الثلاثاء، 11 مارس 2014

ضوابط وآداب أهل العدل والإنصاف (1-2)

ضوابط وآداب أهل العدل والإنصاف (1-2)

  الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
فإن التحقق بصفة العدل وسلوك درب المنصفين يلزم معه التأدب بآداب، خاصة هذه الآداب التي التزم بها السلف الصالح، فالسائرون على منهجهم في العقائد والأحكام يلزمهم الأخذ بمنهجهم في السلوك والأدب حتى يتحقق الانتماء الصادق والتام إليهم.
والكلام في نقد الرجال وإصدار الحكم منزلق خطير لابد من ضبطه وإحكامه حتى لا يتجرأ المتجرئون، فيُجرح العدل، ويُقدح في الثقة. فلابد للمتكلم في الرجال أن يكون عارفا بمراتب الرجال وأحوالهم في الانحراف والاعتدال ومراتبهم من الأقوال والأفعال، وأن يكون من أهل الورع والتقوى مجانبا للعصبية والهوى، خاليا من التساهل، عاريا من غرض النفس بالتحامل، مع العدالة في نفسه، والإتقان، والمعرفة بالأسباب التي يجرح بمثلها الإنسان، وإلا لم يقبل قوله فيمن تكلم، وكان ممن اغتاب وفاه بمحرم.
وأهم هذه الآداب:
أولا: التجرد وتحري القصد عند الكلام على المخالفين:
فالتجرد من كل هوى وميل وتعصب من أهم ما ينبغي أن يتجرد المسلم منه؛ لأنه قد تلتبس المقاصد عند الكلام على المخالفين، فهناك قصد حب الظهور، وقصد التشفي والانتقام، وقصد الانتصار للنفس أو للطائفة التي ينتمي إليها الناقد.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: “وإذا غلظ في ذم بدعة ومعصية كان قصده بيان ما فيها من الفساد ليحذرها العباد، كما في نصوص الوعيد وغيرها، وقد يهجر الرجل عقوبة وتعزيرا، والمقصود بذلك ردعه وردع أمثاله للرحمة والإحسان لا للتشفي والانتقام”.
ومن أهم ما ينبغي أن يتجرد المسلم منه:
أ- التعصب:
وهو أن يدعو الرجل إلى نصرة مذهبه أو فكرته أو طائفته أو جماعته أو تخصصه العلمي، وسواء كان ذلك بالحق أو بالباطل، ومن ذلك: إثبات فضل المتعصب له، واعتقاد أن كل ما يقوله صحيح، والتشنيع على المخالف، فلا يدري إلا مساوئ المخالف وأخطاءه.
وكذلك المبالغة في الإطراء فيما يتعصب له من الأفكار، وتقديس الأفراد الذي يتعصب لهم. وقد يؤدي التعصب إلى الكيل بمكيالين، فإذا تحدث عن من يتعصب له تجده يوفي في مدحه، وذكر محاسنه واستقصاء منافعه، وإذا تحدث عن المخالفين له اجتهد في بيان النقائص والعيوب والسلبيات.
ولما كان التعصب يؤدي إلى الانحياز التام والكامل لشخص أو حزب أو فكرة، فإن هذا الانحياز ينتج عنه ردة فعل لدى الآخرين المخالفين، ويتولد من هذا صراع وفتنة وفرقة. والتعصب يؤدي إلى الانغلاق في دائرة واحدة وفكرة واحدة، ويؤدي إلى ضيق الأفق.
ب- الهوى:
وحقيقة الهوى: السير وراء ما تهوى النفس وتشتهي، أو النزول على حكم العاطفة من غير تحكيم العقل أو رجوع إلى شرع أو تقدير لعاقبة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: “وصاحب الهوى يعميه الهوى ويصمه، فلا يستحضر ما لله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- في ذلك، ولا يطلبه ولا يرضى لرضا الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، ولا يغضب لغضب الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، بل يرضى إذا حصل ما يرضاه بهواه، ويغضب إذا حصل ما يغضب له بهواه، ويكون مع ذلك معه شبهة دين أن الذي يرضى له ويغضب له أنه السنة وهو الحق وهو الدين، فإذا قدر أن الذي معه هو الحق المحض دين الإسلام، ولم يكن قصده أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، بل قصد الحمية لنفسه وطائفته أو الرياء ليعظم هو ويُثنى عليه، أو فعل ذلك شجاعة وطبعاً، أو لغرض من الدنيا، لم يكن لله، ولم يكن مجاهداً في سبيل الله”.
وقال -تعالى-: (فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا)(النساء:135)، وقال -تعالى-: (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)(ص:26).
وقد ذكر ابن دقيق العيد -رحمه الله- أن اتباع الهوى سبب من أسباب عدم إنصاف الرجال، والانسياق في نقدهم، وأن هذا المرض في المتأخرين.
وطريق معرفة اتباع الهوى واكتشافه لمن يتعرض للكلام في الرجال أو المخالفين له: أن يعرض الناقد على نفسه هذا الرأي لو جاء من شخص على مذهبه وطريقته هل كان سينتقده أو يسكت عنه؟ وهل سيتحمس للرد عليه أو يداريه ويتلطف معه؟ فإن رأى أن معاملة من هو على مذهبه وطريقته ستختلف عن معاملة مخالفه في المسألة الواحدة والخطأ الواحد، فليعلم أن الهوى قد داخله، فيتجرد منه، وليجاهد نفسه على ذلك.
ج- الحسد:
فالحاسد يندفع إلى عيب محسوده واستنقاصه في ذلك، وهو بعيد عن إنصاف محسوده والنظر إليه بعين العدل، وعادة يكثر الحسد بين المتزاحمين على غرض واحد، ولذلك ترى العالم يحسد العالم دون العابد، والعابد يحسد العابد دون العالم، ويدخل الحسد بين الدعاة، وأصحاب الجماعات المتنافسة والتيارات المتصارعة، ولذلك كانت القاعدة: “بألا يقبل قول بعضهم في بعض”، وخاصة إذا كان دافعه الغيرة والحسد، وقيل لعبد الله بن المبارك: فلان يتكلم في أبي حنيفة، فأنشد:
حسـدوك أن رأوك فضلك الله            بمـا فضلت به النجباء
د- العجب والكبر:
لأن العجب بالنفس أو بالعلم أو بالرأي يدعو صاحبه إلى احتقار الآخرين، وغمطهم حقهم. والعجب أحد دواعي الكبر، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ) رواه مسلم، أي عدم قبول الحق والتكبر عليه، واحتقار الناس واستصغارهم، ولذلك جعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذلك من المهلكات، فقال: (ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه) رواه البيهقي في شعب الإيمان، وحسنه الألباني.
هـ- حب الشهرة والتصدر:
قال الفضيل بن عياض -رحمه الله-: “ما من أحد أحب الرياسة إلا حسد وبغى وتتبع عيوب الناس، وكره أن يذكر أحد بخير”، ولهذا كان السلف يكرهون الشهرة.
وقد حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- من طلب الدنيا بعمل الآخرة، فقال: (مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لاَ يَتَعَلَّمُهُ إِلاَّ لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ -يعني ريحها- يَوْمَ الْقِيَامَةِ) رواه أبو داود، وصححه الألباني.
ومن يحبون الشهرة قد يندفعون إلى نقد الآخرين والرد عليهم، واتهامهم بما ليس فيهم، والمبالغة في التشنيع، ومرادهم من ذلك الشهرة، وخاصة إذا كان الذي ينتقدونه عالما فذاً أو داعية مخلصاً مشتهرا بين الناس.
ثانياً: لا جرح ولا تعديل إلا بعلم:
فإن الجرح والتعديل هو ميزان معرفة الرجال، ولذلك فهو يتطلب معرفة شاملة وعلماً واسعاً بكل ما يتعلق بالرجال: علمهم، وأخلاقهم، وعقائدهم، وثقافاتهم، وبيئاتهم الاجتماعية.
ولذلك وضع العلماء شروطاً لابد من توافرها في الناقد:
1- أن يكون عالماً بالأحكام الشرعية؛ فرب جاهل ظن الحلال حراماً، فجرح به، بل بعضهم أوجب العلم باختلاف المذاهب، فلا يجرح مسلماً بأمر مختلف فيه.
2- أن يلم بالعقائد والاختلاف، كما يحسن أن يطلع على الخلافات الدائرة بين الفرق، فلا يأخذ بكلام فرقة تنقم على أخرى.
3- أن يكون بريئاً من الشحناء والعصبية.
4- أن يتمتع بحاسة نقدية قادرة على التأليف بين معطيات معينة، واستنتاج النتائج منها.
6- أن يكون صادقاً ثبتاً.
ولابد من التقيد في الجرح بأمور:
1- أنه لا يجوز الجرح بما فوق الحاجة، فلا يجوز التجريح بأمرين إذا حصل بواحد، لأن الجرح إنما شرع للضرورة والضرورة تقدر بقدرها.
2- إذا اضطر إلى ذكر مسلم بلقبه الذي لا يعرف إلا به كالأعرج، جاز ذلك للحاجة، وأن يكون المراد تعريفة لا تنقيصه.
فالحكم على الرجال والتعرض لنقدهم أمر هام لابد من التوقي منه، وأخذ الحذر والحيطة، وإن حفظ أعراض المسلمين من أقدس مقدسات الإسلام، ولو أن كل ناقد للرجال وأفكارهم وأرائهم اطلع على هذه القواعد لسلمت الساحة الإسلامية من التجاوزات والانحرافات في هذا المجال.
قال ابن الصلاح -رحمه الله-: والكلام في الرجال جُوِّزَ صوناً للشريعة، ونفياً للخطأ والكذب عليها، ثم إن على الآخذ في ذلك أن يتقي الله -تبارك وتعالى- ويتثبت، ويتوقى التساهل؛ كيلا يجرح سليما، ويسم بريئاً بسمة سوء يبقى عليه الدهر عارها، ويلحق المتساهلَ من تساهله العقاب والمؤاخذة.
ثالثاً: أهمية التبين والتثبت قبل إصدار الأحكام واتخاذ المواقف
إن الاستعجال في إصدار الأحكام على الآخرين واتخاذ المواقف منهم، أو توجيه نقد إليهم يعرض صاحبه للزلل والخطأ، فلابد من التثبت والأصل في ذلك قوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)(الحجرات:10)، وقوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا)(النساء:94).
وقد عاب الله على المتسرعين في نقل الأقوال وإشاعة الأخبار من غير تبين، فقال -سبحانه وتعالى-: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)(النساء:83).
وتتأكد أهمية التبين والتثبت في هذا العصر الذي قل فيه العلم وضعف فيه الإيمان، وفشا فيه الهوى، وتجرأ على الكذب فيه كثير من الناس، واستخدموا أساليب الإثارة والتضخيم والتزيد والتحريف في الأخبار والتحليلات، وظهرت طوائف تعمل لغير مصلحة الإسلام، فتضرب العلماء والدعاة بعضهم ببعض، وتزرع الفتنة بين شباب الصحوة حتى ينشغلوا ببعضهم.
والتبين والتثبت من خصائص أهل الإيمان، قال ابن جرير: “وخص الله بذلك القوم الذين يوقنون لأنهم أهل التثبت في الأمور، والطالبون معرفة حقائق الأشياء على يقين وصحة”.
وقال الحسن البصري -رحمه الله-: “المؤمن وقاف حتى يتبين”.
وقال ابن حجر -رحمه الله-: “إن الذي يتصدى لضبط الوقائع من الأقوال والأفعال والرجال يلزمه التحري في النقل، فلا يجزم إلا بما يتحققه، ولا يكتفي بالقول الشائع، ولا سيما إن ترتب على ذلك مفسدة من الطعن في أحد من أهل العلم والصلاح. وإن كان في الواقعة أمر فادح سواء كان قولاً أو فعلاً أو موقفا في حق المستور فينبغي ألا يبالغ في إفشائه، ويكتفي بالإشارة لئلا يكون قد وقعت منه فلتة، ولذلك يحتاج المسلم أن يكون عارفا بمقادير الناس وأحوالهم ومنازلهم فلا يرفع الوضيع ولا يضع الرفيع”.
وإذا كان التبين مطلوبا مع عموم المسلمين فإنه في العلماء ألزم؛ لأن اتهام العلماء بما ليس فيهم يوقع في مفاسد جمة، منها: حرمان العامة من علمهم، وظن السوء فيهم، وكما قيل: “لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، ومن وقع فيهم بالثلب ابتلاه الله قبل موته بموت القلب”.
1- لابد من التأكد من عدالة ناقل الأخبار والأقوال؛ لقوله -تعالى-: (إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا)، فالفاسق لا يقبل قوله، ولا يصدق خبره.
2- لابد أن يكون الناقل للقول أو الخبر ضابطاً متقناً جيد الفهم؛ لأن هناك من المؤمنين العدول من لا يكون ضابطاً أو يكون سيء الفهم يفهم الكلام على غير معناه، وإلى ذلك أشار النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: (نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِى فَوَعَاهَا وَحَفِظَهَا وَبَلَّغَهَا فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ) رواه الترمذي، وصححه الألباني.
فالمطلوب في نقل الأقوال والأخبار والفتاوى أن تنقل بنصوصها لا زيادة فيها ولا نقصان، وقد أشار ابن الوزير إلى ذلك حينما دعا إلى إيراد كلام الخصم بلفظه أولاً، ثم العرض لنقده ثانياً، ويعلل ذلك بأن حكاية كلام الخصوم بالمعنى فيه ظلم لهم؛ لأن الخصم اختار لفظاً وعبارة ارتضاها لبيان مقصده وانتقاها لكيفية استدلاله، فلا يعدل عنها إلى غيرها.
3- التأكد من الخبر عن طريق الاتصال بقائله إن كان حيا، وإذا كان ميتاً فلابد من التوثيق والتثبت بالرجوع إلى كتبه ومؤلفاته ومقالاته الموثقة الصحيحة النسبة إليه.
www.salafvoice.com
موقع صوت السلف


رابط الموضوع : http://www.assakina.com/taseel/8702.html#ixzz2veFgH6DG

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق