الخلفيات والأصول الجذور العلمية والتاريخية للغلو في الدين والتكفير
ترجع بذور الغلو في الدين إلى رؤوس الثوار على عثمان (رضي الله عنه) وبعض العجم والأعراب الذين لم يتفقهوا في الدين، وبعض العباد الجهلة الأوائل، وأصحاب الأهواء، وأهل النفاق والزندقة، وكان من ضحيتهم بعض الغيورين والمندفعين إلى التدين بعاطفتهم بلا حكمة، من صغار السن (حدثاء الأسنان) كما وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم الذين يقل فقههم للدين، وتجربتهم في الحياة، ولم تنضج عقولهم، ولم يرجعوا إلى أهل الذكر والراسخين كما أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم.
ومن هذه الأصناف تكونت فرق الخوارج الأولى الذين قاتلهم الصحابة بعد أن حاوروهم وجـادلوهم، وبعــد أن استحلوا الدماء، وتكونت كذلك فرق الشيعة وظهرت بذور التصوف البدعي، منهم ومن بعض العبَّاد والنساك الأوائل في آخر القرن الأول. وأصول الغلو والتكفير باقية، وتنبعث كلما توافرت أسبابها في أي زمان وأي مكان وبيئة، لا سيما مع الأحداث الجسام والفتن، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه: يأتي في آخر الزمان قوم حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام، يقولون من قول خير البريّة، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرميّة، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم.. [1] إلى آخر الحديث في البخاري وغيره.
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتال الخوارج؛ لأنهم يستحلون الدماء المعصومة، ويتدينون بذلك، ويهلكون الحرث والنسل، ويسعون في الأرض فساداً، والله لا يحب الفساد. وقد ظهرت مثل هذه الظواهر على مدار التاريخ، وكان منها في العصر الحديث (جماعة التكفير والهجرة) وقريب منها (جماعة التوقف والتبين) التي ظهرت في مصر في آخر القرن الماضي، ثم امتدت أثارها في كثير من بلاد المسلمين والعالم، ولا تزال آثارها النكدة على بعض شباب الأمة، ولا سيما حين تسللت أفكار الغلاة بين صفوف الجهاد الأفغاني السابق، وابتليت بها بعض الجبهات الجهادية الأخرى [2]. ونزعة الغلو والتشدد التي قد تنشأ عنها ظواهر التكفير والعنف قد تصاحب كل نهضة أو دعوة وتشذ عنها، فكما ظهرت في أول الإسلام، وهي ليست من الإسلام في شيء، لكنها نشاز، لا تزال تظهر بين وقت وآخر. كذلك نجد أن بعض مظاهر التشدد الشاذة صاحبت قيام الدعوة الإصلاحية دعوة الإمام محمد بن عبدالوهاب، وقيام الدولة السعودية لا سيما في مرحلتها الثالثة، ومن المعلوم أن هذه الظواهر ليست على نهج السنة والسلف الصالح، إذاً فهي ليست على نهج الدعوة، ولا على نهج الدولة، بل كانت تسبب لها الكثير من الإحراج؛ لأن الدعوة تقوم على السنة ونهج السلف الصالح وهو منهج الاعتدال والوسطية، وهي بريئة من الغلو والعنف والتكفير، وما يثيره بعض الجاهلين وأهل الأهواء من أن العنف والغلو والتشدد صادر عن منهج الدعوة هو باطل قطعاً. فلا يجوز بحال نسبة شيء من ذلك إلى دعوة الإمام محمد بن عبدالوهاب ومنهجها [3] ، لكنها ظواهر تبتلى بها كل أمة.
ولعله من المناسب التذكير بما تعرضت لـه الدعوة ودولتها منذ أن قام بها الملك عبدالعزيز -رحمه الله- من نزعات التشدد التي عولجت بالحكمة والحزم من قبل الملك عبدالعزيز والعلماء وأهل الحل والعقد. وكان من آخر حلقات (الغلو) ظهور تلكم الفئة التي دخلت الحرم عام 1400هـ، ثم تلاها بعض ظواهر التشدد التي أدت أخيراً إلى بـروز ظواهر خطيرة متعددة الوجوه والأغراض والتوجهات، من التكفير واستباحـة الدماء والإفساد في الأرض، والتنكر للعلماء والولاة والمجتمع، والسعي إلى تغيير المنكر والفساد بمنكر وفساد أعظم.
وأسهمت هذه الظواهر -وغيرها- في تجرؤ بعض الناس على ارتكاب الأمور الخطيرة، وتحطيم المسلمات والثوابت في الدين والعقيدة والسنة، والجماعة، والبيعة، والأمن، وانتهاك حقوق العلماء والولاة وأهل الحل والعقد والمواطنين والمقيمين، تحت شعارات الدين، والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والولاء والبراء، والغيرة على الإسلام (وهي أصول حق لكنها قد توظف خطأ)، ونحو ذلك مما يعد من الفساد والإفساد الذي يجب على الجميع الإسراع في علاجه من قبل الدولة والعلماء وأهل الرأي والمشورة، والآباء والمربين والدعاة (فكلهم راع ومسؤول عن رعيته) [4] والله حسبنا، ونعم الوكيل.
* ناصر العقل
——————————————————————————–
[1] – صحيح البخاري رقم (1136) ومسلم رقم (1066)، وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة:
——————————————————————————–
[1] – صحيح البخاري رقم (1136) ومسلم رقم (1066)، وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة:
“هذا الحديث وما في معناه قاله النبي صلى الله عليه وسلم في الطائفة المسماه بالخوارج لأنهم يغلون في الدين ويكفرون المسلمين بالذنوب التي لم يجعلها الإسلام مكفرة وقد خرجوا في زمن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأنكروا عليه أشياء فدعاهم إلى الحق وناظرهم في ذلك فرجع كثير منهم إلى الصواب وبقي آخرون فلما تعدوا على المسلمين قاتلهم علي رضي الله عنه وقاتلهم الأئمة بعده عملاً بالحديث المذكور وما جاء في معناه من الأحاديث ولهم بقايا إلى الآن والحكم عام في كل من اعتقد عقيدتهم في كل زمان ومكان وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين” (فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء 2/368).
[2] – لا يلزم أن يكون كل مجاهد تكفيرياً، ولا كل تكفيري مجاهداً كما يفهم بعض الناس.
[3] – انظر بيان ذلك مفصلاً في كتاب: (إسلامية لا وهابية) للمؤلف ص (243 وما بعدها).
[4] – هذه قاعدة عظيمة في الدين والدنيا كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، الحديث في صحيح البخاري برقم (844) ومسلم برقم (3408) وصحيح الجامع (4445).
رابط الموضوع : http://www.assakina.com/taseel/3155.html#ixzz2vjfAsVns
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق