الثلاثاء، 11 مارس 2014

الوصية النبوية عند كثرة الاختلاف

الوصية النبوية عند كثرة الاختلاف

لا يوجد شخص منذ خلق آدم إلى قيام الساعة أنصح للخلق ولا أرأف بهم ولا أرحم من النبي المصطفى والخليل المجتبى والرسول المرتضى محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فقد وصفه ربه تبارك وتعالى بأفضل الأوصاف، ونعته بأجمل النعوت، ومن ذلك وصفه بأنه رحيم بالمؤمنين مشفق عليهم شديد الحرص على نفعهم، كما في قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128].
وكان من حرصه صلى الله عليه وسلم على أمته دلالتهم إلى سلوك ما فيه سعادتهم في حالهم وفي مآلهم، وتحذيرهم من كل شر في حالهم ومآلهم، وإنّ مما كان يحذرهم منه أشد التحذير كثرة الاختلاف والنزاع والشقاق، لما في ذلك من ذهاب ريحهم وتفرقهم وتسلط الأعداء عليهم؛ وهو منطوق أمر الله تعالى للمؤمنين في قوله سبحانه: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } [الأنفال: 46].
ولقد كان من الوصايا النبوية عند كثرة الاختلاف ما رواه الإمام أحمد وغيره بسند صحيح عَنْ عِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ، قَالَ: صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفَجْرَ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا، فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً، ذَرَفَتْ لَهَا الْأَعْيُنُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، قُلْنَا أَوْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ، فَأَوْصِنَا . قَالَ: ” أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ يَرَى بَعْدِي اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ “
ففي هذا الحديث تطلع الصحابة الكرام رضوان الله عليهم بعد تلك الموعظة النبوية البليغة، -والتي تركت أثراً كبيرا في نفوسهم، وحسوا منها أنها موعظة وداع وفراق-أن يوصيهم النبي صلى الله عليه وسلم بوصية جامعة ناجية، فذكر عدة وصايا؛ نقف مع كل وصية وقفة قصيرة:
الوصية الأولى: تقوى الله تعالى، وتقوى الله تعالى هي وصية الله تعالى للأولين والآخرين؛ كما قال سبحانه: {… وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ …} [النساء: 131]. وقد جاء الأمر بالتقوى في آيات كثيرة من كتاب الله تعالى، فمن ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].
قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله عند هذه الآية: هذا أمر من الله لعباده المؤمنين أن يتقوه حق تقواه، وأن يستمروا على ذلك ويثبتوا عليه ويستقيموا إلى الممات، فإن من عاش على شيء مات عليه، فمن كان في حال صحته ونشاطه وإمكانه مداوما لتقوى ربه وطاعته، منيبا إليه على الدوام، ثبته الله عند موته ورزقه حسن الخاتمة، وتقوى الله حق تقواه كما قال ابن مسعود: وهو أن يُطاع فلا يُعصى، ويُذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر، وهذه الآية بيان لما يستحقه تعالى من التقوى… وتفاصيل التقوى المتعلقة بالقلب والجوارح كثيرة جدا، يجمعها فعل ما أمر الله به وترك كل ما نهى الله عنه. 
الوصية الثانية: السمع والطاعة لولاة أمور المسلمين، وهذه الوصية صمام أمان لحفظ بيضة المسلمين؛ وقد أمر الله تعالى بالسمع والطاعة للولاة في غير معصية، كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ …} [النساء: 59]. وروى البخاري في صحيحه عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه، قَالَ: «بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي المَنْشَطِ وَالمَكْرَهِ، وَأَنْ لاَ نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ، وَأَنْ نَقُومَ أَوْ نَقُولَ بِالحَقِّ حَيْثُمَا كُنَّا، لاَ نَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لاَئِمٍ».
قال الحافظ ابن رجب: وأمّا السَّمع والطاعة لوُلاة أُمور المسلمين ، ففيها سعادةُ الدُّنيا، وبها تنتظِمُ مصالحُ العباد في معايشهم ، وبها يستعينون على إظهار دينهم وطاعةِ ربِّهم ، كما قال عليٌّ رضي الله عنه : إنَّ الناسَ لا يُصلحهم إلاَّ إمامٌ بَرٌّ أو فاجر ، إنْ كان فاجراً عبدَ المؤمنُ فيه ربَّه ، وحمل الفاجر فيها إلى أجله.
وقال الحسن في الأمراء : هم يلونَ من أمورنا خمساً : الجمعةَ والجماعة والعيد والثُّغور والحدود ، والله ما يستقيم الدِّين إلاَّ بهم ، وإنْ جاروا وظلموا، والله لَمَا يُصْلحُ الله بهم أكثرُ ممَّا يُفسدون ، مع أنَّ – والله – إنَّ طاعتهم لغيظٌ ، وإنَّ فرقتهم لكفرٌ .
الوصية الثالثة: التمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء الراشدين، وهذه الوصية منه صلى الله عليه وسلم جاءت بعد إخباره بأنه سيقع اختلاف في الأمة كثير، وقد وقع كما أخبر به؛ وهو دلالة على صدق نبوته صلى الله عليه وسلم؛ فافترقت الأمة فرقاً وأحزاباً، وكل حزب بما لديهم فرحون.
ولما أخبر صلى الله عليه وسلم بهذا التفرق والتحزب أمَرَ بما يُنجي من بلاء هذا التفرق؛ فأمر بالتمسك بسنته والعض عليها؛ وهو كناية عن شدة التمسك بها، والتمسك بالسنة إنما هي الطاعة التي أوجبها الله تعالى على عباده المؤمنين لرسوله صلى الله عليه وسلم وأمر بها في آيات كثيرة من كتابه الكريم، كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ…} [النساء: 59] وكقوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِي} [المائدة: 92]. 
والتمسك بالسنة نجاة لمن تمسك بها، لأن الأهواء والآراء لا حصر لها وهي تفرق المسلمين بدل أن تجمعهم.
الوصية الرابعة: تجنب البدع، والحذر منها، والابتداع في الدين منكر عظيم، وفاعله مضاه للمشرع تعالى، وقد وردت النصوص الصحيحة في ذم الإحداث في الدين، كما روى البخاري في صحيحه عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ.
وذكر عن الإمام مالك رحمه الله قوله: من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة ، فقد زعم أن محمداً خان الرسالة ، لأن الله يقول : “اليوم أكملت لكم دينكم” ، فما لم يكن يؤمئذ ديناً ، فلا يكون اليوم ديناً “.
قال الحافظ ابن رجب في جامع العلوم: قوله : “وإيَّاكم ومحدثاتِ الأمور ، فإنَّ كلَّ بدعة ضلالة” تحذيرٌ للأمة مِنَ اتِّباعِ الأمورِ المحدَثَةِ المبتدعَةِ ، وأكَّد ذلك بقوله : “كلُّ بدعةٍ ضلالةٌ “، والمراد بالبدعة : ما أُحْدِثَ ممَّا لا أصل له في الشريعة يدلُّ عليه ، فأمَّا ما كان له أصلٌ مِنَ الشَّرع يدلُّ عليه، فليس ببدعةٍ شرعاً ، وإنْ كان بدعةً لغةً ، وفي ” صحيح مسلم ” عن جابر: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته : “إنَّ خيرَ الحديثِ كتابُ الله ، وخير الهدي هديُ محمد ، وشرُّ الأمور محدثاتها ، وكلُّ بدعة ضلالة”.
فمن تمسك بهذه الوصايا النبوية، رُجي أن يسلم من التفرق والاختلاف الذي مرده سلوك سبل الغواية والضلال.


رابط الموضوع : http://www.assakina.com/taseel/22241.html#ixzz2vdZLFMio

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق