سلسلة مناقشة الشبهات – 4 – شبهة تكفير الحاكم تعيينًا (الجزء الثاني)
فحوى فتوى الغلاة في تكفير الحاكم تعيينًا وردها:
ذكرنا في الجزؤ الأول أربعة مقاطع من الرد المتعلق بما أورده أبو بصيره فيما يتعلق بقضية تكفير الحاكم تعيينا ونكمل في هذا الجزء بقية المقاطع من الإجابة.
المقطع الخامس من الإجابة:
في هذا المقطع تطرق المغالي في إجابته للدليل الثالث على عدم إسلام الحكام فقال: “الزكاة لا وسيلةَ للاطلاع عليها؛ لأن الحاكم أصلا لا يسأل عن أمواله، ولا عن مصادرها ولا عن مصارفها، وليست هناك مؤسسات حكومية في عالمنا الإسلامي لمحاسبة الحاكم على دخله، فلا عجب أن يصبح العسكري يمتلك المليارات ولا أن يمتلك الرقيب السابق أو الملازم في أحسن الأحوال بعد خمس سنوات مثلا أموالا لا تأكلها النيران ففي بلادنا يجوز كل شيء، والحاكم يستطيع حتى أن يأخذ ما يشاء من مال الدولة ويدفعها لمن يشاء، ثم يقول للناس: هذه زكاة أموالي”.
وهذا المقطع يرد بما يأتي:
أن الزكاة أصلا لها شكلها الشرعي وليس من الضروري شرعًا أن يطلع الشعب على زكاة الحاكم؛ فليس هناك نص شرعي يأمر بذلك، فالزكاة فريضة بين العبد وربه. واعجبْ معي من هذا التداخل بين الزكاة والدخل؛ فبعد أن شكك في التزام الحاكم بفريضة الزكاة أتي بالتشكيك في الدخل، فهذا من باب خلط الأوراق وهو منهج غير سديد، ومن باب إيراد الأدلة المصطنعة جزافًا بدون فهم.
المقطع السادس من الإجابة:
في هذا المقطع تطرق المغالي للدليل الرابع المتمثل في التشكيك في التزام الحاكم بفريضة الحج ومعناها بالنسبة له.. فيقول:”الحج أمر شخصي أيضًا وقد يحج الحاكم أو قد تشغله أمور الدولة وهي أهم، أو قد يحج سرًا لأسباب أمنية، المهم أننا لن نستطيع أن نحكم علي إيمانه لمجرد أنه حج أم لم يحج، وهناك الكثيرون ممن ماتوا ولم نسمع أنهم حجوا والأمر متسع هنا، والحج فرض على التراخي كما يقال”.
ويرد هذا المقطع بما يلي من أمور:
الأمر الأول: أن هذا الدليل خلص فيه إلى أن حج الحاكم أو عدم حجه لا يدل على الإيمان، فإن معناه بالنسبة للحاكم لا يعدو إلا أمرًا شخصيًا، وفي هذا التعميم ظلم ظاهر، وإشارة إلى أن الرجل يعلم نوايا الحاكم وهو الأمر الذي نراه من ثنايا كلامه على الشهادتين والصلاة والصيام والزكاة وهنا في الحج، وهذا الأمر مما يعلمه الله عز وجل.
الأمر الثاني: في قوله: “المهم أننا لن نستطيع أن نحكم علي إيمانه لمجرد أنه حج أم لم يحج” إشارة إلى أن فعل الحج أو عدم فعله لا يحكم من خلاله على الحاكم بالإسلام أو الإيمان، ولا أخفيك سرًا أنني تعبت من هذه الأدلة “التفصيل” أو المحاكاة أو المصطنعة، فإن الحج من فروض الإسلام وأعلاها الشهادتان ولا يطالب الناطق بالشهادتين بالاعتراف بما يتبعها من فروض؛ لأن ذلك من باب العمل بمقتضى الشهادتين، وسيأتي مزيد بيان لهذا الموضع قريبا.
الأمر الثالث: في قوله: “وهناك الكثيرون ممن ماتوا ولم نسمع أنهم حجوا والأمر متسع هنا والحج فرض على التراخي كما يقال”، لا أعلم مناسبة ذلك القول في نهاية استدلاله على أن الحج لا يعتبر في الحكم بالإسلام، فهل يريد أن هناك حكامًا قد ماتوا على الكفر، وقوله: “والحج فرض على التراخي كما يقال” لغز يحتاج إلى تفسير، وأجدني أستطيع التفسير مع قصور همتي، فلا يفسر ذلك إلا بأنه خلط للأوراق، فيتكلم عن الحج وعدم اعتباره أنه ليس بدليل على الإسلام، وجاء بعد ذلك بذكر: حكامًا ماتوا ولم يحجوا، فيحتمل أن الموت قطع عليهم استكمال إسلامهم أو أنهم ليسوا بمسلمين أصلا وماتوا على كفرهم، وعدم حجهم جاء تبعًا لأنهم كفار ولا يطالبون بالحج، أو لأن الحج على التراخي كما يقال فقصروا فيه أو لم يقصروا فجاء الموت فجأة ولم يحجوا.
أرأيت هذا التداخل العجيب الذي حاولت أن أفسر حدوده، وبان لك عوار قائله، وتخبطه وليس في هذا المقطع فحسب وإنما في كل ما سبق، وتزداد عجبا معي عندما تعلم أن المغالي رتب على ما نفاه من فرائض الإسلام عن الحاكم ما قاله بعد في المقطع الآتي:
المقطع السابع من الإجابة:
ففي هذا المقطع يكشف المغالي عن اقتناعه بأدلته، فيقول: “ماذا بقي إذن من علامات الإسلام؟ وكيف يعرف المسلم من غير المسلم؟ هذا ما لا تجيب عنه المؤسسة طبعًا ولا يهمها أصلا”.
وهذا المقطع يُرَدّ بما يأتي من أمور:
الأمر الأول: هذا كلام مرسل فيه الحكم بعدم الإسلام ظاهرًا وباطنًا، وإذا سلمنا بنفيه ظاهرًا فكيف نسلم بنفيه باطنًا؛ لأن صاحب الإجابة وجه نوايا الحكام ووصفها بالذكاء في الظهور بمظهر المسلمين وعلامتهم، وأشار إلى مجاراة العلماء أو المؤسسة الدينية للحكام وعدم اهتمامهم بتمييز الحاكم المسلم من غير المسلم.
أولا يعلم أولئك أن الحكم بالإسلام يأتي بما يظهر من الحاكم وغيره من شعائر الدين؟ فلمَ المغالطة في عدم الحكم بإسلامه بمجرد ظهورها أو ظهور ما يدل عليها.
الأمر الثاني: لقد تقرر أنه من علامات الإسلام التي تميز المسلم عن غيره ظهور خصائص الإسلام منه والتي لا يتشارك معه فيها أحد من غير المسلمين ومناط هذه الخصائص النطق بالشهادتين، أو الإقرار بهما، لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم : “أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله”(1).
وأخرج الطحاوي في شرح معاني الآثار تحت باب “ما يكون الرجل به مسلمًا” أحاديث، منها حديثان يدلان على أن الإقرار بالشهادتين كاف للحكم بالإسلام:
الحديث الأول: عن المقداد بن عمرو قال: قلت: يا رسول الله أرأيت إن إختلفت أنا ورجل من المشركين ضربتين فضربني فأبان يدي ثم قال: لا إله إلا الله، أقتله أم أتركه؟ قال: “بل أتركه”، قلت: وقد أبان يدي، قال: “نعم، فإن قتلته فأنت مثله قبل أن يقولها، وهو بمنزلتك قبل أن تقتله”. ودلالة الحديث واضحة في أن الإقرار بالشهادتين يحكم بهما بالإسلام على قائلهما ويعصم دمه وماله.
الحديث الثاني: عن النعمان بن عمرو بن أوس أخبره أن أباه أوسًا قال: إنا لقعود عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصفة وهو يقص علينا ويذكرنا إذ أتاه رجل فساره فقال: اذهبوا فاقتلوه فلما ولى الرجل دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: “أما تشهد أن لا إله إلا الله”، فقال الرجل: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اذهبوا فخلوا سبيله فإني أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ثم يحرم دماؤهم وأموالهم إلا بحقها”(2).
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: “إلا بحقها” أي “إلاَّ بحق الدماء والأموال(3) أو إلا بحق لا إله إلا الله” فيما يطبقه الحاكم على قائلها من استيفاء قصاص نفس أو طرف إذا قتل أو قطع، ومن أخذ مال إذا غصب إلى غير ذلك من الحقوق الإسلامية كقتل لنحو زنا محصن، وقطع لنحو سرقة، وتغريم مال لنحو إتلاف مال الغير المحترم، وقوله صلى الله عليه وسلم: “وحسابهم على الله” أي: فيما يسترون من الكفر والمعاصي بعد ذلك (4).
الأمر الثالث: إن أول الأدلة التي ساقها المغالي هو النطق بالشهادتين ولوح أن ذلك غير كاف في الحكم على الحاكم بالإسلام، وأفصح عن ذلك في قوله: “ماذا بقي إذن من علامات الإسلام؟ وكيف يعرف المسلم من غير المسلم؟”، وفي الأمر الثاني من الرد برهنت السنة على قبول الناطق بالشهادتين في جملة المسلمين دون البحث عما في قلبه، وبمجرد النطق بها.
والدليل الأكيد والشافي على ذلك (قبول الشهادتين بمجرد النطق بهما والحكم بالإسلام) أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قبل من المنافقين ما أظهروا من الإسلام مع علمه أنهم أظهروا ذلك خوفًا من السيف، وهذا في أحكام الدنيا، فأما فيما بينه وبين ربه إذا لم يكن يعتقد ما يقول لا يكون مسلمًا(5).
الأمر الرابع: قد اتفقت المذاهب الأربعة على قبول من ينطق بالشهادتين والحكم بإسلامه بمجرد النطق بهما(6)، أو حتى كتابتهما كما عند الحنابلة(7).
الأمر الخامس: أن مناط الحكم بإسلام المرء هو النطق بالشهادتين.
ولم يطالب الناطق بهما بالإقرار بالصلاة والزكاة والصيام؛ لأن الإقرار بهذه الأشياء وإن لم يوجد نصًّا فقد وجد دلالة، لأنه لما أقر بدخوله في الإسلام فقد التزم جميع ما كان شرط صحته(8).
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي: “المعلوم بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل من كل من جاءه يريد الدخول في الإسلام الشهادتين فقط ويعصم دمه بذلك ويجعله مسلمًا، فقد أنكر على أسامة بن زيد قتله لمن قال لا إله إلا الله لما رفع عليه السيف واشتد نكيره عليه، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يشترط على من جاءه يريد الإسلام أن يلتزم الصلاة والزكاة، بل قد روي أنه قَبِل من قوم الإسلام واشترطوا أن لا يزكوا، ففي مسند الإمام أحمد عن جابر رضي الله عنه قال: اشترطت ثقيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا صدقة عليهم ولا جهاد، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: سيتصدقون ويجاهدون”(9).
ومن خلال ما تقدم فإن نطق الحاكم وغيره بالشهادتين هو المعول عليه في معرفة هل هو مسلم أم غير مسلم، ثم يأتي دور شروط صحة الإسلام وهي العمل بمقتضيات الشهادتين واستكمال بناء الإسلام في النفس من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا.
الأمر السادس: إذا تقرر أن النطق بالشهادتين هو المعول عليه في الحكم بالإسلام، فلا معنى لنفي الإسلام عن الحكام وغيرهم مع نطقهم بالشهادتين، ولا معنى للتعميم في التشكيك في إقامتهم للفرائض بنحو ما ورد في الفحوى من كلام المغالي أبو بصير، ولا معنى للزعم أن في نواياهم أو بواطنهم غير ما يظهرون ذلك لأنهم أذكياء في إقناع الشعوب بأنهم مسلمون، فأين قائل هذا الكلام من قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث عمن أقر بالشهادتين: “وحسابهم على الله”؛ إذ المعنى: أن حسابهم على الله فيما يسترون من الكفر إذا أبطنوا وفعلهم المعاصي بعد ذلك؛ أي: بعد إقرارهم بالشهادتين(10)؛ لأن حدوث الكفر المستتر ووقوع المعاصي من أي شخص وارد، ولكن مع هذا لا يحكم عليه بالكفر إلا بالظاهر والصريح من الأفعال كسجود لصنم أو إعلان أنه دان بديانة أخرى غير دين الإسلام.
المقطع السابع من الإجابة:
في هذا المقطع أتى المغالي بألوان مما يعده علامات للكفر، فبعد تعديده لعلامات الإسلام ونفيها عن الحكام جاء بعلامات الكفر التي تدل على عدم إسلامهم، وهي باختصار:
1- التبعية للغرب أو للكفار وموالاتهم.
2- تضييع الأراضي والبلاد وتسليمها للعدو.
3- الاستعانة بالأجنبي وإدخال جيوشه إلى أراضينا.
4- شراء السلاح من العدو وعدم تصنيعه، وعدم خلق الكفاءات المناسبة لهذا العمل.
5- السكوت على ضياع بلاد الإسلام بلدا فَبَلدًا، وعدم النهوض لتحريرها فعلا.
6- عدم تطبيقهم للعدل.
7- عدم التوزيع العادل للثروات.
8- عدم الارتقاء ورفع مستوى الشعوب والثقافة والحضارة.
ويرد على ذلك بأمرين:
الأمر الأول: أين الكفر الصريح الذي يقام عليه الدليل في كل هذا؟ فكل واحد من هذه، إن صح، فلا يعد علامة من علامات الكفر ولا يدل عليه، فدراسة هذه الأمور تبين أنها يغلب عليها التأويلات وتتباين فيها المواقف والآراء، وتتعدد موانع التكفير قطعًا، فضلا عن ظهور علامات الإسلام والتي أعلاها النطق بالشهادتين، والحق الذي لا تأويل فيه ولا اجتهاد أن هذه الأمور، إن صح وقوعها، فإنها لا تعدو إلا اقترافًا لمعصية تلحق باب الصغائر والكبائر من الذنوب لا بباب الكفر.
وهذا يدل على الخلط المنهجي بين الكبيرة والكفر، أو أن المغالي نسب نفسه إلى ما يعتقده الخوارج من تكفير مرتكب الكبيرة، وسيأتي ذكر معتقدهم هذا في موضعه.
الأمر الثاني: لقد سجلنا على المغالي تناقضه سابقًا في قوله: “إنما حذَّرت –أي السنة- من تكفير المسلمين بالذنوب والمعاصي التي هي دون الكفر والشرك، أو تكفيرهم بالظن والمتشابهات، وبما لا يوجب التكفير”.
فقد قيد التكفير المطلق للأعيان الذي نافح عنه، وهو هنا يعاود الخلط والتناقض، فيكفر بالمعاصي والذنوب مع اعترافه بتحذير السنة من ذلك، فيتناقض ويكفر بالمعاصي ويخالف السنة، وينقد نفسه بنفسه، ويعاود الاعوجاج في الفهم كرَّة بعد كرَّة.
خاتمة للردود:
بانَ مما تقدم أن تكفير المعين يعتبر من المسائل الخطيرة في الشريعة الإسلامية والتي تفتقر إلى حجج قوية، والتي من آثارها أيضًا:
1- تفكك المجتمع الواحد وهو خلاف ما جاء في النصوص الشرعية الدالة على الوحدة والتماسك بين أطراف المجتمع أفرادًا وجماعات، إلا أن الغلاة يفهمون الدليل الشرعي بفهم الخاص والمحدود، دون الرجوع إلى القول الصحيح والرأي السديد لعلماء الأمة.
2- إعلان الجهاد داخل المجتمعات الإسلامية، واستباحة الدماء المعصومة، والغلاة هم في ذلك امتداد لفئة من الخوارج وهم (العوفية – والبيهسية) الذين قالوا: إذا كفر الإمام فقد كفرت الرعية الغائب منهم والشاهد(11).
ذكرنا في الجزؤ الأول أربعة مقاطع من الرد المتعلق بما أورده أبو بصيره فيما يتعلق بقضية تكفير الحاكم تعيينا ونكمل في هذا الجزء بقية المقاطع من الإجابة.
المقطع الخامس من الإجابة:
في هذا المقطع تطرق المغالي في إجابته للدليل الثالث على عدم إسلام الحكام فقال: “الزكاة لا وسيلةَ للاطلاع عليها؛ لأن الحاكم أصلا لا يسأل عن أمواله، ولا عن مصادرها ولا عن مصارفها، وليست هناك مؤسسات حكومية في عالمنا الإسلامي لمحاسبة الحاكم على دخله، فلا عجب أن يصبح العسكري يمتلك المليارات ولا أن يمتلك الرقيب السابق أو الملازم في أحسن الأحوال بعد خمس سنوات مثلا أموالا لا تأكلها النيران ففي بلادنا يجوز كل شيء، والحاكم يستطيع حتى أن يأخذ ما يشاء من مال الدولة ويدفعها لمن يشاء، ثم يقول للناس: هذه زكاة أموالي”.
وهذا المقطع يرد بما يأتي:
أن الزكاة أصلا لها شكلها الشرعي وليس من الضروري شرعًا أن يطلع الشعب على زكاة الحاكم؛ فليس هناك نص شرعي يأمر بذلك، فالزكاة فريضة بين العبد وربه. واعجبْ معي من هذا التداخل بين الزكاة والدخل؛ فبعد أن شكك في التزام الحاكم بفريضة الزكاة أتي بالتشكيك في الدخل، فهذا من باب خلط الأوراق وهو منهج غير سديد، ومن باب إيراد الأدلة المصطنعة جزافًا بدون فهم.
المقطع السادس من الإجابة:
في هذا المقطع تطرق المغالي للدليل الرابع المتمثل في التشكيك في التزام الحاكم بفريضة الحج ومعناها بالنسبة له.. فيقول:”الحج أمر شخصي أيضًا وقد يحج الحاكم أو قد تشغله أمور الدولة وهي أهم، أو قد يحج سرًا لأسباب أمنية، المهم أننا لن نستطيع أن نحكم علي إيمانه لمجرد أنه حج أم لم يحج، وهناك الكثيرون ممن ماتوا ولم نسمع أنهم حجوا والأمر متسع هنا، والحج فرض على التراخي كما يقال”.
ويرد هذا المقطع بما يلي من أمور:
الأمر الأول: أن هذا الدليل خلص فيه إلى أن حج الحاكم أو عدم حجه لا يدل على الإيمان، فإن معناه بالنسبة للحاكم لا يعدو إلا أمرًا شخصيًا، وفي هذا التعميم ظلم ظاهر، وإشارة إلى أن الرجل يعلم نوايا الحاكم وهو الأمر الذي نراه من ثنايا كلامه على الشهادتين والصلاة والصيام والزكاة وهنا في الحج، وهذا الأمر مما يعلمه الله عز وجل.
الأمر الثاني: في قوله: “المهم أننا لن نستطيع أن نحكم علي إيمانه لمجرد أنه حج أم لم يحج” إشارة إلى أن فعل الحج أو عدم فعله لا يحكم من خلاله على الحاكم بالإسلام أو الإيمان، ولا أخفيك سرًا أنني تعبت من هذه الأدلة “التفصيل” أو المحاكاة أو المصطنعة، فإن الحج من فروض الإسلام وأعلاها الشهادتان ولا يطالب الناطق بالشهادتين بالاعتراف بما يتبعها من فروض؛ لأن ذلك من باب العمل بمقتضى الشهادتين، وسيأتي مزيد بيان لهذا الموضع قريبا.
الأمر الثالث: في قوله: “وهناك الكثيرون ممن ماتوا ولم نسمع أنهم حجوا والأمر متسع هنا والحج فرض على التراخي كما يقال”، لا أعلم مناسبة ذلك القول في نهاية استدلاله على أن الحج لا يعتبر في الحكم بالإسلام، فهل يريد أن هناك حكامًا قد ماتوا على الكفر، وقوله: “والحج فرض على التراخي كما يقال” لغز يحتاج إلى تفسير، وأجدني أستطيع التفسير مع قصور همتي، فلا يفسر ذلك إلا بأنه خلط للأوراق، فيتكلم عن الحج وعدم اعتباره أنه ليس بدليل على الإسلام، وجاء بعد ذلك بذكر: حكامًا ماتوا ولم يحجوا، فيحتمل أن الموت قطع عليهم استكمال إسلامهم أو أنهم ليسوا بمسلمين أصلا وماتوا على كفرهم، وعدم حجهم جاء تبعًا لأنهم كفار ولا يطالبون بالحج، أو لأن الحج على التراخي كما يقال فقصروا فيه أو لم يقصروا فجاء الموت فجأة ولم يحجوا.
أرأيت هذا التداخل العجيب الذي حاولت أن أفسر حدوده، وبان لك عوار قائله، وتخبطه وليس في هذا المقطع فحسب وإنما في كل ما سبق، وتزداد عجبا معي عندما تعلم أن المغالي رتب على ما نفاه من فرائض الإسلام عن الحاكم ما قاله بعد في المقطع الآتي:
المقطع السابع من الإجابة:
ففي هذا المقطع يكشف المغالي عن اقتناعه بأدلته، فيقول: “ماذا بقي إذن من علامات الإسلام؟ وكيف يعرف المسلم من غير المسلم؟ هذا ما لا تجيب عنه المؤسسة طبعًا ولا يهمها أصلا”.
وهذا المقطع يُرَدّ بما يأتي من أمور:
الأمر الأول: هذا كلام مرسل فيه الحكم بعدم الإسلام ظاهرًا وباطنًا، وإذا سلمنا بنفيه ظاهرًا فكيف نسلم بنفيه باطنًا؛ لأن صاحب الإجابة وجه نوايا الحكام ووصفها بالذكاء في الظهور بمظهر المسلمين وعلامتهم، وأشار إلى مجاراة العلماء أو المؤسسة الدينية للحكام وعدم اهتمامهم بتمييز الحاكم المسلم من غير المسلم.
أولا يعلم أولئك أن الحكم بالإسلام يأتي بما يظهر من الحاكم وغيره من شعائر الدين؟ فلمَ المغالطة في عدم الحكم بإسلامه بمجرد ظهورها أو ظهور ما يدل عليها.
الأمر الثاني: لقد تقرر أنه من علامات الإسلام التي تميز المسلم عن غيره ظهور خصائص الإسلام منه والتي لا يتشارك معه فيها أحد من غير المسلمين ومناط هذه الخصائص النطق بالشهادتين، أو الإقرار بهما، لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم : “أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله”(1).
وأخرج الطحاوي في شرح معاني الآثار تحت باب “ما يكون الرجل به مسلمًا” أحاديث، منها حديثان يدلان على أن الإقرار بالشهادتين كاف للحكم بالإسلام:
الحديث الأول: عن المقداد بن عمرو قال: قلت: يا رسول الله أرأيت إن إختلفت أنا ورجل من المشركين ضربتين فضربني فأبان يدي ثم قال: لا إله إلا الله، أقتله أم أتركه؟ قال: “بل أتركه”، قلت: وقد أبان يدي، قال: “نعم، فإن قتلته فأنت مثله قبل أن يقولها، وهو بمنزلتك قبل أن تقتله”. ودلالة الحديث واضحة في أن الإقرار بالشهادتين يحكم بهما بالإسلام على قائلهما ويعصم دمه وماله.
الحديث الثاني: عن النعمان بن عمرو بن أوس أخبره أن أباه أوسًا قال: إنا لقعود عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصفة وهو يقص علينا ويذكرنا إذ أتاه رجل فساره فقال: اذهبوا فاقتلوه فلما ولى الرجل دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: “أما تشهد أن لا إله إلا الله”، فقال الرجل: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اذهبوا فخلوا سبيله فإني أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ثم يحرم دماؤهم وأموالهم إلا بحقها”(2).
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: “إلا بحقها” أي “إلاَّ بحق الدماء والأموال(3) أو إلا بحق لا إله إلا الله” فيما يطبقه الحاكم على قائلها من استيفاء قصاص نفس أو طرف إذا قتل أو قطع، ومن أخذ مال إذا غصب إلى غير ذلك من الحقوق الإسلامية كقتل لنحو زنا محصن، وقطع لنحو سرقة، وتغريم مال لنحو إتلاف مال الغير المحترم، وقوله صلى الله عليه وسلم: “وحسابهم على الله” أي: فيما يسترون من الكفر والمعاصي بعد ذلك (4).
الأمر الثالث: إن أول الأدلة التي ساقها المغالي هو النطق بالشهادتين ولوح أن ذلك غير كاف في الحكم على الحاكم بالإسلام، وأفصح عن ذلك في قوله: “ماذا بقي إذن من علامات الإسلام؟ وكيف يعرف المسلم من غير المسلم؟”، وفي الأمر الثاني من الرد برهنت السنة على قبول الناطق بالشهادتين في جملة المسلمين دون البحث عما في قلبه، وبمجرد النطق بها.
والدليل الأكيد والشافي على ذلك (قبول الشهادتين بمجرد النطق بهما والحكم بالإسلام) أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قبل من المنافقين ما أظهروا من الإسلام مع علمه أنهم أظهروا ذلك خوفًا من السيف، وهذا في أحكام الدنيا، فأما فيما بينه وبين ربه إذا لم يكن يعتقد ما يقول لا يكون مسلمًا(5).
الأمر الرابع: قد اتفقت المذاهب الأربعة على قبول من ينطق بالشهادتين والحكم بإسلامه بمجرد النطق بهما(6)، أو حتى كتابتهما كما عند الحنابلة(7).
الأمر الخامس: أن مناط الحكم بإسلام المرء هو النطق بالشهادتين.
ولم يطالب الناطق بهما بالإقرار بالصلاة والزكاة والصيام؛ لأن الإقرار بهذه الأشياء وإن لم يوجد نصًّا فقد وجد دلالة، لأنه لما أقر بدخوله في الإسلام فقد التزم جميع ما كان شرط صحته(8).
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي: “المعلوم بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل من كل من جاءه يريد الدخول في الإسلام الشهادتين فقط ويعصم دمه بذلك ويجعله مسلمًا، فقد أنكر على أسامة بن زيد قتله لمن قال لا إله إلا الله لما رفع عليه السيف واشتد نكيره عليه، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يشترط على من جاءه يريد الإسلام أن يلتزم الصلاة والزكاة، بل قد روي أنه قَبِل من قوم الإسلام واشترطوا أن لا يزكوا، ففي مسند الإمام أحمد عن جابر رضي الله عنه قال: اشترطت ثقيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا صدقة عليهم ولا جهاد، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: سيتصدقون ويجاهدون”(9).
ومن خلال ما تقدم فإن نطق الحاكم وغيره بالشهادتين هو المعول عليه في معرفة هل هو مسلم أم غير مسلم، ثم يأتي دور شروط صحة الإسلام وهي العمل بمقتضيات الشهادتين واستكمال بناء الإسلام في النفس من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا.
الأمر السادس: إذا تقرر أن النطق بالشهادتين هو المعول عليه في الحكم بالإسلام، فلا معنى لنفي الإسلام عن الحكام وغيرهم مع نطقهم بالشهادتين، ولا معنى للتعميم في التشكيك في إقامتهم للفرائض بنحو ما ورد في الفحوى من كلام المغالي أبو بصير، ولا معنى للزعم أن في نواياهم أو بواطنهم غير ما يظهرون ذلك لأنهم أذكياء في إقناع الشعوب بأنهم مسلمون، فأين قائل هذا الكلام من قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث عمن أقر بالشهادتين: “وحسابهم على الله”؛ إذ المعنى: أن حسابهم على الله فيما يسترون من الكفر إذا أبطنوا وفعلهم المعاصي بعد ذلك؛ أي: بعد إقرارهم بالشهادتين(10)؛ لأن حدوث الكفر المستتر ووقوع المعاصي من أي شخص وارد، ولكن مع هذا لا يحكم عليه بالكفر إلا بالظاهر والصريح من الأفعال كسجود لصنم أو إعلان أنه دان بديانة أخرى غير دين الإسلام.
المقطع السابع من الإجابة:
في هذا المقطع أتى المغالي بألوان مما يعده علامات للكفر، فبعد تعديده لعلامات الإسلام ونفيها عن الحكام جاء بعلامات الكفر التي تدل على عدم إسلامهم، وهي باختصار:
1- التبعية للغرب أو للكفار وموالاتهم.
2- تضييع الأراضي والبلاد وتسليمها للعدو.
3- الاستعانة بالأجنبي وإدخال جيوشه إلى أراضينا.
4- شراء السلاح من العدو وعدم تصنيعه، وعدم خلق الكفاءات المناسبة لهذا العمل.
5- السكوت على ضياع بلاد الإسلام بلدا فَبَلدًا، وعدم النهوض لتحريرها فعلا.
6- عدم تطبيقهم للعدل.
7- عدم التوزيع العادل للثروات.
8- عدم الارتقاء ورفع مستوى الشعوب والثقافة والحضارة.
ويرد على ذلك بأمرين:
الأمر الأول: أين الكفر الصريح الذي يقام عليه الدليل في كل هذا؟ فكل واحد من هذه، إن صح، فلا يعد علامة من علامات الكفر ولا يدل عليه، فدراسة هذه الأمور تبين أنها يغلب عليها التأويلات وتتباين فيها المواقف والآراء، وتتعدد موانع التكفير قطعًا، فضلا عن ظهور علامات الإسلام والتي أعلاها النطق بالشهادتين، والحق الذي لا تأويل فيه ولا اجتهاد أن هذه الأمور، إن صح وقوعها، فإنها لا تعدو إلا اقترافًا لمعصية تلحق باب الصغائر والكبائر من الذنوب لا بباب الكفر.
وهذا يدل على الخلط المنهجي بين الكبيرة والكفر، أو أن المغالي نسب نفسه إلى ما يعتقده الخوارج من تكفير مرتكب الكبيرة، وسيأتي ذكر معتقدهم هذا في موضعه.
الأمر الثاني: لقد سجلنا على المغالي تناقضه سابقًا في قوله: “إنما حذَّرت –أي السنة- من تكفير المسلمين بالذنوب والمعاصي التي هي دون الكفر والشرك، أو تكفيرهم بالظن والمتشابهات، وبما لا يوجب التكفير”.
فقد قيد التكفير المطلق للأعيان الذي نافح عنه، وهو هنا يعاود الخلط والتناقض، فيكفر بالمعاصي والذنوب مع اعترافه بتحذير السنة من ذلك، فيتناقض ويكفر بالمعاصي ويخالف السنة، وينقد نفسه بنفسه، ويعاود الاعوجاج في الفهم كرَّة بعد كرَّة.
خاتمة للردود:
بانَ مما تقدم أن تكفير المعين يعتبر من المسائل الخطيرة في الشريعة الإسلامية والتي تفتقر إلى حجج قوية، والتي من آثارها أيضًا:
1- تفكك المجتمع الواحد وهو خلاف ما جاء في النصوص الشرعية الدالة على الوحدة والتماسك بين أطراف المجتمع أفرادًا وجماعات، إلا أن الغلاة يفهمون الدليل الشرعي بفهم الخاص والمحدود، دون الرجوع إلى القول الصحيح والرأي السديد لعلماء الأمة.
2- إعلان الجهاد داخل المجتمعات الإسلامية، واستباحة الدماء المعصومة، والغلاة هم في ذلك امتداد لفئة من الخوارج وهم (العوفية – والبيهسية) الذين قالوا: إذا كفر الإمام فقد كفرت الرعية الغائب منهم والشاهد(11).
————
الهوامش
(1) أخرجه أحمد (2/502، رقم: 10525)، والبخاري (2/507، رقم: 1335)، ومسلم (1/52، رقم: 21)، وأبو داود (3/44، رقم: 2640)، والترمذي (5/3، رقم: 2606) وقال: حسن صحيح. والنسائي (7/77، رقم: 3971)، وابن ماجه (2/1295، رقم: 3927). حديث أنس: أخرجه تمام (1/225، رقم: 539) عن أبي هريرة.
(2) انظر: شرح معاني الآثار: (3/213).
(3) انظر: عمدة القاري: (4/127).
(4) انظر: عمدة القاري (4/127)، وتحفة الأحوذي (7/281).
(5) انظر: المبسوط للسرخسي (24/84).
(6) انظر: البحر الرائق (5/80)، والمبسوط للسرخسي (24/84)، والشرح الكبير (1/326)، وبلغة السالك (4/224)، وحواشي الشرواني (9/97)، وحاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج (2/105)، والروض المربع (3/343)، والكافي في فقه ابن حنبل (4/160).
(7) انظر: الإنصاف للمرداوي: (10/337).
(8) انظر: البحر الرائق: (5/80).
(9) انظر: جامع العلوم والحكم (1/84).
(10) انظر: عمدة القاري (4/127)، وتحفة الأحوذي (7/281).
(11) انظر: الملل والنحل (1/126)، والمواقف (3/692)، ومقالات الإسلاميين (1/115).
(1) أخرجه أحمد (2/502، رقم: 10525)، والبخاري (2/507، رقم: 1335)، ومسلم (1/52، رقم: 21)، وأبو داود (3/44، رقم: 2640)، والترمذي (5/3، رقم: 2606) وقال: حسن صحيح. والنسائي (7/77، رقم: 3971)، وابن ماجه (2/1295، رقم: 3927). حديث أنس: أخرجه تمام (1/225، رقم: 539) عن أبي هريرة.
(2) انظر: شرح معاني الآثار: (3/213).
(3) انظر: عمدة القاري: (4/127).
(4) انظر: عمدة القاري (4/127)، وتحفة الأحوذي (7/281).
(5) انظر: المبسوط للسرخسي (24/84).
(6) انظر: البحر الرائق (5/80)، والمبسوط للسرخسي (24/84)، والشرح الكبير (1/326)، وبلغة السالك (4/224)، وحواشي الشرواني (9/97)، وحاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج (2/105)، والروض المربع (3/343)، والكافي في فقه ابن حنبل (4/160).
(7) انظر: الإنصاف للمرداوي: (10/337).
(8) انظر: البحر الرائق: (5/80).
(9) انظر: جامع العلوم والحكم (1/84).
(10) انظر: عمدة القاري (4/127)، وتحفة الأحوذي (7/281).
(11) انظر: الملل والنحل (1/126)، والمواقف (3/692)، ومقالات الإسلاميين (1/115).
رابط الموضوع : http://www.assakina.com/shobhat/12966.html#ixzz2vSuNErYS
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق