الأربعاء، 12 مارس 2014

فوائد مُهمّة في الصبر على جور الوُلاة والأئمة

فوائد مُهمّة في الصبر على جور الوُلاة والأئمة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهدى الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، 
أما بعد:
فموضوع سلسلتنا هذه (فوائد مهمة في الصبر على جور الولاة والأئمة)، وهي من الأهمية بمكان؛ لكثرة من ضل وزلّ في هذه المسألة؛ قديما وحديثاً، ولأن الصبر على جور الولاة والأئمة، واحتمال ما قد يقع منهم من الأذى؛ هو من أصول أهل السنة والجماعة(1)، ولكن ظَنَّ كثيرٌ ممن لا علم عنده، أن ظلم الوُلاة للرعية، واستئثارهم بالمال، وارتكابهم للمعاصي، وغير ذلك؛ مما يوجب خلعهم، ويسوّغ الخروج عليهم، ونزع اليد عن طاعتهم؛ وهذا غاية الجهل بالنصوص، وباعتقاد السلف، وبما ثبت عن أهل العلم -رحمهم الله-، مع ما يترتب على هذا الصنيع من مفاسد، وشرور، وفتن، والقاعدة: أن ما غلبت مفسدته على مصلحته؛ فإنه يُمنَع، فكيف إذا انضم إلى ذلك بقاء الشرّ وازدياده؟!
فالمدوناتُ الاعتقادية لأهل السنة والجماعة، مملوءة بوجوب طاعة الأئمة؛ وإن جاروا، وظلموا، وأن الحج والجهاد ماضيان معهم إلى يوم القيامة، وقد نقل الإجماع علي ذلك، أبو الحسن الأشعري؛ فقال: ” وأجمعوا على السمع والطاعة لأئمة المسلمين، وعلى أن كل من ولي شيئاً من أمورهم عن رضىً، أو غلبة، وامتدت طاعته – من بَرٍّ، وفاجرٍ-: لا يلزم الخروج عليه بالسيف؛ جار أو عدَل، وعلى أن يُغْزا معه العدو، ويُحَجُّ معه البيت، وتُدفع إليه الصدقات إذا طلبوها، ويُصلّى خلفهم الجمع والأعياد “(2).
وقال الإمام الصابوني: ” ويرى أصحاب الحديث الجمعة والعيدين وغيرهما من الصلوات خلف كل إمام مسلم؛ بَرّاً كان أو فاجراً، ويرون جهاد الكفار معهم؛ وإن كانوا جوَرَةً فَجَرَةً، ويرون الدعاء لهم بالإصلاح، والتوفيق، والصلاح، وبسط العدل في الرعية، ولا يرون الخروج عليهم بالسيف؛ وإن رأوا منهم العدول عن العدل إلى الجوْر والحيْف…” (3).
فطوائف الضلال يوجبون الخروج على الأئمة حال فسقهم وجورهم، ويوجبون خلعهم، ويرونه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال القاضي عبد الجبار المعتزلي: ” فأما الأحداث التي يخرج بها من كونه إماماً؛ فظهور الفسق، سواء بلغ حد الكفر أو لم يبلغ؛ لأن ذلك يقدح في عدالته…لا فرق بين الفسق بالتأويل، وبين الفسق بأفعال الجوارح في هذا الباب عند مشايخنا…وهذا مما لا خلاف فيه؛ لأهم أجمعوا أنه يهتك بالفجور وغيره، وكذا أنه لا يبقى على إمامته “(4).
وهذا أيضاً مذهب الخوارج؛ فقد ذكر الشهرستاني أن مما يَجمعُ فرق الخوارج، أنهم : ” يرون الخروج على الإمام إذا خالف السنّة؛ حقّاً واجباً “(5).
وقال أبو الحسن الأشعري: ” وأما السيف: فإن الخوارج جميعاً تقول به وتراه، إلا أن الإباضية لا ترى اعتراض الناس بالسيف، ولكنهم يرون إزالة أئمة الجور ومنعهم أن يكونوا أئمة، بأي شيء قدروا عليه، بالسيف، أو بغير السيف “(6).
ونجد مصداق ما حكاه الأشعري عن الإباضية -من فرق الخوارج-، في كتب الإباضية أنفسهم؛ فقد ذكر الباروني في كتابه (مختصر تاريخ الإباضية)(7): أن الإمام إذا جار في الحُكم، وخالف الحق، ولم يتب: جاز، بل وجب الخروج عليه.
ويقول الإباضي المعاصر: علي يحيى معمّر: ” الحاكم الجائر يطالَب أولاً بالعدل، فإن لم يستجب طُولب باعتزال أمور المسلمين، فإن لم يستجب جاز القيام عليه، وعزله بالقوة، ولو أدى ذلك إلى قتله، إذا كان ذلك لا يؤدي إلى فتنة أكبر “(8). 
وهذه الأقوال لأهل البدع، هي بخلاف ما نطقت به النصوص، وأُثر عن السلف في هذه المسألة على وجه الخصوص، قال الإمام النووي: ” إن الإمام لا ينعزل بالفسق على الصحيح “(9). 
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: “…ولهذا كان مذهب أهل الحديث؛ ترك الخروج بالقتال على الملوك البُغاة، والصبر على ظلمهم، إلى أن يستريح بَرٌّ، أو يُستراح من فاجر…” (10).
وقال أيضاً : “وأما ما يقع من ظلمهم وجورهم بتأويل سائغ أو غير سائغ؛ فلا يجوز أن يُزال لما فيه من ظلم وجور، كما هو عادة أكثر النفوس؛ تُزيل الشرّ بما هو أشرّ منه، وتزيل العدوان بما هو أعدى منه؛ فالخروج عليهم يوجب من الظلم والفساد أكثر من ظلمهم، فيصبر عليه؛ كما يصبر عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ظلم المأمور والمنهي في مواضع كثيرة، كقوله تعالي:{وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك}[لقمان:17]… “(11).
والنقول عن أهل العلم بهذا؛ طويلة الذيل، والمقصود: أن أهل السنة هم أسعد الطوائف بالنصوص الشرعية، والقواعد المرعية. 
وقد ذكر الشوكاني أن الأحاديث الواردة في الأمر بطاعة الأئمة، وعدم نكث البيعة، والأمر بالصبر على جورهم- وإن رأى الإنسان ما يكره-: قد بلغت حدّ التواتر(12).
 فمن هذه النصوص التي وردت بالصبر على جور الأئمة، وعدم الخروج عليهم: حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، قال:” بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، على السمع والطاعة في العُسر واليُسر، والمنشط والمَكْره، وعلى أثَرةٍ علينا، وعلى ألا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفراً بواحاً، عندكم من الله فيه برهان “(13).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية تعليقاً على هذا الحديث : ” فهذا أمْرٌ بالطاعة، مع استئثار ولي الأمر، وذلك ظلم منه، ونهي عن منازعة الأمر أهله، وذلك نهيٌ عن الخروج عليه “(14).
ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: ” من رأى من أميره شيئاً يكرهه؛ فليصبر؛ فإنه من فارق الجماعة شبراً، فمات؛ فميتته جاهلية “(15).
ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: ” إنها ستكون بعدي أَثَرَة وأمور تنكرونها “، قالوا: يا رسول الله! فما تأمرُنا؟ قال: ” تؤدون الحقّ الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم “(16). 
قال الإمام النووي: ” فيه الحثُّ على السمع والطاعة، وإن كان المتولي ظالماً عسوفاً؛ فيُعطَى حقَّه من الطاعة، ولا يُخرج عليه، ولا يُخلع، بل يُتضرع إلى الله تعالى في كشف أذاه، ودفع شرّه، وإصلاحه “(17).
وبوّب النووي في شرح مسلم(18)، على حديث أُسيد بن حُضير – الآتي ذكْره بعْدُ- باباً بعنوان: (باب الأمر بالصبر عند ظلم الوُلاة واستئثارهم )، وبوّب عليه ابن أبي عاصم في كتاب السنّة، بقوله: (باب: ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، من الصبر عندما يرى المرء من الأمور التي يفعلها الوُلاة ) (19).
ولفظ الحديث: أن رجلاً من الأنصار خلا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ألا تستعملني كما استعملت فلاناً؟ فقال: ” إنكم ستلقون بعدي أَثَرَة؛ فاصبروا حتى تلقوني على الحوض “(20).
ومنها: من رواه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ” أتاني جبريل فقال: إن أُمّتك مفتتنة من بعدك. فقلتُ: من أين؟ قال: من قِبَلِ أُمرائهم وقُرّائهم؛ يمنع الأمراءُ الناسَ الحقوق، فيطلبون حقوقهم، فيفتنون، ويتبع القُرّاء هؤلاء الأمراء؛ فيُفتَنون.
قلتُ: فكيف يسْلَم من سَلِمَ منهم؟ قال: بالكفّ والصبر؛ إن أُعطُوا الذي لهم؛ أخذوه، وإن مُنعوه؛    تركوه “(21).
ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: ” إنه يستعمل عليكم أمراء؛ فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع، قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: لا، ما صلوا “(22).
ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: ” خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلّون عليهم ويصلّون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم، قال: قلنا: يا رسول الله، أفلا ننابذهم؟ قال: لا ، ما أقاموا فيكم الصلاة. ألا من ولي عليه والٍ فرآه يأتي شيئاً من معصية الله، فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينـزعن يداً من طاعة “(23).
ومنها: حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، قال: قال رسول قوله صلى الله عليه وسلم: ” يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهدي، ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين، في جثمان إنس. قال: قلت: كيف اصنع يا رسول الله إن أدركتُ ذلك؟ قال: تسمع وتطيع وإن ضرب ظهرك ، واخذ مالك، فاسمع وأطع “، وفي رواية : ” تلزم جماعة المؤمنين وإمامهم. قال: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعضّ على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك “(24).
قال القرطبي، في التعليق على هذا الحديث: ” إن طاعة الأمير واجبة على كل حال؛ سواء كان المأمور به موافقاً لنشاط الإنسان وهواه، أو مخالفاً.
والمعنى: أن الطاعة للأمراء واجبة ، وغن استأثروا بالأموال دون الناس، بل وعلى أشد من ذلك؛ لأنه قتل لحذيفة: (فاسمع وأطع، وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك) “(25).
ومنها: أن سلمة بن يزيد الجعفي، سأل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا نبي الله! أرأيتَ إن قامت علينا أمراء، يسألوننا حقّهم، ويمنعوننا حقنا، فما تأمرنا؟ فأعرض عنه، ثم سأله، فأعرض عنه، ثم سأله في الثانية أو الثالثة، فجذبه الأشعث بن قيس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حُمِّلوا، وعليكم ما حُمِّلتم “(26).
وأما الآثار عن الصحابة الكرام، والسلف الأعلام، في تحريم الخروج على الأمراء، والسلاطين، وإن جاروا، أو ظلموا، أو أتوا شيئاً من معصية الله، وأظهروا بعض المخالفات الشرعية: فكثيرةٌ؛ منها:
عن سويد بن غفلة، قال: قال لي عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ” يا أبا أمية! غني لا أدري لعلي لا ألقاك بعد عامي هذا؛ فإن أُمَّرَ عليك عبدٌ حبشي، مُجدَّع، فاسمع له وأطع، وإن ضربك فاصبر، وإن حرمك فاصبر، وإن أراد أمراً ينقص دينك، فقل: سمعاً وطاعةً ، دمي دون ديني، ولا تفارق الجماعة “(27).
وعن زيد بن أسلم: ” أن ابن عمر كان في زمان الفتنة، لا يأتي أميرٌ إلا صلى خلفه، وأدّى إليه زكاة       ماله “(28). 
وعن أبي صالح، أنه سأل عبدَ الله بن عمر، وسعد بن أبي وقاص، وأبا سعيد الخدري، عن الزكاة، أينفذها على ما أمر الله، أو يدفعها إلى الولاة؟ قالوا: بل يدفعها إلى الولاة(29).
وقال الأعمش: ” كان كبار أصحاب عبد الله يصلون الجمعة مع المختار، ويحتسبون بها “(30).
مع أن  المختار بن أبي عبيد الثقفي، كان يُرمَى بأمور عظام، وترجمتُة مُظْلِمة(31).
ونقل ابن رجب الحنبلي، عن الحسن البصري، أنه قال: ” الأمراء يلون من أمورنا خمسة: الجمعة، والجماعة، والعيد، والثغور، والحدود، والله ما يستقيم الدين إلا بهم، وإن جاروا أو ظلموا، والله ما لما يُصلح الله بهم، أكثر مما يفسدون “(32).
وقال سفيان الثوري : ” يا شعيب! لا ينفعك ما كتبتَ حتى ترى الصلاة خلف كل إمام بَرٍّ وفاجر، والجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة تحت لواء السلطان؛ جارَ، أم عدل “(33).
وأخرج الخلاّل في السنة(34)، قال: ” وأخبرني علي بن عيسى، قال: سمعتُ حنبل يقول في ولاية الواثق: اجتمع فقهاء بغداد على أبي عبد الله-يعني: أحمد بن حنبل-:أبو بكر بن عبيد، وإبراهيم بن علي المطبخي، وفضل بن عاصم، فجاءوا إلى أبي عبد الله، فاستأذنتُ لهم، فقالوا: يا أبا عبد الله! هذا الأمر قد تفاقم-يعنون: إظهار القول بخلق القرآن، وغير ذلك-. فقال لهم أبو عبد الله: فما تريدون؟قالوا: أن نشاورك في أنّا لسنا نرضى بإمرته ولا سلطانه. فناظرهم أبو عبد الله ساعة، وقال لهم: عليكم بالنكرة بقلوبكم، ولا تخلوا يداً من طاعة، ولا تسفكوا دماءكم ودماء المسلمين معكم، انظروا في عاقبة أمركم، واصبوا حتى يستريح برٌ، أو يُستراح من فاجر.
ودار في ذلك كلام كثير لم أحفظه، ومضوا. ودخلتُ أنا وأبي على أبي عبد الله، بعد ما مضوا. فقال أبي لأبي عبد الله: نسأل الله السلامة لنا ولأمة محمد، وما أحب لأحد أن يفعل هذا.
وقال أبي: يا أبا عبد الله! هذا عندك صواب؟
قال: لا -يعني: نزع أيديهم من طاعته-هذا خلاف الآثار التي أُمرنا فيها بالصبر. ثم ذكر أبو عبد الله: قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن ضربك فاصبر)، وإن، وإن، فاصبرْ، فأمر بالصبر، قال عبد الله بن مسعود: وذكر كلاماً لم أحفظه “.
قال الإمام الآجري: ” قد ذكرتُ من التحذير من مذهب الخوارج، ما فيه بلاغ لمن عصمه الله تعالى عن مذهب الخوارج، ولم ير رأيهم، وصبر على جور الأئمة، وحيف الأمراء، ولم يخرج عليهم بسيفه، وسأل الله تعالى كشف الظلم عنه وعن المسلمين، ودعا للولاة بالصلاح، وحج معهم، وجاهد معهم كل عدو للمسلمين، وصلى معهم الجمعة والعيدين؛ فإن أمروه بمعصيةٍ؛ لم يطعهم، وإن دارت الفتنة بينهم؛ لزم بيته. فمن كان هذا وصْفُه: كان على الصراط المستقيم، إن شاء الله “(35).
وقال الإمام ابن أبي زمنين المالكي: ” فالسمع والطاعة لولاة الأمر؛ أمرٌ واجبٌ، مهما قصّروا في ذاتهم، فلم يبلغوا الواجب عليهم، غير أنهم يُدْعَوْن إلى الحق، ويُدَلُّون عليه، فعليهم ما حُمِّلُوا، وعلى رعاياهم ما حُمِّلوا من السمع والطاعة لهم “(36).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : “…فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، أن الأمراء يظلمون ويفعلون أموراً منكرة، ومع هذا فأمرنا أن نؤتيهم الحقَّ الذي لهم، ونسأل الله الحقَّ الذي لنا، ولم يأذن في أخذ الحق بالقتال، ولم يرخص في ترك الحق الذي لهم “(37).
ومن المفاسد المترتبة على الخروج على الأمراء الجائرين، ما أشار إليه الإمام ابن أبي العز الحنفي، بقوله: ” وأما لزوم طاعتهم وإن جاروا؛ فلأنه يترتب على الخروج عن طاعتهم من المفاسد، أضعاف ما يحصل من جورهم، بل الصبر على جورهم تكفير السيئات، ومضاعفة الجور؛ فإن الله تعالى ما سلطهم علينا إلا لفساد أعمالنا، والجزاء من جنس العمل، فعلينا الاجتهاد في الاستغفار، والتوبة، وإصلاح العمل…” (38).
وسبق مثله عن شيخ الإسلام ابن تيمية، أول هذه الرسالة.
فهذه الأحاديث والآثار، قد نثرناها بين يديك، مشفوعة بأقوال أهل العلم والدارية والفهم، بوجوب طاعة السلطان وإن جار وبغى، وتحريم الخروج عليه، وأن هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة، وخلافه مذهب أهل البدع والشنع، فما بال خوارج العصر لا يكادون يفقهون حديثاً؟!
 ولله در الإمام الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ إذ يقول في الرد على دُعاة الخروج والفتنة: “…ولم يدر هؤلاء المفتونون: أن أكثر ولاة أهل الإسلام، من عهد يزيد بن معاوية-حاشا عمر بن عبد العزيز، ون شاء الله من بني أُميّة- قد وقع منهم من الجراءة، والحوادث العظام، والخروج والفساد في ولاية أهل الإسلام، ومع ذلك: فسيرة الأئمة الأعلام، والسادة العظام معهم معروفة مشهورة؛ لا ينـزعون يداً من طاعة فيما أمر الله به ورسوله، من شرائع الإسلام، وواجبات الدين .
وأضرب لك مثلاً بالحجّاج بن يوسف الثقفي، وقد اشتهر أمره في الأمة بالظلم، والغشم، والإسراف في سفك الدماء، وانتهاك حرمات الله، وقتْل من قَتَلَ من سادات الأُمّة؛ كسعيد بن جُبير، وحاصر ابنَ الزبير؛ وقد عاذ بالحرم الشريف، واستباح الحرمة، وقتل ابنَ الزبير- مع أن ابن الزبير قد أعطاه الطاعة، وبايعه عامةُ أهل مكة والمدينة واليمن وأكثر سواد العراق، والحجاج نائبٌ عن مروان، ثم عن ولده عبد الملك، ولم يعهَد أحدٌ من الخلفاء إلى مروان، ولم يبايعه أهل الحل والعقد-.
ومع ذلك:لم يتوقف أحدٌ من أهل العلم في طاعته، والانقياد له، فيما تسوغ طاعته فيه من أركان الإسلام وواجباته.
وكان ابن عمر- ومن أدرك الحجاج من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم – لا ينازعونه، ولا يمتنعون منة طاعته فيما يقوم به الإسلام، ويكمَّل به الإيمان. وكذلك من في زمنه من التابعين؛ كابن المسيب، والحسن البصري، وابن سيرين، وإبراهيم التيمي، وأشباههم ونظرائهم من سادات الأُمة.
واستمر العمل على هذا بين علماء الأُمة من سادات الأمة وأئمتها؛ يأمرون بطاعة الله ورسوله، والجهاد في سبيله، مع كل إمام؛ بر أو فاجر؛ كما هو معروف في كتب أصول الدين والعقائد.وكذلك بنو العباس استولوا على بلاد المسلمين قهراً بالسيف، لم يساعدهم أحد من أهل العلم والدين، وقتلوا خلقاً كثيراً، وجمّاً غفيراً من بني أُميّة، وأمرائهم، ونوّابهم، وقتلوا ابن هبيرة أمير العراق، وقتلوا الخليفة مروان، حتى نُقل أن السّفاح قتل في يوم واحد نحو الثمانين من بني أُمية، ووضع الفُرش على جثثهم، وجلس عليها، ودعا بالمطاعم والمشارب.
ومع ذلك: فسيرة الأئمة؛ كالأوزاعي، ومالك، والزهري، والليث بن سعد، وعطاء بن أبي رباح، مع هؤلاء الملوك، لا تخفى على من له مشاركة في اعلم، واطّلاع.
والطبقة الثانية من أهل العلم؛ كأحمد بن حنبل، ومحمد بن إسماعيل، ومحمد بن إدريس، وأحمد بن نوح، وإسحاق بن راهوية، وإخوانهم…وقع في عصرهم من الملوك ما وقع من البدع العظام، وإنكار الصفات، ودعوا إلى ذلك، وامتحنوا فيه، وقُتل من قُتل؛ كمحمد بن نصر، ومع ذلك: فلا يُعْلَم أن أحداً منهم نزع يداً من طاعةٍ، ولا رأى الخروج عليهم …” (39).
هذا هو منهج السلف، لمن رام الوقاية من الزلل والتلف، فعض عليه بالنواجذ؛ فإنه الحقّ، وأعرض عمّا سواه من مذاهب أهل الباطل:
                      والله لن يجتمعا ولن يتلاقيا    حتي تشيب مفارق الغربان(40).
والله أعلى وأعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه، وسلم.
————————————————————
(1) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية (28/179).
(2) رسالة أبي الحسن الأشعري إلى أهل الثغر، ص (297)، طبعة: مكتبة العلوم والحكم.
(3) عقيدة السلف أصحاب الحديث، ص (106).
(4) المغني في أبواب التوحيد والعدل، للقاضي عبد الجبار المعتزلي (20/170/ق:2)، نقلاً عن كتاب: الإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة، للدميجي.
(5) الملل والنحل، للشهرستاني (1/115).
(6) مقالات الإسلاميين، لأبي الحسن الأشعري (1/204).
(7) ص (68)،نشر: دار الاستقامة، تونس، الطبعة الثانية.
(8) الإباضية، دراسة مركّزة في أصولهم التاريخية، ص (47). نشر: مكتبه وهبة، القاهرة، الطبعة الثانية.
(9) شرح النووي على مسلم (12/229).
(10) مجموع الفتاوى (4/444).
(11) مجموع الفتاوى (28/180).                        
(12) انظر: نيل الأوطار (7/199).
(13) أخرجه البخاري (13/5-فتح الباري)، ومسلم (3/1470).
(14) منهاج السنة (2/88).
(15) رواه البخاري (13/5-فتح الباري)، مسلم (3/1477).
(16) رواه البخاري (13/5-فتح الباري)، ومسلم (3/1472).
(17) شرح النووي على مسلم (12/232).
(18) (12/235).
(19) (2/523).
(20) رواه البخاري (13/5)، ومسلم (12/1474).
(21) عزاه الحافظ في الفتح (13/6)، إلى الإسماعيلي، وسكت عليه.
(22) أخرجه مسلم، برقم (1854).
(23) أخرجه مسلم (
(24) أخرجه البخاري (13/35)، ومسلم (3/1475).
(25) المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم (4/36-37).
(26) أخرجه مسلم، برقم (1846).
(27) أخرجه الآجري في الشريعة (379-381)، وابن أبي شيبة في المصنف (12/544)، والبيهقي في السنن الكبرى (8/274)، والخلال في السنة (1/111).
(28) أخرجه ابن سعد في الطبقات (4/149)، بسند صحيح.
(29) أخرجه ابن أبي زمنين في أصول السنة، ص (286)، بسند صحيح.
(30) أخرجه ابن أبي زمنين في أصول السنة، ص (284)، وسنده صحيح.
(31) انظر: سير أعلام النبلاء (3/538-544)
(32) جامع العلوم والحكم (2/117).
(33) أخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1/154).
(34) أخرجه البخاري (13/35)، ومسلم (3/1475).
(35) الشريعة (1/371-372).
(36) السنة ، لأبن أبي زمنين، ومعه رياض الجنة بتخريج السنة، ص (276).
(37) منهاج السنة النبوية (3/392).
(38) شرح العقيدة الطحاوية (2/543).
(39) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (7/177-178).
(40) “شرح القصيدة النونية، لابن القيم”، لابن عيسى (1/480).


رابط الموضوع : http://www.assakina.com/taseel/4687.html#ixzz2vjhpcu23

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق