الفرق بين التكفير المطلق والتكفير المعين
فرق العلماء المحققون بين تكفير القول أو المبدأ وبين تكفير القائل أو المعين ، وهو فرقٌ عظيم من فتح الله عليه ودقق في النصوص ، ثم سبر كلام أهل العلم في هذه المسألة تبين له الأمر وانجلى ، وسلم من الوقوع في الخطأ بإذن الله .
ومما يعتمد عليه في صحة هذا التفريق من النصوص الشرعية ما يستنبط من هدي المعصوم صاحب الرسالة نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم حين فرق بين اللعن العام ولعن المعين ،وهو ما جاء في البخاري عن عمر أمير المؤمنين رضي الله عنه أن رجلاً كان على عهد النبي وكان اسمه عبد الله، وكان يلقب حماراً، وكان يضحك النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان النبي قد جلده في الشراب، فأتى به يوماً، فأمر بجلده، فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « لا تلعنه ، فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله » البخاري رقم (6780) وانظر : فتح الباري (12/76-80) ففيه فوائد.
أما محل الشاهد : فإليك ما قاله الإمام المحقق المنور بنور الله أبو العباس بن تيمية رحمه الله: (فنهى عن لعنه مع إصراره على الشرب، لكونه يحب الله ورسوله مع أنه لعن في الخمر عشرة …ولكن لعن المطلق لا يستلزم لعن المعين ،الذي قام به ما يمنع لحوق اللعنة به ، وكذلك التكفير المطلق والوعيد المطلق ،ولهذا كان الوعيد المطلق في الكتاب والسنة مشروطاً بثبوت شروط ،وانتفاء موانع ) الفتاوى (10/329)
والنقول عنهم مستفيضة في هذا التفريق . ومما يصلح مثالاً من هدي السلف رحمهم الله : موقف الإمام المبجل أحمد بن حنبل من الذين حملوا الناس على القول بخلق القرآن وامتحنوا العلماء من أجله ودعوا إلى هذه البدعة ،ومع فتواه بأن هذا القول كفر ، لم يشتهر عنه- رحمه الله تعالى- أنه كفر أحداً بعينه ، بل نقل عنه عدم تكفير المعتصم الخليفة الذي تقلد هذه البدعة وعذبه وسجنه من أجل صبره على الحق ومخالفته إياه !فنقل عنه قوله لرسولي المعتصم إليه(أرى طاعته في العسر واليسر والمنشط والمكره والأثر ،وإني لآسف عن تخلفي عن صلاة الجماعة ..) فتاوى 7/507
وفوق ذلك دعا للخليفة وغيره، ممن ضربه وحبسه وتسبب في افتتان الناس وصدهم عن الحق،واستغفر لهم وحللهم مما فعلوه به من الظلم والدعاء إلى القول بخلق القرآن الذي هو “كفر” ولوا كانوا مرتدين لم يجز الاستغفار لهم ،فإن الاستغفار للكفار لا يجوز بنص كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين! فتأمل.
كذلك فإن الإمام أحمد رحمه الله وقد نقل عنه صراحةً وبكل وضوح وعلم : تكفير أمثال “الجهمية” وهم: المعطلة لصفات الرحمن! لأن قولهم:صريح في مناقضة ما جاء به رسول الله من القرآن والسنة ، أطلق وهو وغيره من علماء السنة المعتبرين هذه العمومات ، إلا أنه –رحمه الله- لم ينقل عنه – أو قل لم يشتهر عنه – (حسب علمي) تكفير أعيانهم ، واسمع ما قاله أبو العباس بن تيمية – قدس الله سره- في هذه الجزئية الدقيقة : (وهذه الأقوال والأعمال منه ومن غيره من الأئمة صريحة في أنهم لم يكفروا المعينين من الجهمية الذين كانوا يقولون : القرآن مخلوق، وأن الله لا يرى في الآخرة . وقد نقل عن أحمد ما يدل على أنه كفر به قوماً معينين،فأما أن يذكر عنه في المسألة روايتان ففيه نظر ؟ أو يحمل الأمر على التفصيل ،فيقال: من كفر بعينه فلقيام الدليل على أنه وجدت فيه شروط التكفير وانتفت موانعه،ومن لم يكفر بعينة فلانتفاء ذلك في حقه ،هذا مع إطلاق قوله بالتكفير على سبيل العموم )الفتاوى (12/ 487-489
ولشيخ الإسلام “ملحظ دقيق” في سبب التنازع بين الذاهبين لتكفير الأعيان وبين الكافين عنه ،وهو (تعارض الأدلة ) وبيان ذلك: أن المتأمل في النصوص يجد أدلةً توجب إلحاق أحكام الكفر ببعض الطوائف أو المقالات ؟ وفي المقابل نجد أن بعض الأعيان الذين تقلدوا هذه المقالات أو الأفعال التي –ظاهرها الكفر- قام به من الإيمان وصلاح الحال أو الجهل أو غير ذلك من الأسباب ، ما يبعد أو يمتنع أن يكون كافراً ،فيتعارض عندها الدليلان ،الدليل العام في التكفير و واقع هذا الشخص أو ذاك،،ومن هنا يحصل الخلط والتنازع ،وتحتاج المسألة إلى كبير تدقيق وعلم وتجرد من كل هوى وورع ..وقبل ذلك وبعده نور من الله!!(أنظر: الفتاوى 12/487)
وما كف أحمد وغيره من العلماء : إلا لما آتاهم الله من علمٍ ورسوخ في الدين وقوة نظرٍ في الأدلة ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور ولعلمهم بآثار ذلك من خروج عن ربقة الدين ، واستحلال للدم ،وخشيةً من أن يأتي هذا المكفر أو ذاك يوم القيامة بين يدي أحكم الحاكين وأرحم الراحمين من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، ثم يقول:يا رب سل هذا فيما كفرني!!ألله أكبر …ياله من سؤال عظيم يحتاج إلى جواب دقيق لا يصيبه إلا ذو علم عظيم!!فتأمل أخي وقاك الله.
وفي السياق نفسه : قال العلامة الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله في شرحه لرياض الصالحين ،في مسألة “اللعن” :( لما ذكر المؤلف رحمه الله تعالى – يعني الإمام النووي- في كتابه – رياض الصالحين – تحريم لعن المعين،وأنه لا يجوز أن تلعن شخصاً معيناً ولو كان كافرا مادام حيا،لأنك لا تدري فلعل الله أن يهديه فيعود إلى الإسلام إن كان مرتداً أو يســـلم إن كان كافراً أصلياً ..إلى أن قال: لأن هناك فرقاً بين المعين وبين العام ،فيجوز أن تلعن أصحاب المعاصي على سبيل العموم إذا كان ذلك لا يخص شخصاً بعينه ) شرح رياض الصالحين (4/156)
قلت: وإطلاق الكفر مثله بل هو أعظم !فتأمل.
والمنع من تكفير المعين أو لعنه – والله أعلم- لأن المسلم (وحديثنا عنه) لا يستوجب اللعن أو التكفير بعينه ، بمجرد قوله أو فعله إلا إذ اجتمعت فيه شروط التكفير وانتفت موانعه، فإذا استوفى الشروط وانتفت في حقه الموانع فلا ريب في كفره ، وكل ذلك “علمٌ” لا يجوز الخوض فيه قبل المكنة منه.
قلت-مستعيناً بالله- : هذه بعض الوقفات المنهجية التي استخلصتها واختصرتها ،فيما يتعلق بجانب الشباب الذين يتبنى بعضهم أو ينشغل بمثل هذه المسائل العلمية الدقيقة والعظيمة ،وهذا لا يعني أبدا التعميم على الجميع، فإن من أخوتي الشباب طلاب علمٍ وهدى ،أخذوا العلم من مصادره وتلقوه من أهله ،وفيهم حماسٌ وغيرة على دين الله وحرمات المسلمين ،ولديهم من الخير والنفع للأمة والمجتمع الشيء العظيم ، ولا ينكره أو يقلل منه إلا جاحدٌ أو صاحب هوى ، والله أمرنا بالعدل في القول والعمل قال الله : وإذا قلتم فاعدلوا الأنعام : 152.
إن المتأمل في نصوص القرآن الكريم وكذلك السنة النبوية الشريفة ،يلحظ أن الشارع الحكيم ومن خلال الأدلة العامة والخاصة ليس متشوفاً إلى تكفبر المعين ، بل الوصف بالكفر في القرآن وكذا في السنة جاء موجهاُ على الأفعال والأقوال ، لتحذير المكلفين من الوقوع فيها والتلبس بها (1) .
——————————————————————————–
(1) من كتاب ( التكفير بين العلم والجهل) تأليف: د. فهد بن سعد الزايدي الجهني أستاذ أصول الفقه المساعد بفرع جامعة أم القرى بالطائف
رابط الموضوع : http://www.assakina.com/taseel/3166.html#ixzz2vjn2znA4
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق