الثلاثاء، 13 أغسطس 2019

قبول ولاية المتغلب في حقيقته قوّةٌ وليست ضعفًا

قبول ولاية المتغلب في حقيقته قوّةٌ وليست ضعفًا
الحمد لله وبعد: فينبز بعضهم السلفية بالضعف والخنوع لقولها بانعقاد ولاية المتغلب المسلم، والجواب من وجهين:
أولًا: أن هذا مقتضى الشرع، والأدلة في ذلك صحيحة صريحة كثيرة متنوعة، وبما أنها كذلك فيكفي المؤمن علمه بها ليستيقن قلبه وتطمئن نفسه ويعلم أن أمر الله كله خير.
ولكن لا يعني هذا ترك الإنكار على السلطان وإبراء الذمة بنصحه ونصح الأمة، والعمل على إقامة دين الله بحسب الوسع والطاقة.
ثانيًا: أنها قوة وعزة في الحقيقة وليست بضعف وهذا جليٌّ لمن تأمله، فالقبول للمتغلب ومبايعته ليس لشخصه بل لمركزه الذي يخوله القيام بأمر الناس، فإن غلبه غيره بويع المتغلب الآخر، لأن القبول بالأول ليس لشخصه بل لمكانه الذي يقيم به دين الناس ودنياهم.
وتأمل حال الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف آل الشيخ مفتي الرياض في وقت إمارة ابن رشيد للرياض فقد قاتل بشراسة وأفتى لأهل الرياض بالقتال ضد الملك عبد العزيز حينما أراد دخول الرياض للمرة الأولى إبان معركة الصريف المشهورة.
وبعد ذلك لم يعتذر الشيخ بل قال: قد كانت لهؤلاء بيعة في أعناقنا.
فالقضية إذن هي قضية مبدأ ودين، لا رَغَب ورَهَب.
وتأمل حال ابن عمر رضي الله عنهما وغيره من الصحابة مع السلطان المتغلب المسلم والتزام بيعته والتشديد في نكثها، حتى لا تروج الفتن في الناس بسبب القتال على الإمرة.
ذلك أن الولاية - مُلكًا كانت أو إمرة أو سلطنة - فهي بمنظور الشرع إنما هي تكليف محض شاق يليه حساب شديد يوم الدين، وليست تشريفًا ومغنمًا، ولكن من وليَ وعدل فإنه يستحق أن يكون من السبعة الذين يكرمهم الله غدًا بأن يجعلهم في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ذلك أن ولايات السلطة المطلقة سمّ للروح ناقع لا يسلم منه إلا من كان شديد التحصين بالإيمان والورع.
هذا، ولخطر مقام السلطان وخطر زعزعته على أمن الناس وسكينتهم ودينهم فقد شدد الشرع في حرمة الخروج عليه أو نقض بيعته أو شق عصاه بلا مبرر ومسوغ من الشريعة.
وبالجملة فالمنهج السلفي ليس بدعًا من الأقوال والأفعال والمناهج، بل هو الممثّل للإسلام الصافي والسنة النقية من شوائب البدع وغوائل المحدثات، وهو التِّلادُ حقّا للأمة.
لذا فلا تعجب من كثرة الخصوم لمنهج السلف وكثرة التغبيش حول هدايته؛ فلشموخه ووضوحه ورسوخه وقوة حججه وقرب معانيه لم يبق لهم سوى ضجيج التائهين، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق.
إبراهيم الدميجي

(إذا جاءَ نصرُ الله والفتح)

(إذا جاءَ نصرُ الله والفتح)
الحمد لله وبعد، فإن النصر للإسلام مهما انتهت إليه ظنونُ الناس، وحقيقةُ النصر هي تديّن الناس بالإسلام واعتناقهم إيّاه ودخولهم في حوزته، وثباتُ أهله عليه، فثبات المؤمنين على الدين هو حقيقةُ نصرِ الدين، أما ملكُهُ للآفاق فليست كنصرِهِ في النفوس، وإن كنّا -بحمد الله -قد وُعدنا بهذا وهذا.
إنَ من المهمات في هذا العصر نشرُ التفاؤلِ بنصر الإسلام، والاستبشارُ بمستقبله، وحسنُ الظن بالله تعالى فيه، وبعظيم حكمته في أقداره، وحسنِ عاقبته للمؤمنين. فهو الذي وعد نبيَّه بعلوِّ دينه ونصر جنده وعزِّ شريعته مهما تكالبت عليها سباع الكفرة وضباع المنافقين. والتفاؤلُ بجمال المستقبل ليس ضعفًا إذا كان ناشئًا عن حسن الظن بالله تعالى وليس عن خوَر وعجزٍ وكسل، فاستفرغ جهدك في نصر دين الله ما استطعت لذلك سبيلا، وأحسن الظن بجميل تدبيره. واعلم أنّ الفرقانُ بين التفاؤل والأماني هو الجديةُ والعمل، فالأملُ محتاج لعمل. وأعظمُ الجدّيةِ هي الجديّةُ في الاستقامة على الإسلام، فدعوةٌ بلا استقامة؛ لا عمود لها ولا ثبات ولا صدقيّة، وإن أردتَ امتحان جدية رجلٍ في الاستقامة؛ فارقُب تبكيره لشهود صلاة الجمعة، ألا ما أقلّهم وأكْرِم بقليلهم.
 وقد يُظنُّ جهلًا بالمتفائلِ سذاجةً لقوّة تفاؤله، ولكن حقيقتُه حسن الظن بربّه ومعرفتُه بسنن الله في خلقه. فلا تخذُل نفسك بالقلق، بل أسعفها بالتفاؤل. ومهما كبَسَت على صدرك جيوشُ الهموم وتراكمت على روحك أرتالُ الغموم؛ فثمّ نورٌ في الروح، إنّه حسن الرجاء بالله تعالى. ومهما بلغ حجم جليد الكذب يومًا؛ فشمسُ الزمان كفيلةٌ بإذابته، حينها سيحصحصُ الحقُّ. ومع تتابع الفواجع الدامية في جسد الأمة؛ تبقى هناك ألطافٌ مدهشة غيرُ متوقعةٍ، ليس لها تفسير سوى لطفِ اللهِ المحض، (إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم).
إن من تأمل أحوال الأمة يرى تكالب الأعداء عليها واستضعافهم لها وتنكيلهم بها ولكن هذه سنة الله تعالى في المداولة والمدافعة وله في ذلك الحكم الباهرة التي تتقاصر دون فهم تفاصيلها العقول، فعلى المؤمن أن يثق كل الثقة ويوقن كل اليقين بأنّ الله ولي الصالحين، وأنّه إن رضيَ عنه؛ فلا عليه ما فاته من غيره، فالخيرُ بحذافيره في مراضيه، والنعماءُ بكمالها بين يديه، وقد وعد – ووعده الحق – أنّ العاقبة للمتقين.
والحقُّ منصورٌ ومُمتَحنٌ فلا ... تعجب فهذي سنةُ الرحمنِ
وتدبر قول الله تعالى: (وما النصر إلا من عند الله) وقد ذكر الله هذا الحرف في آل عمران وكرره في الأنفال مختتما إياه في الموضعين بذكر اسميه الجليلين (العزيز الحكيم) فهو العزيز القوي الغالب، وهو الحكيم الذي يضع الأمور في مواضعها اللائقة وله الحُكمُ والحكمة، ولا نصر على الإطلاق إلا من الله وحده، فكلما احتجت لنصر – وأنت على الدوام كذلك – فردّد بقلبك: (وما النصر إلا من عند الله) فلن تنتصر على نفسك أو على غيرك من الإنس والجن وغيرهم إلا بحبل الله الناصر، فنصره حقيقي تام، ونصر غيره هباء فانٍ، فتعلّق به وحده واعبده حق العبادة.
لقد وعدنا الله بالنصر إن نصرنا دينه، وبالعز أن اعتصمنا به دون سواه، وبالتمكين إن مكّنّا عبادته في القلوب والأعمال، قال تعالى: (ولينصرن الله من ينصره) وقال سبحانه: (كتب الله لأغلبن أنا ورسلي) وقال جل وعز: (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون) ولا يكفي الصبرُ لإدراك النصر، بل لا بد أن يُقرن بالتقوى (وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئًا).
 وأبشر أخا الإسلام ببشرى الله: (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين * ونمكن لهم في الأرض) فالعاقبة للتقوى.
وبحمد الله فمهما صلصل الباطل وجلجل فهو إلى تباب، ويبقى الحق شامخًا راسخًا، وتدبّر أمر أهل الباطل حين: (سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم) ثم كانت النهاية بأيسر طريق: (وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون) إنها سُنَّةُ الصراع بين الحق والباطل ونهايته: (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق) (وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا).
جيشٌ من الكفر مهزومٌ إذا صَدَقَتْ ... نيّاتُ قومي إلى أعلى أعاليها
وافرح – أخا الإيمان -ببشارة نبي الإسلام بنصر الله للإسلام، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله زوى لي الأرضَ فرأيتُ مشارقها ومغاربها، وإنّ أمتي سيبلغ ملكها ما زُوي لي منها". وقال أيضًا: "ليبلغنّ هذا الأمرُ ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك اللهُ بيتَ مَدَرٍ ولا وَبَرٍ إلا أدخله الله هذا الدين، بعزِّ عزيزٍ أو بذلّ ذليل، عزًّا يعز الله به الإسلام وأهله، وذلًّا يذل به الكفر".
 وتأمل حال الأمة اليوم، واعلم أنّ أحاديث آخر الزمان في الفتن جُلّها في العراق، والملاحم جُلّها في الشام، حتى طريق الدجال للحجاز يكون من بينهما، نعوذ بالله من مضلات الفتن، ونسأله جبرَ القلوب بعزّة الإسلام في قلوب أهله وميادينِ الجهاد في سبيله. وقال الحسن البصري رحمه الله: "لكلّ طريقٍ مختصرًا، ومختصرُ طريقِ الجنةِ الجهادُ". فالنصر للإسلام مهما طال الزمان، ولكل زمانٍ رجالُه.
خَلقَ اللهُ للحروبِ رجالًا ...  ورجالًا لقَصعةٍ وثَرِيدِ
ولا تكن –لك الله -من المُرجفين ولا البكّائين المتشائمين، وفي الصحيح: "إذا قال الرجل: هَلَكَ الناسُ، فهو أهلكُهُم". والإسلام يعلو ولا يُعلى عليه، واعلم أنّ نصرَ المؤمن وفوزَه لا يلزم منه كسبُ الحرب العسكرية، بل يكفي منه ثبات الناس على الإسلام والإيمان والفضيلة، وهذا معنًى حَسَنٌ تِكرَارُه في المجامعِ والخَلوات، فمن ثَبَتَ على دينه فهو المنتصر حقًّا مهما كان حال دنياه. فالعبرةُ الحقّ إنما هي بالدين الحق، أما الدنيا فمجرد مَمَرٍّ للسائرين. ورضوانُ الله عز وجلّ أصلُ جميع السعادات، وكلّها راجعة إليه، قال سبحانه لمّا ذكر نعيم الجنة: (ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم).
 وتذكّر دومًا تمام النعمة بالإسلام. قال ربنا عز وجل ممتنًّا: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا) وتدبر قوله: (رضيت لكم الإسلام) وهذه أعظم نعمة في الوجود أن هدانا للإسلام ورضيه لنا للوصول إلى مرضاته، قال ابن عباس رضي الله عنهما: "أكملَ لهم الدين فلا يحتاجون إلى زيادة أبدًا، وأتمّه فلا ينقصه أبدًا، ورضيه فلا يسخطه أبدًا".
 فتذكر دومًا نعمة هداية الله لك بالإسلام (أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألباب). وتفكّر كثيرًا كيف تمّمَ الله عليك النعمة في نفسك، وأراكَ العِبرة في غيرك، فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق.
فلتكن – رعاك الله -من أصحاب المبادئ لا من أصحاب المصالح، واعلم أنّ المصالحَ تتدثرُ أحيانًا بثياب المبادئ، فتجمعُ ضِغْثًا على إبالة، وحَشَفًا وسُوءَ كَيْلَة. فإنْ يومًا ضعُفَتْ نفسُك وحارَ عقلُك وتحرّك يقينك وتزعزع جأشك؛ فتدبرْ خاتمة الصافات، وفيها يقول ربنا الأعلى: (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين (171) إنهم لهم المنصورون (172) وإن جندنا لهم الغالبون (173) فتول عنهم حتى حين (174) وأبصرهم فسوف يبصرون (175) أفبعذابنا يستعجلون (176) فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين (177) وتول عنهم حتى حين (178) وأبصر فسوف يبصرون (179)سبحان ربك رب العزة عما يصفون (180) وسلام على المرسلين (181) والحمد لله رب العالمين).
لقد جعل الله تعالى معدَنَ الإسلامِ محفوظًا، فهو غير قابل للتغيير والنّحت والتبديل، قد يتغيّر بعض معتنقيه لكنّ حقيقته باقية محفوظة في صدور وسطور من شاء الله تعالى الله من عباده الذين حفظه بهم وحفظهم به. ومهما اشتدت ضراوة الحرب على الإسلام والتنكيل بأهله، ومهما علت قمم المكر به وكيده، إلا أنّ خصومَهُ يعودون منه بأحمالِ الخيبة، ذلك أنه كاملٌ في ذاته، عَصيٌّ على السقوط بكامله، حتى وإن تعثّر أهلُه لجهلٍ أو ضعفِ عزيمة أو ساعةِ خطيئة، لكنهم في الحقيقة يَعلُون به ولا يُعلى عليهم بغيره.
وأبشر أخا الإيمانِ فالفتحُ قادمٌ  ...   وإنْ أجلبَ الشيطانُ كلَّ النَّوَاديا
وليس على الأرض من جميع الأديان والثقافات خصمٌ ثقافي حضاري أخلاقي يقارب الإسلام، لذلك فلا نستغرب توحيدَ الهجمات المتتابعة عليه، قال تبارك وتعالى: (والله متم نوره) فدين الله نور يكتسح ظلام الجاهليات ويُبدِّدُ ظُلُمَ الشياطين ويهدي للحق المبين (ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير)، وقال سبحانه: (ليُظهره على الدين كله ولو كره المشركون) وتدبر معنى الظهورِ المتضمنِ للعلوِّ والقهرِ والغلبة والوضوح.
 وقال الله تعالى في وصف أثر الإسلام على ظلمات الجهل والظلم والكفر: (يخرجهم من الظلمات إلى النور) فظلماتُهم كثيرةٌ، وسوادُها كثيفٌ، لكن الإسلام شمسٌ تسطعُ فتنير الأرجاءَ، وتضيء الأنحاءَ، وتُذيب أقنعة شمع الأعداء، قال المصباح المنير والبشير النذير صلوات الله وسلامه وبركاته عليه وآله: "لنْ يشادَّ الدينَ أحدٌ إلّا غَلَبَهُ". وفي طلعةِ البدرِ ما يُغنيك عن زُحلِ.
لئِنْ عَزّ ديني واستُبيحَتْ جوارحي ... فأينَ مقامُ العزِّ إلا مقامِيا

إبراهيم الدميجي


عبرٌ من أصحاب الأخدود

عبرٌ من أصحاب الأخدود
الحمد لله وبعد؛ فعليك أيها الداعي لسبيل ربك – ولا بد أن نكون جميعًا كذلك – عليك بجادة الصابرين، محسني الظنِّ بلطفِ ربهم، ولا تلتفت لكل مثبّط أو حاسدٍ أو عدو: (فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون) فالله حق ووعده حق ونصره حق ولقاؤه يوم القيامة حق، فاصبر على الحق تكن من أهله، والله المستعان، (فاصبر صبرا جميلا إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا).
 ولا تنس – إن نسيتَ – احتساب الأجر عند ربك، فما عند الله الغني الكريم البرِّ الشكور خيرٌ وأبقى لك مما عند خلقه الفانينَ الضعفاءِ الفقراء. وكلُّ عمل تعملُه لله محتسبًا أجره وذخره فستلقاه مغتبطًا به ما دمت مخلصًا متبعًا صابرًا، ولَنِعمَ الذخيرة تلك الذخيرة ولنعم الكنز ذلك الكنز!
وائتس في جميع ما يصيبك بنبيك صلى الله عليه وسلم، فعن جندب بن سفيان رضي الله عنه قال: "دُميت إصبعُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض تلك المشاهد فقال:
هل أنت إلا إصبعٌ دُميتِ  ... وفي سبيل الله ما لقيتِ
فلكل مصلح: امض لسبيلك متوكلًا على ربك مستنّا بنبيك ﷺ متأملًا هذا البيان الحاسم من رب العالمين: (أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فما له من هاد).
وليتدبّرِ الداعيةُ الموفقُ قصةَ أصحابِ الأخدودِ وما فيها من أنواع الصبر والمصابرة في ذات الله تعالى سواءً من الغلامِ أو الراهب أو المؤمنين حتى نساءَهم، لقد استحقت تلك القصةُ العظيمةُ الخلودَ في محكم تنزيل رب العالمين: (وما نقموا منهم إلا إن يؤمنوا بالله العزيز الحميد . الذي له ملك السماوات والأرض والله على كل شيء شهيد) فلا تخفى عليه خافيةٌ مهما دقّت أو جلّت، فهو شهيدٌ على المؤمنين الصابرين، حافظٌ لصبرهم في ذاته المقدسةِ العليّة، فصَبَرُوا أرواحهم قربانًا لوجهه سبحانه وبحمده، وشهيدٌ على الكافرين وطغيانهم وظلمهم وكفرهم. ومع شناعةِ جرمهم وفداحةِ ظلمهم وغليظِ كفرهم إلا أنّ الرحمنَ قد أشرعَ لهم بابَ التوبة على مصراعيه بقوله الأعزِ الأكرمِ الألطفِ: (ثم لم يتوبوا) فلا إله إلا الله ما أعظم حلم الله وأسبغَ رحمته وأوسع فضله.
وقد فصّل حبيبُنا صلى الله عليه وسلم قصةَ أصحاب الأخدود، فقد روى مسلم بسنده عن صهيب رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "كان ملِكٌ فيمن كان قبلكم، وكان له ساحرٌ، فلما كبر قال للملك: إني قد كبُرتُ، فابعث إليّ غلاما أعلمه السحر؛ فبعث إليه غلامًا يعلمه.
 وكان في طريقه إذا سلك راهبٌ فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه، وكان إذا أتى الساحر، مرّ بالراهب وقعد إليه، فإذا أتى الساحر ضربه، فشكا ذلك إلى الراهب، فقال: إذا خشيت الساحر، فقل: حبسني أهلي، وإذا خشيت أهلك، فقل: حبسني الساحر، فبينما هو على ذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس، فقال: اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب أفضل؟ فأخذ حجرًا، فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحبّ إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضيَ الناس، فرماها فقتلها ومضى الناس.
 فأتى الراهب فأخبره. فقال له الراهب: أي بني أنت اليوم أفضل مني قد بلغ من أمرك ما أرى، وإنك ستُبتلى فإن ابتليتَ فلا تدلَّ عليّ.
 وكان الغلام يُبرىء الأكمه والأبرص، ويداوي الناس من سائر الأدواء. فسمع جليس للملك كان قد عمي، فأتاه بهدايا كثيرة، فقال: ما ها هنا لك أجمع إن أنت شفيتني. فقال: إني لا أشفي أحدًا إنما يشفي الله تعالى، فإن آمنت بالله تعالى دعوت الله فشفاك - وهذه رسالة لكل طبيب لأدواء الأرواح أو الأجساد أن يعلّقَ العباد بربهم لا بعلمه وخبرته وطبّه، فهو مجرد سبب قد يتخلف لذاته أو لمانعٍ خارجٍ عنه، أما الشافي في الحقيقةِ فهو اللهُ وحدَه، قال إمام الحنفاءِ عليه السلام: (وإذا مرضت فهو يشفين). – قال: فآمن بالله تعالى فشفاه الله تعالى، فأتى الملِك فجلس إليه كما كان يجلس، فقال له الملك: من ردّ عليك بصرك؟ قال: ربي، قال: ولك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله. فأخذه فلم يزل يعذبَهُ حتى دل على الغلام، فجيء بالغلام، فقال له الملك: أي بني، قد بلغ من سحرك ما تبرىء الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل! فقال: إني لا أشفي أحدًا، إنما يشفي الله تعالى. فأخذه فلم يزل يعذّبه حتى دلّ على الراهب.
 فجيء بالراهب فقيل له: ارجع عن دينك، فأبى، فدعا بالمنشار فوضع المنشار في مفرق رأسه، فشقّه حتى وقع شقّاه! - وتأمل كيف هرب هذا الراهب الصالحُ من الابتلاء فلحقه الابتلاء، وإنما يُبتلى المرءُ على قدر دِينه، والقدرُ لا مهرب منه، ولعلهُ خيرٌ له أن بلّغهُ منزلةَ الشهادةِ العظيمة، وأخرجه من سجن الدنيا لفسحة الجنان وجوار الرحمن جل جلاله بإذن الله تعالى ورحمته. وفيه الصبرُ العظيم لهذا الرجلِ، فلم يعطهم مرادَهم، بل صبر حتى قتلوه في الله ولله وإلى الله، ولا إله إلا الله. – قال: ثم جيء بجليس الملك فقيل له: ارجع عن دينك، فأبى، فوُضع المنشار في مفرق رأسه، فشقه به حتى وقع شقّاه! - وتأمل كيف يفعلُ الإيمانُ المفعمُ باليقين والنصحِ فعلَهُ في قلوب الخلق، ويشبه هذان الصالحان سحرةَ فرعونَ الذين كانوا في بكرة النهار سحرة أشقياء وفي عشيته بررة شهداء. وتأمل حال صحابة رسول الهدى صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم كيف قاموا لله تعالى تلك المقامات المشهودة والمجاهدات المشهورة بعد أن بلغ الإيمانُ حُشاشةَ قلوبِهم فصفّى كدَرَها وشدّ ضعفها وبلَغَ بها مبلغ أكرمَ الخلق على الله تعالى بعد الأنبياء والمرسلين.
وهكذا يفعلُ الأبطالُ إذ صدقوا    وهكذا يعصفُ التوحيدُ بالوثنِ
فعلى المؤمن أن يثبُتَ على الحق، وأن يقومَ فيه لله تعالى لا يخشى فيه لومةَ لائم – قال:ثم جيء بالغلام فقيل له: ارجع عن دينك، فأبى، فدفعه إلى نفرٍ من أصحابه، فقال: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا فاصعدوا به الجبل، فإذا بلغتم ذُروته - أي قِمّته - فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه. فذهبوا به فصعدوا به الجبل، فقال: اللهم أكفنيهم بما شئت - وفيه غاية التوكل والتفويض وإخلاص الاستنصار بالله تعالى.- قال: فرجف بهم الجبل فسقطوا. - (أمّن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء) فهو مجيب لدعوةِ المضطرِ مطلقًا، فكيف بوليّه الداعي إليه المُبتلَى في ذاته لإعلاء كلمته؟! (أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فمال من هاد) (إن الله يدافع عن الذين آمنوا)-. قال: وجاء يمشي إلى الملك – وتأمل رحمك الله ثقة الغلام بوعد الله تعالى ومعيّته وتأييده، فلم يهرب ويختبئ، بل عاد ليدعو ذلك الملِكَ الظالمَ الضالَّ لعلمه أن في هداية الله له نفعًا عامًّا لرعيته بدخولهم في دين الله تعالى-. قال: فقال له الملِك: ما فعل أصحابك؟ فقال: كفانيهم الله تعالى - (وكفى بالله وليًّا وكفى بالله نصيرًا)
إنَّ المصائب ما تخطَّتْ دِينهُ ... نِعمٌ وإن صعُبتْ عليهِ قليلا
واللهُ ليسَ بغافلٍ عن أمرهِ ... وكفى بربّك ناصرًا وكفيلا
 قال: فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: اذهبوا به فاحملوه في قُرقُور – أي سفينةً صغيرة - وتوسطوا به البحر، فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه. فذهبوا به، فقال: اللهم أكفنيهم بما شئت، فانكفأت بهم السفينة فغرقوا.
 وجاء يمشي إلى الملك. فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ فقال: كفانيهم الله تعالى. فقال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به. قال: ما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع، ثم خذ سهما من كنانتي، ثم ضع السهم في كبد القوس ثم قل: بسم الله رب الغلام ثم ارمني، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني - وفيه نقضٌ لدين هذا الملكِ الطاغوت، فقد جعل ذلك الغلامُ الفذُّ الملكَ يهدمُ الشركَ الذي بناه في قلوب الناس بهذا الفداء العظيم من هذا الشهيد الشاب – قال: فجَمَع الناسَ في صعيد واحد، وصلَبَه على جذع، ثم أخذ سهمًا من كنانته، ثم وضع السهم في كبد القوس، ثم قال: بسم الله رب الغلام، ثم رماه فوقع في صدغه، فوضع يده في صدغه فمات، - والصدغ هو ما بين العين والأُذن، وقد وضع يده عليه لتألُّمِهِ قبل وفاته رحمه الله تعالى، وبحمدِ الله فليسَ ألمُ القتل في سبيل الله شديدًا مهما كانت طريقته، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما يجد الشهيدُ من مسّ القتل إلا كما يجد أحدُكم من مسِّ القرصة" رواه الترمذي وصححه. قال: فقال الناس: آمنا برب الغلام! فأُتي الملك فقيل له: أرأيتَ ما كنت تحذر قد والله نزل بك حذرك، قد آمن الناس. - وهنا نصرُ اللهِ المؤزرُ لدعوةِ ذلك الغلام الصالح، وفيه أن الداعي إلى الله تعالى قد لا يُمهَلُ حتى يرى ثمار دعوته الطاهرة، بل قد يَسقي اللهُ تعالى بَذْرَتَه فلا تنمو وتثمرُ إلا بعد رحيله عن الدنيا إلى ربه تعالى، وهذا الأمرُ واردٌ حتى على الرسل الكرام، فعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عُرضت عليّ الأممُ، فرأيتُ النبيَّ ومعه الرهيط، والنبيَّ ومعه الرجلُ والرجلان، والنبيَّ ليس معه أحد". متفق عليه. وتأمل قصةَ أصحابِ القرية في سورة (يس) كيف أرسل الله لهم ثلاثةَ رسلٍ، فكفروا بهم حتى أرسل الله عليهم الصيحةَ فأهلكتهم، ولم يذكرِ اللهُ تعالى أن قد آمن لهم سوى رجلٍ واحد!
قال: فَأَمَرَ بالأخدود بأفواه السكك فخُدّت وأَضرَمَ فيها النيرانَ، وقال: من لم يرجع عن دينه فأقحموه فيها، ففعلوا. حتى جاءت امرأةٌ ومعها صبيٌّ لها، فتقاعست – أي جبُنت وتردّدت -أن تقع فيها، فقال لها الغلام: يا أُمَّهْ اصبري فإنك على الحق!".
ولست أُبالي حين أُقتَلُ مسلمًا   ..  على أي جنب كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ  ... يبارك على أوصالِ شِلْوٍ ممزّعِ
وبعد؛ ففي هذه القصة الهائلة بيانُ الصبر العظيم لذلك الراهب التقي الصالح، وكذلك جليسِ الملك الموفّق الصابر، والغلامِ الشهيد الناصح، فهو شيخُ الغلمان بحق، وهو الداعيةُ الصغير في سِنِّهِ، الكبيرُ في إيمانه وعمله ودعوته وشهادته وتخليد ذكره، فلم يَرُدّ هؤلاءِ الشهداءِ تهديدُ الطاغوت وأعوانِه، ولا قتلُهُم لهم هذه القَتْلات الشنيعة عن دينهم، فرحمهم الله وألحقنا بهم في الصالحين غيرَ خزايا ولا ندامى هو مولانا ومولاهم ونعم المولى ونعم النصير. وإنما تُعمر الديار ويُدفع البلاء بأمثالهم، بدعائهم وابتهالهم وصلاحهم ودعوتِهمُ العبادَ لسبيل الله تعالى.
وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم هؤلاء وأمثالَهم لأمته لتعلمَ الأمةُ أنَّ من عباد الله من يرجونه لا يرغبون لغيره، ويخافونَه لا يخشون سواه، وأن الله قد اختارهم وربّاهم واصطفاهم لحمل شدائد دينه في الدنيا ثم لنيل رضوانه وأجره في العُقبى.
وبنحو خبرهم جاءت الأخبار، فلا تخلو الأرض من قائم لله بحجة، فعن أبي عبد الله خبّابِ بن الأَرَتّ رضي الله عنه، قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدةً، فقلنا: ألا تستنصرْ لنا، ألا تدعو لنا؟ فقال: "قد كان مَن قبلكم يؤخذُ الرجلُ فيحفرُ له في الأرض فيجعلُ فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيُجعل نصفين، ويُمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصدُه ذلك عن دينه! والله ليُتمَّنَّ الله هذا الأمر حتى يسيرَ الراكبُ من صنعاءَ إلى حضرموت لا يخافُ إلا اللهَ والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون". رواه البخاري.
فالإنسانُ عجولٌ بطبعه، وغريزةُ العجلة جِبِلّةٌ لا يسلمُ منها إلا القليلُ، قال عنه خالقُه ومسوّيه: (خُلق الإنسان من عجل) وقال: (وكان الإنسان عجولًا).
ولكنَّ هذه الجبلّةَ العجولَ ليست بعذر في ترك التأنّي، فلقد أصاب المتأني أو كاد، وأخطأ المتعجّلُ أو كاد، والعجلة أمُّ الندامة، إنما المقصود بيانُ أنَّ هذه الغريزةَ النفسانيةَ محتاجةٌ إلى مصابرةٍ حتى تكونَ منقادةٌ لخُلُقِ الأناةِ وعقلِ الرزانة. وقد بشّر صلى الله عليه وسلم أشجَّ عبد القيس بمحبة الله تعالى لأناته وحلمه، وأنه قد جبله عليهما، فعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس: "إن فيك خَصلتين يحبُّهما الله: الحلمُ والأناة". رواه مسلم.
إنّ دين الله منصورٌ لا محالة، فليس على الدين خوفٌ حتى وإن تقلص في ناحية أو ضعُفَ تديّنُ الناسِ في أخرى، فاللهُ ناصرٌ دينَه ومتمُ نورِه ومظهرٌ سنةَ نبيه صلى الله عليه وسلم، قال سبحانه: (والله متم نوره ولو كره الكافرون . هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون). فلا خوفٌ على السفينة، إنّما الخوف أن تمضي بدونك!
إبراهيم الدميجي

زيغةُ الحكيم


زيغةُ الحكيم
الحمد لله، وبعد: فإن حاجة الناس للعلماء ضرورة كضرورة المريض للعافية والمسافرِ للنجم الهادي، وسئل أهل مكة: كيف كان عطاء فيكم؟ فقالوا: كان مثلَ العافية، لا نعرف فضلها حتى تُفْقَد.
ألا وإنّ كثيرًا من النزاع بين المسلمين والخصوماتِ والبغيِ والفُرقة قد حدث حين تجاوز العلماءَ من ليس منهم، وأسقطهم من لم يعرف قدرهم.
ولقد تنبّه علماءُ الأمة لهذا الخطر المستشير والخطل المستطير، فصدحوا بحرمة ذلك السبيل وخطر ذلك المهيع، وأنّ من كان همُّه تسقّط عثرات إخوانه واصطياد زلاتهم وتكبير عيوبهم وستر حسناتهم وطعن نيّاتهم والتأليب عليهم فهو ضالٌّ ظالم، وأنّ الفرضَ حفظ قدر العالِم مع عدم متابعته إن أخطأ. فأصدروا وكرروا بيانات وفتاوى ووصايا، وفيهم كفاية ومَقنعٌ بحمد الله لمن أراد برْدَ السكينة في صدره، أما الهاوي فلا يرده عن هواه انتطاح القَمَرَين أمامه! ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله، والله تعالى لا يُتَقرّبُ إليه بمعصيته، والسعيدُ من عُوفي. ومهلًا يا زارع الريح لتحصدنّ الزوبعة!
  لقد صاح العلماءُ فيمن خاف الوعيد من الاسترسال في ذلك وأنه منحدرٌ زلق، نهايتُه النزاع والفشل وذهاب الريح في الدنيا، ثم قبض الريح صفرًا من حسناتٍ رجاها أهلُوها غدًا ولكن لم ينالوها، لأنها لم تكُ حسناتٍ أصلًا، أو لأنها قد اقْتُصّتْ منهم في ديوان المظالم، وعساها أن تكفي عن مراكمة خطايا العباد على الظهر الظالمِ لهم في الدنيا.. رحماك ربي. (ليحملوا أوزارهم وأوزارًا مع أوزارهم) وعند مسلم (1) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أتدرون من المفلس؟" قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: "إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يُقضى ما عليه؛ أُخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار".
إن العالِم بشرٌ مُعَرّضٌ للخطأ في فتواه، سواء من جهة عدم إدراك الصواب والتحرير أو من جهة طريقة البيان والتقرير، أو حتى من جهة النيّة والتجريد، فيطير بذلك أهلُ الشهوات والشبهات، فينشرون خطأ الفقيه، ويُطلقون ما قيّدَه، ويُعمّمون ما خصّصه، ويقيسون على فتواهُ ما ليس منها، إذّ همُّهم شهواتُهم لا هداياتُهم، وزلَّة العالِم زلّةُ العالَم ومضروب لها الطبل، نعوذ بالله من فتنة القول والعمل.
إن حَمَلة العلم يصِلُون ما أمر الله به أن يوصل، ويحفظون أقدار أولي الفضل والعلم والسابقة، ولا يعرف الفضلَ لأولي الفضلِ سوى أهلِ الفضل. والعاِلمُ العامل في المحلِّ رحمةٌ من الله وبركة على أهله تمشي على قدمين، قال يوسف بن أسباط: كان أبي قدريًّا، وأخْوالي روافض، فأنقذني الله بسفيان. وتأمل جميل ثناء ابن القيم عن شيخه ابن تيمية لمّا كان سببًا -بإذن الله -للأخذ بيد ابن القيم للسنة المحضة. والموفّقون هم من يحفظون قدر العالِم حتى وإن تعثّر ببعض البدع أو الأخطاء أو الاجتهادات التي لا تُخرجه من أصول أهل السنة الكليّة.
 قال سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى: "ليس من شريفٍ ولا عالمٍ ولا ذي فضلٍ إلا وفيه عيب. ولكن من الناس من لا ينبغي أن تُذكر عيوبُه، ومن كان فضلُهُ أكثر من نقصه؛ وُهِبَ نقصُهُ لفضله". (2) وقال الحافظ الذهبي رحمه الله: "ولو أن كلّ من أخطأ في اجتهاده مع صحة إيمانه وتوخّيه لاتّباع الحق أهدرناه وبدّعناه؛ لقلّ من يسلم معنا من الأئمة". (3) وقال: "ليس من شرط العالم ألا يُخطئ" (4) إلا ما أجمل الإنصاف وأعزَّه وأروَعه وأوْرَعه!
وثمّة خيط رفيع بين تقديرِ العلماء وتقديسِهم، فالأولُ واجب محمود والثاني ممنوع. وبعض الناس فرّ من الثانية فألحق بها الأولى، وهذا خطأ، فالعلم رَفَعَهُم.
وكيف لا يكون ذلك لهم وهم مِلْحُ الناس وزينةُ الأرض وحَلَى الدنيا، وهم نجومٌ لا يضل معها الساري، ومنهلٌ يرتوي منه الصّادي، ولا تزال قلوب العابدين بعلومهم معمورة، وصدورهم من وصاياهم مأهولة. والعلماءُ هم شُهب الله على المبطلين، ورجومُه على رؤوس المجرمين، وعلى امتداد تاريخ الأمة المجيد نجد أن الأمة قد مَرّت بمنعطفات صعبةٍ للغاية، وكان فضلُ توجيهِها بعد الله على أيدي حفظوا الأمانة فحفظتهم، اللهم أكثر مخلصيهم وأقوياءهم وزهادهم إله الحق.
ولنأخذ مثالين على بَرَكَةِ العالم وحسنِ أثره في الناس، وعظيم صبره وجميل إنصافه، ورِفْقِهِ في الحِجَاج مع قوّة البرهان وشدّة الإلزام، وهما خبرَ ابنِ عباس وخبرَ جابرِ بنِ عبد الله رضي الله عنهم، وكلاهما مع أشدّ الناس في الخصومة، وهم الخوارج.
ففي خَبرِ ابن عباس رضي الله عنهما مع أهل النهروان: قال ابن عباس رضي الله عنهما: "إنّه لما اعتزلت الخوارجُ دخلوا دارًا وهم ستة آلاف، وأجمعوا أن يخرجوا على علي بن أبي طالب وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم معه. قال: وكان لا يزال يجيء إنسان فيقول: يا أمير المؤمنين، إن القوم خارجون عليك -يعني عليًّا -فيقول: دعوهم، فإنّي لا أقاتلهم حتى يقاتلوني، وسوف يفعلون. فلما كان ذات يوم، أتيتُه قبل صلاة الظهر فقلت له: يا أمير المؤمنين، أبرِدْنَا بالصلاة، (5) لعلي أدخل على هؤلاء القوم فأكلمهم. فقال: إني أخافهم عليك (6) فقلت: كلّا، وكنتُ رجلًا حَسَنَ الخُلُقِ لا أوذي أحدًا، فأَذِنَ لي.
 فلبستُ حُلّةً من أحسن ما يكون من اليمن، وترجّلت، (7) ودخلتُ عليهم نصف النهار، فدخلتُ على قومٍ لم أر قومًا قطّ أشدَّ منهم اجتهادًا، جِباهُهم قَرَحَتْ من السجود، وأيديهم كأنّها ثَفِنُ الأبل، (8) وعليهم قُمُصٌ مُرَحضَة، (9) مشمّرين، مُسَهَّمَةً وجوهُهم (10) من السهر، فسلّمتُ عليهم، فقالوا: مرحبًا يا ابن عباس، ما جاءَ بك؟
 قال: قلت: أتيتكم من عندِ المهاجرين والأنصار، ومن عندِ صِهْر رسولِ الله صلى الله عليه وسلم عليٌّ، وعليهم نزل القرآن، وهم أعلمُ بتأويله. فقالت طائفة منهم: لا تُخاصموا قريشًا فإن الله قال: (بل هم قوم خَصِمُون) فقال اثنان أو ثلاثة: لنُكَلِّمنّه.
فقلت لهم: تُرى ما نَقَمتُم على صهرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمهاجرين والأنصار، وعليهم نزل القرآنُ، وليس فيكم منهم أحد، وهم أعلم بتأويله منكم؟ قالوا: ثلاثًا. (11) قلت: ماذا؟ قالوا: أمّا إحداهُن: فإنّه حَكّم الرجال في أمر الله عز وجل، وقد قال الله عز وجل: (إنِ الحُكْمُ إلا لله) فما شأنُ الرجال والحكم بعد قول الله عز وجل؟ فقلت: هذه واحدة، وماذا؟ قالوا: وأما الثانية: فإنه قاتل ولم يَسْبِ ولم يَغْنَم، فلئن كانوا مؤمنين ما حَلّ لنا قتالُهم وسِباهم. قلت: وماذا الثالثة؟ قالوا: إنهَ مَحَا نفسه من أمير المؤمنين، إن لم يكن أميرَ المؤمنين، فإنه لَأَميرُ الكافرين. قلت: هل عندكم غير هذا؟ قالوا: كفانا هذا.
 قلت لهم: أما قولكم: حَكّم الرجال في أمر الله عز وجل، أنا أقرأ عليكم في كتاب الله عز وجل ما ينقض قولَكم، أفترجعون؟ (12) قالوا: نعم. قلت: فإن الله عز وجل قد صَيَّر من حكمِهِ إلى الرجال في رُبعِ درهمٍ ثمن أرنب، وتلا هذه الآية: (لا تَقْتُلوا الصيد وأنتم حُرُمٌ) إلى آخر الآية. وفي المرأة وزوجِها: (وإن خفتم شقاقَ بينِهِما فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها) إلى آخر الآية. فنشدتُكم بالله، هل تعلمون حُكْمَ الرجال في إصلاح ذاتِ بينهم، وحقن دمائهم، أفضلَ، أم حكمَهم في أرنبٍ وبُضْعِ امرأة؟ فأيّهما ترون أفضل؟ قالوا: بل هذه. قال: خرجتُ من هذه؟ قالوا: نعم. (13)
 قلت: وأما قولُكم: قاتَلَ ولم يسْبِ ولم يغنم، فتَسْبُونَ أمَّكم عائشة؟ فوالله لئن قلتم: ليست بأمِّنا، لقد خرجتم من الإسلام، ووالله لئن قلتم: نَسبيها نستحلُّ منها ما نستحل من غيرها، لقد خرجتم من الإسلام، فأنتم بين الضلالتين، إن الله عز وجل قال: (النبي أوْلى بالمؤمنين من أنفُسِهِم وأزواجُهُ أمهاتُهم) فإن قلتم: ليستْ بأمّنا، لقد خرجتم من الإسلام، أخرَجتُ من هذه؟ قالوا: نعم.
 وأما قولكم: مَحَا نفسه من أمير المؤمنين، فأنا آتيكم بمن ترضون: يوم الحديبية، كاتبَ المشركين أبا سفيان بن حرب وسهيلَ بنَ عمرو، فقال: "يا عليّ، اكتب: هذا ما اصطلح عليه محمدٌ رسولُ الله"، فقال المشركون: والله لو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهمَ إنك تعلمُ أني رسولُك، امْحُ يا علي، اكتب: هذا ما كاتب عليه محمد بن عبد الله"، فوالله لرسولُ الله صلى الله عليه وسلم خيرٌ من عليٍّ، فقد محا نفسه. قال: فرجع منهم ألفان، وخرج سائرُهم فقُتلوا". (14) وقد وقع عند عبد الرزاقِ والطبراني أن عدد الحرورية حين خرجوا كان أربعةً وعشرين ألفًا، رجع منهم بعد مناظرة ابن عباس عشرون ألفًا، وبقي أربعة آلاف، فقتلوا، والله أعلم.
أما خبرُ جابر بنِ عبد الله رضي الله عنهما فقد حدّث به يزيدُ بن صهيب الفقير، قال: "كنت قد شَغَفَنِي (15) رأيٌ من رأي الخوارج. فخرجنا في عِصَابةٍ ذوي عدد، نريد أن نحجّ ثم نخرجُ على الناس. (16) قال: فمررنا على المدينة، فإذا جابر بن عبد الله جالسٌ إلى سارية يُحدِّثُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا هو قد ذكر الجَهَنَّمِيِّين، (17) فقلت: يا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم (18) ما هذا الذي تحدثوننا؟ والله يقول: (ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته) و(كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها) فما هذا الذي تقولون؟
 قال: أتقرأُ القرآن؟ قلت: نعم، قال: فاقرأ ما قبله، (19) إنه في الكفار، ثم قال: فهل سمعتَ بمقام محمدٍ الذي يبعثُهُ الله فيه؟ (20) قلت: نعم، قال: فإنّه مقام محمد صلى الله عليه وسلم المحمودُ الذي يُخرج الله به من يُخرج، قال: ثم نَعَتَ وضعَ الصراط، ومرَّ الناس عليه، قال: وأخافُ ألا أكون أحفظ ذاك، (21) قال: غير أنه قد زعم أن قومًا يخرجون من النار بعد أن يكونوا فيها، (22) قال: فيخرجون كأنهم عيدان السماسم، (23) قال: فيدخلون نهرًا من أنهار الجنة، فيغتسلون فيه، فيخرجون كأنهم القراطيس، فرجعنا، قلنا: ويحَكُمْ، أترون هذا الشيخ يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فرجعنا، فلا والله ما خرج غير رجل واحد، أو كما قال". (24) ولحديث الشفاعة العظمى روايات أوفى في الصحيحين وغيرهما.
ومن كان لهم مقام في الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله ونحو ذلك من مقامات الإسلام فإن إقالة عثرته متأكدة في حقه أبلغ من غيره، مع عدم متابعته فيها، فحفظُ السابقة من هدي السلف. قال ابن القيم رحمه الله: "ومن له علم بالشرع والواقع يعلم قطعًا أن الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدمٌ صالحٌ وآثار حسنةٌ، وهو من الإسلام وأهله بمكانٍ، قد تكون منه الهفوة والزلَّة، هو فيها معذورٌ بل مأجورٌ لاجتهاده، فلا يجوز أن يُتبع فيها، ولا يجوز أن تُهدر مكانته وإمامتُهُ في قلوب المسلمين". (25) وتأمل ما روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود". (26)
وللهِ مُعاذٌ ما افقهه! فعن يزيد بن عميرة عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: "تكون فتنةٌ يكثر فيها المال، ويُفتح فيها القرآن حتى يقرأَهُ المؤمنُ والمنافق والصغير والكبير والرجل والمرأة، يقرأه الرجل سرًّا فلا يُتبَعُ عليها، فيقول: والله لأقرأنّه علانية، ثم يقرأه علانية فلا يُتبع عليها، فيتخذ مسجدًا ويبتدع كلامًا ليس في كتاب الله ولا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإيّاكم وإيّاه فإنّ كلّ ما ابتدع ضلالة.
 قال يزيد: ولما مرض معاذ بن جبل مرضه الذي قُبض فيه كان يُغشى عليه أحيانًا ويفيق أحيانًا، حتى غُشي عليه غشيةً ظننّا أنه قد قُبض، ثم أفاق وأنا مقابله أبكي! فقال: ما يبكيك؟ قلت: والله لا أبكي على دنيا كنتُ أنالُها منك، ولا على نسب بيني وبينك، ولكن أبكي على العلم والإيمان الذي أسمع منك يذهب.
قال: فلا تبك، فإنّ العلم والإيمان مكانهما، من ابتغاهما وجدهما، فابتغه حيث ابتغاه إبراهيم عليه الصلاة السلام، فإنه سأل الله تعالى وهو لا يعلم وتلا: (إني ذاهب إلى ربي سيهدين) وابتغه بعدي عند أربعةِ نفرٍ، وإن لم تجده عند واحد منهم فسلْ عن الناس أعيانَه؛ عبد الله بن مسعود وعبد الله بن سلام وسلمان وعويمر أبو الدرداء. وإياك وزيغةَ الحكيم، وحُكْمَ المنافق". (27)
وفي رواية له عن معاذ – وفيها -: ". وأحذِّركم زَيغةَ الحكيم، فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافقُ كلمةَ الحق" قال: قلت لمعاذ: وما تدري رحمك الله أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة، وأنَّ المنافق يقول كلمة الحق؟ قال: "بلى، اجتنِبْ من كلام الحكيم المشْتَهِراتِ التي يقال: ما هذه؟ ولا يَثْنِينَّك ذلك عنه فإنه لعله يُراجِع، وتَلَقَّ الحق إذا سمعتَه، فإن على الحق نورًا". (28)
 فرضي الله عن معاذ إذ أعطانا معيارًا ومنهاجًا في التعامل مع أهل العلم ومن تشبّه بهم ممن ليس منهم، حالَ صواب الجميع أو خطئهم.
 وانظر لسوسة القلب حين تنحت فيه حبَّ التصدّر والظهور والعلوِّ على الخلق، وكيف قرأ القرآن سرًّا فلم يتبعه الناس، فقرأه جهرًا فلم يتبعوه، حتى آل به الأمر أن اتّخَذ مسجدًا وأحدث بدعًا وضلالات. فمقصودُه ليس وجهَ الله والدارَ الآخرة مهما حفظ من العلوم ودرس على المشايخ وقرأ من الكتب، بل العلوَّ في الأرض عن طريق التصدر على منابر العلم، فاحذر يا طالب العلم أن تبتغيَ العلوَّ في الأرض على أقرانك وعلى الناس، وابتغِ سموَّ السماء بتقواك ومنازلَ الآخرة بنصحك وتواضعك، فإن الله تعالى يقول: (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوّا في الأرض ولا فسادًا والعاقبة للمتقين).
وتأمل فقه معاذ رضي الله عنه في تحذيره من زيغة الحكيم، لذلك فلا تُعنِقِ فَرِحًا بكل نكتةٍ علميّة انقدحت لك، فما كلّ ما يلمع ذهبًا ولا كل بيضاء شحمة، وكم من قدحةٍ قاتلة، وكم من دهليز جهل على باب فِكْرَة، وكم أعرض الراسخون عن مسائل صانوا بها صفاء علومهم.
وبالجملة: لا تفرح بالطارف على التليد، واجتنب في العلم الغرائب، فالغريب مريب. وعليك بجادّة السالفين الأُوَل ذوي الأمر الأول والنمط الأوسط، الذين وقفوا عن علمٍ، وكفّوا عن ورع.
وحينما تحدثك نفسك يا طالب العلم بظَفَرٍ في مسألة، فلا تظنّ أنّ الأكابر قد كفّوا عنها لجهل، لذا تأنَّ كثيرًا حتى تعلم سبب رغبتهم عنها فلعله الصواب، واحذر من أن تتخذ قولًا أو عملًا ليس لك فيه سلف صالح، فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية، وسَبْعُ الأفكارِ أضْرَى من سبعِ الأجساد.
فقل لمن يدّعي في العلم معرفةً   ...  حفظتَ شيئًا وغابتْ عنك أشياءُ
واعلم أن التريّث والتحرير ومشاورة أهل الاختصاص لها ثمراتها: فقد يكون الواردُ مطروقًا قد فصّله السابقون ولم تعلم به، أو كان سببه ومقتضاه قائمًا فتركوه تورّعًا، أو تبيّن لهم بطلانه لِعِلّة لم تدركها.. أو غير ذلك.
ولا يعني هذا ترك الاشتغال بكل واردٍ فكريّ جديد، فهذا ليس بمقصود، فالتقليد المحض ليس بعلمٍ، والتقيّدُ بقيد الأمر السائد قصورٌ في التحصيل، والإبداعُ النافع مطلب شرعي، بل القصد هو التمهّل والتريّث والأناة والمشاورة للراسخين لتحرير الوارد من فروع العلم قبل نشره، لأنه في يدك حتى يطير في الأرجاء، فإن كان مُحرّرًا فنعمّا هو، وإن كان غير ذلك فعليك غُرمُهُ وتَبِعَتُه.
 وبالجملة: فإياك أن تستوليَ برودةُ عادتك على حرارة قريحتك؛ فيستبدّ بك التقليد الجافّ وتنطفئ شعلتُك المضيئة، حينها تكون قد كسرت شراعك ودفنت إبداعك.
ومما يؤسف له أن بعضًا من أمور الأمّة المُلحّة (العصريّة) لا نجد لبعض الأكابر حديثٌ فيها ترفّعًا أو تزهّدًا أو انشغالًا – مع انتشارها بين الناس كنار الهشيم – فنشأ عن اعتزال هؤلاء الكلام فيها أن انبرى لها غيرُ أهلها فألقحوها الضلال، فاستيقظ أصحابنا وصاحُوا بأهله -بعد خراب البصرة -وخير لهم أن يصيحوا بأنفسهم أوّلًا.. فقد ذهبتْ ليلى فما أنت صانع؟!  
 ولله درّ ابن مسعود ما أحكمه حين قال: "إنكم لن تزالوا بخيرٍ ما دام العلم في كباركم، فإذا كان العلم في صغاركم سفَّه الصغيرُ الكبيرَ". (29)
ولقد مرّ الإمام أبو حنيفة رحمه الله على جماعة يتفقهون، فقال: ألهم رأسٌ؟ قالوا: لا. قال: إذن لا يفلحون أبدًا. (30) ومن بديع شعر عبد الوهاب بن على المالكي رحمه الله:
متى يصلُ العِطاشُ إلى ارتواءٍ   ...   إذا استَقَتِ البحارُ من الرَّكايَا
ومن يُثْنِي الأصاغِرَ عن مُرادٍ   ...   إِذا جلس الأكابرُ في الزَّوايَا
إذا استوتِ الأسافلُ والأعالي   ...    فقد طابت مُنَادَمَةُ المَنَايا
إن الله تعالى قد جعل العالِم بركة للناس، ونجمًا في السماء للحق هاديًا، بما ينشره من علم الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله وعمله وسمته وخُلُقه. فهو وارثُ تركةِ الرسول صلى الله عليه وسلم وهو الذي يوزّعها على الناس ويَهديهم – بإذن الله -لها، ولا يزال في الأمة خير ما كان فيها علماء ربانيون يصِلُون حاضرَ الأمة بصدرها الزاهر المنير. وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه وحزبه.
إبراهيم الدميجي
...........................................................................
(1) (8/18) ( 2581 ) ( 59 )
(2) التمهيد (11/ 170)، الكفاية (79)
 (3) السير (14/ 374)
(4) السير (14/ 339)
 (5) أي أخّر صلاة الظهر عن أول وقتها، وهو سنة عند اشتداد الحرّ، وغرضه إفساح الوقت له كي يدرك صلاة الجماعة بعد المناظرة رضي الله عنه.
(6) لأنهم قد قتلوا ابن خباب لما مرّ بهم وزوجه الحامل وقتلوا غيره كثير، لاستحلالهم دماء مخالفيهم، فهم يكفّرون من ليس معهم، ففتنتهم شديدة وشرّهم مستطير، ووُصفوا في السنّة بشرِّ الخلق والخليقة.
(7) أي سرّح شعر رأسه.
(8) أي: رُكَبِها الغليظة.
(9) أي: مغسولة.
(10) أي: متغيرة ألوانها من الصيام والقيام، وهذا من إنصافه رضي الله عنه، فانظر عظيم فتنة ابليس بهم كيف وهم مع هذا الحال من شديد العبادة وابتغاء التقوى ودقيق الورع، (ومن يضلل الله فما له من هاد) ولهم نصيب من قول الله تعالى: (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا. الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا). وما من أمرٍ لله إلا وللشيطان فيه حظّان لا يُبالي بأيّهما أسقط العباد: الزيادة والنقصان. 
وتأمل مدى ضلالهم في قصتهم مع التابعي الجليل عبد الله بن خباب وزوجه، وقد ساقها الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (7 / 318) بقوله: "وكان من جملة من قتلوه عبدَ الله بنَ خبّابٍ صاحبِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، أسروه وامرأته معه وهي حامل فقالوا: من أنت؟ قال: أنا عبدُ الله بنُ خبابٍ صاحبِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنّكم قد روّعتموني. فقالوا: لا بأس عليك، حدّثنا ما سمعتَ من أبيك فقال: سمعت أبي يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ستكون فتنةٌ القاعدُ فيها خيرٌ من القائم، والقائمُ خيرٌ من الماشي، والماشي خيرٌ من الساعي". رواه أحمد (1446). فاقتادوه بيده، فبينما هو يسير معهم إذْ لقي بعضهم خنزيرًا لبعض أهل الذمة فضربه بعضُهم فشقّ جلدَه، فقال له آخر: لم فعلت هذا وهو لذمّي؟ فذهب إلى ذلك الذمي فاستحلّه وأرضاه، وبينا هو معهم إذ سقطت تمرةٌ من نخلة فأخذها أحدهم فألقاها في فمه، فقال له آخر: بغيرِ إذنٍ ولا ثمن؟ فألقاها ذاك من فمه، ومع هذا قدّموا عبد الله بن خبّاب فذبحوه، وجاؤوا إلى امرأته فقالت: إني امرأة حبلى، ألا تتقون الله، فذبحوها وبقروا بطنها عن ولدها"! عائذًا بربي من مضلات الفتن.
(11) وفي هذا التثبّت من استدلال المخالف فقد تكون حجة عليك قبولها ولإذعان والتسليم لها، وقد تكون شبهة عليك أن تكشفها له وتبطلها من عينيه.
(12) وفي هذا إلزام الخصم بالرجوع عن قوله إن تبين له بطلانه، وقد كانت هذه طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع اليهود وغيرهم.
(13) وتأمل حسن السياق والترتيب والإلزام وإخلاء شبهة الخصم من مضمونها ومبرّرها.
(14) عبد الرزاق في المصنف (18678) والطبراني (10598) والحاكم (2/150) وغيرهم، وذكر أحمد في المسند (3187) طرفًا من القصة بسند جيد. وقد رويت قصة أمر النبي صلى الله عليه بمحو "محمد رسول الله" في البخاري (2731) و(2732) ومسلم (1784)
(15) أي تملّكني بأن دخل شغاف قلبي، والشغافُ: غلافُ القلب.
(16) ولا أعلم أن الخوارج جالدوا المشركين يومًا، وتأمل الحال مع الغلاة في هذا الزمان كيف يقتلون المسلمين ويدعون المشركين متذرعين بأن القريب مرتد والمرتد يقتل قبل الكافر الأصلي، هكذا بلا إقامة حجة ولا إبانة محجة، كيف والحجة عليهم لا لهم، (ومن يضلل الله فلن تجد له وليا مرشدًا) وهذه خصلة الخوارج فقد وصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرميّة، يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، لئن أدركتهم لأقتلنّهم قتل عاد". البخاري (7432) ومسلم (1064) فمشكلتهم في ضلال العلم لا نقص التعبد وقوّة الإرادة، (ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم) فمن هذه الوجه فيهم شبه من النصارى الضالين. وقد روى عبد الرزاق في تفسيره (2/299) والحاكم في المستدرك (2/522) عن أبي عمران الجوني قال: مرَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه بديرِ راهبٍ، فناداه: يا راهب، يا راهب، فأشرف، قال: فجعل عمر ينظر إليه ويبكي. فقيل له: يا أمير المؤمنين، ما يبكيك من هذا؟ قال: ذكرت قول الله عز وجل في كتابه: (عاملة ناصبة تصلى نارا حامية) فذاك الذي أبكاني. وإن كان هذا الخبر لا يثبتُ لأن أبي عمران لم يدرك زمان عمر، إنما المراد مغزى القصة لا حقيقتها، ففيها قرعٌ لفؤاد المؤمن تنبيهًا لعظم شأن هدايته للإسلام والإيمان، (بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان) فلا نعمة تضارعها، واعلم أن كثيرًا من أهل الضلال من الملل والنحل هم أذكى منك عقولًا لكن الله تعالى لم يشأ لهم الهدى، فالهدى محض توفيق الله وحده. واعتبر ذلك بحال ذلك المنصّر الأمريكي الضال المضل إذ يقول: يعزّ علي حرص المسلمين على ارتياد المسجد خمس مرات ودينهم باطل! (وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا).
(17) وهم الذين يخرجهم الله تعالى من النار فيدخلهم الجنة، وهم من أهل الكبائر من الموحدين، وهذا ينقض أصل الخوارج الأعظم بقولهم بتكفير مرتكب الكبيرة مطلقًا، فحديث الشفاعة ثابت في الصحيحين، وفيه ذكر الجهنّميين.
لذلك أوصى عليٌّ ابنَ عباس رضي الله عنهم أن يُحاجج الخوارج بالسنة، وقال له: لا تجادلهم بالقرآن؛ فإن القرآن حمَّال وجوه، ولكن جادلهم بالسنة، قال ابن عباس: "يا أمير المؤمنين فأنا أعلم بكتاب الله منهم، في بيوتنا نزل، قال: صدقت، ولكن القرآن حمّالٌ ذو وجوه، تقولُ ويقولون، ولكن خاصمهم بالسنن، فإنهم لن يجدوا عنها محيصًا". وقد عزاه السيوطي في الإتقان (2/ 122) إلى ابن سعد. كذلك نُقِلَ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: لا تجادلوهم بالقرآن فإنه حمال وجوه ولكن حاجِجُوهم بالرواية. أي بالسنة المرويّة.
لذلك فالخوارج لا يَعُدّون السنة من مصادر التلقي لديهم، ولو علموا تأويل القرآن ما فعلوا فالسنة شارحة القرآن، قال تَعَالَى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نزل إليهم) فالمبين هو رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، وقد أمر الله تعالى في القرآن أكثر من أربعين مرة بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولقد حدّث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله الواشمات والمستوشمات، والمتنمّصات، والمتفلّجات للحسن، المُغيّرات خلق الله، فبلغ ذلك امرأة من بني أسد، يقال لها: أم يعقوب، وكانت تقرأ القرآن، فأتته، فقالت: ما حديث بلغني عنك: أنك قلت: كذا وكذا.. وذكرته؟ فقال عبد الله: ومالي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله؟ فقالت المرأة: لقد قرأت ما بين لوحي المصحف، فما وجدته، قال: إن كنت قرأتيه لقد وجدتيه، قال الله عز وجل: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) قالت: إني أرى شيئًا من هذا على امرأتك الآن؟ قال: اذهبي فانظري، فذهبت فلم تر شيئًا، فجاءت، فقالت: ما رأيت شيئًا، فقال: أما لو كان ذلك لم نجامعها". رواه البخاري (6/184) ومسلم (6/166) ومعنى المتنمصات: من النمص وهو ترقيق الحواجب وتدقيقها بالموسى ونحوه طلبًا للحُسن، والنامصة التي تصنع ذلك بالمرأة، والمُتنمصة التي تطلبه. والمتفلجات: هن اللاتي يطلبن الفَلج بصناعة وهو تباعد ما بين الثنايا. ومعنى لم نجامعها: أي لم أجتمع معها كناية عن طلاقها إن هي فعلت.
 (18) ففي يزيد خير بتوقيره للصحابة، لذلك يسّر الله تعالى له الهدى على أيديهم رضي الله عنهم.
(19) أي اقرأ سياق الآية وسباقها، فلا تكن كمن قرأ (ويل للمصلين) دون ما بعدها. وأمثال ذلك في القرآن العزيز كقوله تعالى: (وَإِذْ يَقُولُ المنافقون والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً) فيبتدئُ من قوله: (ما وعدنا). ومثل أن يبتدئ بقوله: (إن الله) في قوله تعالى: (لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قالوا إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ) وقوله: (لَّقَدْ كَفَرَ الذين قآلوا إِنَّ الله هُوَ المسيح ابن مَرْيَمَ) ونحو ذلك. ومراد جابر التنبيه للسياق العام لخبر الآيات وأنها ليست كما فهمها الخوارج لأنهم اقتصروا على جملة دون سياقها.
(20) وهنا يحتج جابر بالسنة التي فيها قطع لنزاع المخالفين، وهذا تمام الفقه. فيشرح بالسنة قول الله تعالى: (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) فقرره بالقرآن ثم ألزمه بالسنة.
(21) وهذا من ورعه رحمه الله.
(22) وإلى هذا الموضع قَصَدَ حابرٌ لأن فيه إبطالٌ لأصل الخوارج في تكفير صاحب الكبيرة، وهو ما انتبه له يزيد وكان فاتحة خير لتوبته وأصحابه من منهجهم المُظلم.
(23) عيدان السماسم: السماسم: جمع سمسم، وتكون عيدانه سودًا دِقاقًا بعد أخذ ثمرة السمسم ورميها، فشبه الجهنميين الذين أخرجهم الله من النار إلى الجنة بها أثناء إخراجهم من النار بعدما امتحشتهم وأحرقتهم، عياذًا بالله تعالى.
(24) مسلم (1/123)
(25) إِعلام الموقعين (3 / 283)
(26) رواه أبو داود (4375) وغيره، وصححه الألباني في الصحيحة (638) وصحيح الجامع (1185)
(27) المستدرك (4 / 465) (8440)
(28) أبو داود (4611) بسند حسن.
(29) ابن عبد البر في جامع العلم (1 / 159)
(30) الفقيه والمتفقه للخطيب (790)