الثلاثاء، 11 مارس 2014

احتياط المسلم في سفك الدم المحرم

احتياط المسلم في سفك الدم المحرم

دين الإسلام من أعز ما يملكه العبد في هذه الحياة؛ ولما كان ذلك هو الحقيقة المسلمة لدى كل مؤمن صادق كان من أهم ما يهتم به المسلم هو الحفاظ على دينه من أن يخدشه شيء أو ينقصه؛ فضلا عن أن يرتكب ما يذهب به أو يكاد.
ولأجل حماية الدين من النقص كان من مقاصد الشرائع التي أتت بها هو الحفاظ عليه؛ وحياطته بسياج من الاحتياطات التي تحمي العبد من نقصه أو نقضه.
وقد دلت نصوص الشريعة في الإشارة إلى أن المحرمات دونها مشتبهات متى ما واقعها العبد أو اقترب منها كان وقوعه في المحرمات وشيكا؛ وولوغه في آسنها قريباً.
روى البخاري في صحيحه عن النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ؛ وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ، فَمَنْ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ، أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله مبيناً قاعدة الاحتياط في الوقوع في المحرم: 
وقوله – صلى الله عليه وسلم – : (( كالرَّاعي يرعى حولَ الحِمى يُوشِكُ أنْ يرتَعَ فيه ، ألا وإنَّ لكلِّ ملكٍ حِمى، وإنَّ حِمى اللهِ محارمه )) : هذا مَثَلٌ ضربه النَّبيُّ – صلى الله عليه وسلم – لمن وقع في الشُّبهات، وأنَّه يقرُب وقوعه في الحرام المحض ، وفي بعض الروايات أنَّ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – قال: (( وسأضرب لذلك مثلاً )) ، ثم ذكر هذا الكلامَ ، فجعل النَّبيُّ – صلى الله عليه وسلم – مثلَ المحرمات كالحِمى الذي تحميه الملوكُ ، ويمنعون غيرهم من قُربانه..
والله – عز وجل – حمى هذه المحرَّمات ، ومنع عباده من قربانها وسمَّاها حدودَه ، فقال :{ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ }، وهذا فيه بيان أنَّه حدَّ لهم ما أحلَّ لهم وما حرَّم عليهم ، فلا يقربوا الحرامَ ، ولا يتعدَّوا الحلال ، ولذلك قال في آية أخرى : { تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }، وجعل من يرعى حول الحمى ، أو قريباً منه جديراً بأنْ يدخُلَ الحِمى ويرتع فيه ، فكذلك من تعدَّى الحلال ، ووقع في الشبهات ، فإنَّه قد قارب الحرام غايةَ المقاربة ، فما أخلقَهُ بأنْ يُخالِطَ الحرامَ المحضَ ، ويقع فيه ، وفي هذا إشارةٌ إلى أنَّه ينبغي التباعد عن المحرَّماتِ ، وأنْ يجعل الإنسان بينه وبينها حاجزاً .
وقد خرّج الترمذي وابن ماجه مِنْ حديثِ عبد الله بن يزيد ، عن النَّبيِّ – صلى الله عليه وسلم – ، قال : (( لا يبلغُ العبدُ أنْ يكونَ من المتَّقين حَتّى يَدَعَ ما لا بأسَ به حذراً مما به بأسٌ )) 
وقال أبو الدرداء : تمامُ التقوى أنْ يتقي الله العبدُ ، حتّى يتقيَه مِنْ مثقال ذرَّة ، وحتّى يتركَ بعضَ ما يرى أنَّه حلال ، خشيةَ أنْ يكون حراماً ، حجاباً بينه وبينَ الحرام.
وقال الحسنُ : مازالتِ التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيراً من الحلال مخافة الحرام .
وقال الثوري : إنما سُموا المتقين ؛ لأنَّهم اتَّقَوْا مالا يُتَّقى. 
وروي عن ابن عمر قال: إنِّي لأحبُّ أنْ أدعَ بيني وبين الحرام سترةً من الحلال لا أخرقها.
وقال ميمون بن مهران : لا يسلم للرجل الحلالُ حتى يجعل بينه وبين الحرام حاجزاً من الحلال.
وقال سفيان بن عيينة : لا يصيب عبدٌ حقيقة الإيمان حتى يجعل بينه وبينَ الحرام حاجزاً من الحلال، وحتى يدعَ الإثم وما تشابه منه.
ويستدلُّ بهذا الحديثِ مَنْ يذهب إلى سدِّ الذرائع إلى المحرَّمات وتحريم الوسائل إليها.
وسفك الدماء المحرمة قد دل الكتاب والسنة والإجماع على تحريمه وتجريم فاعله؛ وهو من الكبائر العظيمة والمحرمة في كل الشرائع.
ومما يدل على ذلك قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 92، 93].
وثبت في الصحيحين، عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة”.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله-عند قوله تعالى (ومن يقتل مؤمناً متعمداً..)-: 
وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد لمن تعاطى هذا الذنب العظيم، الذي هو مقرون بالشرك بالله في غير ما آية في كتاب الله، حيث يقول، سبحانه، في سورة الفرقان: { وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ [وَلا يَزْنُونَ} الآية [الفرقان: 68] وقال تعالى: { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } [إلى أن قال:{ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } [الأنعام: 151].
والأحاديث في تحريم القتل كثيرة جدا. من ذلك ما ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء”  وفي الحديث الآخر الذي رواه أبو داود، من رواية عمرو بن الوليد بن عبدة المصري، عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “لا يزال المؤمن مُعنقا صالحا ما لم يصب دما حراما، فإذا أصاب دما حراما بَلَّح”  وفي حديث آخر: “لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم”  وفي الحديث الآخر: “لو أجمع  أهل السموات والأرض على قتل رجل مسلم، لأكبهم الله في النار”  وفي الحديث الآخر: “من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة، جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه: آيس من رحمة الله”.
وقد كان ابن عباس، رضي الله عنهما، يرى أنه لا توبة للقاتل عمدا لمؤمن.
وقال البخاري: حدثنا آدم، حدثنا شعبة، حدثنا مغيرة بن النعمان قال: سمعت ابن جبير قال: اختلف فيها أهل الكوفة، فَرَحَلْتُ إلى ابن عباس فسألته عنها فقال: نزلت هذه الآية: { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا } هي آخر ما نزل وما نسخها شيء.
وكذا رواه هو أيضا ومسلم والنسائي من طرق، عن شعبة، به ورواه أبو داود، عن أحمد بن حنبل، عن ابن مهدي، عن سفيان الثوري، عن مغيرة بن النعمان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا } فقال: لم ينسخها شيء.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن بشار حدثنا ابن أبي عدي حدثنا شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير قال: قال عبد الرحمن بن أبزة: سئل ابن عباس عن قوله: { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا } فقال: لم ينسخها شيء. وقال في هذه الآية: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا  } [الفرقان: 68] قال نزلت في أهل الشرك.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا جرير، عن منصور، حدثني سعيد بن جبير -أو حدثنى الحكم، عن سعيد بن جبير-قال: سألت ابن عباس عن قوله تعالى{ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ } قال: إن الرجل إذا عرف الإسلام وشرائع الإسلام، ثم قتل مؤمنا متعمدا، فجزاؤه جهنم ولا توبة له. فذكرت ذلك لمجاهد فقال: إلا من ندم.
حدثنا ابن حميد، وابن وَكِيع قالا حدثنا جرير، عن يحيى الجابر، عن سالم بن أبي الجَعْد قال: كنا عند ابن عباس بعد ما كُف بصره، فأتاه رجل فناداه: يا عبد الله بن عباس، ما ترى في رجل قتل مؤمنا متعمدا؟ فقال: { جَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا } قال: أفرأيت إن تاب وعمل صالحا ثم اهتدى؟ قال ابن عباس: ثكلته أمه، وأنى له التوبة والهدى؟ والذي نفسي بيده! لقد سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: “ثكلته أمه، قاتل مؤمن متعمدا، جاء يوم القيامة آخذه بيمينه أو بشماله، تشخب أوداجه دمًا في قُبُل عرش الرحمن، يلزم قاتله بشماله بيده الأخرى، يقول: سل هذا فيم قتلني” ؟ وأيم الذي نفس عبد الله بيده! لقد أنزلت هذه الآية، فما نسختها من آية حتى قبض نبيكم صلى الله عليه وسلم، وما نزل بعدها من برهان.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، سمعت يحيى بن المُجَبَّر يحدث عن سالم بن أبي الجعد، عن ابن عباس؛ أن رجلا أتاه فقال: أرأيت رجلا قتل رجلا متعمدا؟ فقال: { جَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا } قال: لقد نزلت في آخر ما نزل، ما نسخها شيء حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما نزل وحي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: أرأيت إن تاب وآمن وعمل صالحًا ثم اهتدى؟ قال: وأنى له بالتوبة. وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقول: “ثكلته أمه، رجل قتل رجلا متعمدا، يجيء يوم القيامة آخذا قاتله بيمينه أو بيساره -وآخذا رأسه بيمينه أو بشماله-تَشْخَب أوداجه دما من قبل العرش يقول: يا رب، سل عبدك فيم قتلني؟”.
وقد رواه النسائي عن قتيبة وابن ماجه عن محمد بن الصباح، عن سفيان بن عيينة، عن عمار الدُّهني، ويحيى الجابر وثابت الثمالي عن سالم بن أبي الجعد، عن ابن عباس، فذكره وقد روي هذا عن ابن عباس من طرق كثيرة.
وممن ذهب إلى أنه لا توبة له من السلف: زيد بن ثابت، وأبو هريرة، وعبد الله بن عمر، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وعبيد بن عمر، والحسن، وقتادة، والضحاك بن مزاحم، نقله ابن أبي حاتم.
وفي الباب أحاديث كثيرة: من ذلك ما رواه أبو بكر بن مردويه الحافظ في تفسيره: حدثنا دَعْلَج بن أحمد، حدثنا محمد بن إبراهيم بن سعيد البُوشَنْجي وحدثنا عبد الله بن جعفر، حدثنا إبراهيم بن فهد قالا حدثنا عبيد بن عبيدة، حدثنا مُعْتمر بن سليمان، عن أبيه، عن الأعمش، عن أبي عمرو بن شُرَحْبِيل، عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “يجيء المقتول متعلقا بقاتله يوم القيامة، آخذًا رأسه بيده الأخرى فيقول: يا رب، سل هذا فيم قتلني؟” قال: “فيقول: قتلته لتكون العزة لك. فيقول: فإنها لي”. قال: “ويجيء آخر متعلقا بقاتله فيقول: رب، سل هذا فيم قتلني؟” قال: “فيقول قتلته لتكون العزة لفلان”. قال: “فإنها ليست له بؤْ بإثمه”. قال: “فيهوى في النار سبعين خريفا”. وقد رواه عن النسائي، عن إبراهيم بن المُسْتَمِرِّ العَوْفي، عن عمرو بن عاصم، عن معتمر بن سليمان، به.
والذي عليه الجمهور من سلف الأمة وخلفها: أن القاتل له توبة فيما بينه وبين ربه عز وجل، فإن تاب وأناب وخشع وخضع، وعمل عملا صالحا، بدل الله سيئاته حسنات، وعوض المقتول من ظلامته وأرضاه عن طلابته.
قال الله تعالى: { وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } [الفرقان: 68، 69] وهذا خبر لا يجوز نسخه. وحمله على المشركين، وحمل هذه الآية على المؤمنين خلاف الظاهر، ويحتاج حمله إلى دليل، والله أعلم.
وقال تعالى: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] وهذا عام في جميع الذنوب، من كفر وشرك، وشك ونفاق، وقتل وفسق، وغير ذلك: كل من تاب من أي ذلك تاب الله عليه.
وقال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } [النساء: 48]. فهذه الآية عامة في جميع الذنوب ما عدا الشرك، وهي مذكورة في هذه السورة الكريمة بعد هذه الآية وقبلها، لتقوية الرجاء، والله أعلم.
وثبت في الصحيحين خبر الإسرائيلي الذي قتل مائة نفس، ثم سأل عالما: هل لي من توبة؟ فقال: ومن يحول بينك وبين التوبة؟! ثم أرشده إلى بلد يَعْبد الله فيه، فهاجر إليه، فمات في الطريق، فقبضته ملائكة الرحمة. كما ذكرناه غير مرة، إن كان هذا في بني إسرائيل فَلأن يكون في هذه الأمة التوبة مقبولة بطريق الأولى والأحرى؛ لأن الله وضع عنا الأغلال والآصار التي كانت عليهم، وبعث نبينا بالحنيفية السمحة. فأما الآية الكريمة، وهي قوله تعالى: { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا [فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} فقد قال أبو هريرة وجماعة من السلف: هذا جزاؤه إن جازاه، وقد رواه ابن مردويه مرفوعا، من طريق محمد بن جامع العطار، عن العلاء بن ميمون العنبري، عن حجاج الأسود، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة مرفوعا، ولكن لا يصح ومعنى هذه الصيغة: أن هذا جزاؤه إن جوزي عليه، وكذا كل وعيد على ذنب، لكن قد يكون كذلك مُعَارض من أعمال صالحة تمنع وصول ذلك الجزاء إليه، على قولي أصحاب الموازنة أو الإحباط. وهذا أحسن ما يسلك في باب الوعيد، والله أعلم بالصواب.  [تفسير ابن كثير 2/ 380].
وببيان هذه الأدلة يتبين عظم حرمة الدم المعصوم؛ وأن فاعل ذلك متوعداً بأشد العقوبات إن لم يتب.
وهذه الكبيرة العظيمة جديرة بأن يحتاط لها المسلم بأن لا يقرب من حماها؛ ويجعل بينه وبينها سداً منيعا حتى لا ينتهكها فضلا عن أن يرتكبها؛ وما من شك بأن من استشرف للفتن وقت هياجها وشارك في أوارها أصابه من ذلك شيء ولا بد.
فالورع في الولوغ في انتهاك هذه الحرمة المغلظة هو المتعين؛ ولن يتأتى ذلك إلا بالبعد عن حماها؛ والهروب عن أماكنها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: 
وَكَذَلِكَ الْوَرَعُ الْمُشْتَرَكُ مِثْلَ الْكَفِّ عَنْ قَتْلِ النَّفْسِ مُطْلَقًا وَعَنْ الزِّنَا مُطْلَقًا وَعَنْ ظُلْمِ الْخَلْقِ . وَكَذَلِكَ الزُّهْدُ الْمُشْتَرَكُ مِثْلَ الْإِمْسَاكِ عَنْ فُضُولِ الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ وَهَذَا الْقِسْمُ إنَّمَا عَبَّرَ أَهْلُ الْعَقْلِ بِاعْتِقَادِ حُسْنِهِ وَوُجُوبِهِ ؛ لِأَنَّ مَصْلَحَةَ دُنْيَاهُمْ لَا تَتِمُّ إلَّا بِهِ وَكَذَلِكَ مَصْلَحَةُ دِينِهِمْ سَوَاءٌ كَانَ دِينًا صَالِحًا أَوْ فَاسِدًا. [مجموع الفتاوى 20/ 68].
فالورع عن قربان هذه الكبيرة والبعد عن مسبباتها لهو عين الصواب لمن رام سلامة دينه؛ وخلوص صحيفته من أن يسطر فيها جرم.


رابط الموضوع : http://www.assakina.com/taseel/7241.html#ixzz2vesb6ydC

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق