(إذا جاءَ نصرُ الله والفتح)
الحمد لله وبعد، فإن النصر للإسلام مهما انتهت إليه ظنونُ الناس، وحقيقةُ النصر هي تديّن الناس بالإسلام واعتناقهم إيّاه ودخولهم في حوزته، وثباتُ أهله عليه، فثبات المؤمنين على الدين هو حقيقةُ نصرِ الدين، أما ملكُهُ للآفاق فليست كنصرِهِ في النفوس، وإن كنّا -بحمد الله -قد وُعدنا بهذا وهذا.
إنَ من المهمات في هذا العصر نشرُ التفاؤلِ بنصر الإسلام، والاستبشارُ بمستقبله، وحسنُ الظن بالله تعالى فيه، وبعظيم حكمته في أقداره، وحسنِ عاقبته للمؤمنين. فهو الذي وعد نبيَّه بعلوِّ دينه ونصر جنده وعزِّ شريعته مهما تكالبت عليها سباع الكفرة وضباع المنافقين. والتفاؤلُ بجمال المستقبل ليس ضعفًا إذا كان ناشئًا عن حسن الظن بالله تعالى وليس عن خوَر وعجزٍ وكسل، فاستفرغ جهدك في نصر دين الله ما استطعت لذلك سبيلا، وأحسن الظن بجميل تدبيره. واعلم أنّ الفرقانُ بين التفاؤل والأماني هو الجديةُ والعمل، فالأملُ محتاج لعمل. وأعظمُ الجدّيةِ هي الجديّةُ في الاستقامة على الإسلام، فدعوةٌ بلا استقامة؛ لا عمود لها ولا ثبات ولا صدقيّة، وإن أردتَ امتحان جدية رجلٍ في الاستقامة؛ فارقُب تبكيره لشهود صلاة الجمعة، ألا ما أقلّهم وأكْرِم بقليلهم.
وقد يُظنُّ جهلًا بالمتفائلِ سذاجةً لقوّة تفاؤله، ولكن حقيقتُه حسن الظن بربّه ومعرفتُه بسنن الله في خلقه. فلا تخذُل نفسك بالقلق، بل أسعفها بالتفاؤل. ومهما كبَسَت على صدرك جيوشُ الهموم وتراكمت على روحك أرتالُ الغموم؛ فثمّ نورٌ في الروح، إنّه حسن الرجاء بالله تعالى. ومهما بلغ حجم جليد الكذب يومًا؛ فشمسُ الزمان كفيلةٌ بإذابته، حينها سيحصحصُ الحقُّ. ومع تتابع الفواجع الدامية في جسد الأمة؛ تبقى هناك ألطافٌ مدهشة غيرُ متوقعةٍ، ليس لها تفسير سوى لطفِ اللهِ المحض، (إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم).
إن من تأمل أحوال الأمة يرى تكالب الأعداء عليها واستضعافهم لها وتنكيلهم بها ولكن هذه سنة الله تعالى في المداولة والمدافعة وله في ذلك الحكم الباهرة التي تتقاصر دون فهم تفاصيلها العقول، فعلى المؤمن أن يثق كل الثقة ويوقن كل اليقين بأنّ الله ولي الصالحين، وأنّه إن رضيَ عنه؛ فلا عليه ما فاته من غيره، فالخيرُ بحذافيره في مراضيه، والنعماءُ بكمالها بين يديه، وقد وعد – ووعده الحق – أنّ العاقبة للمتقين.
والحقُّ منصورٌ ومُمتَحنٌ فلا ... تعجب فهذي سنةُ الرحمنِ
وتدبر قول الله تعالى: (وما النصر إلا من عند الله) وقد ذكر الله هذا الحرف في آل عمران وكرره في الأنفال مختتما إياه في الموضعين بذكر اسميه الجليلين (العزيز الحكيم) فهو العزيز القوي الغالب، وهو الحكيم الذي يضع الأمور في مواضعها اللائقة وله الحُكمُ والحكمة، ولا نصر على الإطلاق إلا من الله وحده، فكلما احتجت لنصر – وأنت على الدوام كذلك – فردّد بقلبك: (وما النصر إلا من عند الله) فلن تنتصر على نفسك أو على غيرك من الإنس والجن وغيرهم إلا بحبل الله الناصر، فنصره حقيقي تام، ونصر غيره هباء فانٍ، فتعلّق به وحده واعبده حق العبادة.
لقد وعدنا الله بالنصر إن نصرنا دينه، وبالعز أن اعتصمنا به دون سواه، وبالتمكين إن مكّنّا عبادته في القلوب والأعمال، قال تعالى: (ولينصرن الله من ينصره) وقال سبحانه: (كتب الله لأغلبن أنا ورسلي) وقال جل وعز: (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون) ولا يكفي الصبرُ لإدراك النصر، بل لا بد أن يُقرن بالتقوى (وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئًا).
وأبشر أخا الإسلام ببشرى الله: (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين * ونمكن لهم في الأرض) فالعاقبة للتقوى.
وبحمد الله فمهما صلصل الباطل وجلجل فهو إلى تباب، ويبقى الحق شامخًا راسخًا، وتدبّر أمر أهل الباطل حين: (سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم) ثم كانت النهاية بأيسر طريق: (وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون) إنها سُنَّةُ الصراع بين الحق والباطل ونهايته: (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق) (وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا).
جيشٌ من الكفر مهزومٌ إذا صَدَقَتْ ... نيّاتُ قومي إلى أعلى أعاليها
وافرح – أخا الإيمان -ببشارة نبي الإسلام بنصر الله للإسلام، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله زوى لي الأرضَ فرأيتُ مشارقها ومغاربها، وإنّ أمتي سيبلغ ملكها ما زُوي لي منها". وقال أيضًا: "ليبلغنّ هذا الأمرُ ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك اللهُ بيتَ مَدَرٍ ولا وَبَرٍ إلا أدخله الله هذا الدين، بعزِّ عزيزٍ أو بذلّ ذليل، عزًّا يعز الله به الإسلام وأهله، وذلًّا يذل به الكفر".
وتأمل حال الأمة اليوم، واعلم أنّ أحاديث آخر الزمان في الفتن جُلّها في العراق، والملاحم جُلّها في الشام، حتى طريق الدجال للحجاز يكون من بينهما، نعوذ بالله من مضلات الفتن، ونسأله جبرَ القلوب بعزّة الإسلام في قلوب أهله وميادينِ الجهاد في سبيله. وقال الحسن البصري رحمه الله: "لكلّ طريقٍ مختصرًا، ومختصرُ طريقِ الجنةِ الجهادُ". فالنصر للإسلام مهما طال الزمان، ولكل زمانٍ رجالُه.
خَلقَ اللهُ للحروبِ رجالًا ... ورجالًا لقَصعةٍ وثَرِيدِ
ولا تكن –لك الله -من المُرجفين ولا البكّائين المتشائمين، وفي الصحيح: "إذا قال الرجل: هَلَكَ الناسُ، فهو أهلكُهُم". والإسلام يعلو ولا يُعلى عليه، واعلم أنّ نصرَ المؤمن وفوزَه لا يلزم منه كسبُ الحرب العسكرية، بل يكفي منه ثبات الناس على الإسلام والإيمان والفضيلة، وهذا معنًى حَسَنٌ تِكرَارُه في المجامعِ والخَلوات، فمن ثَبَتَ على دينه فهو المنتصر حقًّا مهما كان حال دنياه. فالعبرةُ الحقّ إنما هي بالدين الحق، أما الدنيا فمجرد مَمَرٍّ للسائرين. ورضوانُ الله عز وجلّ أصلُ جميع السعادات، وكلّها راجعة إليه، قال سبحانه لمّا ذكر نعيم الجنة: (ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم).
وتذكّر دومًا تمام النعمة بالإسلام. قال ربنا عز وجل ممتنًّا: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا) وتدبر قوله: (رضيت لكم الإسلام) وهذه أعظم نعمة في الوجود أن هدانا للإسلام ورضيه لنا للوصول إلى مرضاته، قال ابن عباس رضي الله عنهما: "أكملَ لهم الدين فلا يحتاجون إلى زيادة أبدًا، وأتمّه فلا ينقصه أبدًا، ورضيه فلا يسخطه أبدًا".
فتذكر دومًا نعمة هداية الله لك بالإسلام (أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألباب). وتفكّر كثيرًا كيف تمّمَ الله عليك النعمة في نفسك، وأراكَ العِبرة في غيرك، فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق.
فلتكن – رعاك الله -من أصحاب المبادئ لا من أصحاب المصالح، واعلم أنّ المصالحَ تتدثرُ أحيانًا بثياب المبادئ، فتجمعُ ضِغْثًا على إبالة، وحَشَفًا وسُوءَ كَيْلَة. فإنْ يومًا ضعُفَتْ نفسُك وحارَ عقلُك وتحرّك يقينك وتزعزع جأشك؛ فتدبرْ خاتمة الصافات، وفيها يقول ربنا الأعلى: (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين (171) إنهم لهم المنصورون (172) وإن جندنا لهم الغالبون (173) فتول عنهم حتى حين (174) وأبصرهم فسوف يبصرون (175) أفبعذابنا يستعجلون (176) فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين (177) وتول عنهم حتى حين (178) وأبصر فسوف يبصرون (179)سبحان ربك رب العزة عما يصفون (180) وسلام على المرسلين (181) والحمد لله رب العالمين).
لقد جعل الله تعالى معدَنَ الإسلامِ محفوظًا، فهو غير قابل للتغيير والنّحت والتبديل، قد يتغيّر بعض معتنقيه لكنّ حقيقته باقية محفوظة في صدور وسطور من شاء الله تعالى الله من عباده الذين حفظه بهم وحفظهم به. ومهما اشتدت ضراوة الحرب على الإسلام والتنكيل بأهله، ومهما علت قمم المكر به وكيده، إلا أنّ خصومَهُ يعودون منه بأحمالِ الخيبة، ذلك أنه كاملٌ في ذاته، عَصيٌّ على السقوط بكامله، حتى وإن تعثّر أهلُه لجهلٍ أو ضعفِ عزيمة أو ساعةِ خطيئة، لكنهم في الحقيقة يَعلُون به ولا يُعلى عليهم بغيره.
وأبشر أخا الإيمانِ فالفتحُ قادمٌ ... وإنْ أجلبَ الشيطانُ كلَّ النَّوَاديا
وليس على الأرض من جميع الأديان والثقافات خصمٌ ثقافي حضاري أخلاقي يقارب الإسلام، لذلك فلا نستغرب توحيدَ الهجمات المتتابعة عليه، قال تبارك وتعالى: (والله متم نوره) فدين الله نور يكتسح ظلام الجاهليات ويُبدِّدُ ظُلُمَ الشياطين ويهدي للحق المبين (ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير)، وقال سبحانه: (ليُظهره على الدين كله ولو كره المشركون) وتدبر معنى الظهورِ المتضمنِ للعلوِّ والقهرِ والغلبة والوضوح.
وقال الله تعالى في وصف أثر الإسلام على ظلمات الجهل والظلم والكفر: (يخرجهم من الظلمات إلى النور) فظلماتُهم كثيرةٌ، وسوادُها كثيفٌ، لكن الإسلام شمسٌ تسطعُ فتنير الأرجاءَ، وتضيء الأنحاءَ، وتُذيب أقنعة شمع الأعداء، قال المصباح المنير والبشير النذير صلوات الله وسلامه وبركاته عليه وآله: "لنْ يشادَّ الدينَ أحدٌ إلّا غَلَبَهُ". وفي طلعةِ البدرِ ما يُغنيك عن زُحلِ.
لئِنْ عَزّ ديني واستُبيحَتْ جوارحي ... فأينَ مقامُ العزِّ إلا مقامِيا
إبراهيم الدميجي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق