مناقشة دعوى ( الإلزام بتحكيم الشريعة طريق للنفاق ) ( 2 / 2 )
(4)
إن هذا يدعوني للسؤال عن مفهوم النفاق وتعريفه لدى صاحب هذا الاستشكال.
فما هو مفهوم النفاق؟
لأن كل المعطيات السابقة والآتية تثبت أن المسلمين يتحولون إلى هذا النفاق بسبب إنكار المنكر ولا بتطبيق الشريعة بتاتاً، فهو غير مؤدٍ للنفاق، فالنفاق أن يسر الإنسان بالكفر ويظهر الإيمان، فما علاقة هذا بإنكار المنكرات أو تحكيم الشريعة؟
نعم، هذا سيكون في بعض الأحكام الشرعية ومن فئة قليلة لديها موقف سلبي من الدين نفسه وتريد الطعن في الإسلام لكنها لا تستطيع خشية العقاب فتلجأ إلى النفاق، وهذا موقف صحي وقوي، فخير من أن يظهر كفره واعتدائه يتخفى به ويستتر.
فالنفاق لا يكون بالإلزام.
بل الواقع أن النفاق إنما يكون حين يضعف الإلزام.
فالمنافقون يخفون غيظهم وحنقهم على الإسلام والمسلمين، وإذا وجدوا فرصة أو مجالاً استغلوه وأظهروا الرجف والتشكيك، لهذا كان علاجهم القرآني بالتهديد والوعيد (لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلاً) فالقوة والإلزام هي التي تحمي المجتمعات من المنافقين، وتركه هو الذي يجرئهم ويغريهم، لهذا جاء الخطاب القرآني (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم)،
فهذه هو علاج القرآن للمنافقين، ولم يكن علاجهم بأن يقال لهم ( تفضّلوا خذوا راحتكم، واعلنوا كفركم وأنتم في حلّ من الشريعة، أهم شيء لا تصيرون منافقين)!!.
فهذه هو علاج القرآن للمنافقين، ولم يكن علاجهم بأن يقال لهم ( تفضّلوا خذوا راحتكم، واعلنوا كفركم وأنتم في حلّ من الشريعة، أهم شيء لا تصيرون منافقين)!!.
النفاق لا يستقر في النفوس بسبب الشعائر، الشعائر والإلزام بركة وديانة وتقوى لله، هذا يحبب النفوس للدين ويجعلها تألفه وتحبه وتعتاده، النفاق لا ينشأ بسبب هذا، إنما ينشأ بأسباب أخرى، من أعظمها شيوع الشبهات والتشكيكات في الدين ونشر كل ما يمس الدين ويقدح فيه، فهذا من أعظم أسباب النفاق لأنه يهز اليقين في نفوس بعض الناس ويدخلهم في الحيرة والشكوك، فهذه منابت النفاق التي يجب الحرص عليها لمن كان صادقاً فعلاً على علاج النفاق ومتألماً منه.
فتعريف النفاق في السؤال قائم على نفاق آخر ليس هو النفاق الذي يعرفه الناس.
(5)
أن إخفاء المعاصي والمنكرات خير من إظهارها وإشهارها، فعلى أسوء الاحتمالات فلو أن المنع لم يفد شيئاً وأصبح الناس يمارسون ذات المنكرات في الخفاء فإخفاؤها خير بلا مقارنة من إظهارها وإشاعتها، ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم (كل أمتي معافى إلا المجاهرين) فالمجاهرة بالذنب شر وأقبح من الإسرار به، وما دام المنكر سراً فلا يحاسب عليه المجتمع ولا يؤاخذ به، إنما المحاسبة على المنكر حين يشيع ويظهر.
(6)
ثم إن التخفي بالمعصية ليس نفاقاً، فإذا منع المسلم من شرب الخمر فشربه سراً فهذا خير له وأخف شراً وليس نفاقاً.
فما أدري لماذا يفترض السؤال أن المسلم إما يشرب الخمر جهراً ويفعل الفاحشة جهراً وإما يكون منافقاً يشربه سراً؟
هل الإسرار بالمعصية نفاق؟
لا يقول هذا عالم ، فالإسرار بالمعصية أولى من الجهر بها، فهو شرعاً أفضل وأهون، فلا أدري على أي اعتبار صار منافقاً؟
حتى ولو بحث المسلم عن المعصية واجتهد في الوصول إليها ولم يجدها فهذا ليس نفاقاً ولا علاقة له بالنفاق بتاتاً.
(7)
هذا السؤال يمارس تصويراً مغلوطاً فاحشاً، فهو يفترض أن المسلم حين يمنع من الحرام فإنه سيفعله في السر، وكأنه لا وجود لخيار ثالث هو الأكثر والأشهر والأبرز، وهو أن عامة المسلمين حين يمنعون من الحرام فإنهم سيتركونه لما في نفوسهم من تعظيم الشرع وميل لتطبيقه أحكامه ما استطاعوا، وإنما تبقى قلة تمارسه في الخفاء.
فإشاعة الحرام يجرئ على فعله ويكثر من مرتاديه، واعتقاد أن منعه لن يؤثر في مضايقته وإبعاد الناس عنه تصور بعيد جداً عن الواقع، ولهذا جاءت الشريعة بالحث على التستر بالمعاصي كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ( اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله عنها، فمن ألمّ فليستتر بستر الله) وهو شيء بدهي يفهمه عامة الناس فتراه يرددون: إذا بليتم فاستتروا.
وقد قال ربنا جل وعلا: (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة) فالمنكر الظاهر يجرئ الناس ويوسع الفساد فإذا لم يظهر غفل عنه الناس وتركوه.
(8)
وهذا الإلزام لا يخلو منه أي قانون ولا نظام معاصر، فكل الأنظمة المعاصرة تقوم على قوانين وأنظمة ملزمة في كافة شؤون حياة الناس ودقائق تفاصيلهم، والالتزام بها ضرورة، حتى ولو خالفها البعض فلا يتصور أن يخطر ببال أحد أن مخالفة البعض تعني أن القانون لم يعد له أهمية فإما أن تلتزم به أدبياً أو لا حاجة له؟
لا أحد يفكر بهذا لأن هذا شأن معيشي بدهي، والناس يعرفون أن القانون إذا قوي ولزم وعم زادت قناعة الناس به ورضوا به مع كونهم في الأصل مكرهين عليه وملزمين به.
(9)
ثم إن خطاب الشريعة في القرآن والسنة، القائم على أوامر ونواهٍ، هل هو خطاب للفرد فقط، أم للفرد والمجتمع؟
حين نقرأ في القرآن مثلاً (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا)
فمباشرة سيفهم منه المسلم أنه خطاب للفرد بأن يترك الربا امتثالاً لأمر الله، وللمجتمع المسلم بأن يترك الربا، وللدولة المسلمة التي تقوم على سياسة هذا المجتمع أن تترك الربا.
وهذا يعني أن الإلزام جزء أساسي من الحكم الشرعي.
أما اعتقاد أن النص يدل على تحريمه على الفرد، أما تحريمه نظاماً وقانوناً فهو شيء آخر، فهو تفكير جديد، يناسب تفكير الفئة المتأثرة بالثقافة العلمانية حين تجعل الدين شأناً فردياً وخطابه متجه للفرد ولا يمسّ النظام والدولة.
ثم إن المسلم حين يدخل في الإسلام فإنه تلقائياً يكون مسلماً ومنقاداً لحكم الإسلام، فالإسلام نظام شامل، لا يوجد في الفكر الإسلامي أن يسلّم المسلم فيدخل في الدين، ثم يسلم فيوافق على حكم الشريعة، هذه درجتا فهم تناسب الدين النصراني والثقافة العلمانية لأن الدين لديهم علاقة روحية لا تمس الحكم، فيختار الحكم الذي يريد بغض النظر عن دينه، أما المسلم فإنه حين رضي بالإسلام فقد رضي به حكماً بداهة ولزوماً ضرورياً لدينه، وحينها فالإلزام بأحكام الإسلام ليس شيئاً طارئاً وجسماً غريباً نبحث له عن سبب ومشروعية وطريقة معينة، هو أصل وفرض لازم وبدهي ما دام أن الناس مسلمين، وهذه مجتمعات مسلمين قامت في أرضها دول إسلامية خلال عشرات القرون، لم تعرف غير حكم الإسلام وإلزامه، فلا يجوز أن نتعامل مع حكم الإسلام وكأنه جسد غريب على تلك المجتمعات.
(10)
أن المطالبة الشرعية تتجه للظاهر لا الباطن، فلست مسؤولاً عما في بواطن الناس وخفايا قلوبهم فأمرهم إلى الله، فما دام أنه في خفايا قلبه فهو خاص بصاحبه ولا يضر إلا نفسه، ولا يعد منكراً في الشريعة يجب إنكاره لأنك لا تدري عنه.
فمن المفارقات أن يُترك الداعية المنكر الظاهر الذي يجب عليه، خشية من منكر خفي لا يعلم عنه وهو غير واجب عليه!
فالشريعة تأمره بالمنكر الظاهر، فيتركه، خشية من منكر ليس بواجب عليه؟
ويترك منكراً معلوماً، خشية من منكر غير معلوم ولا يمكن الكشف عنه؟
ويترك منكراً متيقناً خشية من منكر موهوم لا يجزم به؟
ثمّ إن بعض النفوس فيها من الشر والسوء والكره للإسلام وأهله، فهل نتيح لهم الفرصة ليعبّروا عن مشاعرهم ويسيئوا للإسلام وأهله حتى لا يتحولوا لمنافقين؟
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في الصارم المسلول 3/939
(فإن الكلمة الواحدة من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تحتمل بإسلام ألوف من الكفار ولأن يظهر دين الله ظهوراً يمنع أحداً أن ينطق فيه بطعنٍ أحب إلى الله ورسوله من أن يدخل فيه أقوام وهو منتهك مستعان).
هذا هو التفكير الإسلامي البدهي الذي تجده في عموم المسلمين فلا يفكرون بطريقة (بل اجعلهم يظهرون ويمارسون فسادهم وانحرافهم حتى لا يتحولوا إلى منافقين)!!
(11)
أن الصلاح الظاهر وشيوع الشعائر يؤثر على صلاح الناس، كما أن شيوع المنكرات تؤثر على فساد الناس، فالمنكر إذا انتشر أثر في الناس وزاد ضرره وكثر مرتاديه، فالقضية ليست خاصة بمن يريد المنكر ويبحث عنه، بل إن المنكر إذا شاع سهل في النفوس وخف أثره وجرأ الناس عليه، ولهذا كان من حكمة الشريعة في إنكار المنكر إضعافه وتقليله لئلا يؤثر على الباقين، فالمنكر يؤثر على الصالحين، وليست الصورة أنه منكر متجذر في نفوس الناس بدأ معهم فطرة، بل إن تركه وطول العهد به هو الذي جعله منتشرا وتقبله النفوس وإذا حورب وضيق عليه قل أثره وضرره.
(12)
إذا كان الإلزام سيؤدي إلى النفاق، فحتى النصيحة والموعظة ستؤدي إلى النفاق كذلك، لأن أكثر الناس يستجيبون للنصح والوعظ وإن كان قد يمارسها في الخفاء، فهل يكون مثل هذا منافقاً؟
فعلى طريقة تفكير السؤال يجب أن يكون حكم النصيحة كحكم الإلزام لأنها تجعل الشخص يستحي منك ويترك المنكر حياء ويفعله سراً فيكون منافقاً؟
بل إن أثر الحياء من المجتمع في ترك المنكر أقوى بكثير من أثر الإلزام، فالإنسان يراعي الناس وأعرافهم، ويمارس معهم من الحياء والمداراة ما هو أعظم بكثير من مراعاته لمجرد الإلزام القانوني، فإذا كان الإلزام يؤدي للنفاق؟ فالحياء من المجتمع نفاق أيضاً؟
ثم إن الواقع أن الإنسان يلجأ إلى النفاق ليس من أجل الإكراه، بل لدوافع مصلحية متعلقة بالجاه والمال والمكانة وتحقيق المصالح الذاتية من المجتمع، فهو يراعي الناس أكثر من مراعاته للنظام، فارتباط مصالحه للناس أضعاف ارتباطه بالنظام، وحينها فحتى لو زال الإلزام فسيبقى النفاق ما دام في الناس اعتزاز بدينهم وهويتهم يجعلهم ينقصون مقدار من يخالف الإسلام فيضطر للنفاق مسايرة لهم.
لهذا نجد في سيرة المنافق عبد الله بن أبي أنه كان يقف أمام منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم كل جمعة ويقول: أيها الناس هذا رسول الله فوقروه وعظموه واسمعوا له وأطيعوا ثم يجلس.
فواضح جداً أنه لا إكراه في الموضوع بتاتاً، إنما هو بحث عن مصالح ومكانة وقيمة اجتماعية من خلال هذا النفاق.
(13)
ثم إن هذا الإلزام بأحكام الشريعة هل سيأتي من خلال البرلمان واختيار الناس أم لا؟
هل ستمنع الخمور والقمار وبقية المنكرات وتطبق أحكام الشريعة لو أتيحت الفرصة من خلال اختيار الأكثرية؟
هل سيكون فرض للشريعة وأحكامها حين يكون نصاً دستورياً؟
إن كان بالإيجاب فإن هذا سيؤدي للنفاق وهي ذات المشكلة التي كان يتحدث عنها؟
فهل سيزول النفاق وتنتهي المشكلة بمجرد أن يصدر قرارا برلمانيا بذلك؟
أو يكون نصاً دستورياً؟
إذا كان الإلزام إكراه في الدين ولا يمكن أن يلتزم به الإنسان إلا برضاه، فلا يجوز إذن إلزامه ابتداءً ولا بقانون ولا برأي أكثرية، لأن ذات المشكلة لم تتغير.
(14)
يسوق هذا السؤال جزئية: (أن المطلوب هو تزكية النفوس وتطهيرها لا إلزامها بما لا تريد).
والحقيقة أن الإلزام جزء من تزكية الناس وتطهيرها.
فجعل المسألة: إما إلزام للشخص وإما أن يقوم بها من نفسه وضميره، قسمة غير عادلة ولا منصفة.
بل الإلزام يتكامل مع مراقبة المسلم وإيمانه ودافعه الذاتي، فهما متكاملان لا ضدان، كون الشريعة جاءت بالإلزام لا يعني أنها لا تأتي بالدافع الذاتي، بل كلاهما واجبان شرعيان وطريقان صحيحان لتزكية النفس وتطهيرها ودفعها نحو طاعة الله وعبادته.
ثم إن الإلزام بالشريعة هو سبب لتطهير النفس وتزكيتها من الأمراض والأهواء وتصحيح مسارها وتقوية مراقبتها لله.
فالله تعالى يقول (ويقولون آمنا بالله وبالرسول واطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين).
فترك التزامه بالتحاكم ينفي عنه صفة الإيمان، فالإلزام جزء من الإيمان، وقد أثنى الله عليهم (إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون) فالالزام فلاح ونجاة وهذا معنى عظيم من معاني التزكية.
فالتزكية إنما تكون بالقيام بأوامر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وترك نواهي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ليست التزكية حالة روحانية شعورية خارجة عن الشريعة، فبقدر ما يلتزم بالعبادة والطاعة – والتي منها الإلزام- بقدر ما تحصل التزكية، وبقدر ما يبتعد عنها تضعف التزكية، فالتزكية غاية شرعية تقوم على وسائلها الشرعية.
رابط الموضوع : http://www.assakina.com/shobhat/10805.html#ixzz2vTS3UzYy
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق