الثلاثاء، 11 مارس 2014

( وآمنهم من خوف )

( وآمنهم من خوف )

الأمن هو الشعور بالسكينة والطمأنينة،وهو نعمة عظيمة ومنَّة كبيرة؛ امتن الله تعالى بها على عباده؛ وذكرها في كتابه الكريم في مواطن تعداد نعمه التي لا تعد ولا تحصى.
فلقد امتن بها على قريش تنويها بها على أن يستجيبوا لرسوله صلى الله عليه وسلم؛ وينقادوا لأمره؛ فقال تعالى: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)}[قريش:1 -4].
وامتن الله تعالى بها عليهم حين أمرهم بالنظر إلى ما حولهم من القرى وكيف يتخطف الناس من حولهم من الخوف والفزع؛ وهم آمنون في ديارهم وأموالهم وبين أهليهم؛ فقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ } [العنكبوت: 67].
قال الحافظ ابن كثير: يقول تعالى ممتنا على قريش فيما أحلهم من حرمه، الذي جعله للناس سواء العاكف فيه والبادي، ومن دخله كان آمنا، فهم في أمن عظيم، والأعراب حوله ينهب بعضهم بعضا ويقتل بعضهم بعضا، كما قال تعالى: { لإيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ . فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ . الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ } [قريش: 1-4].
وقوله: { أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ } أي: أفكان شكرهم على هذه النعمة العظيمة أن أشركوا به، وعبدوا معه [غيره من] الأصنام والأنداد، و { بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ } [إبراهيم: 28]، وكفروا بنبي الله وعبده ورسوله، فكان اللائق بهم إخلاص العبادة لله، وألا يشركوا به، وتصديق الرسول وتعظيمه وتوقيره، فكذبوه وقاتلوه وأخرجوه من بين ظهرهم؛ ولهذا سلبهم الله ما كان أنعم به عليهم، وقتل من قتل منهم ببدر، وصارت الدولة لله ولرسوله وللمؤمنين، ففتح الله على رسوله مكة، وأرغم آنافهم وأذل رقابهم. [تفسير ابن كثير 6/ 295].
وجعل الله بيته الحرام آمنا لمن دخله؛ وآمن فيه الشجر والحيوان؛ إلى قيام الساعة مما يؤكد منزلة الأمن؛ وأن العبادات العظيمة لا يمكن أن تؤدى على وجهها في حال أماكن الخوف وانعدام الأمن؛ حيث قال الرب تبارك وتعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا } [البقرة: 125].
بل كان من دعاء الخليل إبراهيم عليه السلام أن يجعل بيته آمنا للدلالة على أهمية الأمن في حياة الناس ومنزلته؛ فكان أن دعا ربه بقوله: {.. رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 126]، وبين الرب تبارك وتعالى أن بيته آمنا لمن دخله قاصدا العبادة فيه والتقرب إليه؛ إذ قال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 96، 97]؛ وأقسم الرب تعالى بأمن ذلك البيت وأنه آمن حيث قال تعالى: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} [التين: 1 - 3].
وذكر الله عز وجل من نعمه التي لا تعد ولا تحصى على قرية –قيل هي مكة؛ وقيل غيرها-دارّة عليها أرزاقها؛ مبسوط عليها أمنها؛ حتى أبدلها الله بسبب عصيانها وكفرها بالجوع والخوف الذي ذهب معه الأمن؛ حيث قال تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112].
قال الإمام أبو جعفر الطبري: يقول الله تعالى ذكره: ومثل الله مثلا لمكة التي سكنها أهل الشرك بالله هي القرية التي كانت آمنة مطمئنة، وكان أمنها أن العرب كانت تتعادى، ويقتل بعضها بعضا ، ويَسْبي بعضها بعضا، وأهل مكة لا يغار عليهم ، ولا يحارَبون في بلدهم، فذلك كان أمنها. وقوله( مُطْمَئِنَّةً) يعني: قارّة بأهلها، لا يحتاج أهلها إلى النَّجْع، كما كان سكان البوادي يحتاجون إليها( يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا ) يقول: يأتي أهلها معايشهم واسعة كثيرة. وقوله( مِنْ كُلِّ مَكَانٍ ) يعني: من كلّ فجّ من فِجاج هذه القرية، ومن كلّ ناحية فيها. [تفسير الطبري 17/ 309]
ووعد الله عز وجل المؤمنين الذين ينقادون لأمره ويؤدون الصالحات التي أمروا بها؛ بالأمن في الحياة الدنيا وفي الآخرة؛ مما يبين عظيم منزلة الأمن ومكانته السامقة؛ حيث قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } [النور: 55].
قال العلامة السعدي: هذا من وعوده الصادقة، التي شوهد تأويلها ومخبرها، فإنه وعد من قام بالإيمان والعمل الصالح من هذه الأمة، أن يستخلفهم في الأرض، يكونون هم الخلفاء فيها، المتصرفين في تدبيرها، وأنه يمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وهو دين الإسلام، الذي فاق الأديان كلها، ارتضاه لهذه الأمة، لفضلها وشرفها ونعمته عليها، بأن يتمكنوا من إقامته، وإقامة شرائعه الظاهرة والباطنة، في أنفسهم وفي غيرهم، لكون غيرهم من أهل الأديان وسائر الكفار مغلوبين ذليلين، وأنه يبدلهم من بعد خوفهم الذي كان الواحد منهم لا يتمكن من إظهار دينه، وما هو عليه إلا بأذى كثير من الكفار، وكون جماعة المسلمين قليلين جدا بالنسبة إلى غيرهم، وقد رماهم أهل الأرض عن قوس واحدة، وبغوا لهم الغوائل.
فوعدهم الله هذه الأمور وقت نزول الآية، وهي لم تشاهد الاستخلاف في الأرض والتمكين فيها، والتمكين من إقامة الدين الإسلامي، والأمن التام، بحيث يعبدون الله ولا يشركون به شيئا، ولا يخافون أحدا إلا الله، فقام صدر هذه الأمة، من الإيمان والعمل الصالح بما يفوقون على غيرهم، فمكنهم من البلاد والعباد، وفتحت مشارق الأرض ومغاربها، وحصل الأمن التام والتمكين التام، فهذا من آيات الله العجيبة الباهرة، ولا يزال الأمر إلى قيام الساعة، مهما قاموا بالإيمان والعمل الصالح، فلا بد أن يوجد ما وعدهم الله، وإنما يسلط عليهم الكفار والمنافقين، ويديلهم في بعض الأحيان، بسبب إخلال المسلمين بالإيمان والعمل الصالح. [تفسير السعدي ص: 573]بل الأمن هو جزاء المؤمنين الخلص الذين خلصوا من الشرك؛ وأفردوا ربهم بالعبودية؛ ولم يتجهوا لأحد سواه؛ فكان جزاء توحيدهم وإخلاصهم لله تعالى أن وهبهم الأمن التام الذي لا خوف معه؛ فقال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ } [الأنعام: 82].
قال الشيخ حافظ الحكمي: فَالَّذِينَ آمَنُوا الْإِيمَانَ التَّامَّ الَّذِي لَمْ تَشُبْهُ شَوَائِبُ الشِّرْكِ الْأَكْبَرِ الْمُنَافِي لِجَمِيعِهِ, وَلَا الشَّرْكِ الْأَصْغَرِ الْمُنَافِي لِكَمَالِهِ, وَلَا مَعَاصِي اللَّهِ الْمُحْبِطَةُ لِثَمَرَاتِهِ مِنَ الطَّاعَاتِ, فَأُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ التَّامُّ مِنْ خِزْيِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ, وَالِاهْتِدَاءُ التَّامُّ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَبِحَسَبِ مَا يَنْقُصُ مِنَ الْإِيمَانِ يَنْقُصُ مِنَ الْأَمْنِ وَالِاهْتِدَاءِ, وَبِاجْتِنَابِ الشِّرْكِ الْأَكْبَرِ وَالْأَصْغَرِ يَحْصُلُ مُطْلَقُ الْأَمْنِ وَالِاهْتِدَاءِ, وَبِاجْتِنَابِ الْمَعَاصِي يَحْصُلُ تَمَامُهُمَا. [معارج القبول بشرح سلم الوصول 2/ 405].
بل من اجتمع له الأمن مع وجود ما يقتات عليه مضاف إليه صحة البدن فكأنما جمعت له الدنيا بحذافيرها؛ وهو ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه سلمة بن عبيد الله بن محصن الأنصاري عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من أصبح منكم معافى في جسده آمنا في سربه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا”.
وعند شيوع الأمن تتضح أدلة الحق؛ ويستجيب الناس لنداء الإسلام طائعين غير مكرهين؛ ويبسط العدل رواقه؛ وتنشرح النفوس لسماع الهدى؛ ولا أدل على ذلك مما حصل في فترة عهد الحديبية الذي جرى بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش؛ إذ دخل الناس في دين الله أفواجا؛ فكان الفتح العظيم بسبب ذلك الأمن الذي دخل الناس فيه إلى الإسلام.
ولأهمية الأمن أمر الله عز وجل أن يوفى عهد الكافر الذي قدم إلى المسلمين لسماع الهدى والآيات البينات؛ وأن يرد إلى أهله آمنا سالما في غير خوف؛ وهو ماورد في قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة: 6].
والأمن في الأوطان هو ما بشر به نبي الله يوسف عليه السلام لأبويه وإخوته حين أمرهم بالقدوم عليه في مصر؛ كما أخبر الله ذلك عنه حين قال: {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [يوسف: 99].
والأمن أيضا كان مقرونا بوعد الله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم عندما وعده بدخول مكة مظفراً؛ فقال تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ 
الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ…} [الفتح: 27].
بل أعظم نعيم ينتظر المؤمنين وهو الجنة قد وصفها الله تعالى بالأمن حال دخول المؤمنين لها؛ فقال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِين} [الحجر: 45، 46].
ففي ظل الأمن تطمئن النفوس؛ ويهنأ الناس في عيشهم؛ وتنتشر الأرزاق؛ ويفيض الخير؛ وتهدأ العين قريرة؛ وتستطعم المآكل؛ وتستلذ المشارب؛ وتتقدم الأمم نحو الحضارة والبناء.
ولذلك كان من أوجب واجب على المجتمعات بعد العناية بإيمانها وتوحيدها لربها أن تحافظ على أمنها وأمانها؛ لئن في اختلال أمنها بداية تسلط أعداءها عليها؛ ونشر الفساد فيها؛ وتأخرها عن التقدم في جميع مجالات الحياة.
والحذر أيضاً ممن يهونون من شأن المحافظة على الأمن والأخذ على أيديهم لأن المجتمع كالسفينة التي متى ما غفل عنها الربان وقيادتها إلى بر الأمان كان مصيرها الغرق وهلاك جميع من فيها.


رابط الموضوع : http://www.assakina.com/taseel/6764.html#ixzz2vf4Tc1XN

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق