ثم اسأله: أي فؤادي، متى خفقتك الأخيرة؟!
اللهم اجعلها على الإيمان.
إبراهيم الدميجي
الاقتصادية
8/8/ 1435
aldumaiji@gmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق