الثلاثاء، 11 مارس 2014

لزوم جماعة المسلمين

لزوم جماعة المسلمين


إن الاجتماع على الحق ولزوم الجماعة المتمسكة به؛ وعدم مفارقتهم؛ من مقاصد الشريعة الإسلامية ومحاسنها وفضائلها، ومن ميز أهل السنة على غيرهم من أهل الأهواء، فلذلك كان من ألقابهم الشرعية وصفهم بأنهم: أهل السنة والجماعة.
وقد وردت نصوص كثيرة من الكتاب والسنة وأقوال العلماء في الأمر بالتمسك بالجماعة ونبذ الفرقة، فقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}[1]
قال الحافظ ابن كثير في تفسيره:
أمَرَهُم بالجماعة ونهاهم عن التفرقة، وقد وردت الأحاديثُ المتعددة بالنهي عن التفرق والأمر بالاجتماع والائتلاف كما في صحيح مسلم من حديث سُهَيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إنَّ اللهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلاثًا، وَيَسْخَطُ لَكُمْ ثَلاثًا، يَرْضى لَكُمْ: أنْ تَعْبدُوهُ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وأنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا، وأنْ تُنَاصِحُوا مَنْ وَلاهُ اللهُ أمْرَكُمْ؛ وَيَسْخَطُ لَكُمْ ثَلاثًا: قيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وإِضَاعَةَ الْمَالِ”. [2]
وروى الإمام البخاري في صحيحه عن حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ رضي الله قال: كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْخَيْرِ وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنْ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الْخَيْرِ؛ فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ: نَعَمْ وَفِيهِ دَخَنٌ، قُلْتُ: وَمَا دَخَنُهُ؟ قَالَ: قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ، قُلْتُ: فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: نَعَمْ، دُعَاةٌ إِلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا، قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: صِفْهُمْ لَنَا؟ فَقَالَ: هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا، قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟ قَالَ: تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ، قُلْتُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلَا إِمَامٌ؟ قَالَ: فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا؛ وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ.[3]
قال الحافظ ابن حجر: وَقَالَ اِبْن بَطَّال: فِيهِ حُجَّة لِجَمَاعَةِ الْفُقَهَاء فِي وُجُوب لُزُوم جَمَاعَة الْمُسْلِمِينَ وَتَرْك الْخُرُوج عَلَى أَئِمَّة الْجَوْر، لِأَنَّهُ وَصَفَ الطَّائِفَة الْأَخِيرَة بِأَنَّهُمْ ” دُعَاة عَلَى أَبْوَاب جَهَنَّم ” وَلَمْ يَقُلْ فِيهِمْ ” تَعْرِف وَتُنْكِر ” كَمَا قَالَ فِي الْأَوَّلِينَ، وَهُمْ لَا يَكُونُونَ كَذَلِكَ إِلَّا وَهُمْ عَلَى غَيْر حَقّ، وَأَمَرَ مَعَ ذَلِكَ بِلُزُومِ الْجَمَاعَة.
قَالَ الطَّبَرِيُّ: اُخْتُلِفَ فِي هَذَا الْأَمْر وَفِي الْجَمَاعَة، فَقَالَ قَوْم: هُوَ لِلْوُجُوبِ وَالْجَمَاعَة السَّوَاد الْأَعْظَم، ثُمَّ سَاقَ عَنْ مُحَمَّد بْن سِيرِينَ عَنْ أَبِي مَسْعُود أَنَّهُ وَصَّى مَنْ سَأَلَهُ لَمَّا قُتِلَ عُثْمَان ” عَلَيْك بِالْجَمَاعَةِ فَإِنَّ اللَّه لَمْ يَكُنْ لِيَجْمَعَ أُمَّة مُحَمَّد عَلَى ضَلَالَة”.
وَقَالَ قَوْم: الْمُرَاد بِالْجَمَاعَةِ الصَّحَابَة دُونَ مَنْ بَعْدَهُمْ، وَقَالَ قَوْم: الْمُرَاد بِهِمْ أَهْل الْعِلْم لِأَنَّ اللَّه جَعَلَهُمْ حُجَّة عَلَى الْخَلْق وَالنَّاس تَبَع لَهُمْ فِي أَمْر الدِّين.
قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَالصَّوَاب أَنَّ الْمُرَاد مِنْ الْخَبَر لُزُوم الْجَمَاعَة الَّذِينَ فِي طَاعَة مَنْ اِجْتَمَعُوا عَلَى تَأْمِيره، فَمَنْ نَكَثَ بَيْعَتَهُ خَرَجَ عَنْ الْجَمَاعَة. [4]
وروى الإمام أحمد وابن ماجه بسند صحيح: عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ثلاث لا يغلّ عليهن قلب مسلم، إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين؛ فإن دعوتهم دعواهم تحيط من ورائهم “.[5]
وقال الإمام اللالكائي: وعن الأوزاعي قال: كان يقال خمس كان عليها أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم والتابعون بإحسان: لزوم الجماعة، واتباع السنة، وعمارة المساجد، وتلاوة القرآن، والجهاد في سبيل الله.[6]
وقال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي: قال الله تعالى:{إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا…}(7] يتوعد تعالى الذين فرقوا دينهم أي: شتتوه وتفرقوا فيه وكل أخذ نصيبا من الأسماء التي لا تفيد الإنسان في دينه شيئا، كاليهودية والنصرانية والمجوسية، أولا يكمل بها إيمانه بأن يأخذ من الشريعة شيئا، ويجعله دينه، ويدع مثله، أو ما هو أولى منه، ودلت الآية الكريمة أن الدين يأمر بالاجتماع والائتلاف، وينهى عن التفرق والاختلاف في أهل الدين، وفي سائر مسائله الأصولية، و الفروعية، وأمره أن يتبرأ ممن فرقوا دينهم فقال:{لست منهم في شيء} أي لست منهم و ليسوا منك، لأنهم خالفوك وعاندوك”.[8]
و لأهميَّة لزوم الجماعة، وعظيم شأنها، أفرد لها أهل العلم أبواباً في مصنفاتهم.
فقال الإمام البخاري في صحيحه في كتاب الاعتصام بالكتاب و السنة: باب قوله تعالى: {و كذلك جعلناكم أمَّةً وسَطاً} و ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلزوم الجماعة وهم أهل العلم.
وقال الإمام مسلم في كتاب الإمارة من صحيحه: باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن، وفي كل حال، و تحريم الخروج على الطاعة ومفارقة الجماعة.
وعَنوَن الإمام النسائي في سننه: قتلُ من فارق الجماعة..
وعقد الإمام الترمذي في سننه باباً سمَّاه: باب ما جاء في لزوم الجماعة.
و قال أبو عيسى الترمذي رحمه الله تعالى في سننه: (( و تفسير الجماعة عند أهل العلم هم أهل الفقه والعلم والحديث )).
و قول الترمذي هذا موافقٌ لما تقدّم من قول الإمام البخاريِّ رحمه الله في معنى الجماعة: هم أهل العلم.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: وَسُمُّوا أَهْلَ الْجَمَاعَةِ؛ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ هِيَ الِاجْتِمَاعُ وَضِدُّهَا الْفُرْقَةُ؛ وَإِنْ كَانَ لَفْظُ الْجَمَاعَةِ قَدْ صَارَ اسْمًا لِنَفْسِ الْقَوْمِ الْمُجْتَمِعِينَ.[9]
وقال أيضاً: وَلِهَذَا كَانَ مِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: لُزُومُ الْجَمَاعَةِ؛ وَتَرْكُ قِتَالِ الْأَئِمَّة.[10]
وحيث جاء الأمر بلزوم جماعة المسلمين فالمراد بها الجماعة المنتظمة بنصب الحاكم كما قرّره ابن جرير حين قال: «والصواب أنّ المراد من الخبر بلزوم الجماعة، الذين في طاعة من اجتمعوا على تأميره، فمن نكث عن بيعته خرج عن الجماعة».[11] فهذا التفسير من هذا الإمام الجهبذ يدلّ على أنّ الاجتماع والائتلاف، وحمايةَ بيضة الدين، وصونَ أعراض المسلمين إنّما يكون تحت لواء الجماعة الأمّ التي ليس لها اسم تعرف به إلاّ الإسلام والمسلمين “هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ”[12]، هذه الجماعة الأمّ التي تضمّ الحاكم والمحكومَ، والعالم والجاهلَ، والبرّ والفاجرَ، والتي تذوب فيها كلّ الجماعات والتكتّلات، وتسقط أمامها كلّ الولاءات والبيعات، فهي الجماعة الشرعية الوحيدة التي جاء الأمر بملازمتها والانضواء تحت رايتها، فلا طاعة ولا ولاءَ إلاّ لمن ولاّه الله أمر المسلمين وجمعهم تحت إمرته وقيدتها ولو ترك جائرًا ظالمًا، وهو واحد في الأمّة ولا يمكن أن يتعدّد بتعدّد الجماعات والأحزاب، كما أراد أن يفهمه بعض الناس جهلاً أو تجاهلاً، وهذا هو الفهم الذي استقرّ عند سلف الأمّة وخيارها، ينبئك به ما رواه ابن أبي حاتم بسنده إلى سماك بن الوليد الحنفي أنّه لقي ابن عباس بالمدينة فقال: ما يقول في سلطان علينا يظلموننا ويشتموننا، ويعتدون علينا في صدقاتنا، ألا نمنعهم؟ قال ابن عبـاس: «لا، أعطهم يا حنفي ! » ثمّ قال: يا حنفي: الجماعة الجماعة، إنّما هلكت الأمم الخالية بتفرّقـها، أمـا سمعت اللهَ عزّ وجلّ يقـول: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا﴾.[13]
فليس هناك ما يُصلح دين الناس ودنياهم إلاّ الاجتماع والائتلافُ، وليس هناك ما يفسد عليهم ما ذكر إلاّ الافتراق والاختلاف، فإنّ الجماعة قوّة ومنَعَة، والفرقةَ فشلٌ وهَلَكة، ولن تستصلح قلوب العباد ولن يفشوا الأمن في البلاد إلاّ بخصـال ثلاث ذكرهـا النبي صلى الله عليه وسلَّم في حديثه «ثَلاثُ خِصَالٍ لاَ يُغَلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ أَبَدًا، إِخْلاَصُ العَمَلِ للهِ، وَمُنَاصَحَةُ وُلاَةِ الأَمْرِ، وَلُزُومُ الجَمَاعَةِ، فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ بِهِم مِنْ وَرَائِهِمْ». فهذه الثلاث كما قال ابن تيمية «تجمع أصول الدين وقواعدَه، وتجمع الحقوق التي لله ولعباده وتنتظم مصالح الدنيا والآخرة». [14]
ومن تأمّل هذا الكلام وعاين واقع المسلمين في أنحاء المعمورة يتبيّن له موضعُ الخلل ويستبين السبيل، ورحمة الله على الإمام محمد بنِ عبد الوهاب لمّا قال: «لم يقع خلل في دين الناس ودنياهم إلاّ بسبب الإخلال بهذه الثلاث أو بعضها».[15]فالعجب ممن يتهاون في الخروج على المسلمين وأئمتهم؛ زاعماً بإرادته الإصلاح وصلاح المسلمين، فمتى كان شق عصى البيعة والطاعة ومفارقة جماعة المسلمين إصلاحاً وجهاداً؟؟!!
==============================
[1] سورة آل عمران [ 103] .
[2] تفسير القرآن العظيم لابن كثير [1 /477] .
[3] روه البخاري في صحيحه في كتاب المناقب؛ باب علامات النبوة في الإسلام؛ حديث رقم (33606).
[4] فتح الباري [20 / 89] .
[5] مسند الإمام أحمد [21 /60]، حديث رقم( 13350). 
[6] اعتقاد أهل السنة [1 / 64] .
[7] سورة الأنعام [159] .
[8] تفسير السعدي [282] ط مؤسسة الرسالة.
[9] مجموع الفتاوى [3 /157].
[10] مجموع الفتاوى [28 /128] .
[11] ذكره الحافظ ابن حجر في فتح الباري [13/37].
[12] سورة الحجّ [78].
[13] تفسير ابن أبي حاتم [455/2] .
[14] مجموع الفتاوى [1/18] .
[15] مجموع مؤلفات الشيخ [1/336] .


رابط الموضوع : http://www.assakina.com/taseel/4913.html#ixzz2vfQHH7Va

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق