الثلاثاء، 13 أغسطس 2019

زيغةُ الحكيم


زيغةُ الحكيم
الحمد لله، وبعد: فإن حاجة الناس للعلماء ضرورة كضرورة المريض للعافية والمسافرِ للنجم الهادي، وسئل أهل مكة: كيف كان عطاء فيكم؟ فقالوا: كان مثلَ العافية، لا نعرف فضلها حتى تُفْقَد.
ألا وإنّ كثيرًا من النزاع بين المسلمين والخصوماتِ والبغيِ والفُرقة قد حدث حين تجاوز العلماءَ من ليس منهم، وأسقطهم من لم يعرف قدرهم.
ولقد تنبّه علماءُ الأمة لهذا الخطر المستشير والخطل المستطير، فصدحوا بحرمة ذلك السبيل وخطر ذلك المهيع، وأنّ من كان همُّه تسقّط عثرات إخوانه واصطياد زلاتهم وتكبير عيوبهم وستر حسناتهم وطعن نيّاتهم والتأليب عليهم فهو ضالٌّ ظالم، وأنّ الفرضَ حفظ قدر العالِم مع عدم متابعته إن أخطأ. فأصدروا وكرروا بيانات وفتاوى ووصايا، وفيهم كفاية ومَقنعٌ بحمد الله لمن أراد برْدَ السكينة في صدره، أما الهاوي فلا يرده عن هواه انتطاح القَمَرَين أمامه! ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله، والله تعالى لا يُتَقرّبُ إليه بمعصيته، والسعيدُ من عُوفي. ومهلًا يا زارع الريح لتحصدنّ الزوبعة!
  لقد صاح العلماءُ فيمن خاف الوعيد من الاسترسال في ذلك وأنه منحدرٌ زلق، نهايتُه النزاع والفشل وذهاب الريح في الدنيا، ثم قبض الريح صفرًا من حسناتٍ رجاها أهلُوها غدًا ولكن لم ينالوها، لأنها لم تكُ حسناتٍ أصلًا، أو لأنها قد اقْتُصّتْ منهم في ديوان المظالم، وعساها أن تكفي عن مراكمة خطايا العباد على الظهر الظالمِ لهم في الدنيا.. رحماك ربي. (ليحملوا أوزارهم وأوزارًا مع أوزارهم) وعند مسلم (1) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أتدرون من المفلس؟" قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: "إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يُقضى ما عليه؛ أُخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار".
إن العالِم بشرٌ مُعَرّضٌ للخطأ في فتواه، سواء من جهة عدم إدراك الصواب والتحرير أو من جهة طريقة البيان والتقرير، أو حتى من جهة النيّة والتجريد، فيطير بذلك أهلُ الشهوات والشبهات، فينشرون خطأ الفقيه، ويُطلقون ما قيّدَه، ويُعمّمون ما خصّصه، ويقيسون على فتواهُ ما ليس منها، إذّ همُّهم شهواتُهم لا هداياتُهم، وزلَّة العالِم زلّةُ العالَم ومضروب لها الطبل، نعوذ بالله من فتنة القول والعمل.
إن حَمَلة العلم يصِلُون ما أمر الله به أن يوصل، ويحفظون أقدار أولي الفضل والعلم والسابقة، ولا يعرف الفضلَ لأولي الفضلِ سوى أهلِ الفضل. والعاِلمُ العامل في المحلِّ رحمةٌ من الله وبركة على أهله تمشي على قدمين، قال يوسف بن أسباط: كان أبي قدريًّا، وأخْوالي روافض، فأنقذني الله بسفيان. وتأمل جميل ثناء ابن القيم عن شيخه ابن تيمية لمّا كان سببًا -بإذن الله -للأخذ بيد ابن القيم للسنة المحضة. والموفّقون هم من يحفظون قدر العالِم حتى وإن تعثّر ببعض البدع أو الأخطاء أو الاجتهادات التي لا تُخرجه من أصول أهل السنة الكليّة.
 قال سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى: "ليس من شريفٍ ولا عالمٍ ولا ذي فضلٍ إلا وفيه عيب. ولكن من الناس من لا ينبغي أن تُذكر عيوبُه، ومن كان فضلُهُ أكثر من نقصه؛ وُهِبَ نقصُهُ لفضله". (2) وقال الحافظ الذهبي رحمه الله: "ولو أن كلّ من أخطأ في اجتهاده مع صحة إيمانه وتوخّيه لاتّباع الحق أهدرناه وبدّعناه؛ لقلّ من يسلم معنا من الأئمة". (3) وقال: "ليس من شرط العالم ألا يُخطئ" (4) إلا ما أجمل الإنصاف وأعزَّه وأروَعه وأوْرَعه!
وثمّة خيط رفيع بين تقديرِ العلماء وتقديسِهم، فالأولُ واجب محمود والثاني ممنوع. وبعض الناس فرّ من الثانية فألحق بها الأولى، وهذا خطأ، فالعلم رَفَعَهُم.
وكيف لا يكون ذلك لهم وهم مِلْحُ الناس وزينةُ الأرض وحَلَى الدنيا، وهم نجومٌ لا يضل معها الساري، ومنهلٌ يرتوي منه الصّادي، ولا تزال قلوب العابدين بعلومهم معمورة، وصدورهم من وصاياهم مأهولة. والعلماءُ هم شُهب الله على المبطلين، ورجومُه على رؤوس المجرمين، وعلى امتداد تاريخ الأمة المجيد نجد أن الأمة قد مَرّت بمنعطفات صعبةٍ للغاية، وكان فضلُ توجيهِها بعد الله على أيدي حفظوا الأمانة فحفظتهم، اللهم أكثر مخلصيهم وأقوياءهم وزهادهم إله الحق.
ولنأخذ مثالين على بَرَكَةِ العالم وحسنِ أثره في الناس، وعظيم صبره وجميل إنصافه، ورِفْقِهِ في الحِجَاج مع قوّة البرهان وشدّة الإلزام، وهما خبرَ ابنِ عباس وخبرَ جابرِ بنِ عبد الله رضي الله عنهم، وكلاهما مع أشدّ الناس في الخصومة، وهم الخوارج.
ففي خَبرِ ابن عباس رضي الله عنهما مع أهل النهروان: قال ابن عباس رضي الله عنهما: "إنّه لما اعتزلت الخوارجُ دخلوا دارًا وهم ستة آلاف، وأجمعوا أن يخرجوا على علي بن أبي طالب وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم معه. قال: وكان لا يزال يجيء إنسان فيقول: يا أمير المؤمنين، إن القوم خارجون عليك -يعني عليًّا -فيقول: دعوهم، فإنّي لا أقاتلهم حتى يقاتلوني، وسوف يفعلون. فلما كان ذات يوم، أتيتُه قبل صلاة الظهر فقلت له: يا أمير المؤمنين، أبرِدْنَا بالصلاة، (5) لعلي أدخل على هؤلاء القوم فأكلمهم. فقال: إني أخافهم عليك (6) فقلت: كلّا، وكنتُ رجلًا حَسَنَ الخُلُقِ لا أوذي أحدًا، فأَذِنَ لي.
 فلبستُ حُلّةً من أحسن ما يكون من اليمن، وترجّلت، (7) ودخلتُ عليهم نصف النهار، فدخلتُ على قومٍ لم أر قومًا قطّ أشدَّ منهم اجتهادًا، جِباهُهم قَرَحَتْ من السجود، وأيديهم كأنّها ثَفِنُ الأبل، (8) وعليهم قُمُصٌ مُرَحضَة، (9) مشمّرين، مُسَهَّمَةً وجوهُهم (10) من السهر، فسلّمتُ عليهم، فقالوا: مرحبًا يا ابن عباس، ما جاءَ بك؟
 قال: قلت: أتيتكم من عندِ المهاجرين والأنصار، ومن عندِ صِهْر رسولِ الله صلى الله عليه وسلم عليٌّ، وعليهم نزل القرآن، وهم أعلمُ بتأويله. فقالت طائفة منهم: لا تُخاصموا قريشًا فإن الله قال: (بل هم قوم خَصِمُون) فقال اثنان أو ثلاثة: لنُكَلِّمنّه.
فقلت لهم: تُرى ما نَقَمتُم على صهرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمهاجرين والأنصار، وعليهم نزل القرآنُ، وليس فيكم منهم أحد، وهم أعلم بتأويله منكم؟ قالوا: ثلاثًا. (11) قلت: ماذا؟ قالوا: أمّا إحداهُن: فإنّه حَكّم الرجال في أمر الله عز وجل، وقد قال الله عز وجل: (إنِ الحُكْمُ إلا لله) فما شأنُ الرجال والحكم بعد قول الله عز وجل؟ فقلت: هذه واحدة، وماذا؟ قالوا: وأما الثانية: فإنه قاتل ولم يَسْبِ ولم يَغْنَم، فلئن كانوا مؤمنين ما حَلّ لنا قتالُهم وسِباهم. قلت: وماذا الثالثة؟ قالوا: إنهَ مَحَا نفسه من أمير المؤمنين، إن لم يكن أميرَ المؤمنين، فإنه لَأَميرُ الكافرين. قلت: هل عندكم غير هذا؟ قالوا: كفانا هذا.
 قلت لهم: أما قولكم: حَكّم الرجال في أمر الله عز وجل، أنا أقرأ عليكم في كتاب الله عز وجل ما ينقض قولَكم، أفترجعون؟ (12) قالوا: نعم. قلت: فإن الله عز وجل قد صَيَّر من حكمِهِ إلى الرجال في رُبعِ درهمٍ ثمن أرنب، وتلا هذه الآية: (لا تَقْتُلوا الصيد وأنتم حُرُمٌ) إلى آخر الآية. وفي المرأة وزوجِها: (وإن خفتم شقاقَ بينِهِما فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها) إلى آخر الآية. فنشدتُكم بالله، هل تعلمون حُكْمَ الرجال في إصلاح ذاتِ بينهم، وحقن دمائهم، أفضلَ، أم حكمَهم في أرنبٍ وبُضْعِ امرأة؟ فأيّهما ترون أفضل؟ قالوا: بل هذه. قال: خرجتُ من هذه؟ قالوا: نعم. (13)
 قلت: وأما قولُكم: قاتَلَ ولم يسْبِ ولم يغنم، فتَسْبُونَ أمَّكم عائشة؟ فوالله لئن قلتم: ليست بأمِّنا، لقد خرجتم من الإسلام، ووالله لئن قلتم: نَسبيها نستحلُّ منها ما نستحل من غيرها، لقد خرجتم من الإسلام، فأنتم بين الضلالتين، إن الله عز وجل قال: (النبي أوْلى بالمؤمنين من أنفُسِهِم وأزواجُهُ أمهاتُهم) فإن قلتم: ليستْ بأمّنا، لقد خرجتم من الإسلام، أخرَجتُ من هذه؟ قالوا: نعم.
 وأما قولكم: مَحَا نفسه من أمير المؤمنين، فأنا آتيكم بمن ترضون: يوم الحديبية، كاتبَ المشركين أبا سفيان بن حرب وسهيلَ بنَ عمرو، فقال: "يا عليّ، اكتب: هذا ما اصطلح عليه محمدٌ رسولُ الله"، فقال المشركون: والله لو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهمَ إنك تعلمُ أني رسولُك، امْحُ يا علي، اكتب: هذا ما كاتب عليه محمد بن عبد الله"، فوالله لرسولُ الله صلى الله عليه وسلم خيرٌ من عليٍّ، فقد محا نفسه. قال: فرجع منهم ألفان، وخرج سائرُهم فقُتلوا". (14) وقد وقع عند عبد الرزاقِ والطبراني أن عدد الحرورية حين خرجوا كان أربعةً وعشرين ألفًا، رجع منهم بعد مناظرة ابن عباس عشرون ألفًا، وبقي أربعة آلاف، فقتلوا، والله أعلم.
أما خبرُ جابر بنِ عبد الله رضي الله عنهما فقد حدّث به يزيدُ بن صهيب الفقير، قال: "كنت قد شَغَفَنِي (15) رأيٌ من رأي الخوارج. فخرجنا في عِصَابةٍ ذوي عدد، نريد أن نحجّ ثم نخرجُ على الناس. (16) قال: فمررنا على المدينة، فإذا جابر بن عبد الله جالسٌ إلى سارية يُحدِّثُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا هو قد ذكر الجَهَنَّمِيِّين، (17) فقلت: يا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم (18) ما هذا الذي تحدثوننا؟ والله يقول: (ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته) و(كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها) فما هذا الذي تقولون؟
 قال: أتقرأُ القرآن؟ قلت: نعم، قال: فاقرأ ما قبله، (19) إنه في الكفار، ثم قال: فهل سمعتَ بمقام محمدٍ الذي يبعثُهُ الله فيه؟ (20) قلت: نعم، قال: فإنّه مقام محمد صلى الله عليه وسلم المحمودُ الذي يُخرج الله به من يُخرج، قال: ثم نَعَتَ وضعَ الصراط، ومرَّ الناس عليه، قال: وأخافُ ألا أكون أحفظ ذاك، (21) قال: غير أنه قد زعم أن قومًا يخرجون من النار بعد أن يكونوا فيها، (22) قال: فيخرجون كأنهم عيدان السماسم، (23) قال: فيدخلون نهرًا من أنهار الجنة، فيغتسلون فيه، فيخرجون كأنهم القراطيس، فرجعنا، قلنا: ويحَكُمْ، أترون هذا الشيخ يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فرجعنا، فلا والله ما خرج غير رجل واحد، أو كما قال". (24) ولحديث الشفاعة العظمى روايات أوفى في الصحيحين وغيرهما.
ومن كان لهم مقام في الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله ونحو ذلك من مقامات الإسلام فإن إقالة عثرته متأكدة في حقه أبلغ من غيره، مع عدم متابعته فيها، فحفظُ السابقة من هدي السلف. قال ابن القيم رحمه الله: "ومن له علم بالشرع والواقع يعلم قطعًا أن الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدمٌ صالحٌ وآثار حسنةٌ، وهو من الإسلام وأهله بمكانٍ، قد تكون منه الهفوة والزلَّة، هو فيها معذورٌ بل مأجورٌ لاجتهاده، فلا يجوز أن يُتبع فيها، ولا يجوز أن تُهدر مكانته وإمامتُهُ في قلوب المسلمين". (25) وتأمل ما روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود". (26)
وللهِ مُعاذٌ ما افقهه! فعن يزيد بن عميرة عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: "تكون فتنةٌ يكثر فيها المال، ويُفتح فيها القرآن حتى يقرأَهُ المؤمنُ والمنافق والصغير والكبير والرجل والمرأة، يقرأه الرجل سرًّا فلا يُتبَعُ عليها، فيقول: والله لأقرأنّه علانية، ثم يقرأه علانية فلا يُتبع عليها، فيتخذ مسجدًا ويبتدع كلامًا ليس في كتاب الله ولا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإيّاكم وإيّاه فإنّ كلّ ما ابتدع ضلالة.
 قال يزيد: ولما مرض معاذ بن جبل مرضه الذي قُبض فيه كان يُغشى عليه أحيانًا ويفيق أحيانًا، حتى غُشي عليه غشيةً ظننّا أنه قد قُبض، ثم أفاق وأنا مقابله أبكي! فقال: ما يبكيك؟ قلت: والله لا أبكي على دنيا كنتُ أنالُها منك، ولا على نسب بيني وبينك، ولكن أبكي على العلم والإيمان الذي أسمع منك يذهب.
قال: فلا تبك، فإنّ العلم والإيمان مكانهما، من ابتغاهما وجدهما، فابتغه حيث ابتغاه إبراهيم عليه الصلاة السلام، فإنه سأل الله تعالى وهو لا يعلم وتلا: (إني ذاهب إلى ربي سيهدين) وابتغه بعدي عند أربعةِ نفرٍ، وإن لم تجده عند واحد منهم فسلْ عن الناس أعيانَه؛ عبد الله بن مسعود وعبد الله بن سلام وسلمان وعويمر أبو الدرداء. وإياك وزيغةَ الحكيم، وحُكْمَ المنافق". (27)
وفي رواية له عن معاذ – وفيها -: ". وأحذِّركم زَيغةَ الحكيم، فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافقُ كلمةَ الحق" قال: قلت لمعاذ: وما تدري رحمك الله أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة، وأنَّ المنافق يقول كلمة الحق؟ قال: "بلى، اجتنِبْ من كلام الحكيم المشْتَهِراتِ التي يقال: ما هذه؟ ولا يَثْنِينَّك ذلك عنه فإنه لعله يُراجِع، وتَلَقَّ الحق إذا سمعتَه، فإن على الحق نورًا". (28)
 فرضي الله عن معاذ إذ أعطانا معيارًا ومنهاجًا في التعامل مع أهل العلم ومن تشبّه بهم ممن ليس منهم، حالَ صواب الجميع أو خطئهم.
 وانظر لسوسة القلب حين تنحت فيه حبَّ التصدّر والظهور والعلوِّ على الخلق، وكيف قرأ القرآن سرًّا فلم يتبعه الناس، فقرأه جهرًا فلم يتبعوه، حتى آل به الأمر أن اتّخَذ مسجدًا وأحدث بدعًا وضلالات. فمقصودُه ليس وجهَ الله والدارَ الآخرة مهما حفظ من العلوم ودرس على المشايخ وقرأ من الكتب، بل العلوَّ في الأرض عن طريق التصدر على منابر العلم، فاحذر يا طالب العلم أن تبتغيَ العلوَّ في الأرض على أقرانك وعلى الناس، وابتغِ سموَّ السماء بتقواك ومنازلَ الآخرة بنصحك وتواضعك، فإن الله تعالى يقول: (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوّا في الأرض ولا فسادًا والعاقبة للمتقين).
وتأمل فقه معاذ رضي الله عنه في تحذيره من زيغة الحكيم، لذلك فلا تُعنِقِ فَرِحًا بكل نكتةٍ علميّة انقدحت لك، فما كلّ ما يلمع ذهبًا ولا كل بيضاء شحمة، وكم من قدحةٍ قاتلة، وكم من دهليز جهل على باب فِكْرَة، وكم أعرض الراسخون عن مسائل صانوا بها صفاء علومهم.
وبالجملة: لا تفرح بالطارف على التليد، واجتنب في العلم الغرائب، فالغريب مريب. وعليك بجادّة السالفين الأُوَل ذوي الأمر الأول والنمط الأوسط، الذين وقفوا عن علمٍ، وكفّوا عن ورع.
وحينما تحدثك نفسك يا طالب العلم بظَفَرٍ في مسألة، فلا تظنّ أنّ الأكابر قد كفّوا عنها لجهل، لذا تأنَّ كثيرًا حتى تعلم سبب رغبتهم عنها فلعله الصواب، واحذر من أن تتخذ قولًا أو عملًا ليس لك فيه سلف صالح، فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية، وسَبْعُ الأفكارِ أضْرَى من سبعِ الأجساد.
فقل لمن يدّعي في العلم معرفةً   ...  حفظتَ شيئًا وغابتْ عنك أشياءُ
واعلم أن التريّث والتحرير ومشاورة أهل الاختصاص لها ثمراتها: فقد يكون الواردُ مطروقًا قد فصّله السابقون ولم تعلم به، أو كان سببه ومقتضاه قائمًا فتركوه تورّعًا، أو تبيّن لهم بطلانه لِعِلّة لم تدركها.. أو غير ذلك.
ولا يعني هذا ترك الاشتغال بكل واردٍ فكريّ جديد، فهذا ليس بمقصود، فالتقليد المحض ليس بعلمٍ، والتقيّدُ بقيد الأمر السائد قصورٌ في التحصيل، والإبداعُ النافع مطلب شرعي، بل القصد هو التمهّل والتريّث والأناة والمشاورة للراسخين لتحرير الوارد من فروع العلم قبل نشره، لأنه في يدك حتى يطير في الأرجاء، فإن كان مُحرّرًا فنعمّا هو، وإن كان غير ذلك فعليك غُرمُهُ وتَبِعَتُه.
 وبالجملة: فإياك أن تستوليَ برودةُ عادتك على حرارة قريحتك؛ فيستبدّ بك التقليد الجافّ وتنطفئ شعلتُك المضيئة، حينها تكون قد كسرت شراعك ودفنت إبداعك.
ومما يؤسف له أن بعضًا من أمور الأمّة المُلحّة (العصريّة) لا نجد لبعض الأكابر حديثٌ فيها ترفّعًا أو تزهّدًا أو انشغالًا – مع انتشارها بين الناس كنار الهشيم – فنشأ عن اعتزال هؤلاء الكلام فيها أن انبرى لها غيرُ أهلها فألقحوها الضلال، فاستيقظ أصحابنا وصاحُوا بأهله -بعد خراب البصرة -وخير لهم أن يصيحوا بأنفسهم أوّلًا.. فقد ذهبتْ ليلى فما أنت صانع؟!  
 ولله درّ ابن مسعود ما أحكمه حين قال: "إنكم لن تزالوا بخيرٍ ما دام العلم في كباركم، فإذا كان العلم في صغاركم سفَّه الصغيرُ الكبيرَ". (29)
ولقد مرّ الإمام أبو حنيفة رحمه الله على جماعة يتفقهون، فقال: ألهم رأسٌ؟ قالوا: لا. قال: إذن لا يفلحون أبدًا. (30) ومن بديع شعر عبد الوهاب بن على المالكي رحمه الله:
متى يصلُ العِطاشُ إلى ارتواءٍ   ...   إذا استَقَتِ البحارُ من الرَّكايَا
ومن يُثْنِي الأصاغِرَ عن مُرادٍ   ...   إِذا جلس الأكابرُ في الزَّوايَا
إذا استوتِ الأسافلُ والأعالي   ...    فقد طابت مُنَادَمَةُ المَنَايا
إن الله تعالى قد جعل العالِم بركة للناس، ونجمًا في السماء للحق هاديًا، بما ينشره من علم الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله وعمله وسمته وخُلُقه. فهو وارثُ تركةِ الرسول صلى الله عليه وسلم وهو الذي يوزّعها على الناس ويَهديهم – بإذن الله -لها، ولا يزال في الأمة خير ما كان فيها علماء ربانيون يصِلُون حاضرَ الأمة بصدرها الزاهر المنير. وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه وحزبه.
إبراهيم الدميجي
...........................................................................
(1) (8/18) ( 2581 ) ( 59 )
(2) التمهيد (11/ 170)، الكفاية (79)
 (3) السير (14/ 374)
(4) السير (14/ 339)
 (5) أي أخّر صلاة الظهر عن أول وقتها، وهو سنة عند اشتداد الحرّ، وغرضه إفساح الوقت له كي يدرك صلاة الجماعة بعد المناظرة رضي الله عنه.
(6) لأنهم قد قتلوا ابن خباب لما مرّ بهم وزوجه الحامل وقتلوا غيره كثير، لاستحلالهم دماء مخالفيهم، فهم يكفّرون من ليس معهم، ففتنتهم شديدة وشرّهم مستطير، ووُصفوا في السنّة بشرِّ الخلق والخليقة.
(7) أي سرّح شعر رأسه.
(8) أي: رُكَبِها الغليظة.
(9) أي: مغسولة.
(10) أي: متغيرة ألوانها من الصيام والقيام، وهذا من إنصافه رضي الله عنه، فانظر عظيم فتنة ابليس بهم كيف وهم مع هذا الحال من شديد العبادة وابتغاء التقوى ودقيق الورع، (ومن يضلل الله فما له من هاد) ولهم نصيب من قول الله تعالى: (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا. الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا). وما من أمرٍ لله إلا وللشيطان فيه حظّان لا يُبالي بأيّهما أسقط العباد: الزيادة والنقصان. 
وتأمل مدى ضلالهم في قصتهم مع التابعي الجليل عبد الله بن خباب وزوجه، وقد ساقها الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (7 / 318) بقوله: "وكان من جملة من قتلوه عبدَ الله بنَ خبّابٍ صاحبِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، أسروه وامرأته معه وهي حامل فقالوا: من أنت؟ قال: أنا عبدُ الله بنُ خبابٍ صاحبِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنّكم قد روّعتموني. فقالوا: لا بأس عليك، حدّثنا ما سمعتَ من أبيك فقال: سمعت أبي يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ستكون فتنةٌ القاعدُ فيها خيرٌ من القائم، والقائمُ خيرٌ من الماشي، والماشي خيرٌ من الساعي". رواه أحمد (1446). فاقتادوه بيده، فبينما هو يسير معهم إذْ لقي بعضهم خنزيرًا لبعض أهل الذمة فضربه بعضُهم فشقّ جلدَه، فقال له آخر: لم فعلت هذا وهو لذمّي؟ فذهب إلى ذلك الذمي فاستحلّه وأرضاه، وبينا هو معهم إذ سقطت تمرةٌ من نخلة فأخذها أحدهم فألقاها في فمه، فقال له آخر: بغيرِ إذنٍ ولا ثمن؟ فألقاها ذاك من فمه، ومع هذا قدّموا عبد الله بن خبّاب فذبحوه، وجاؤوا إلى امرأته فقالت: إني امرأة حبلى، ألا تتقون الله، فذبحوها وبقروا بطنها عن ولدها"! عائذًا بربي من مضلات الفتن.
(11) وفي هذا التثبّت من استدلال المخالف فقد تكون حجة عليك قبولها ولإذعان والتسليم لها، وقد تكون شبهة عليك أن تكشفها له وتبطلها من عينيه.
(12) وفي هذا إلزام الخصم بالرجوع عن قوله إن تبين له بطلانه، وقد كانت هذه طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع اليهود وغيرهم.
(13) وتأمل حسن السياق والترتيب والإلزام وإخلاء شبهة الخصم من مضمونها ومبرّرها.
(14) عبد الرزاق في المصنف (18678) والطبراني (10598) والحاكم (2/150) وغيرهم، وذكر أحمد في المسند (3187) طرفًا من القصة بسند جيد. وقد رويت قصة أمر النبي صلى الله عليه بمحو "محمد رسول الله" في البخاري (2731) و(2732) ومسلم (1784)
(15) أي تملّكني بأن دخل شغاف قلبي، والشغافُ: غلافُ القلب.
(16) ولا أعلم أن الخوارج جالدوا المشركين يومًا، وتأمل الحال مع الغلاة في هذا الزمان كيف يقتلون المسلمين ويدعون المشركين متذرعين بأن القريب مرتد والمرتد يقتل قبل الكافر الأصلي، هكذا بلا إقامة حجة ولا إبانة محجة، كيف والحجة عليهم لا لهم، (ومن يضلل الله فلن تجد له وليا مرشدًا) وهذه خصلة الخوارج فقد وصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرميّة، يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، لئن أدركتهم لأقتلنّهم قتل عاد". البخاري (7432) ومسلم (1064) فمشكلتهم في ضلال العلم لا نقص التعبد وقوّة الإرادة، (ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم) فمن هذه الوجه فيهم شبه من النصارى الضالين. وقد روى عبد الرزاق في تفسيره (2/299) والحاكم في المستدرك (2/522) عن أبي عمران الجوني قال: مرَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه بديرِ راهبٍ، فناداه: يا راهب، يا راهب، فأشرف، قال: فجعل عمر ينظر إليه ويبكي. فقيل له: يا أمير المؤمنين، ما يبكيك من هذا؟ قال: ذكرت قول الله عز وجل في كتابه: (عاملة ناصبة تصلى نارا حامية) فذاك الذي أبكاني. وإن كان هذا الخبر لا يثبتُ لأن أبي عمران لم يدرك زمان عمر، إنما المراد مغزى القصة لا حقيقتها، ففيها قرعٌ لفؤاد المؤمن تنبيهًا لعظم شأن هدايته للإسلام والإيمان، (بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان) فلا نعمة تضارعها، واعلم أن كثيرًا من أهل الضلال من الملل والنحل هم أذكى منك عقولًا لكن الله تعالى لم يشأ لهم الهدى، فالهدى محض توفيق الله وحده. واعتبر ذلك بحال ذلك المنصّر الأمريكي الضال المضل إذ يقول: يعزّ علي حرص المسلمين على ارتياد المسجد خمس مرات ودينهم باطل! (وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا).
(17) وهم الذين يخرجهم الله تعالى من النار فيدخلهم الجنة، وهم من أهل الكبائر من الموحدين، وهذا ينقض أصل الخوارج الأعظم بقولهم بتكفير مرتكب الكبيرة مطلقًا، فحديث الشفاعة ثابت في الصحيحين، وفيه ذكر الجهنّميين.
لذلك أوصى عليٌّ ابنَ عباس رضي الله عنهم أن يُحاجج الخوارج بالسنة، وقال له: لا تجادلهم بالقرآن؛ فإن القرآن حمَّال وجوه، ولكن جادلهم بالسنة، قال ابن عباس: "يا أمير المؤمنين فأنا أعلم بكتاب الله منهم، في بيوتنا نزل، قال: صدقت، ولكن القرآن حمّالٌ ذو وجوه، تقولُ ويقولون، ولكن خاصمهم بالسنن، فإنهم لن يجدوا عنها محيصًا". وقد عزاه السيوطي في الإتقان (2/ 122) إلى ابن سعد. كذلك نُقِلَ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: لا تجادلوهم بالقرآن فإنه حمال وجوه ولكن حاجِجُوهم بالرواية. أي بالسنة المرويّة.
لذلك فالخوارج لا يَعُدّون السنة من مصادر التلقي لديهم، ولو علموا تأويل القرآن ما فعلوا فالسنة شارحة القرآن، قال تَعَالَى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نزل إليهم) فالمبين هو رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، وقد أمر الله تعالى في القرآن أكثر من أربعين مرة بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولقد حدّث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله الواشمات والمستوشمات، والمتنمّصات، والمتفلّجات للحسن، المُغيّرات خلق الله، فبلغ ذلك امرأة من بني أسد، يقال لها: أم يعقوب، وكانت تقرأ القرآن، فأتته، فقالت: ما حديث بلغني عنك: أنك قلت: كذا وكذا.. وذكرته؟ فقال عبد الله: ومالي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله؟ فقالت المرأة: لقد قرأت ما بين لوحي المصحف، فما وجدته، قال: إن كنت قرأتيه لقد وجدتيه، قال الله عز وجل: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) قالت: إني أرى شيئًا من هذا على امرأتك الآن؟ قال: اذهبي فانظري، فذهبت فلم تر شيئًا، فجاءت، فقالت: ما رأيت شيئًا، فقال: أما لو كان ذلك لم نجامعها". رواه البخاري (6/184) ومسلم (6/166) ومعنى المتنمصات: من النمص وهو ترقيق الحواجب وتدقيقها بالموسى ونحوه طلبًا للحُسن، والنامصة التي تصنع ذلك بالمرأة، والمُتنمصة التي تطلبه. والمتفلجات: هن اللاتي يطلبن الفَلج بصناعة وهو تباعد ما بين الثنايا. ومعنى لم نجامعها: أي لم أجتمع معها كناية عن طلاقها إن هي فعلت.
 (18) ففي يزيد خير بتوقيره للصحابة، لذلك يسّر الله تعالى له الهدى على أيديهم رضي الله عنهم.
(19) أي اقرأ سياق الآية وسباقها، فلا تكن كمن قرأ (ويل للمصلين) دون ما بعدها. وأمثال ذلك في القرآن العزيز كقوله تعالى: (وَإِذْ يَقُولُ المنافقون والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً) فيبتدئُ من قوله: (ما وعدنا). ومثل أن يبتدئ بقوله: (إن الله) في قوله تعالى: (لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قالوا إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ) وقوله: (لَّقَدْ كَفَرَ الذين قآلوا إِنَّ الله هُوَ المسيح ابن مَرْيَمَ) ونحو ذلك. ومراد جابر التنبيه للسياق العام لخبر الآيات وأنها ليست كما فهمها الخوارج لأنهم اقتصروا على جملة دون سياقها.
(20) وهنا يحتج جابر بالسنة التي فيها قطع لنزاع المخالفين، وهذا تمام الفقه. فيشرح بالسنة قول الله تعالى: (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) فقرره بالقرآن ثم ألزمه بالسنة.
(21) وهذا من ورعه رحمه الله.
(22) وإلى هذا الموضع قَصَدَ حابرٌ لأن فيه إبطالٌ لأصل الخوارج في تكفير صاحب الكبيرة، وهو ما انتبه له يزيد وكان فاتحة خير لتوبته وأصحابه من منهجهم المُظلم.
(23) عيدان السماسم: السماسم: جمع سمسم، وتكون عيدانه سودًا دِقاقًا بعد أخذ ثمرة السمسم ورميها، فشبه الجهنميين الذين أخرجهم الله من النار إلى الجنة بها أثناء إخراجهم من النار بعدما امتحشتهم وأحرقتهم، عياذًا بالله تعالى.
(24) مسلم (1/123)
(25) إِعلام الموقعين (3 / 283)
(26) رواه أبو داود (4375) وغيره، وصححه الألباني في الصحيحة (638) وصحيح الجامع (1185)
(27) المستدرك (4 / 465) (8440)
(28) أبو داود (4611) بسند حسن.
(29) ابن عبد البر في جامع العلم (1 / 159)
(30) الفقيه والمتفقه للخطيب (790)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق