لولا الابتلاء لارتبنا الطريق!
الحمد لله وبعد:
فعلى قدر إيمانك ويقينك بالقرآن يكون انتفاعك به, وعلى قدر تسليمك وانقيادك لهداياته يكون فلاحك في الدارين. ذلك أن القرآن العظيم حق مطلق لا مرية في حرف منه, فحروفه ومعانيه هي من لدن حكيم خبير, قد حَفِظَهُ من تكلّم به, وكَتَبَ أن السلامة والعافية مع من دار مع أمره مهما حَرَنَتِ نفسه, ووقف معه مهما جمحت, "فمن اتّبع هداي فلا يضل ولا يشقى" لا يضل في الدنيا, ولا يشقى في الآخرة.
في هذا الزمان المتلاطمة أمواج فتنه, أضحى الحليم حيرانًا, والشجاع جبانًا, والعليم جاهلًا.. إلا من رحم ربي, لقد كان لزامًا على كل حازمٍ مراجعة سجلات عمره, ومنهج حياته فالفرصة يتيمة, والمهلة لا تحتمل العَوْد والرُّجعى!
لقد خلقنا الله ليبتلينا ويبتلي بنا, "الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملًا" فالأمر حاسم جدًّا كما قال سبحانه: "ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم" إذن فالمسألة مسألة فتنة وابتلاء, فحقيقة الابتلاء هي الفتنة التي تبلو حقيقة معدن المرء أَمِنْ ذهب قلبُهُ فيفلح, أم من نحاس فيخسر نفسه؟!
يا صاحبي! الأمرُ أقرب مما نتصوّر, وخَطْبُ نفوسنا أجلُّ من أن يوصف, والعلاج كلّه بين أيدينا فهل من معتبرٍ مِدَّكِرٍ!
لقد وصف الله تعالى كتابه الكريم بالشفاء والهدى والبيان والرحمة, فهو الشفاء التام لكل الأدواء, وبخاصة ما كان متعلقًا بالأرواح والأفكار والتصوّرات, فضلًا عن الأجساد "يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربّكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين"
هَهُنَا أحدى عشرة آية من صدر سورة العنكبوت, وددت لو أن كل مؤمن يتلوها في هذا الزمان مرارًا, ويكررها ويحفظها ويجعل معانيها نصب عينيه, ويا حبذا ترديدها من لدن الأئمة في الصلوات, ففي القلوب حاجة لمثلها, إذ وصفت الداء كما هو, وعرّت زيف الشبهة والشهوة, وأقامت عمود الضياء الهادي من الضلالة العاصم من الغواية, حتى عاد الأمر جليًّا واضحًا لا تحجبة سوى أهوية النفوس الخاسرة!
دعونا يا محبين نقف قليلًا مع شيء من هداياتها:
قال سبحانه: "ألم . أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا ءامنا وهم لا يفتنون" فمن آمن فلا بد له من الفتنةِ حتى يُثبِتَ صدقُه, لذا فلا بد له من علمٍ بالحق يدفع به عن قلبه الشبهات, وإيمانٍ راسخ يذودُ عنه معاصي الشهوات, لذلك أَتْبَعَ سبحانه ذلك بقوله: "ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين" أي يظهر علمُه في عالم الشهادة, وإلا فهو علّام الغيوب. "أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون" أي لن يفوتونا.
"من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت وهو السميع العليم" الله أكبر! فيا أيها المحب: هذا ربك قد قطع لك الوعد, فتزيّن له بالصالحات تلقه راضيًا "ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغنى عن العالمين" فالله ليس في حاجة أحد بل العبد هو المضطر إلى مَدَدِ ربه وقبوله وتوفيقه, ودينُ الله منصور, ولكن السعيد من وُفِّقَ لمعيه أنصاره. قال الحسن: إن الرجل ليجاهد وما ضرب يومًا من الدهر بسيف.
"والذين ءامنوا وعملوا الصالحات لنكفّرنّ عنهم سيئاتهم ولنجزينهم أحسن الذى كانوا يعملون" أي بأحسن أعمالهم وهي الطاعات, ومنه برّ الوالدين حتى وإن أَمَرَا بأعظم خطيئة! فكيف بالمؤمِنَين؟! فقال سبحانه: "ووصينا الإنسان بوالديه حسنًا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون" مع هذا فقد بشّره ووعده بأن يجعله في زمرة المفلحين يوم القيامة, وليس مع والديه المشركَين, فكيف إذا كانا من المؤمنين؟! فقال: "والذين ءامنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين"
ثم ذكر سبحانه حال بعض المخذولين ممن لم يدخل الإيمان بشاشة أفئدتهم, إنما هو الرياء والنفاق فقال سبحانه: "ومن الناس من يقول ءامنا بالله فإذآ أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين" بلى وعزة ربنا, كما قال تعالى: "أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور . وحُصِّلَ ما في الصدور" ففتش قلبك الآن يا صاحبي قبل أن يُحَصَّل ما فيه. ثم ختمها العزيز سبحانه بقوله الجليل: "وليعلمن الله الذين ءامنوا وليعلمن المنافقين" فالفتن العامة والخاصة تفرز الناس لفسطاطين, وفي الحديث الصحيح عند أحمد وغيره: "أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقّة ابتلي على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة".
فاصلة: قال بعض السالفين: لو كانت الدنيا ذهبًا يفنى والآخرة خزفًا يبقى؛ لكان على الحازم العاقل إيثار الخزف الباقي على الذهب الفاني, كيف والدنيا خزفًا يفنى والآخرة ذهبًا يبقى!
إبراهيم الدميجي
30/ 10/ 1434
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق