الأحد، 9 مارس 2014

سلسلة مناقشة الغلاة – 1 – ( استباحة دماء رجال الأجهزة الأمنية )د . عثمان بن عبدالرحيم القميحي

سلسلة مناقشة الغلاة – 1 – ( استباحة دماء رجال الأجهزة الأمنية )د . عثمان بن عبدالرحيم القميحي

 تعليق السكينة : ( إن من أعظم الجرائم التي يرتكبها الغلاة استباحة الدماء بالقتل والإهدار ، وقد أوغلوا في ذلك في بلاد المسلمين فكثرت جرائم الاعتداء على رجال الأمن ولا يرعون في ذلك إلا ولا ذمّة ولا يعظّمون حرمةً ولا عهدا ، وقد برروا فعلهم هذا باستدلالات واهية وساقطة شرعا ، يُحاول الكاتب الكريم في هذه المادة العلمية مناقشة شبهاتهم واستدلالاتهم وفق النظر العلمي والقواعد الشرعية )
 ********************
سلسلة الرد على منطلقات الغلاة
أولا: استباحة دماء رجال الأجهزة الأمنية (الجيش والشرطة)
بنى الغلاة استباحة دم هذه الطائفة على حكمهم في الحاكم، وبينوا أسبابًا لاستباحة دماء هذه الطائفة وأسهبوا في توضيحها، وهي باختصار:
السبب الأول: لأنهم من الطائفة الممتنعة عن تحكيم الشريعة، ولا فرق بينهم وبين الطواغيت الذين يقصدهم المجاهدون بالقتل(1 )، ووصفوهم بأنهم أعتى وأضل من التتار(2)، وأنهم ممتنعون عن الإسلام ويجب جهادهم(3). 
السبب الثاني: لكونهم من أعوان الأنظمة المستبدة، ومن أنصار الطواغيت، ومن الموالين للكافرين؛ قاصدين بذلك الحاكم؛ لأنهم الأداة التي تنفذ ما يريده من قمع الشعوب(4).
السبب الثالث: لأنهم عطلوا بعض الشرائع وحاربوا أهل الإسلام، لذا وجب قتالهم(5). 
السبب الرابع: أن حكمهم في بعض المواقف حكم الصائل، فلو داهم مُدَاهِم للمنزل فإنه يقتل ولا يتردد في ذلك(6 )، وعليه فإن رجال الجيش أو المباحث لو هاجمت المنازل فيقتلون، تستباح دماؤهم.
السبب الخامس: أنهم كالترس؛ بمعنى أن الغلاة نزَّلوا حكم رجال الأمن منزلة الترس، لأن الحاكم يتوقى بهم كما يتوقى الكافرون بالمسلم في حال الحرب(7).
- رد هذه الشبهة بأسبابها من خلال الأمور الآتية:
الأمر الأول: أن رجال الأجهزة الأمنية تابعون للحاكم ، فمبنى تكفيرهم على الاستحلال والاعتقاد، وأرى أن السبب الأول وما أوضحوه ، يشكل إيراد اتهامات عامة ومطلقة دون أدلة أو قرائن، فهل لأن الأجهزة الأمنية تقوم بالقبض على فئة متسرعة في الأحكام، وهم -في نظرها- يخلون بالأمن العام، هل يكونون بذلك يحاربون الإسلام وأهله؟ إن اختزال الأمة في فئة متطرفة أمر يدعو إلى الدهشة والعجب.
ومن أسبابهم أيضًا قول  المغالين : إن جهاد الأجهزة الأمنية يمليه علينا الإجماع المنعقد على وجوب قتال أي طائفة ذات شوكة تمتنع عن شريعة من شرائع الإسلام حتى تلتزم بها، أليست الطوائف المهيمنة على بلادنا ممتنعة عن أكثر شرائع الإسلام؟ أليس الجهاد واجبا اليوم لإجبار هذه الطوائف على التزام ما امتنعت عنه من شرائع الإسلام؟”(8).
فلا أعلم من أين أتوا بالإجماع على قتال الحاكم ومعاونيه من الأجهزة الأمنية لإجبارهم على التزام شرع الله، وقد قال الله تعالى لنبيه ومصطفاه صلى الله عليه وسلم : ﴿إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ [القصص: 56]!. ولكن في الحقيقة الغلاة في ذلك يخلطون الأحكام ببعضها، فإن الإجماع انعقد على قتال الطائفة الباغية، فمال رجال الأمن وهذا الحكم؟!
وحتى لو بغى رجال الأمن، فإن بغيهم يأتي بعد قتالهم مع طرف آخر، مصداقًا للصورة التي جاء بها القرآن الكريم ﴿وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ﴾ [الحجرات: 9]، فمن هو ذلك الطرف الآخر؟ هل يكون الغلاة أم غيرهم؟ أنت معي أن الغلاة خلطوا الحكم وهذا أبلغ رد عليهم.
دلت الآية على أن الفئة الممتنعة عن تنفيذ حكم الله تعالى في الصلح والإصلاح وحقن الدماء تكون باغية بنص القرآن الكريم، وعليه فإن الغلاة إذا لم يفهموا الحكم الحق في الحاكم ورجال الأمن ويحقنوا الدماء ويستجيبوا لنداء العلماء بالرجوع عن فتاواهم ومن يعتقدونه من التكفير والتفجير، فهم بذلك الفئة الباغية الذي انعقد الإجماع على قتالها، والذي يتولى قتالها الحاكم ومعاونوه.
ومن ناحية أخرى: فإن الغلاة نسوا الحكم الشرعي: أن الذي يقاتل هذه الفئة الممتنعة أو الباغية ولي الأمر، وليس عموم الناس وهم من عموم الناس، وإلا أصبح الأمر فوضى، وشقًا للصف المسلم وفسادا وشرًّا على المجتمع وأفراده.
الأمر الثاني: أن الغلاة يقولون: إن رجال الأجهزة الأمنية أعوان وأنصار وأداة للحكام في تنفيذ ما يريدون؛ فهم ذوي الولاء المطلق، والطاعة العمياء للحاكم والفئة الحاكمة المتنفذة… ينفذون الأوامر مهما كانت جائرة أو تصب في غير صالح الأمة، ومن دون أدنى تلكؤ أو تردد(9).
وما يقوله الغلاة لا أراه سببًا في جواز استباحة دماء رجال الأجهزة الأمنية، فهل يقاتلونهم لأن وظيفتهم الولاء والطاعة للفئة الحاكمة؟ هل يستهين الغلاة بحرمة النفوس لهذا الحد، ليصف الغلاة الأجهزة الأمنية بما يشاءون؛ على شاكلة: موالين أو مناصرين أو مطيعين طاعة عمياء للحاكم وغيرها من الصفات، لكن الذي يجب أن نعترف به أنهم مسلمون لهم علينا حرمة عظيمة، فلم يثبت كفرهم بل الذي ثبت أنهم يخدمون المجتمع.
يقول اللواء يحيى المعلمي: إن الأمن بمعناه الواسع ومقاصده السامية هو أساس كل تنظيم؛ لأنه العمود الفقري للحياة الإنسانية كلها، وأساس الحضارة والمدنية والتقدم والازدهار في سائر فروع المعارف البشرية والفنون والآداب والتجارة والسياحة وأداء المناسك والشعائر الدينية، وقد أوكلت إلى الجهات الأمنية مهمات الحفاظ على هذه المكتسبات القيمة، فهي مثقلة بكثير من المهام الكبيرة المناط بها تحقيقها حفاظًا على الأمن والأمان اللذين هما عصب الحياة، ومنبع حركتها ومصب إنجازاتها، والمتتبع لتطور لوزارة الداخلية في العالم التي تقع تحت مظلتها جميع الأجهزة الأمنية يجد أنها تشتمل على أقسام عديدة تُعنى بالأمن، إضافة إلى كليات وأكاديميات وأنشطة تدريبية تقنية تهدف لرفع مستوى رجال الأمن، فالنشاطات الأمنية أصبحت معروفة لدى العام والخاص، فمن المعلوم أن مهمة قوات الأمن هي المحافظة على النظام وصيانة الأمن العام وحماية الأرواح والأعراض والأموال، ومن مسؤوليات رجال الأمن التأكد من استمرارية النشاط العادي للمجتمع بسلام، ولذلك فمن واجبهم أن يضبطوا ويقبضوا على أولئك الأفراد من أعضاء المجتمع الذين لا يتجاوبون مع رغبات مجتمعهم في استمرار الهدوء والاستقرار ومنع الاضطرابات(10). 
فهذه هي مهام رجال الجهات الأمنية، يلاحظ فيها أن من خدماتهم الحفاظ على الضرورات الخمس التي أمر الشرع بالمحافظة عليها، كما أن من عملها تنظيم الشعائر الدينية وعدم تعطيلها كما يظن الغلاة.
الأمر الثالث: إن شعور الغلاة الانتقامي تجاه هذه الفئة والذي يصل إلى حد استباحة الدم ويستميتون لجعله أمرًا مشروعًا أرى أنه عائد إلى أمر شخصي بين الأجهزة الأمنية وبين الغلاة لا علاقة له بالشرع، وهذا ما أفصح عنه الغلاة في قولهم: « من عُرف من الجنود أو من ذوي الرتب الصغيرة بشدة عدائه للإسلام والمسلمين، وبأذاه الشديد للمسلمين.. يُقصد بعينه ويُزال لتزول معه فتنته للعباد، ولا يتشفع له كونه جندي أو من ذوي الرتب الصغيرة، فكم من صاحب رتبة صغيرة اشتدت فتنته على العباد أكثر من أسياده وزعمائه الكبار»(11). 
وفي هذا المقطع، وإن كان المغالي يعمم، أن هذه الفئة تعادي وتؤذي المسلمين، إلا أنه أفصح أنها يجب أن تقصد بعينها بالقتل لتزول مع قتلها فتنتها للعباد، فالمسألة ثأرية بحتة، فما تلقاه المعتقلون في السجون على أيدي بعض أفراد الأجهزة الأمنية لا يعطي للمغالين الحق في القتل، ولا يأمر الشرع بذلك لحرمة النفس.
ثم يردد المغالي: « فكم من صاحب رتبة صغيرة…. » وهذا يدل على تعبئته النفسية من الانتقام من هذه الفئة لشفاء غيظه، وجزاء ما تلقاه هو على أيديهم.
إذن من الخطأ أن يقحم المغالي الشرع في مسألة انتقامية، فإن الشرع ينظر إلى آحاد الأمة وأفرادها وحكم على الجميع بحرمة القتل إلا بالحق، وليس هذا الذي يسعى إليه الغلاة من الحق الذي يقتل من أجله المسلم.
الأمر الرابع: من الأسباب التي أبداها الغلاة في استباحة رجال الأجهزة الأمنية: أنهم عطلوا بعض الشرائع وحاربوا أهل الإسلام لذا وجب قتالهم.
عبارة المغالي أنهم عطلوا بعض الشرائع، والبعض الآخر تدل العبارة أنهم لم يعطلوه، أفلا تكون هذه الشرائع التي لم يعطلوها شفيعة لهم؟ وقبل ذلك حرمة نفوسهم المسلمة فهل يجب قتلها أم يجب صونها؟ كما أن تعطيل بعض الشريعة ليس من الأسباب التي من أجلها نتقاتل، هناك أسباب ودواعي واعتبارات ينبغي الوقوف عليها ومدارها على الاستحلال والاعتقاد.
إن التعميم الجارف داء الغلاة؛ فإذا تحدثوا عن عداء الأجهزة الأمنية لهم قالوا: إنهم أعداء أهل الإسلام، وإذا تحدثوا عن إيذاء الأجهزة لهم قالوا: يؤذون أهل الإسلام، وإذا تحدثوا عن ملاحقة الأجهزة لهم قالوا: يحاربون أهل الإسلام، لذا وجب قتلهم.
فهي اتهامات وعمومات، فليس أهل الإسلام كلهم غلاة، وليست أجهزة الأمن كلهم عصاة.
الأمر الخامس: قال الغلاة: لم يكتفوا -أي رجال الأجهزة الأمنية- بالامتناع عن شريعة من شرائع الإسلام بل زادوا على ذلك بأن حاربوا الشريعة وأهلها، وعطلوا الجهاد وأهله، وقتلوا أهل الإسلام، وتركوا أهل الشرك والأوثان.
وفي هذا أيضًا ترديد لكونهم هم أهل الإسلام وفقط، بدليل تكفيرهم لعموم الأمة كما تقدم في المبحث الأول، فقد استأثروا بالشرع، وحكموا على من يشاءون بالكفر والقتل.
وفي هذا النص سيل من الاتهامات التي لا تَصْدُق على رجال الأجهزة الأمنية؛ فهم ليسوا محاربين للشريعة وأهلها، ولم يعطلوا الجهاد، ولكن الأمة كلها تنتظر الفرصة، ولم يقتلوا أهل الإسلام ففي هذا تعميم غير مستساغ، ولا أدري ماذا يقصدون بأهل الشرك والأوثان، فهل يوجد من يعبد الأصنام في البلاد العربية؟!
الأمر السادس: ومن الأسباب التي أبداها الغلاة في استباحة دماء الأجهزة الأمنية: أنهم يقاتلون في سبيل الحاكم وليس في سبيل الله(12).
على أن الحاكم في نظرهم طاغوت، ويستدلون بقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أُوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا﴾ [النساء: 76] (13).
والآية في الكافرين وفي كل مستحل معتقد لا يرضي ربه تبارك وتعالى(14)، وقيل: إن الطاغوت في الآية هو الشيطان، ويؤيده منطوق الآية في قوله تعالى: ﴿فَقَاتِلُوا أُوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ﴾ وهو رواية عن قتادة(15)، وقال ابن كثير في معنى الآية: المؤمنون يقاتلون في طاعة الله ورضوانه، والكافرون يقاتلون في طاعة الشيطان، ثم هيج تعالى المؤمنين على قتال أعدائه بقوله: ﴿فَقَاتِلُوا أُوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا﴾(16). 
وقد تقدم معنى الطاغوت وأنواعه في المبحث الأول، وفيه مزيد بيان من أن الحاكم لا يصير طاغوتًا إلا إذا رضي أن يعبده الناس من دون الله كفرعون والنمروذ، فينبغي الوقوف على كون هذا الحاكم استحل واعتقد ذلك. 
 فإذا كان رجال الأجهزة الأمنية يحمون الحاكم فإنها وظيفة وليست عبادة، فإنهم ليسوا بذلك في ساحة قتال، فمن الذي سمى حمايتهم له قتالا، إن تسمية الأشياء بغير أسمائها منهج غير سديد.
وهذا السبب من باب الاتهامات التي لا دليل عليها، فإن حماية الحاكم الموكولة لهم لا يمكن بحال أن يفسرها على أنها قتال في سبيل الحاكم، إن الغلاة يتخيلون أنهم في حرب مع الحاكم وجيشه، وهم بالطبع الذين آمنوا وهم الذين يقاتلون في سبيل الله وجيش الحاكم يقاتل في سبيل الطاغوت، فهذه الصورة في أذهانهم فقط، والواقع يكذب ذلك.
الأمر السابع: من الأسباب التي أبداها الغلاة في استحلال دم الأجهزة الأمنية: أنهم يأخذون حكم العدو الصائل، فلو داهم مداهم للمنزل فإنه يقتل ولا يتردد في ذلك.”(17)، وعليه فإن رجال الجيش أو المباحث لو هاجمت المنازل تستباح دماؤهم فيقتلون.
وقد اعترف الغلاة أن هذه المسألة مسألة فقهية فقد قالوا: «إن مسألتنا هذه تسمى في الفقه الإسلامي بالعدو الصائل، وهي مسألة مجمع عليها بين أهل العلم من سلف الأمة، حتى لو كان المداهم للمنزل من المسلمين بل من خيارهم، فإنه يقتل ولا يتردد في ذلك”(18).
وهذا الكلام مضطرب إذا عرضناه على أهل المذاهب الذين لهم اليد العليا في مثل هذه المسائل، ويأتي اضطراب كلامهم من وجوه:
الوجه الأول: خلطهم بين المجمع عليه والمختلف فيه، وذلك لأن قولهم «وهي مسألة -أي دفع الصائل- مجمع عليها بين أهل العلم من سلف الأمة» إن أردوا مشروعية دفع الصائل مجمع عليه بين أهل العلم فهذا صواب لا نزاع فيه، والأصل في مشروعيته قبل الإجماع ما روى عن سعيد بن زيد قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من قُتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد»(19).
وعليه أجمع الفقهاء(20) على مشروعية الدفاع عن النفس والمال والعرض من الصائل بموجب هذا الحديث الشريف.
أما إن أرادوا أن العلماء أجمعوا على أن حكمه الوجوب فهم مخطئون، فإن دفع الصائل مشروع عند عامة الفقهاء إلا أن أنهم اختلفوا بعد ذلك في حكم دفع الصائل. وعبارة المغالي أدخلت المجمع عليه في المختلف فيه، والمبتدئ في تعلم الفقه لا يقع في مثل هذا الخطأ الفادح.
ويبدو أن إرادتهم خلوص المسألة إلى نهاية دموية مشروعة بين المسلم ورجل المباحث هو الذي أوقعهم في ذلك.
فاستخدامهم عبارة: « وهي مسألة مجمع عليها بين أهل العلم من سلف الأمة » ليوهموا أن ما يصنعونه مجمع عليه.
ويشيرون إلى وجوب دفع الصائل بدون تردد عندما قالوا: «حتى لو كان المداهم للمنزل من المسلمين بل من خيارهم فإنه يقتل ولا يتردد في ذلك»، والذي لا يتردد في فعله هو الواجب، وهذا الحكم محل خلاف بين الفقهاء وليس بمجمع عليه، كما توهمه عبارة المغالي.
الوجه الثاني: أن كلامهم موهم، فعند عرض ما قالوا على الفقه وأهله يتبين لك ما أوهموا به بعض الناس من وجوب قتل الصائل. فإن مسألة دفع الصائل والمراد به: المعتدي على الأموال والأنفس أو الأعراض(21) اختلف أهل المذاهب في حكم دفعه على مذهبين: 
1- المذهب الأول: وهو مذهب (الحنفية وبعض المالكية)(22): وذهبوا إلى وجوب الدفاع عن النفس والمال والعرض ولو اقتضى ذلك القتل، وقد استدلوا بحديث: «من قُتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد».
وقالوا في وجه الدلالة من الحديث: بيّن الحديث أن دفع الضرر واجب، فإذا كان الضرر لا يندفع إلا بالقتل، وجب القتال حفاظًا على نفسه وعلى ماله( 23)، إذ إن في دفاعه نجاة لنفسه ولماله، وفي نص الحديث على تسميته «شهيدًا » معناه أن المدافع يحل له القَتْل والقِتَال(24). 
2- المذهب الثاني: وهو مذهب الجمهور (المالكية، والشافعية، والحنابلة)(25)، وذهبوا إلى جواز الدفاع عن النفس والمال والعرض، ويوجد في مذهبهم تفصيل:
- فقد صرح المالكية بأن الدفاع جائز لا واجب، فإن شاء أسلم نفسه وإن شاء دفع عنها لا يعد آثما ولا قاتلا لنفسه(26). 
 وفي التوفيق بين مذهب من ذهب إلى الوجوب ومذهب من ذهب إلى الجواز من المالكية فقد قال المالكية: ينبغى الإنذار والتخويف بوعظه وزجره وإنشاد الله عليه لعله ينكف، فإن كان الصائل ممن يفهم فإنه يناشده أولا ثم بعد المناشدة يدفعه شيئًا فشيئًا، أي: يدفعه بالأخف فالأخف، فإن أبى إلا الصول قتله، وأما إن كان ممن لا يفهم كالبهيمة فإنه يعالجه بالدفع إنذارًا ويدفعه بالأخف فالأخف، فإن أبى إلا الصول قتله وكان هدرًا(27).
- أما الشافعية: فقالوا بجواز المدافعة المفضية إلى القتل ولا ضمان عليه، واستدلوا بالحديث، وقالوا في وجه دلالته:
1- أنه لما جعله شهيدًا دل على أن له القتل والقتال، كما أن من قتله أهل الحرب لما كان شهيدًا كان له القتل والقتال.
2- أنه مأمور بدفعه فلا يضمن، فإن في الضمان مع الأمر منافاة(28).
وصرح الشافعية بعدم وجوب الدفع فقالوا: «لا يجب دفع الصائل»(29). ومع قول الشافعية بجواز المدافعة عن النفس فإنهم يوجبون الدفع عن العضو، وعلتهم في ذلك:
1- لأنه ليس فيه شهادة يجوز لها الاستسلام(30).
2- ولأن دفع الضرر واجب سواء كان من مسلم، فمن باب أولى وإن كان من كافر أو بهيمة(31).
أما المال فيقولون فيه: بوجوب بذله للضرورة(32)، أو يعتريه الوجوب وعدمه فيجب حيث يجب، وينتفي حيث ينتفي، ومحل الوجوب -أي وجوب المدافعة- إذا أمن من الهلاك(33).
وأرى من هذه الأحكام التي قالها الشافعية أنهم إنما جوزوا المدافعة عن النفس ولم يوجبوها لوجود الشهادة، ولما انتفت الشهادة إذا كان الصائل يصول على عضوه وجبت المدافعة عندهم، وأما المال فالحفاظ عليه واجب، وبذله فداء نفسه للضرورة مع جواز المدافعة إن استطاع وإذا كانت المدافعة تفضي إلى هلاكه، أما المال المودع عنده فيجب الدفاع عنه عند الشافعية؛ لأنه التزم حفظه بقبضه فأشبه الوديعة، والله أعلم(34). 
- أما الحنابلة فقالوا أيضًا بالجواز: وعبارتهم فيه: «ومن أريدت نفسه أو حرمته أو ماله فله الدفع عن ذلك بأسهل ما يعلم دفعه به، فإن لم يندفع إلا بالقتل فله ذلك ولا ضمان عليه، وإن قتل فهو شهيد»(35).
قال المرداوي: هذا أحد الوجهين، أي الجواز والوجوب وهو المختار، وجزم به الزركشي، وقيل له: الدفع عن ذلك بأسهل ما يغلب على ظنه أنه يندفع به، وهذا المذهب(36).
وفي قولهم: «بأسهل ما يغلب على ظنه أنه يندفع به» دليل على أن أمر المدافعة ربما لا يصل إلى القتل، فتكون المدافعة متعينة بالأقرب والأسهل. وفائدة هذا التدرج هو مدى توافر الضمان من عدمه؛ لأن التجاوز عن الأكثر مع إمكانية الأقل يكون متلفًا، وعلى المتلف الضمان.
ويجوز عندهم ذلك: أنه إن لم تحصل المدافعة إلا بالقتل فله ذلك ولا شيء عليه، قال المرداوي: وهو المذهب وعليه الأصحاب(37).
وقيل: ينتفي حكم المدافعة إذا تحصل أمران: 
1- إذا أمكنه هرب أو احتماء ونحوه.
2- إذا أمكنه المناشدة والاستغاثة كما قيل(38).
واستغرب الصنعاني ذلك في «سبل السلام» بقوله: ولا أدري ما وجه وجوب الهرب عليه(39).
وعبارة المحرر لخصت الأحكام في المدافعة فقال: «ويلزمه الدفع مع القدرة عن حرمته دون ماله، وفي نفسه روايتان»(40). 
الأولى: يلزمه الدفع عن نفسه، والثانية: لا يلزمه الدفع عن نفسه، والأول هو ما عليه أكثر المذهب، وقالوا: إنه الأرجح(41).
- الراجح في هذه المسألة:
أرى -والله تعالى أعلم- أن الراجح في هذه المسألة هو ما ذهب إليه الجمهور من جواز الدفاع عن النفس والمال والعرض حتى لو أفضى الدفع إلى القتل؛ وذلك لاستنادهم إلى الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن أبي هريرة قال: «جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي ؟ قال: «فلا تعطه مالك»، قال: أرأيت إن قاتلني ؟ قال: «قاتله»، قال: أرأيت إن قتلني، قال: «فأنت شهيد»، قال: أرأيت إن قتلته ؟ قال: «هو في النار» (42).
وقد فسر الجمهور قوله ‏صلى الله عليه وسلم هنا: «فلا تعطه مالك» على أنه نهي لغير التحريم(43).
- وعلى ما تقرر في مذاهب الفقهاء في مسألة دفع الصائل نقول للغلاة: 
إن سلمنا جدلا لكم أن ما تفعلونه في مواجهة الجهات الأمنية من باب دفع الصائل اعتمادًا على الحديث وإجماع الفقهاء على مشروعية دفعه فقد ظهر من نصوصكم عدم فقه الحكم وضوابط تطبيقه، وذلك لما يأتي:
1- أن دفع الصائل الراجح فيه الجواز، فلا معنى لقول الغلاة: «فلا تترد في قتله» التي يتوهم منها الوجوب، وهو خلاف ما عليه جمهور الفقهاء.
2- أن المدافعة تكون بالتدرج، فإننا نلحظ في كلام الغلاة أن القتل هو المراد من دفع الصائل ولا يتردد المدافع في ذلك، فالمدافعة الغرض منها عندهم أن تقتل الصائل، وما تقدم من أهل العلم يفيد خلافه فقد تبين مما ذهبوا إليه: أن على المدافع أن يقصد التدرج في الدفع غير قاصد القتل في مبدأ الأمر، وقد بينت المذاهب -مما ورد فيما سبق- أن المدافع عن نفسه وماله وعرضه عليه أن يتدرج في دفاعه عن ماله بالأخف فالأثقل من وسائل الدفاع التي تتسنى له إن أمكن، فلا يعدل المدافع إلى القتل مع إمكان الدفع بدونه، والمعتبر في ذلك غلبة الظن، فإن أمكن دفعه بكلام واستغاثة لم يجز الضرب، وإن أمكن دفعه بضرب يد لم يكن له استعمال السوط، أو بسوط لم يلجأ إلى العصا، وإن أمكن الدفع بعصا غير ثقيلة لم يستعمل الثقيلة، وإن أمكن دفعه بإحداث جرح أو أكثر لم يجز أن يقطع عضوًا، فيجوز عمومًا في الدفاع اللجوء إلى الأسهل ممكنًا.
فهل يعتبر الغلاة هذه الاعتبارات التي اعتبرها أهل العلم؟ فنصوصهم تخالف ذلك.
3- إيجاب الضمان على الغلاة، لأن الغلاة لا يتدرجون في المدافعة وإنما يقصدون القتل وهو أكثر المدافعة ومنتهاها، فقد قال الفقهاء: لا يرقى إلى مرتبة وهو يرى ما دونها كافيًا(44)، أو عليه أن يتحرى الأسهل في المدافعة(45).
وقد نص الشيخ زكريا الأنصاري على عدم جواز القتل إذا كان غيره من زجر أو تهديد كافيًا في المدافعة(46)، وكان هذا التدرج لسببين لحرمة إزهاق النفس وإذهابها، وإيجاب الضمان على المتجاوز في الدفع.
والغلاة يتحرون القتل، ويبدءون به دون أن يتدرجوا، ومن كان هذا شأنه حكمه في الفقه أنه متجاوز في حد المدافعة لا يتدرج فيها، والمتجاوز عن الأكثر مع إمكانية الأقل يكون متلفًا وعلى المتلف الضمان، وهذا هو المفهوم من أن الصائل يدفعه المصول عليه، فلو أدت المدافعة إلى القتل لا يضمن، فالقتل يأتي في منتهى الأمر ولا ضمان إذن، أما إذا كان القتل في مبدأ الأمر وقصدًا مع إمكانية الدفع بما هو أخف منه فهذا يعتبر اعتداء موجب للضمان(47).
فهل أوجب الغلاة على أنفسهم الضمان بإتلاف الأنفس وأعضائها، وكذا الأموال على أنواعها المختلفة التي استهدفوها جراء الاعتداءات والتفجيرات، فهم ضامنون، وهذا حكم شرعي نسألهم عن تطبيقه.
 4- بعد عرض حكم دفع الصائل وما فيه من مذاهب الفقهاء المعتدلين بان لنا خلط الغلاة بين المجمع عليه والمختلف فيه في مسألة دفع الصائل، قاصدين إيهام العوام بمشروعية دفع الصائل ووجوب قتله بدون التدرج في المدافعة على حد ما قال الفقهاء، هادفين إلى تنزيل هذا الحكم على رجال الأمن والمباحث إذا داهموا منزلا، واصفين ذلك بأنه دفع للصائل تارة وجهاد لأعوان الحاكم تارة أخرى، وهذا من باب التداخل والتحايل، وهو منهج غير سديد.
وقد بان لك أن ردنا عليهم في هذا الموضع ردٌّ على إجراء حكم الصائل دون اعتبار ضوابطه الفقهية التي اعتمدها الفقهاء، ورد على التعامل مع الأجهزة الأمنية بما اختلط عليهم في حكم دفع الصائل، إذ إن الأجهزة الأمنية أصلا ممن يستثنون من حكم الصائل كما سيأتي، فما صنعناه أننا رددنا الغلاة في فهمهم الفقهي للحكم الذي به يستحلون دماء رجال الأجهزة الأمنية.
الوجه الثالث: تبين عدم رجوعهم لكلام العلماء في استثناء الحاكم ومعاونيه من مسألة دفع الصائل، فقد حكى ابن المنذر الإجماع على استثناء الحاكم ومن عاونه من مسألة الصائل(48).
ولو رجعوا إلى شيخ الإسلام ابن تيمية فإنهم سيجدونه يقول عن جهاد الدفع: «وأما الدفع فهو أشد أنواع دفع الصائل عن الحرمة والدين فواجب إجماعًا، فالعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لا شيء أوجب بعد الإيمان من دفعه، فلا يشترط له شرط، بل يدفع بحسب الإمكان »(49).  
وواضح أن المراد من كلام ابن تيمية العدو الكافر الذي يعتدي على أرض الإسلام، فقتاله واجب وجهاد في سبيل الله، أما أن يجعل الغلاة ذلك في رجال الأمن المسلمين فهو فهم سقيم.
وقد هاجم أحد الغلاة إجماع ابن المنذر وادعى عليه بتساهله المعروف –على حد قول المغالي- في إجماعاته فقال: « إنَّ ابن المنذرِ متساهل في حكاية الإجماعِ، وذلك معروفٌ عنه فلا يكاد يسلمُ نصفُ ما يحكيه من إجماعات، ومن الإجماعات التي يحكيها ما فيه خلافٌ مشهورٌ»(50). 
ويا ليته نسب هذا القول إلى أحد من العلماء الأثبات، والحق أن ثقتنا في علم ابن المنذر وإجماعاته أكثر من ثقتنا في المغالي وكلماته.
فقد نقل الشوكاني والصنعاني ما قاله ابن المنذر ولم يشيرا إلى أن في المسألة خلافًا، ليس لعلمهم أن ابن المنذر غير متساهل، ولكن لأن وجه الإجماع الذي حكاه ابن المنذر له أصل في السنة غفل عنه الغلاة، فهذه هي العبارة التي نقلها الشوكاني والصنعاني: « قال ابن المنذر: والذي عليه أهل العلم أن للرجل أن يدفع عما ذكر إذا أريد ظلما بغير تفصيل إلا أن كل من يحفظ عنه من علماء الحديث كالمجمعين على استثناء السلطان للآثار الواردة بالأمر بالصبر على جوره وترك القيام عليه»(51).
وأنت تلاحظ معي أن ما نقلاه تام في موضعه ويخالف نقل المغالي، فقد قال ردًا على بعض المتراجعين عن حكم دفع الصائل: « قد استدلَّ كلٌّ من الخضير والفهد على منع دفع الصائل من رجال المباحثِ، بما ذكره ابن المنذر حين قال: وأهل العلم كالمجمِعين على استثناء السلطان مما جاء في دفع الصائل » ثم تكلم بعد ذلك في تساهل ابن المنذر. فهل من المنهج السديد نقد علم الرجل لأن ما قاله حجة على من غالى؟ هل من الحق أن لا ننظر في كلامه، ونقوم ببتر ما يدل على إجماعه من السنة؟.
إن ما صنعه الشوكاني والصنعاني من النقل التام لكلام ابن المنذر دليل قائم على المغالي عندما قال أيضًا ناقدًا ابن المنذر في قوله: « كل من يحفظ عنه من علماء الحديث كالمجمعين على استثناء السلطان »، فقوله: كالمجمعين ليس تصريح بالإجماع، ولم يجعله إجماعًا.
والذي يفهم لغة الفقهاء يعلم جيدًا أن قول ابن المنذر «كالمجمعين» هو وصف لحال أهل العلم لوجود الأحاديث والآثار الواردة التي تؤكد الصبر على السلطان وإن جار، وليس نقلا لتصريحهم بمسألة استثناء السلطان قصدًا، بمعنى: أن ابن المنذر يحكي حالة إجماع من أهل العلم لوجود هذه الأحاديث والآثار التي تناقلوها، بدون التصريح بمسألة السلطان ذاتها، وهذا من باب التحري، لذا لجأ إلى قوله: «كالمجمعين» لعدم تصريحهم بمسألة السلطان خاصة، وهو يريد أن إجماعهم يفهم ضمنًا لورود هذه الأحاديث والآثار في الصبر على السلطان وإن جار، وهي بصيرة بالعلم ثاقبة لا يفهمها إلا العالمون.
فبدلا من التطاول على أهل العلم؛ علينا أن نفهم كلامهم جيدًا، فربما ظهر لهم وجه لم يظهر لنا، فلو خطأناهم أخطأنا، وليعلم المغالي جيدًا أن سلفنا من أهل العلم نعيش على ما سطروه، فلهم فضل علينا لا ينكر، قال تعالى: ﴿وَلاَ تَنسَوُا الفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾ [البقرة: 237].
ومما قاله المغالي أيضًا حتى يرد ما حكاه ابن المنذر من إجماع: « ولا يُمكن تقديم إجماعٍ يحكيه ابن المنذرِ على عموم الحديث حين جاء رجلٌ إلى النبي ‏صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت إن جاءني رجلٌ يريد أخذ مالي؟ قال: فلا تعطه، قال: فإن قاتلني؟ قال: فقاتله»(52). 
وهذا الكلام مردود ويصطدم بما فهمه الصنعاني من حكاية ابن المنذر للإجماع فقد قال: « قلت ويؤيد ما قاله ابن المنذر عن أهل العلم ما أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعا بلفظ: أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي قال: فلا تعطه…. » فذكر الحديث.
وهو نفس الحديث الذي استدل به المغالي ووجهه توجيهًا مغلوطًا يشير فيه إلى سقوط حكاية إجماع ابن المنذر لوجود هذا الحديث، والصنعاني أورد نفس الحديث بتوجيه صائب يشير فيه إلى تأييد ما حكاه ابن المنذر من الإجماع على استثناء السلطان من دفع الصائل بهذا الحديث.
لذلك يقول الصنعاني: وظاهر الحديث إطلاق الأحوال، قلت – أي الصنعاني: هذا في جواز قتال من يأخذ المال فهل يجوز له -أي لمن يراد أخذ ماله ظلما- الاستسلام وترك المنع بالقتال؟ الظاهر: جوازه، ويدل له حديث: «فكن عبد الله المقتول»، فإنه دال على جواز الاستسلام في النفس والمال بالأولى، فيحمل قوله: «هنا» ولا تعطه على أنه نهي لغير التحريم(53).
والحديث كما قال الصنعاني فيه جواز المدافعة لا وجوبها، ويدل عليه الحديث الآخر: « فكن عبد الله المقتول»، فلا متمسك للمغالي في أن الحديث على عمومه في حق أي أحد سواء كان السلطان أو غيره، فهو يقول: «فالعموم الظاهر الذي هو بهذه المنزلةِ، لا يُعترض عليه بإجماع ابن المنذر».
ولا متمسك للمغالي في أن الحديث حجة على ابن المنذر. واستنادًا للحديث: فإذا كانت المدافعة والاستسلام جائزين، فمن باب أولى أن يكون الاستسلام مقدم على الدفع في مسألة الحاكم أو معاونيه؛ وذلك لما يأتي:
1- لما حكاه ابن المنذر من إجماع على استثناء الحاكم من دفع الصائل.
2- أن الدفع لا يأتي إلا في مقابل الاعتداء، والواقع يثبت أن طلب الاستسلام من قبل الأجهزة الأمنية للمطلوبين هو أول ما يصنعونه قبل الاعتداء، وغالبًا ما يأتي الاعتداء بسبب رفض الاستسلام والمبادرة بالاعتداء على أنه جهاد، فترد الأجهزة الأمنية على ذلك حتى يستسلموا. فالمسألة بهذا الوصف -وهو الذي يحدث- خارجة تمامًا على مسألة دفع الصائل، فضلا عن استثناء ابن المنذر.
3- أن سيدنا عثمان بن عفان لم يدفع عن نفسه وترك القتال مع إمكانه مع إرادتهم قتله، وكان عبد الله المقتول، وليس هذا دعوة للخنوع أو الضعف وإنما دعوة للكف عن إشعال الفتنة وإيقادها، والإبقاء على الأنفس وحقن دمائها.
4- أن في حديث « فكن عبد الله المقتول» فيه توصيف للفتن، وهي تشبه ما نحن فيه اليوم، فعن أيوب عن حميد بن هلال، عن رجل من عبد القيس كان مع الخوارج ثم فارقهم، فقال: دخلوا قرية فخرج عبد الله بن خباب ذعرا يجر رداءه فقالوا: لم ترع، فقال: والله لقد رعتموني قالوا: لم ترع، قال: والله لقد رعتموني، قالوا: أنت عبد الله بن خباب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نعم، فقالوا: هل سمعت من أبيك حديثا تحدثنا به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ذكر فتنة القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، قال: فإن أدركك ذاك فكن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل» قالوا: أنت سمعت هذا من أبيك يحدث به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم؛ قال: فقدموه على ضفة النهر فضربوا عنقه فسال دما كأنه شراك نعل مندفر، وبقروا أم ولده عما في بطنها( 54).
وما يحدث بين الأجهزة الأمنية والمطلوبين أمنيًا لا شك أنه فتنة أشعلها الغلاة وفسروه على أنه جهاد أو دفع للصائل.
يقول الدكتور عادل بن عبد الله العبد الجبار: « رجال الأمن يجب السماع لهم والانقياد لتوجيهاتهم، وهنا أحكي الإجماع لابن المنذر- رحمه الله- أن السلطان لا يكون صائلا إذا طلب أحدًا أو أرسل لطلبه، فرجال الأمن من المباحث وقوات الطوارئ إذا دققوا في التفتيش والتحري فيجب السماع لهم ويحرم مدافعتهم أو الاعتداء عليهم، من قال بغير ذلك فهو مخطئ، وعليه التراجع والوقوف عند إجماع العلماء المعتبرين لتسلم للأمة حياتها وأمنها »(55). 
5- أن الجهات الأمنية ليس القتل أول أعمالهم في التعامل مع المطلوبين، فصفتهم ليس فيها سطو عليهم أو صولة عليهم وإنما تنفيذ لأوامر الضبط والإحضار، فلا نسلم لما قاله الغلاة في شبهتهم: « حتى لو كان المداهم للمنزل من المسلمين بل من خيارهم، فإنه يقتل ولا يتردد في ذلك ».
فالقصد بالنسبة للأجهزة الأمنية ليس القتل، وإنما أمرًا غير القتل، وعليه فإن الاعتداء من ناحيتهم لا يكون إلا عند مخالفة المطلوبين الاستسلام بنحو ما أوضحناه سابقًا.
الذي نريد قوله: إن مداهمة الشرطة للبيوت ليس مبادرة منهم بالعداء فحالتهم مختلفة عن حالة الصائل، وبذلك نفطن إلى استثناء العلماء للسلطان ومن تبعه لوجود الأحاديث التي تحث بالصبر عليه، ولأنهم يعلمون أن جند السلطان ينفذون الأمر بغير اعتداء مبدأ الأمر، والاعتداء يأتي منهم ردًا على الاعتداء الحاصل من عدم استسلام المطلوب.
الأمر السابع: استدل الغلاة أيضًا بفعل عبد الله بن عمرو بن العاص فيما رواه مسلم أن عنبسة بن أبي سفيان وكان واليًا لمعاوية رضي الله عنه لما أراد أن يجري عين ماءٍ في أرض عبد الله ليوصلها إلى أرض عنبسة، أبى عبد الله، فركب عبد الله بن عمرو هو وغلمانه وقال: والله لا تخرقون حائطنا حتى لا يبقى منَّا أحد، ولمَّا كلَّمه خالد بن سعيد بن العاص في ذلك احتجَّ عليه بما سمعه من النبي ‏صلى الله عليه وسلم: « من قُتل دون ماله فهو شهيدٌ »، وذكر المغالي روايات كثيرة لهذه القصة ردًا على من ضعف الاستدلال بها.
ووجه المغالي هذا الحديث برواياته فقال: « أنَّ معاوية رضي الله عنه أراد أن يأخذ الأرض، وأمر أخاه عنبسة وهو واليه على مكة بأخذها، فكان من عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه ما كان،… ثم قال: قال ابن حزم: فهذا عبد الله بن عمرو بن العاص، بقية الصحابة، وبحضرة سائرهم يريد قتال عنبسة بن أبي سفيان عامل أخيه معاوية أمير المؤمنين إذ أمره بقبض الوهط، ورأى عبد الله بن عمرو أن أخذه منه غير واجب، وما كان معاوية رضي الله عنه ليأخذه ظلمًا صراحًا، لكن أراد ذلك بوجهٍ تأوَّله بلا شكٍّ، ورأى عبد الله بن عمرو أن ذلك ليس بحقٍّ، ولبس السلاح للقتالِ، ولا مخالف له في ذلك من الصحابة رضي الله عنهم.
وما نقله المغالي من روايات للحديث، وما نقله عن ابن حزم لا نعترض عليه، وإنما نعترض على فهم المغالي للحديث؛ وذلك لما يأتي:
1- أنه استدل بالحديث وما فيه من دلالة في غير موضعه، لأن عبد الله بن عمر تحرك ولبس السلاح لما رأى اعتداء على ماله «أرضه» لدفع الظلم، وهو سبب مطابق لاستدلاله صلى الله عليه وسلم بحديث: « من قتل دون ماله فهو شهيد…».
2- أن حال الأجهزة الأمنية لم تكن لأخذ المنزل الذي يحتمي فيه المغالي أو للاستيلاء على حق من حقوقه، فهم يريدون القبض عليه فقط لإخلاله بالأمن، فحديث عبد الله بن عمرو يطبق عند سلب حق من الحقوق التي نص عليها الحديث، وقد أوضح ذلك ابن حزم.
3- أن هذه الواقعة حدثت في زمن لو تقاتلت فيه طائفتان فإن قتالهما سينتهي بالصلح أو قتال الفئة الباغية، أما ما يحدث بين المغالين ورجال الأجهزة الأمنية بعيد عن ذلك، لأن الاقتتال ليس المراد عند مداهمتهم منزلا فهم يقصدون شخصًا لتسليمه إلى جهات خاصة لا قتله، فاستدلال المغالي بهذه القصة لا ينطبق على الواقع بين المغالين والأجهزة الأمنية.
4- أنه إن كان المعتدي عاملا لمعاوية وهو أخوه عنبسة أو معاوية نفسه على ما جاء في الروايات وهو ولي الأمر، ففعل سيدنا عبد الله بن عمرو وهو صحابي ليس بحجة مع وجود حديث مسلم المرفوع: وفيه «تسمع، وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك، فاسمع، وأطع».
ففعل الصحابي خاص به، ولا يمكن أن يستدل به على دخول الحاكم في حكم الصائل، لأن ذلك سيثير الفتنة، وسيجلب على الأمة شرورًا لا تنقطع، وعلى هذا بان لك فهم ابن المنذر للنصوص الشرعية التي جعلته يحكي الإجماع على استثناء الحاكم ومعاونيه من مسألة دفع الصائل، وأكاد أجزم أنه كان يعلم صنيع عبد الله بن عمرو مع ولي الأمر، إلا أنه فضل حقن الدماء وعدم إيقاد الفتن راجعًا إلى أصل مرفوع للنبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه «تسمع، وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك، فاسمع، وأطع» منبهًا الفاهمين والعقلاء أن ما يحدث خلاف الحديث المرفوع هو فعل خاص بصاحبه، وهو فهم ثاقب لا يصل إليه إلا ابن المنذر وأمثاله.
4- أن سيدنا عبد الله بن عمرو صلى الله عليه وسلم لم يبدأ بالعدوان، وإنما كان يَرُد العدوان عن ماله، فلم يكن معتديًا في مبدأ الأمر، أما المغالون الذين يتوجه إليهم رجال المباحث كان عدوانهم سببا في طلبهم، فهم في مبدأ الأمر هم الصائلون، يقول الشيخ صالح الفوزان: «من شبهتهم في قتل رجال الأمن المسلمين أن الصائل يقتل دفعًا لشره. ولم يعلموا أنهم هم الذين ينطبق عليهم حكم الصائل لأنهم يصولون على المسلمين والمستأمنين، ورجال الأمن هم الذين يدفعون الصائل في هذه الحالة، ولو أنهم كفوا أذاهم عن المسلمين ولم يشهروا السلاح في وجوه المسلمين لما تعرض لهم رجال الأمن، ففي الحقيقة هم الصائلون الذين يجب دفع شرهم عن المسلمين ورجال الأمن لهم الأجر في ذلك، ومن قُتل من رجال الأمن فإنه ترجى له الشهادة في سبيل الله؛ لأنه يدفع الصائل عن نفسه وعن المسلمين»(56 ). 
فهم في حكم الصائل لمبادرتهم بالعدوان على المجتمع وفئاته، ورجال المباحث يردون عدوانهم وشرورهم، والله المستعان.
*************
الهوامش:
(1) انظر: حكم أعوان الطواغيت وجنودهم (ص55).
(2) انظر: مسائل هامة في بيان حال جيوش الأمة” (ص 9).
(3) انظر: ميثاق العمل الإسلامي – الجماعة الإسلامية بمصر : (ص56).
(4) انظر: مسائل هامة في بيان حال جيوش الأمة المسألة الثانية.
(5) المرجع السابق. 
(6) انظر: الباحث عن حكم قتل أفراد وضباط المباحث، فصل (مسائل وتنبيهات مهمة) (1)، مسألة مداهمة المنازل من قبل أفراد وضباط المباحث.
(7) سبق الإشارة إلى استدلالهم والرد عليه.
(8) انظر: ميثاق العمل الإسلامي – الجماعة الإسلامية بمصر: (ص 56).
(9) انظر: مسائل هامة في بيان حال جيوش الأمة ، المسألة الأولى.
(10) في كتابه الأمن والتخطيط.
(11) انظر: مسائل هامة في بيان حال جيوش الأمة – المسألة الأولى.
(12) انظر: هداية الساري في حكم استهداف الطوارئ لأبي بكر محمد بن إبراهيم الحسني.
(13) انظر: مبحث “لماذا نقاتل ؟ ومن نقاتل ؟ لأبي حمزة البغدادي.
(14) انظر: التفسير الكبير (10/146).
(15) انظر: الدر المنثور (2/593).
(16) انظر: تفسير ابن كثير (1/526).
(17) انظر: الباحث عن حكم قتل أفراد وضباط المباحث، فصل (مسائل وتنبيهات مهمة؛ (1) مسألة مداهمة المنازل من قبل أفراد وضباط المباحث).
(18)انظر: الباحث عن حكم قتل أفراد وضباط المباحث، فصل (مسائل وتنبيهات مهمة؛ (1) مسألة مداهمة المنازل من قبل أفراد وضباط المباحث).
(19) متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (برقم: 2300)، ومسلم في صحيحه (برقم: 202).
(20) انظر: حاشية ابن عابدين (6/545)، حاشية الدسوقي (4/357)، مغني المحتاج (4/194)، الإنصاف (10/303)، وانظر: فتح الباري (5/133).
(21) معجم لغة الفقهاء لرواسي قلعجي مادة: «صيال».
(22) انظر: الهداية شرح البداية (4/164)، وحاشية ابن عابدين (6/546)، وبدائع الصنائع (2/197)، وحاشية الدسوقي (4/357).
(23) انظر: حاشية ابن عابدين (6/546).
(24) انظر: حاشية الدسوقي (4/357)، سبل السلام (4/40).
(25) انظر: حاشية الدسوقي (4/357)، والشرح الكبير (4/357)، إعانة الطالبين (4/171)، وحواشي الشرواني (9/181)، والإنصاف للمرداوي (10/303)، والمحرر في الفقه (2/162).
(26) انظر: حاشية الدسوقي (4/357).
(27) انظر: حاشية الدسوقي (4/357)، الشرح الكبير (4/357).
(28) انظر: الإقناع للشربيني (2/544).
(29) انظر: روضة الطالبين (3/286).
(30) انظر: حواشي الشرواني (9/185).
(31) انظر: السابق.
(32) انظر: روضة الطالبين (10/335). 
(33) انظر: حواشي الشرواني (9/185).
(34) انظر: المصدر السابق.
(35) انظر: الإنصاف للمرداوي (10/303)، والمحرر في الفقه (2/162).
(36) انظر: الإنصاف للمرداوي (10/303).
(37) انظر: السابق، والمحرر في الفقه (2/162).
(38) انظر: المرجعان السابقان. 
(39) انظر: سبل السلام (4/40).
(40) انظر: المحرر في الفقه (2/162).
(41) انظر: الإنصاف للمرداوي (10/304).
(42) أخرجه مسلم (1/ 340، رقم: 201) عن أبي هريرة.
(43) انظر: سبل السلام (3/163). 
(44) انظر: غاية البيان شرح زبد ابن رسلان (ص 299).
(45) انظر: حاشية ابن عابدين (1/637).
(46) انظر: الجمل شرح المنهج (5/179).
(47) انظر: حاشية الدسوقي (4/357)، والشرح الكبير (4/357)، إعانة الطالبين (4/171)، وحواشي الشرواني (9/181)، والإنصاف للمرداوي (10/303)، والمحرر في الفقه (2/162)
(48) انظر: نيل الأوطار (6/75)، وسبل السلام (3/262).
(49) الاختيارات الفقهية (ص 309، 310).
(50) من مقال لعبد الله بن ناصر الرشيد في مجلة: صوت الجهاد بتاريخ: الثامن من شوال، عام أربعةٍ وعشرينَ وأربعِمائةٍ وألفٍ. 
(51) انظر: نيل الأوطار (6/75)، وسبل السلام (3/262).
(52) السابق.
(53) انظر: سبل السلام (3/262).
(54) أخرجه أحمد في المسند (5/110، رقم: 21101) وأبو يعلى (13/176، رقم: 7215)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1/215، رقم: 283)، والطبراني في المعجم الكبير (4/59، رقم: 3629).
(55) انظر: تجربتي مع الموقوفين أمنيًا (ص 26).
(56) المقالات والمحاضرات للفوزان (ص 27).

المرفقات

المرفقات


رابط الموضوع : http://www.assakina.com/shobhat/11727.html#ixzz2vSzUR3le

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق