الثلاثاء، 11 مارس 2014

الملخص العلمي لتأصيل فقه الولاية والتعامل مع الأمراء

الملخص العلمي لتأصيل فقه الولاية والتعامل مع الأمراء

1 – ولاية المسلمين من واجبات الدين:
إن ولاية المسلمين من واجبات الدين وضرورياته التي لا يجوز التشاغل عنها وتركها؛ لأن بقاء الناس بلا حاكم من أعظم الفساد، ومن أخطر أبواب الشر والفتنة، بل وجود إمام ظالم خير من بقاء الناس بلا إمام، والوالي الصالح من أعظم أسباب صلاح الأمة ([1]) .
يقول ابن تيمية – رحمه الله – في شأن الوالي: ( وهو أقوى الأسباب التي بها يصلح أمور خلقه وعباده، فإذا صلح ذو السلطان صلحت أمور الناس، وإذا فسد فسدت بحسب فساده، ولا تفسد من كل وجه، بل لا بد من مصالح، إذ هو ظل الله، لكن الظل لا يكون كاملا مانعا من جميع الأذى، وتارة لا يمنع إلا بعض الأذى، وإذا عدم الظل فسد الأمر ) ([2]) .
ويقول أيضا: ( فإن الخلق عباد الله، والولاة نواب الله على عباده، وهم وكلاء العباد على نفوسهم بمنزلة أحد الشريكين مع الآخر، ففيهم معنى الولاية والوكالة) ([3]) .
ومن تولى على الناس وساسهم بعلم وعدل فعمله من أعظم العبادات وأرفع المنازل، يقول – رحمه الله – : ( ولهذا كانت الولاية – لمن يتخذها دينا يتقرب به إلى الله، ويفعل فيها الواجب بحسب الإمكان – من أفضل الأعمال الصالحة، حتى قد روى الإمام أحمد في مسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: )إن أحب الخلق إلى الله إمام عادل، وأبغض الخلق إلى الله إمام جائر( ([4]) .
وقال بعد أن ذكر بعض الولايات: ( وجميع هذه الولايات هي في الأصل ولاية شرعية، ومناصب دينية، فأي من عدل في ولاية من هذه الولايات فساسها بعلم وعدل، وأطاع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بحسب الإمكان، فهو من الأبرار الصالحين، وأي من ظلم وعمل فيها بجهل فهو من الفجار الظالمين، إنما الضابط قوله تعالى: )إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ( ([5]) .
ويقول: ( فإذا اجتهد الراعي في إصلاح دينهم ودنياهم بحسب الإمكان كان من أفضل أهل زمانه، وكان من أفضل المجاهدين في سبيل الله) ([6]) .
وقد حكى العز بن عبد السلام رحمه الله الإجماع على أن الولايات من أفضل الطاعات ([7]) .
وهذه الطاعة المأمور بها لولاة الأمور عبادة يجب أن تكون من أجل الله لا لحظوظ الدنيا، يقول – رحمه الله – : ( وطاعة ولاة الأمور واجبة لأمر الله بطاعتهم، فمن أطاع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بطاعة ولاة الأمر لله فأجره على الله، ومن كان لا يطيعهم إلا لما يأخذه من الولاية والمال فإن أعطوه أطاعهم وإن منعوه عصاهم، فما له في الآخرة من خلاق، وقد روى البخاري ومسلم – رحمهما الله – عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: )ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: رجل على فضل ماء بطريق يمنع منه ابن السبيل، ورجل بايع رجلا لا يبايعه إلا لدنيا، فإن أعطاه منها وفى له، وإن لم يعطه منها لم يف له( ([8]) .
وبهذا يتبين منزلة ولاية أمر المسلمين وأنها بمكانة سامقة، ولها موقع في النفوس عظيم.
2 – وجوب تعظيم الأمراء وتوقيرهم:
ويتم ذلك من طريقين:
الطريق الأول: الأمر بذلك والتأكيد عليه، ومما يدل على ذلك:
1 – ما روي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم )خمس من فعل واحدة منهن كان ضامنا على الله U من عاد مريضا، أو خرج مع جنازة، أو خرج غازيا، أو دخل على إمامه يريد تعزيره وتوقيره، أو قعد في بيته فسلم الناس منه وسلم من الناس( ([9]) .
2 – وما روي عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: )السلطان ظل الله في الأرض، فمن أكرمه أكرمه الله، ومن أهانه أهانه الله( ([10]) .
الطريق الثاني: النهي عن كل ما يفضي إلى التفريط في توقيرهم واحترامهم، ومما يدل على ذلك:
1 – ما روي عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: )من أهان سلطان الله أهانه الله( ([11]) .
2 – وما روي عن أبي ذر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: )سيكون بعدي سلطان؛ فمن أراد ذله ثغر في الإسلام ثغرة، وليست له توبة إلا أن يسدها( .
وقد أخرج ابن أبي عاصم في “السنة” ([12]) هذا الحديث من وجه آخر صحيح، عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، قال: لما خرج أبو ذر رضي الله عنه إلى الربذة، لقيه ركب من أهل العراق، فقالوا: يا أبا ذر، قد بلغنا الذي صنع بك، فاعقد لواء يأتك رجال ما شئت.
قال: مهلا مهلا يا أهل الإسلام؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: )سيكون بعدي سلطان فأعزوه، من التمس ذله ثغر ثغرة في الإسلام، ولم يقبل منه توبة حتى يعيدها كما كانت( .
ومن تأمل النصوص الواردة في هذا الباب، علم أن الشارع إنما أمر بتوقير الولاة وتعزيرهم، ونهى عن سبهم وانتقاصهم، لحكمة عظيمة ومصلحة كبرى، أشار إلى طرف منها الإمام القرافي في كتابه “الذخيرة” ([13]) فقال:
(قاعدة: ضبط المصالح العامة واجب، ولا ينضبط إلا بعظمة الأئمة في نفس الرعية، ومتى اختلفت عليهم – أو أهينوا – ؛ تعذرت المصلحة.. ) ا هـ.
وقال سهل بن عبد الله التستري: ( لا يزال الناس بخير ما عظموا السلطان والعلماء، فإن عظموا هذين: أصلح الله دنياهم وأخراهم، وإن استخفوا بهذين: أفسدوا دنياهم وأخراهم) ([14]) .
وقد أشار العلامة محمد بن صالح بن عثيمين – رحمه الله – إلى الحكمة في ذلك بقوله: ( فالله الله في فهم منهج السلف الصالح في التعامل مع السلطان، وأن لا يتخذ من أخطاء السلطان سبيلا لإثارة الناس، وإلى تنفير القلوب عن ولاة الأمور؛ فهذا عين المفسدة، وأحد الأسس التي تحصل بها الفتنة بين الناس.
كما أن ملء القلوب على ولاة الأمر يحدث الشر والفتنة والفوضى، وكذا ملء القلوب على العلماء يحدث التقليل من شأن العلماء، وبالتالي التقليل من الشريعة التي يحملونها.
فإذا حاول أحد أن يقلل من هيبة العلماء وهيبة ولاة الأمر ضاع الشرع والأمن، لأن الناس إن تكلم العلماء لم يثقوا بكلامهم، وإن تكلم الأمراء تمردوا على كلامهم، فحصل الشر والفساد.
فالواجب أن ننظر ماذا سلك السلف تجاه ذوي السلطان، وأن يضبط الإنسان نفسه، وأن يعرف العواقب.
وليعلم أن من يثور إنما يخدم أعداء الإسلام، فليست العبرة بالثورة ولا بالانفعال، بل العبرة بالحكمة.. ) ([15]) ا هـ.
3 – للأمراء مكانة عالية ومنزلة رفيعة في الشرع:
منح الشرع المطهر الأمراء مكانة عالية ومنزلة رفيعة ليتناسب قدرهم مع علو وظيفتهم، ورفيع منصبهم وعظم مسؤوليتهم، فإن منصبهم إنما وضع ليكون خلفا للنبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا.
وإن وضع الشارع ولاة الأمر في هذه المكانة الشريفة والرتبة المنيفة هو عين الحكمة التي يرعاها في سائر تصرفاته، وعين المصلحة التي يتشوف إلى تحقيقها.
فإن الناس لا يسوسهم إلا قوة الإمام وحزمه، فلو لم يعطه الشارع ما يناسب طبيعة عمله من فرض احترامه وتعظيمه – ونحو ذلك – لامتهنه الناس، ولم ينقادوا له، ومن ثم يحل البلاء، وتعم الفوضى، وتفوت المصالح، فتفسد الدنيا ويضيع الدين، ويدل على ذلك ما يأتي:
1 – إن الله U أمر بطاعة الولاة وقرن طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم بطاعتهم، فدل ذلك على رفيع شأنهم وعظيم قدرهم عند الله، قال تعالى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ( ([16]) .
2 – عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم )السلطان ظل الله في الأرض، فمن أكرمه أكرمه الله، ومن أهانه أهانه الله( ([17]) .
والمعنى: أن من تجرأ على السلطان فأهانه بفعل أو قول فقد تعدى حدود الله، وارتكب محظورا شنيعا، فكانت عقوبته من جنس عمله المشين، وهي أن الله تعالى يقابل هوانه بهوانه، وهوان الله أعظم وأشد.
وما هذا العقاب الصارم لمن أهان السلطان إلا لما يترتب على إهانته من إذهاب هيبته، وتجريء الرعاع عليه مما ينافي مقاصد الشارع من نصب السلطان.
وفي المقابل: من أكرم السلطان بحفظ ما أثبته الشارع له من الحقوق والواجبات، فأجله وعزره وقدره، ولم يخرج عن أمره في المعروف؛ كان جزاؤه من جنس عمله المبارك، فأكرمه الله تعالى في هذه الدنيا برفعته، وتسخير قلوب العباد لإكرامه، وفي الآخرة بدخول الجنة.
3 – عن أنس رضي الله عنه قال: )نهانا كبراؤنا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: لا تسبوا أمراءكم…( ([18]) .
فدل نهي الشارع عن سب السلطان وزجره لمن وقع في ذلك على تعظيم السلطان وتوقيره.
قال المناوي في فيض القدير ([19]) ( جعل الله السلطان معونة لخلقه، فيصان منصبه من السب والامتهان، ليكون احترامه سببا لامتداد فيء الله، ودوام معونة خلقه.
وقد حذر السلف من الدعاء عليه، فإنه يزداد شرا، ويزداد البلاء على المسلمين) ا هـ.
4 – أجمعت الأمة على أن الناس لا يستقيم لهم أمر من أمور دينهم، ولا دنياهم إلا بالإمامة، فلولا الله ثم الإمامة لضاع الدين وفسدت الدنيا.
وفي هذا المعنى يقول الفقيه أبو عبد الله القلعي الشافعي في كتابه (تهذيب الرياسة) ([20])
(نظام أمر الدين والدنيا مقصود، ولا يحصل ذلك إلا بإمام موجود.
لو لم نقل بوجوب الإمام؛ لأدى ذلك إلى دوام الاختلاف والهرج إلى يوم القيامة.
لو لم يكن للناس إمام مطاع؛ لانثلم شرف الإسلام وضاع.
لو لم يكن للأمة إمام قاهر، لتعطلت المحاريب والمنابر، وانقطعت السبل للوارد والصادر.
لو خلا عصر من إمام؛ لتعطلت فيه الأحكام، وضاعت الأيتام، ولم يحج البيت الحرام.
لولا الأئمة والقضاة والسلاطين والولاة، لما نكحت الأيامى ولا كفلت اليتامى.
لولا السلطان؛ لكان الناس فوضى، ولأكل بعضهم بعضا) ا هـ.
.. هذا الكلام من أجمع الكلام وأحكمه وأعذبه.
5 – قال الألوسي في تفسير الآية: )وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ ( ([21]) .
(وفي هذا تنبيه على فضيلة الملك، وأنه لولاه ما استتب أمر العالم.
ولهذا قيل: الدين والملك توأمان، ففي ارتفاع أحدهما ارتفاع الآخر؛ لأن الدين أس والملك حارس، وما لا أس له فمهدوم، وما لا حارس له فضائع) ([22]) .
6 – أن السلطان أعظم الناس أجرا إذا عدل، يقول العز بن عبد السلام في كتابه: ( قواعد الأحكام في مصالح الأنام):
(وعلى الجملة، فالعادل من الأئمة والولاة والحكام أعظم أجرا من جميع الأنام – بإجماع أهل الإسلام – لأنهم يقومون بجلب كل صالح كامل، ودرء كل فاسد شامل.
فإذا أمر الإمام بجلب المصالح العامة، ودرء المفاسد العامة؛ كان له أجر بحسب ما دعا إليه من المصالح العامة، وزجر عنه من المفاسد، ولو كان ذلك بكلمة واحدة لأجر عليها بعدد متعلقاتها.. ).
قال: ( وأجر الإمام الأعظم أفضل من أجر المفتي والحاكم – يعني القاضي – لأن ما يجلبه من المصالح ويدرأه من المفاسد أتم وأعم) ([23]) .
وقد أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: )سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل..( الحديث ([24]) .
قال الحافظ: ( المراد به صاحب الولاية العظمى، ويلتحق به كل من ولي شيئا من أمور المسلمين؛ فعدل فيه.. ) ([25]) .
وإنما جوزي بهذا الجزاء؛ لأن الناس كانوا في ظله في الدنيا، فكان جزاؤه في الآخرة من جنس عمله في الدنيا، جزاءا وفاقا.
وقدمه صلى الله عليه وسلم لأنه أفضل السبعة، وأعلاهم مرتبة، فإنهم داخلون تحت ظله، ولعموم النفع به ([26]) .


رابط الموضوع : http://www.assakina.com/taseel/4853.html#ixzz2vfRobc8j

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق