الثلاثاء، 11 مارس 2014

( وقولوا للناس حسنا )

( وقولوا للناس حسنا )

الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً، قيماً لينذر بأساً شديدا من لدنه، ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً حسناً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إن ندًّا وإن وثنا، – جل في علاه -ما رحم عباده بمثل إنزال القرآن، الذي أنزله تبياناً لكل شيء وهدىً وموعظةً وذكرى، وجعل لتاليه والعاملين من لدنه خيراً وأجراً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، كانت حياته وأخلاقه للقرآن تفسيراً وشرحاً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديهم، واستن بسنتهم إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً،
أزكى صلاةٍ مع التسليم دائمةً *** ما إن لها أبداً حدٌ ولا أمدُ
أما بعد:
فهاؤم لمحاتٌ جلية، ووقفاتٌ ندية، مع مقاطع من آيات من كتاب الله العزيز، فيها حكم وعبر ودرر، عنونتهابـ (قواعد قرآنية)، نحاول فيها ـ إن شاء الله تعالى ـ أن نقف على جملٍ قصيرة من الجمل التي بُثّت في ثنايا القرآن، وهي على قصرها، حوت خيراً كثيراً، واشتملت على معانٍ جليلة، تمثل في حقيقتها قاعدة من القواعد، ومنهجا ومنهاجا، سواءً في علاقة الإنسان مع ربه، أو في علاقته مع الخلق، أو مع النفس.
 
إذا فهي قبس وضاء، وبدر منير، وسراج وهاج، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أوتي جوامع الكلم، واختصر له الكلام اختصاراً، فيقول الجملة الواحدة من كلمتين أو ثلاث، ثم تجد تحتها من المعاني ما يستغرق العلماء في شرحها صفحاتٍ كثيرة، فما ظنك بكلام الله جل وعلا الذي يهب الفصاحة والبلاغة من يشاء؟!
 
إن من أعظم مزايا هذه القواعد، الأجر المتكرر عند قراءتها وشمولها، وسعة معانيها، فليست هي خاصة بموضوع محدد كالتوحيد، أو العبادات مثلاً، بل هي شاملة لهذا ولغيره من الأحوال التي يتقلب فيها العباد، فثمة قواعدُ تعالج علاقة العبد بربه تعالى، وقواعدُ تصحح مقام العبودية، وسير المؤمن إلى الله والدار الآخرة، وقواعدُ لترشيد السلوك بين الناس، وأخرى لتقويم وتصحيح ما يقع من أخطاء في العلاقة الزوجية، إلى غير ذلك من المجالات، بل لا أبالغ إذا قلتُ ـ وقد تتبعتُ أكثر من مائة قاعدة في كتاب الله ـ: إن القواعد القرآنية لم تدع مجالاً إلا طرقته ولا موضوعا إلا ذكرته.
 
أخي المبارك:
يروق للكثيرين استعمال واستخدام ما يعرف بالتوقيعات، لتكون همسة متكررة، ومعنى متجلٍ يتجدد، وتكون هذه التوقيعات إما بيتاً رائقا من الشعر أو كلمةً عذبة لأحد الحكماء، أو قطعةً مذهبةً من حديث شريف، وهذا كله حسن لا إشكال فيه، لكن ليتنا نفعّل ونوظف معاني القرآن من خلال تكرار القواعد القرآنية التي حفل بها كتابُ الله تعالى، فإن ذلك له فوائد كثيرة، منها:
1 ـ ربط الناس بكتاب ربهم تعالى في جميع شؤونهم وأحوالهم، ونيلهم الأجر عند كل قراءة أو كتابة لآية.
2 ـ ليرسخ في قلوب الناس أن القرآن فيه علاج لجميع مشاكلهم مهما تنوعت، تارةً بالتنصيص عليها، وتارة بالإشارة إليها من خلال هذه القواعد.
3 ـ أن تفعيل هذه القواعد القرآنية سيكون بديلاً عن كثير من الغث الذي ملئت بها توقيعات بعض الناس سواء في كلماتهم، أو مقالاتهم، أو معرفاتهم على الشبكة العالمية.
 
وأول هذه القواعد التي نبتدئ بها، هي قاعدة من القواعد المهمة في باب التعامل بين الناس، وهي قوله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} [البقرة: من الآية83].
إنها قاعدة تكرر ذكرها في القرآن في أكثر من موضع إما صراحة أو ضمنا ً:
فمن المواضع التي توافق هذا اللفظ تقريباً: قوله تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء: من الآية53].
وقريب من ذلك أمره سبحانه بمجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن، فقال سبحانه: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت/46].
أما التي توافقها من جهة المعنى فكثيرة كما سنشير إلى بعضها بعد قليل.
إذا تأمل في قوله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} جاءت في سياق أمر بني إسرائيل بجملة من الأوامر وهي في سورة مدنية ـ وهي سورة البقرة ـ وقال قبل ذلك في سورة مكية ـ وهي سورة الإسراء ـ: أمراً عاماً {وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن}.. إذاً فنحن أمام أوامر محكمة، ولا يستثنى منها شيء إلا في حال مجادلة أهل الكتاب ـ كما سبق ـ.
 
ومن اللطائف مع هذه الآية {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} أن هناك قراءة أخرى سبعية لحمزة والكسائي: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حَسَناً}.
قال أهل العلم: (والقول الحسن يشمل: الحسن في هيئته؛ وفي معناه، ففي هيئته: أن يكون باللطف، واللين، وعدم الغلظة، والشدة، وفي معناه: بأن يكون خيراً؛ لأن كل قولٍ حسنٍ فهو خير؛ وكل قول خير فهو حسن)(1).
وقد أحسن أحمد الكيواني حيث قال:
من يغرس الإحسان يجنِ محبة *** دون المسيء المبعد المصروم
أقل العثار تفز، ولا تحسد، ولا *** تحقد، فليس المرء بالمعصوم
 
أيها القارئ الموفق:
إننا نحتاج إلى هذه القاعدة بكثرة، خاصةً وأننا ـ في حياتنا ـ نتعامل مع أصناف مختلفة من البشر، فيهم المسلم وفيهم الكافر، وفيهم الصالح والطالح، وفيهم الصغير والكبير، بل ونحتاجها للتعامل مع أخص الناس بنا: الوالدان، والزوج والزوجة والأولاد، بل ونحتاجها للتعامل بها مع من تحت أيدينا من الخدم ومن في حكمهم.
 
وأنت ـ أيها المؤمن ـ إذا تأملتَ القرآن، ألفيت أحوالاً نص عليها القرآن كتطبيق عملي لهذه القاعدة، فمثلاً:
1 ـ تأمل قول الله تعالى ـ عن الوالدين ـ: {وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً} [الإسراء: من الآية23] إنه أمرٌ بعدم النهر، وهو متضمن للأمر بضده، وهو الأمر بالقول الكريم، الذي لا تعنيف فيه، ولا تقريع ولا توبيخ.
 
2 ـ وكذلك ـ أيضاً ـ فيما يخص مخاطبة السائل المحتاج: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} [الضحى:10] بل بعض العلماء يرى عمومها في كل سائل: سواء كان سائلاً للمال أو للعلم، قال بعض العلماء: “أي: فلا تزجره ولكن تفضل عليه بشيء أورده بقول جميل”(2).
 
3 ـ ومن التطبيقات العملية لهذه القاعدة القرآنية، ما أثنى الله به على عباد الرحمن، بقوله: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [الفرقان: من الآية63]: يقول ابن جرير ـ رحمه الله ـ في بيان معنى هذه الآية: “وإذا خاطبهم الجاهلون بالله بما يكرهونه من القول، أجابوهم بالمعروف من القول، والسداد من الخطاب”(3).
وهم يقولون ذلك “لا عن ضعف ولكن عن ترفع؛ ولا عن عجز إنما عن استعلاء، وعن صيانة للوقت والجهد أن ينفقا فيما لا يليق بالرجل الكريم المشغول عن المهاترة بما هو أهم وأكرم وأرفع”(4).
 
ومن المؤسف أن يرى الإنسان كثرة الخرق والتجاوز لهذه القاعدة في واقع أمة القرآن، وذلك في أحوال كثيرة منها:
1 ـ أنك ترى من يدعون إلى النصرانية يحرصون على تطبيق هذه القاعدة، من أجل كسب الناس إلى دينهم المنسوخ بالإسلام، أفليس أهلُ الإسلام أحق بتطبيق هذه القاعدة، من أجل كسب الخلق إلى هذا الدين العظيم الذي ارتضاه الله لعباده.
2 ـ في التعامل مع الوالدين.
3 ـ في تعامل الزوج مع زوجه.
4 ـ مع الأولاد.
5 ـ مع العمالة والخدم.
 
وقد نبهت آية الإسراء إلى خطورة ترك تطبيق هذه القاعدة، فقال سبحانه: {إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ} [الإسراء: من الآية53]!
وعلى من ابتلي بسماع ما يكره أن يحاول أن يحتمل أذى من سمع، ويعفو ويصفح، وأن يقول خيراً، وأن يقابل السفه بالحلم، والقولَ البذيء بالحسن، وإلا فإن السفه والرد بالقول الردئ يحسنه كل أحد.
 
وهذه واقعة لأحد دهاقنة العلم وهو الإمام مالك رحمه الله مع الشاعر الذي قضى عليه بحكم لم يرق له، فتهدده بالهجاء، فقال له مالك:
(إنما وصفتَ نفسك بالسفه والدناءة، وهما اللذان لا يعجز عنهما أي أحد، فإن استطعت أن تأتي الذي تنقطع دونه الرقاب فافعل: الكرم والمروءة!(5)).
 
وما أجمل قول المتنبي:
وكل امرئ يولي الجميل محبب *** وكل مكان ينبت العز طيب
______________
(1)    ينظر: تفسير العثيمين 3/196.
(2)    تفسير الألوسي 23/15.
(3)    تفسير الطبري 19/295.
(4)    ينظر: الظلال 5/330.
(5)    انظر: ترتيب المدارك 1/59.


رابط الموضوع : http://www.assakina.com/taseel/5811.html#ixzz2vfBBKX9V

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق