الأربعاء، 12 مارس 2014

حكم لعن المسلم الفاسق

حكم لعن المسلم الفاسق

كثيـراً ما تأخذ المؤمنَ حميةُ الإيمان عندما يعرض له في حياتـه اليوميـة انتهاكٌ لحرمات الشريعة من الفسقة وغيرهم، فيأخذ لسانه في أغلب الأحيان بلعن من انتهك هذه الحرمات والدعاء عليهم، شفاءً لما في صدره من غيظٍ يعتلجه لعدم استطاعته التغيير أو الإنكار، اللهمَّ إلا إطلاق اللسان بما تقدّم من اللعن.
فهل يجوز للمؤمن الطائع أن يلعن من ألمَّ بمعصية الله؟ هذا السؤال يجيب عنه هذا المبحث ضمن المطالب التالية:
المطلب الأول: تعريف اللعن لغةً واصطلاحاً.
المطلب الثاني: حكم اللعن مطلقاً.
المطلب الثالث: حكم لعن المؤمن المصون.
المطلب الرابع: حكم لعن الفسقة غير المعينين.
المطلب الخامس: حكم لعن الفاسق المعين.
المطلب السادس: المناقشة والترجيح مع النتائج.
 المطلب الأول
تعريف اللعن لغةً واصطلاحاًً
أ ـ اللعن لغةً: أصل اللعن في اللغة:الطرد والإبعاد على سبيل السخط، أو الطرد، والإبعاد من الخير، وكلاهما بمعنى واحد، لكن قد يختلف المعنى بحسب قائل اللعن:
ـ فإذا كانت اللعنة من الله تعالى في الآخرة؛ فهي العقوبة والعذاب.
ـ وإذا كانت منه سبحانه في الدنيا؛ فهي انقطاعٌ من قبول رحمته وتوفيقه.
ـ وإذا كانت من الإنسان؛ فهي بمعنى الدعاء على غيره.
ـ وقد تكون من الإنسان بمعنى السب لغيره . (1)
والذي يتعلَّق ببحثنا بشكل خاص هو لعن الإنسان للإنسان؛ إما بمعنى الدعاء عليه بالطرد والإبعاد من رحمة الله على المعنى الأقوى، أو بمجرَّد السبّ على ما ذكره ابن منظور بصيغة التضعيف.
 ـ تعريف اللعن اصطلاحاً:
جاء في «المفهم» للقرطبي: «وهو في الشرع ـ أي اللعن ـ البعد عن رحمة الله تعالى وثوابه إلى ناره وعقابه».(2)
وقد عرَّفه ابن عابدين نقلاً عن القُهُستان (3) بقوله: «وشرعاً في حق الكفار: الإبعاد عن رحمة الله، وفي حقّ المؤمنين: الإسقاط عن درجة الأبرار».(4)
 المطلب الثاني
حكم اللعن مطلقاًً
 
لمعرفـة حكم اللعن مطلقـاً وحكم جريانـه على لسان المؤمن؛ نسوق بعض النصوص الواردة بهذا الخصوص:
1 ـ عن ابن مسـعود رضي الله عنه قال: قـال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «… لا يكون المؤمن لعَّاناً»(5)
2 ـ وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا ينبغي لصديق أن يكون لعّاناً»(6)
3 ـ وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللعَّانين لا يكونون شهداء ولا شفعاء يوم القيامة» . (7)
4 ـ وعن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال: بينما جاريةٌ على ناقةٍ عليها بعض متاع القوم إذ بَصُرَت بالنبي صلى الله عليه وسلم، وتضايق بهم الجبل، فقالت: حَلْ حَلْ اللهمَّ العنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تصاحبنا ناقةٌ عليها لعنة».(8)
5 ـ وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ رجلاً نازعته الريح رداءه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلعنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تلعنها فإنّها مأمورة مُسخَّرة، وإنَّه مَن لعن شيئاً ليس له بأهل رجعت عليه».(9)
ـ يؤخذ من هذه الأحاديث الأحكام التالية:
أ ـ أن كثرة اللعن ليست من صفات المؤمنين الصادقين.
ب ـ أنه لا يجوز لعن الدواب.
جـ ـ أنه لا يجوز لعن الريح وغيرها من مُسخَّرات الله في هذا الكون.
د ـ أنَّ اللعنَ أمرٌ خطيرٌ، فإذا لعن الإنسان أي شيء كان، ولم يكن هذا الشيء مستحقاً للعنة، رجعت اللعنة عليه، فينبغي أن يُحتاط له أشد الاحتياط.
 المطلب الثالث
حكم لعن المسلم المصون
 
ومعنى المسلم المصون هنا: هو الذي لا يُقدِم على المحرَّمات فيما يظهر لنا ولم يُعرَف منه المجاهرة بالمعاصي، ولبيان حكم لعنه نسوق النصوص التالية:
1 ـ قال تعالى: (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً ) [الأحزاب: 58].
2 ـ عن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لعنُ المؤمنِ كقتلِه»(10)
3 ـ وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ من الكبائر أن يلعنَ الرجل والديه…» (11) الحديث.
4 ـ وعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: «كنّا إذا رأينا الرجل يلعن أخاه، رأينا أن قد أتى باباً من الكبائر»(12).
ـ يؤخذ من هذه النصوص ما يلي:
أ ـ أنَّ لعن المسلم الذي لم يجترح إثماً ظاهراً ذنبٌ عظيم.
ب ـ أنَّ لعن المسلم المصون جريمةٌ مثل جريمة قتله.
جـ ـ أنَّ لعن المسلم المصون كبيرةٌ من كبائر الذنوب(13)
 وقد نقل الإجماع على تحريم لعن المؤمن المصون العديد من العلماء:
فقد قال النووي: «اعلم أنَّ لعن المسلم المصون حرامٌ بإجماع العلماء».(14)
وقال ابن تيمية: «الإجماع منعقدٌ على تحريم لعنة المعيَّن من أهل الفضل»(15)
 المطلب الرابع
حكم لعن الفاسق غير المعيَّن:
جاء النصوص الكثيرة بجواز لعن الفاسق غير المعين بالشخص ممن اتصف بأوصاف مذمومة شرعاً كالكفر والظلم والكذب وغيرها من المحرّمات الثابتة الحرمة، وهذه بعض النصوص في ذلك:
1 ـ قوله تعالى: (فلعنة الله على الكافرين ) [البقرة: 89].
2 ـ قوله تعالى: (ألا لعنة الله على الظالمين ) [هود: 18].
3 ـ قوله تعالى: (ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الكاذبين ) [آل عمران: 31]
وغيرها عشرات الآيات في القرآن الكريم بهذا الخصوص، أما من السنَّة؛ فقد جاءت أيضاً أحاديث كثيرة تبيّن جواز لعن من اتّصف بشيء من صفات الفسق، ومنها:
1 ـ عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله الواصِلةَ، والمُسْتَوْصِلة، والوَاشِمَةَ، والمُستوشمةَ»(16)
2 ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لعن السارق، يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده» (17)
3 ـ وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: «لعن النبي صلى الله عليه وسلم من مَثَّل بالحيوان»(18)
4 ـ وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «لعن النبي صلى الله عليه وسلم المتشبّهين من الرجال بالنساء، والمتشبّهات من النساء بالرجال»(19)
5 ـ وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله آكل الربا وموكله، وشاهديه، وكاتبه، هم فيه سواء»(20)
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من آوى مُحْدِثاً، ولعن الله من لعن والديه، ولعن الله من غيَّر منار الأرض» (21)
وغيرهما من جملة كثيرة من الأحاديث التي ورد فيها لعن مقترفي الآثام العظيمة بعموم الوصف لا بخصوص الشخص، وقد زادت هذه الأوصاف على الثمانين(22)
 ويأخذ من هذه النصوص الأحكام التالية:
أ ـ أفادت الآيات جواز لعن غير المعيَّن بالشخص، وإنما من عين بالوصف سواء كان من الكفار أم من غيرهم(23)
ب ـ في الأحاديث جواز لعن العصاة من المسلمين لا على التعيين(24).
 ولتفصيل هذا الإجمال نترك المجال للإمام الغزالي حيث أجاد في الحكم وأفاد:
يقول الإمام الغزالي رحمه الله: «والصفات المقتضية للعن ثلاثة: الكفر والبدعة والفسق؛ واللعن في كل واحدة ثلاث مراتب:
الأولى: اللعن بالوصف الأعم؛ كقولك: لعنة الله على الكافرين والمبتدعين والفسقة.
الثانية: اللعن بأوصاف أخصّ منه؛ كقولك: لعنة الله على اليهود والنصارى والمجوس، وعلى القدرية والخوارج والروافض، أو على الزناة والظلمة وأكَلَة الربا.
وكل ذلك جائز.
ولكن في لعن أوصاف المبتدعة خطرٌ، لأنَّ معرفة البدعة غامضة ولم يرد فيه لفظ مأثور، فينبغي أن يمنع منه العوام، لأنَّ ذلك يستدعي المعارضة بمثله ويثير نزاعاً بين الناس وفساداً.
الثالثة: اللعن للشخص المعين، وهذا فيه نظر».(25)
جـ ـ ما تقدَّم من جواز لعن العصاة غير المعينين لم يختلف فيه العلماء، وقد نقل الهيثمي الإجماع عليه حيث قال: «أما لعن غير المعين بالشخص، وإنّما عُيِّن بالوصف بنحو لعن الله الكاذبَ فجائزٌ إجماعاً».(26)
وسبقه ابن العربي المالكي في نقل الإجماع فقال: «وأما لعن العاصي مطلقاً؛ فيجوز إجماعاً»(27).
 المطلب الخامس
حكم لعن الفاسق المعين
وهي النقطة المخصوصة بالبحث، وقد اختلف فيها العلماء إلى فريقين، هذا عرضٌ لتفاصيل آرائهم فيها:
الفريق الأول:
 ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة إلى عدم جواز لعن الفاسق المعين، وهذه بعض نصوصهم:
جاء في «حاشية ابن عابدين»: «لم تجز ـ اللعنة ـ على معين لم يعلم موته على الكفر بدليل، وإن كان فاسقاً متهوّراً».(28)
وفي «أحكام القرآن» لابن العربي: «فأما العاصي المعين فلا يجوز لعنه اتفاقاً» (29).
وجاء في «الزواجر» لابن حجر الهيتمي: «… ليس لنا غرضٌ شرعي يُجَوِّز لعن المسلم أصلاً، ثم محل حرمة اللعن إذا كان لمعين، فالمعين لا يجوز لعنه وإن كان فاسقاً».(30)
وجاء في «منهاج السنَّة» لابن تيمية: «وأما ما نقله عن أحمد؛ فالمنصوص الثابت عنه من رواية صالح(31) أنه قال لما قيل له: ألا تلعن يزيد؟، فقال: ومتى رأيت أباك يلعن أحداً. وثبت عنه أنّ الرجل إذا ذكر الحجاج ونحوه من الظَّلَمة وأراد أن يلعن يقول: ألا لعنة الله على الظالمين، وكره أن يُلعن المعين باسمه»(32)
وقد استدلَّ هؤلاء بما ذهبوا إليه بما يلي:
1 ـ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن رجلاً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله، وكان يُلقَّب حماراً، وكان يُضحِك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب، فأُتي به يوماً، فأَمَرَ به فجُلِدَ، فقال رجلٌ من القوم: اللهمَّ العنه، ما أكثر ما يؤتى به؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تلعنوه، فوالله ما علمت إلاّ أنه يحبّ الله ورسوله»(33)
وجه الدلالة: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم نهاهم عن لعن من شرب الخمر مراراً، وأخبر أنه يحب الله ورسوله، وفي رواية أخرى للحديث: «لا تجعلوا الشيطان عوناً على أخيكم». فأثبت له حرمة الأخوة، وهي تقتضي حرمة اللعن، وكذلك يقتضيه جعل الشيطان عوناً على المسلم الفاسق الذي نُطالب بالدعاء له بالهداية، لا بأن يبعده الله عن رحمته فينتصر الشيطان بذلك، وكل هذا على أن معنى اللعنة الطرد من رحمة الله(34)
2 ـ قال ابن تيمية في توجيه الحديث السابق: «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لعنة هذا المعين الذي كان يكثر شرب الخمر معلِّلاً ذلك بأنه يحب الله ورسوله مع أنه صلى الله عليه وسلم لعن شارب الخمر مطلقاً، فدلَّ ذلك على أنه يجوز أن يُلعن المطلق ولا يجوز لعنة المعين الذي يحب الله ورسوله، ومن المعلوم أنَّ كل مؤمن لا بدَّ أن يحب الله ورسوله»(35)
3 ـ الدعاء على المسلم بالطرد من رحمة الله فيه خطرٌ عظيم فمعناه دعاء الله أن يثبت المسلم الفاسق على فسقه وهو أمرٌ لا يجوز لأنه رضي بالفسق، والرضى بالفسق لا يجوز(36)
4 ـ ما تقدَّم في النقطة الثانية في خطورة أمر اللعن، وأن كثرته ليست من صفات المؤمنين، وأن العبد إذا لعن شيئاً لم يكن له بأهل؛ رجعت اللعنة عليه، وإذا سكت عن لعنه لم يفته أي خير فيكون السكوت أولى.
5 ـ أنَّ جواز لعن الفاسق المعين مرتبط بأمرين: أولهما: ثبوت أنه من الفساق الظالمين الذين تُباح لعنتهم، والثاني: ثبوت كونه قد مات مصرّاً على ذلك، والأمران يَعسر التحقق منهما؛ لأنَّ الذنب الذي هو سبب اللعن قد يرتفع موجبه لعارضٍ راجح: إما توبة، وإما حسنات ماحية، وإما مصائب مكفّرة، فمن أين يعلم الإنسان وقوع هذه أو عدم وقوعها؟! (37)
6 ـ أن أكثر المسلمين لا يخلو حالهم من اقتراف الذنوب وظلم الأنفس، فإذا فُتح باب لعن الفاسق ساغ أن يُلعن أكثر موتى المسلمين، والله تعالى أمر بالصلاة على موتى المسلمين ولم يأمر بلعنتهم، وكذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن سبِّ الأموات(38)
الفريق الثاني:
وبالمقابل ذهب فريق العلماء إلى جواز لعن الفاسق المعين،على التفصيل الآتي:
1 ـ جواز لعن الفاسق المعين مع الكراهة، وهو القول المعروف عن الإمام أحمد، كما ذكر ابن تيمية(39)، وهو ما ذهب إليه الإمام البخاري في تبويبه لحديث الذي كان يلقَّب حماراً ويشرب الخمر، حيث بوَّب له: «باب ما يكره من لعن شارب الخمر، وأنه ليس بخارجٍ من الملّة»(40)
2 ـ جواز لعن الفاسق المعين ما لم يُحدّ، فإذا حُدَّ لم يجز لعنه: وهذا القول نقله القاضي عياض عن بعضهم ولم يرتضه(41)، ونقله القرطبي ولم يعقّب عليه، وكأنه ارتضاه وقوَّاه حيث قال: «قد ذكر بعض العلماء خلافاً في لعن العاصي المعين، قال: وإنما قال صلى الله عليه وسلم: «لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم» في حق نُعيمان بعد إقامة الحد عليه، ومَن أقيم عليه حدُّ الله فلا ينبغي لعنه، ومَن لم يُقَم عليه الحدّ فلعنته جائزة سواء سُمِّي أو عُيِّن أم لا؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لا يلعن إلا من تجب عليه اللعنة ما دام على تلك الحالة الموجبة للَّعن، فإذا تاب منها وأقلع وطهَّره الحدُّ فلا لعنة تتوجَّه عليه، وبيَّن هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا زنت أمةُ أحدكم فليجلدها الحد ولا يُثرِّب(42). فدلَّ هذا الحديث مع صحّته على أن التثريب واللعن إنما يكونان قبل أخذ الحد، وقبل التوبة؛ والله أعلم»(43)
3 ـ جواز لعن من اشتهر بالفسق وجاهر به، خاصةً إذا كان ضرره بيِّناً وأذاه وظلمه للمسلمين ظاهراً، وقد ذكر هذا القول الحافظ ابن حجر في الفتح(44).
4 ـ جواز لعن الفاسق المعين مطلقاً: هو قول بعض الشافعية(45)، وبعض الحنابلة(46)، كما نسب إلى الحسن البصري(47)
 أدلة من أجاز لعن الفاسق المعين:
استدلَّ من أجاز لعن الفاسق المعين بما يلي من الأدلّة:
2 ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا دعا الرجل امرأتَه إلى فراشه فأبَتْ، فبات غضبان عليها، لعنتها الملائكة حتى تصبح»(48)
وجه الدلالة: أن في هذا الحديث لعن معينة إذ الضمير في «لعنتها» يخصُّ المرأة الهاجرة فراش زوجها فلا بدَّ من صفة تُميِّزها، وذلك إما بالاسم نحو اللهمَّ العن فلانة الممتنعة، أو بالإشارة نحو هذه الممتنعة والملك هنا هو اللاّعن، وهو معصوم والائتساء بالمعصوم مشروع، والبحث في جواز لعن المعين وهو موجود(49)
3 ـ عن جابر رضي الله عنه: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم مرَّ على حمارٍ وُسِمَ في وجهه فقال: «لعن الله الذي وسمه»(50)
وجه الدلالة في هذا الحديث أصرح من الذي قبله في لعن المعين، حيث توجَّه لعنه صلى الله عليه وسلم للشخص الذي وسم الحمار.
4 ـ مشروعية اللعان بين الزوجين وفيه لعن معين(51)
5 ـ مشروعية المباهلة وفيها أيضاً لعن معين(52)
ـ لقد حاول جماعة من العلماء التوفيق بين قول من أجاز لعن الفاسق المعين وبين قول من منعه بأنَّ الذي أجازه إنما أراد به المعنى العرفي أو أحد المعاني اللغوية وهو مطلق السبّ أو الطرد عن منازل الأخيار أو التشديد في الأمر كما ذكر ابن حجر العسقلاني وابن حجر الهيتمي وابن عابدين(53) وما ذكروه متجه، وينهي التعارض بين الفريقين، فيما لو صرَّح أصحاب القول بجواز لعن الفاسق المعين أنهم أرادوا مطلق السب ولم يقصدوا الإبعاد والطرد عن رحمة الله، ولكنهم لم يذكروا هذا في الكتب التي نقلت أقوالهم!.
 المطلب السادس
المناقشة والترجيح ثم النتائج
وعلى ما سبق يبقى الإشكال في لعن الفاسق المعين قائماً!.
والذي يبدو بعد ما تقدَّم جميعاً بين الأدلة والآراء:
جواز لعن الفاسق المجاهر بفسقه مع الكراهة، وذلك بشروط:
ـ أن يكون ما استحقَّ به اللعن ذنباً شنيعاً، فلا يجوز لعن من أتى الصغائر زلّةً منه، أو داوم عليها مع غلبة طاعاته على صغائره، لأن اللعن لم يثبت إلا فيمن أتى كبائر الذنوب.
ـ أن يكون الفاسق مجاهراً بما أتى غير مستتر به، قد ظهر منه الفساد بالناس والإفساد بالدين، أما إذا أتى كبيرةً سراً ولم يطَّلِع عليه إلا شخص أو شخصان؛ فهذا لا يجوز التشهير بلعنه لما فيه من مخالفة لمبدأ الستر في الإسلام.
ـ عدم الإكثار من لعن الفاسق المعين لئلا يقع في محذور اللعن.
وقد بني هذا الترجيح على ما يلي:
أولاً ـ ثبوت لعن المرأة التي باتت هاجرةً فراش زوجها، ومن وسم الحمار في وجهه، ومشروعية الملاعنة بين الزوجين والمباهلة بين الخصمين، وكلها تدلّ على لعن المعين، ولم يُجب من حرَّم لعن المعين عن ورود اللعن في هؤلاء المعينين إجابةً شافية، إلا اللهمَّ ما أجاب به الهيتمي من أنَّ لعن النبي صلى الله عليه وسلم المعينين هو من باب حديث: «اللهمَّ أنا بشرٌ فأي المسلمين لعنته أو سببته فاجعل له زكاةً وأجراً»(54).
 وهذه الإجابة فيها ما فيها، فإنه إن انطبق على من وسم الحمار فلا ينطبق على الهاجرة فراش زوجها، كما لا ينطبق على الملاعنة والمباهلة.
ثانياً ـ أن الملاعنة فيها صيغة اللعن الصريحة، وهي مستحقةٌ لأحد الزوجين إذا لم يرجع، ولم يقل أحدٌ إن الكاذب في الملاعنة ـ المستحق للعن ـ هو كافر أو أن الصادق منهما هو الذي وجَّه اللعن لزوجه المسلم قد ارتكب إثماً بما هو صادق فيه بل مأمورٌ به، لأنه دعا على زوجه بالطرد من رحمة الله وهنا حجر الزاوية، سواء في مسألة الملاعنة أو غيرها من الآثام التي تستوجب اللعن، وهو ما سيُوضّح في الفقرة التالية:
ثالثاً ـ أنه لا تعارض بين لعن المعين الفاسق وبين حقوقه الإسلامية العامة على المسلمين، من الأخوة والشفقة والنصيحة.. وفي هذا المقام يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «ومن جوَّز من أهل السنَّة لعن الفاسق المعين، فإنه يقول: يجوز أن أصلّي عليه وأن ألعنه، فإنه مستحقٍّ للثواب، مستحقٍّ للعقاب، فالصلاة عليه لاستحقاقه الثواب، واللعنة له لاستحقاق العقاب، واللعنة: البعد عن الرحمة، والصلاة عليه: سبب للرحمة، فيُرحم من وجه، ويُبعد عنها من وجه»(55)
رابعاً ـ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم نهى عن لعن المصون من المسلمين، ونهى عن لعن من ظهرت منه كبيرة شرب الخمر، مُعلِّلاً نهيه عن لعنه بأنه يحبّ الله ورسوله، فدلَّ هذا على أنَّ من لم يظهر منه استخفافٌ وإعلانٌ بالمعصية لا يُلعَن.
نتائج المبحث
 
ومن خلال ما تقدَّم يمكن استخلاص النتائج التالية:
1 ـ أن كثرة اللعن ليست من صفات الأبرار، سواء كان اللعن متّجهاً لإنسانٍ يستحقّه أو لا يستحقّه أو لدابّة أو جماد أو غير ذلك.
2 ـ أن لعن المسلم الذي لم يأتِ كبائر الإثم ولم يجاهر بالمعاصي حرام بإجماع العلماء.
3 ـ أن لعن الفسّاق وأصحاب المعاصي على وجه العموم جائز بإجماع العلماء أيضاً.
4 ـ جواز لعن الفاسق المجاهر بكبائر الذنوب الظاهر فساده وإفساده مع كراهية ذلك.
5 ـ أن الدعاء بالهداية للفاسق أولى من لعنه.
                                                                   وكتب أبو عبد الله الساحلي
المراجع ( الحواشي ): 
(1) ينظر: معجم مقاييس اللغة لابن فارس: 5/252 ـ 253؛ لسان العرب لابن منظور: 13/387؛ مفردات ألفاظ القرآن للأصبهاني، ص741؛ المصباح المنير للفيومي، ص212، كلهم مادة لعن.
(2) المفهم لما أشكل من تلخيص صحيح مسلم للقرطبي أبي العباس: 6/579.
(3) القُهُستاني (ت95هـ): محمد القُهُستاني، شمس الدين، فقيه حنفي، كان مفتياً ببخارى، له كتب منها: (جامع الرموز) ط. الأعلام للزركلي: 7/11.
(4) حاشية ابن عابدين: 3/416.
(5) أخرجه البخاري في الأدب المفرد، ص74، في: 145 ـ باب ليس المؤمن بالطعَّان، رقم (312)؛ وأخرجه الترمذي في السنن: 4/371، في: 28 ـ كتاب البرّ والصلة، 72 ـ باب ما جاء في اللعن والطعن، رقم الحديث (2019). وإسناده حسن. ينظر جامع الأصول: 10/758.
(6) أخرجه مسلم في صحيحه: 4/2005، في: 45 ـ كتاب البر والصلة والآداب، 24 ـ باب النهي عن لعن الدواب وغيرها، رقم الحديث (2597).
(7) أخرجه مسلم في صحيحه: 4/2006 في الكتاب والبابين السابقين، رقم (2598)؛ وأخرجه أبو داود في السنن، ص742 في: 35 ـ كتاب الأدب، 53 ـ باب في اللعن، رقم (4907).
(8) أخرجه مسلم في صحيحه: 4/2005 في الكتاب والبابين السابقين، رقم (2596).
(9) أخرجه أبو داود في السنن، ص743، في: 35 ـ كتاب الأدب، 53 ـ باب في اللعن، رقم (4908)؛ وأخرجه الترمذي في السنن: 4/350، في: 28 ـ كتاب البر والصلة، 48 ـ باب ما جاء في اللعن، رقم (1977)؛ وأخرجه ابن حبان وصحّحه: 13/56، في: 44 ـ كتاب الحظر والإباحة، 10 ـ باب اللعن، رقم (5745).
(10) أخرجه البخاري في صحيحه، ص1307، في: 78 ـ كتاب الأدب، 73 ـ باب من كفَّر أخاه بغير تأويل فهو كما قال، رقم (6105)؛ ومسلم في صحيحه: 1/104، في: 1 ـ كتاب الإيمان، 47 ـ باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه.. رقم (110)، وهو قطعة من الحديث.
(11) أخرجه البخاري في صحيحه، ص1284، في: 78 ـ كتاب الأدب، 4 ـ باب لا يسب الرجل والديه، رقم (5973)؛ وأخرجه مسلم في صحيحه: 1/92، في: 1 ـ كتاب الإيمان، 38 ـ باب بيان الكبائر، رقم الحديث (90) والسياق للبخاري.
(12) أخرجه الطبراني في الأوسط: 7/348، رقم (6670)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 8/73: وإسناد الأوسط جيد، وكذا قال المنذري في الترغيب والترهيب: 3/463: «رواه الطبراني بإسناد جيد».
(13) ينظر: المفهم للقرطبي: 6/579 حيث قال: ولعنُ المؤمن كبيرةٌ من الكبائر، إذ قد قال صلى الله عليه وسلم: «لعن المؤمن كقتله».
(14) الأذكار للنووي، ص506.
(15) مجموع الفتاوى لابن تيمية: 20/158.
(16)  تقدَّم تخريجه..
(17) أخرجه البخاري في صحيحه، ص1433، في: 86 ـ كتاب الحدود، 7 ـ باب لعن السارق إذا لم يُسَمَّ، رقم (6783)؛ وأخرجه مسلم في الصحيح: 3/1314، في: 29 ـ كتاب الحدود، 1 ـ باب حد السرقة، رقم (1687).
(18) أخرجه البخاري في صحيحه، ص1206، في: 72 ـ كتاب الذبائح والصيد، 20 ـ باب ما يكره من المثلة، رقم الحديث (5515)؛ وأخرجه مسلم: 3/1550، في: 34 ـ كتاب الصيد والذبائح، 12 ـ باب النهي عن صبر البهائم، رقم (1958).
(19) أخرجه البخاري في صحيحه، ص1271، في: 77 ـ كتاب اللباس، 61 ـ باب المتشبّهون بالنساء والمتشبّهات بالرجال، رقم الحديث (5885).
(20) أخرجه مسلم في صحيحه: 3/1218 في: 22 ـ كتاب المساقاة، 19 ـ باب لعن آكل الربا وموكله، رقم (1597).
(21) أخرجه مسلم في صحيحه: 3/1567، في: 35 ـ كتاب الأضاحي، 8 ـ باب تحريم الذبح لغير الله ولعن فاعله، رقم الحديث (1978).
(22) ينظر: فيض القدير للمناوي: 5/267 ـ 276؛ الزواجر لابن حجر الهيتمي: 2/61.
(23) المرجع السابق نفسه، والآداب الشرعية لابن مفلح: 1/303؛ الإحياء للغزالي: 3/123؛ زاد المعاد لابن القيم: 5/49.
(24) المراجع السابقة؛ والأذكار للنووي، ص506 ـ 507؛ وحاشية ابن عابدين: 3/416.
(25) إحياء علوم الدين للغزالي: 3/123.
(26) الزواجر لابن حجر: 2/61.
(27) أحكام القرآن لابن العربي المالكي: 1/50 ـ 51؛ وينظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 2/178.
(28) حاشية ابن عابدين: 3/416.
(29) أحكام القرآن للقاضي أبي بكر بن العربي: 1/50.
(30) الزواجر عن اقتراف الكبائر لابن حجر الهيتمي: 2/60؛ وينظر: إحياء علوم الدين للغزالي: 3/123.
(31) صالح (203 ـ 266هـ) صالح بن أحمد بن محمد بن حنبل أبو الفضل، كان أكبر أولاد الإمام أحمد، وكان أبوه يدعو له كثيراً، ولي قضاء أصبهان ثم طرسوس، كان صدوقاً ورعاً تقياً سخياً.
المقصد الأرشد في ذكر أصحاب الإمام أحمد لابن مفلح: 1/444.
(32) منهاج السنة النبوية لابن تيمية: 4/573.
(33) أخرجه البخاري في صحيحه، ص1433، في: 86 ـ كتاب الحدود، 5 ـ باب ما يُكره من لعن شارب الخمر، وأنه ليس بخارجٍ من الملّة، رقم الحديث (6780).
(34) ينظر: إحياء علوم الدين للغزالي: 3/123 ـ 124؛ الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 2/177؛ وفتح الباري لابن حجر العسقلاني: 12/77.
(35) منهاج السنة النبوية لابن تيمية: 4/569 ـ 570.
(36) ينظر: إحياء علوم الدين للغزالي: 3/124، حيث ضرب المثال للكافر، وأن الدعاء عليه باللعنة سؤال الله بتثبيته على الكفر وهو كفر، ثم قال: «وإذا عرفت هذا في الكافر فهو في زيد الفاسق أو زيد المبتدع أولى».
(37) ينظر منهاج السنة النبوية لابن تيمية: 4/571؛ ومجموع الفتاوى: 35/42.
(38) المرجع السابق: 4/572.
(39) منهاج السنة النبوية لابن تيمية: 4/569.
(40) البخاري، ص1433.
(41) الفتوحات الربانية شرح الأذكار لابن علان: 7/61.
(42) أخرجه البخاري في صحيحه: 4/2352، في: 90 ـ كتاب المحاربين، 21 ـ باب إذا زنت الأمة، رقم (6447)؛ وأخرجه مسلم: 3/1328، في: 29 ـ كتاب الحدود، 6 ـ باب رجم اليهود رقم (1703).
(43) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 2/178.
(44) ينظر: فتح الباري: 9/206.
 (45) وهو السراج البلقيني، ذُكر قوله هذا في: فتح الباري: 9/206؛ الفتوحات الربانية: 7/61؛ روح البيان للألوسي: 18/128؛ الزواجر لابن حجر الهيتمي: 2/60.
(46) وهو أبو الفرج ابن الجوزي. ينظر: الآداب الشرعية لابن مفلح: 1/303؛ وينظر: منهاج السنة: 4/569.
(47) ينظر: المرجعين السابقين.
(48) أخرجه البخاري في صحيحه، ص683، في: 59 ـ كتاب بدء الخلق، 7 ـ باب إذا قال أحدكم: آمين والملائكة في السماء فوافقت إحداهما الأخرى.. رقم الحديث (3237)؛ وأخرجه مسلم في صحيحه: 2/1059، في: 16 ـ كتاب النكاح، 20 ـ باب تحريم امتناعها من فراش زوجها، رقم الحديث (1436).
(49) ينظر: الفتوحات الربانية شرح الأذكار النووية لابن علان: 7/61؛ وفتح الباري لابن حجر: 9/206.
(50) أخرجه مسلم في صحيحه: 3/1673، في: 37 ـ كتاب اللباس والزينة، 29 ـ باب النهي عن ضرب الحيوان في وجهه ووسمه فيه، ورقم الحديث (2117).
(51) ينظر: حاشية ابن عابدين: 3/416.
(52) المرجع السابق: 3/416. والمباهلة (الملاعنة): «وهي أن يجتمع القوم إذا اختلفوا في شيء فيقولون: لعنة الله على الظالم منا».النهاية لابن الأثير: 1/167.
(53) ينظر: فتح الباري لابن حجر: 9/206؛ الزواجر للهيتمي: 2/60؛ حاشية ابن عابدين: 3/416.
(54) أخرجه مسلم في صحيحه: 4/2007، في: 45 ـ كتاب البر والصلة، 25 ـ باب من لعنه النبي صلى الله عليه وسلم أو سبَّه أو دعا عليه وليس هو أهلاً لذلك، وكان له زكاةً وأجراً ورحمةً، رقم الحديث (2600).
 (55) منهاج السنة لابن تيمية: 4/570.



رابط الموضوع : http://www.assakina.com/taseel/3171.html#ixzz2vjlvEaB2

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق