الأحد، 9 مارس 2014

الفرق بين قول من يعذر بالجهل وبين قول المرجئة!

الفرق بين قول من يعذر بالجهل وبين قول المرجئة!
  سلطان بن عبدالرحمن العميري
من الإلزمات التي يكثر من إيرادها بعض المانعين من الإعذار بالجهل في مسائل الشرك على من يخالفهم: الإلزام بقول المرجئة, حيث إن المرجئة لا تجعل العمل الظاهر مناطا للتكفير, ولا تجعله سببا موجبا بنفسه للحكم بالكفر, ويقولون: إن حقيقة قول من لا يعذر بالجهل تؤول إلى جعل العمل الظاهر ليس مناطا للتكفير, والتكفير عنده سيكون خاصا بانتفاء الإيمان من القلب فقط.


من الإلزمات التي يكثر من إيرادها بعض المانعين من الإعذار بالجهل في مسائل الشرك على من يخالفهم: الإلزام بقول المرجئة, حيث إن المرجئة لا تجعل العمل الظاهر مناطا للتكفير, ولا تجعله سببا موجبا بنفسه للحكم بالكفر, ويقولون: إن حقيقة قول من لا يعذر بالجهل تؤول إلى جعل العمل الظاهر ليس مناطا للتكفير, والتكفير عنده سيكون خاصا بانتفاء الإيمان من القلب فقط.
ويوردون في هذا السياق نصوصا متعددة لابن تيمية, ومنها: قوله في وصف الجهمية: "وظنوا أنه قد يكون الإنسان مؤمناً كامل الإيمان بقلبه، وهو مع هذا يسب الله ورسوله، ويعادي الله ورسوله، ويعادي أولياء الله، ويوالي أعداء الله، ويقتل الأنبياء ويهدم المساجد، ويهين المصاحف، ويكرم الكفار غاية الكرامة، ويهين المؤمنين غاية الإهانة، قالوا: وهذه كلها معاص لا تنافي الإيمان الذي في قلبه، بل يفعل هذا وهو في الباطن عند الله مؤمن"(1).
ولكن الإلزام بهذا اللازم غير صحيح, وهو في الحقيقة مبني على سوء فهم لمذهب المرجئة ومذهب أهل السنة في ضبط العلاقة بين العمل الظاهر وبين ما في الباطن, وأصول التعامل معها.
وينجلي الخطأ في هذا الإلزام بتوضيح الفرق الجوهري بين مذهب المرجئة في التعامل مع العمل الظاهر وبين مذهب من يعذر بالجهل, فالمرجئة يقولون: إن العمل الظاهر ليس داخلا في مسمى الإيمان, ولا هو جزء جوهري من حقيقته, وكثير لا يرى العمل الظاهر لازما لما في القلب, وإنما هو أثر من آثاره وعلامة من علاماته, ونتج من ذلك عندهم أن الكفر لا يكون بالعمل الظاهر؛ لأن ما ليس داخلا في مسمى الإيمان وحقيقته فلن يكون داخلا في مسمى نقيضه وهو الكفر, وإنما العمل الظاهر دليل أو علامة على ما في القلب من الكفر فقط, وإذا كان كذلك, فقد يقع المرء في الكفر والشرك في العمل الظاهر ولا ينتفي الإيمان الشرعي من قلبه(2).
وأما من يعذر بالجهل في مسائل الشرك وغيرها من أهل السنة فإنه لا يقول بذلك كله, وإنما يقول: إن العمل الظاهر داخل في مسمى الإيمان وحقيقته, وإنه جزء أصيل وجوهري منه, وإن العمل الظاهر مناط للحكم بالشرك والكفر, ويقول: إن الأصل في المعين أن يتطابق باطنه مع ظاهره, وإن الأصل أن الظاهر يدل على ما في الباطن.
ولكن أئمة أهل السنة مع قولهم بالتلازم بين الظاهر والباطن في الإيمان أتوا بقضية شروط التكفير وموانعه, وأكثروا من التنبيه والتأكيد عليها, وسبب ذلك راجع إلى أن كلا من الكفر والشرك داخل في باب الوعيد, وكل وعيد في الشريعة لا بد في ثبوته في حق المعين من توفر شروطه وانتفاء موانعه, وفي بيان هذا يقول ابن تيمية: "لعن المطلق لا يستلزم لعن المعين الذي قام به ما يمنع لحوق اللعنة له. وكذلك  التكفير المطلق والوعيد المطلق؛ ولهذا كان الوعيد المطلق في الكتاب والسنة مشروطا بثبوت شروط وانتفاء موانع"(3).
وإنما اشترط أئمة السنة ذلك في التكفير والوعيد طلبا منهم للاحتياط الشديد والدقة البالغة في الحكم على المعين, وسعيا منهم إلى دفع كل الاحتمالات المتعارضة في حال المسلم المعين؛ وذلك أن المسلم المعين الواقع فيما يوجب الكفر أو الوعيد تعارض في حقه أمران: الأول: وصف الإسلام الذي قام به, وهو وصف يوجب الرحمة ودفع العقوبة, والثاني: الوصف المخالف لأمر الشريعة, وهو وصف يوجب العقوبة والعذاب.
فلما تعارض عندهم هذان الأمران جاؤا بقضية شروط الوعيد وموانعه, وكذلك شروط التكفير وموانعه.
فالحكمة إذا من مجيء أهل السنة والجماعة بقضية ضوابط التكفير وموانعه تحقيق الالتزام بالاحتياط الشديد في الحكم بالكفر ودفعا لأي احتمال للخطأ في الحكم على المعين به.
ومقالات أئمة أهل السنة الدالة على هذا المعنى كثيرة, وفي تأكيد ذلك يقول ابن تيمية: "والتكفير هو من الوعيد. فإنه وإن كان القول تكذيبا لما قاله الرسول، لكن قد يكون الرجل حديث عهد بإسلام أو نشأ ببادية بعيدة. ومثل هذا لا يكفر بجحد ما يجحده حتى تقوم عليه الحجة. وقد يكون الرجل لا يسمع تلك النصوص أو سمعها ولم تثبت عنده أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها، وإن كان مخطئا"(5).
ويقول أيضا: "وهكذا الأقوال التي يكفر قائلها قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق وقد تكون عنده ولم تثبت عنده أو لم يتمكن من فهمها, وقد يكون قد عرضت له شبهات يعذره الله بها"(5).
ويقول أيضا: "ليس لأحد أن يكفر أحدا من المسلمين وإن أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة وتبين له المحجة. ومن ثبت إيمانه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك؛ بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة"(6)
فابن تيمية في هذا التقرير يكشف عن الحكمة التي من أجلها أتى أهل السنة والجماعة بقضية ضوابط التكفير وموانعه, ويؤكد على أن أساسها راجع إلى الحرص على الاحتياط في الحكم على المعين بالخروج من الإسلام ودفع كل المعارضات المحتملة التي تنفي عنه الحكم بالكفر, ولو كان الأمر عنده معلقا بمجرد هذا الظاهر من غير اعتبار للظواهر الأخرى المعارضة له لما كان لتلك الضوابط نفع.
فتبين إذن أن التزام أهل السنة والجماعة بشروط التكفير وموانعه لا يلغي دلالة العمل الظاهر على ما فيه الباطن, ولا يلغي التلازم بين الظاهر والباطن, ولا يتعارض مع كون العمل الظاهر مناطا للحكم بالكفر أوالشرك, وإنما غاية ما يدل عليه ذلك الالتزام التحقق من دلالة ذلك العمل والاحتياط الشديد في حل الظواهر المتعارضة في المعين, والدقة البالغة في دفع كل الاحتمالات عن المسلم الواقع في الكفر أو الشرك.
ولهذا قال أئمة أهل السنة: إن التعامل مع حال المعين المسلم الذي يقع في الشرك أو الكفر لا بد فيه من الاحتياط والتدقيق الشديد في الحكم, وذلك أننا أمام حالة وقع التعارض فيها بين ظاهرين, ظاهر يوجب وصف الإسلام والإيمان؛ حيث إن ذلك المعين يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقوم بفعل العبادات الإسلامية والطاعات الإيمانية التوحيدية, وظاهر يوجب له وصف الشرك أو الكفر؛ حيث إنه وقع في بعض أفراد الكفر الأكبر أو الشرك الأكبر.
فلما تعارض في حقه ظاهران, كان لا بد من التزام طريقة دقيقة تحقق لنا العلم الصحيح بحاله, وننتقل من خلالها إلى الحكم البين الواضح على ذلك العين, فأتى أئمة السنة بقضية ضوابط التكفير وموانعه لتحقيق ذلك(7).
فإذا اكتمل التحقق من حال المعين, وظهر بأنه حين وقع في الكفر أو الشرك لم يكن متصفا بأي مانع من موانع التكفير, فإنه يحكم عليه حينئذ بالكفر أو الشرك والخروج من الملة بمجرد عمله الظاهر.
فالعمل الظاهر إذن ملازم لما في الباطن, وهو أيضا مناط للتكفير والتفسيق, ولكن ذلك ليس مطلقا من كل قيد, ولا يبنى بمجرد النظر العابر إلى العمل الظاهر, وإنما لا بد فيه من الاحتياط الشديد ودفع كل الاحتمالات, وذلك إنما يتحقق بالتزام ضوابط التكفير وموانعه التي حددها أئمة أهل السنة.
وبهذا التقعيد والتفصيل يتبين توسُّطُ أهل السنة والجماعة في هذه المسألة بين طائفتين زائغتين, وهما:
الأولى: طائفة المرجئة التي فصلت بين العمل الظاهر وبين الباطن.
والثانية: طائفة الخوارج والغلاة في التكفير, الذين قالوا بالتلازم المطلق بين الظاهر والباطن, وألغوا اعتبار ضوابط التكفير وموانعه بالجملة(8).
وبهذا التفصيل أيضا يظهر الفرق بين مذهب المرجئة وبين مذهب من يعذر بالجهل وبين من يذهب إلى عدم الإعذار بالجهل في مسائل الشرك.
فالمرجئة لا يجعلون العمل الظاهر مناطا للتكفير من حيث الأصل والأساس؛ ولأجل هذا فقضية ضوابط التكفير وموانعه المتعلقة بالعمل الظاهر غير مطروحة عندهم , وليس لها كبير أهمية.
 وأما من يعذر بالجهل من أهل السنة فإنهم يجعلون العمل الظاهر مناطا للتكفير, ولكنه مقيد بشروط وموانع في كل قضايا التكفير من غير فرق بين باب الشرك والكفر, ومن غير فرق بين المسائل الظاهرة المسائل الخفية, حتى يتحققوا من اندفاع كل الاحتمالات التي تحول دون تحقق الكفر أو الشرك في المسلم المعين.
ولكن بعض من لا يعذر بالجهل في مسائل الشرك تجاوز كل تلك التقعيدات التأصيلية, وطفق يبني تصورات خاصة به وينسبها إلى أئمة أهل السنة, ويتهم كل من يخالفه بأنه من المرجئة, والمشكلة المنهجية عند هذا الصنف أتت من أمرين:
الأمر الأول: أنهم لم يجمعوا كلام أئمة أهل السنة في حقيقة الإيمان مع كلامهم في حقيقة التكفير ضوابطه, وإنما نظروا في كل باب بنظرة مستقلة عن الباب الآخر, فأوقعهم ذلك في سوء تصور وفهم لحقيقة مذهب أهل السنة في هذه الأبواب.
والأمر الثاني: أنهم فصلوا بين الأبواب المتفقة في الحكم, فالتزموا بمذهب أهل السنة في قضية ضوابط التكفير وموانعه في المسائل المتعلقة بالكفر وفي المسائل الخفية, ولكنهم لم يلتزموا بها في المسائل المتعلقة بالشرك والمسائل الظاهرة, وجعلوا التلازم بين الظاهر والباطن خاصا بالمسائل الظاهرة فقط(9).
وهذا التفريق متناقض مع تقرير أئمة أهل السنة, فإن التلازم بين الظاهر والباطن عندهم شامل لكل الأعمال سواء كانت متعلقة بباب الكفر أو بباب الشرك, ولا فرق بين البابين, وشامل للمسائل الخفية والمسائل الظاهرة, ولم يقل أحد من أئمة أهل السنة إن التلازم بين العمل الظاهر والباطن إنما يكون في باب الشرك أو في المسائل الظاهرة, ولا يكون في باب الكفر والمسائل الخفية, بل إن أساس حديثهم عن هذه القضية متعلق من حيث الأصل بباب الكفر؛ لأنهم كانوا يواجهون بها من انحرف في باب الإيمان والكفر من المرجئة والخوارج.
ولهذا اطرد أئمة السنة في الجمع بين قولهم بالتلازم بين الظاهر والباطن وبين اعتبار ضوابط التكفير وموانعه, وأعملوا ذلك في كل الأبواب, فكما أن اعتبارهم لضوابط التكفير في مسائل الكفر لا ينافي قولهم في التلازم بين الظاهر والباطن, فكذلك اعتبارهم لضوابط التكفير في مسائل الشرك لا ينافي قولهم بالتلازم بين الظاهر والباطن, ولم يستثنوا من ذلك إلا الأعمال التي تدل دلالة قطعية على ما فيه الباطن ولا يمكن أن يدخل فيها الاحتمال, كالاستهزاء بالله وبرسوله أو سب الله ورسوله, وقد سبق التنبيه إلى ذلك(10).


(1) مجموع الفتاوى (7/188) .
(2) انظر: الإيمان عند السلف وعلاقته بالإيمان, محمد آل خضير (1/322), وانظر: (1/206)
(3) مجموع الفتاوى (10/329) .
(4) مجموع الفتاوى (3/231) .
(5) مجموع الفتاوى (23/346) .
(6) مجموع الفتاوى (12/501) .
(7) انظر: إشكالية الإعذار بالجهل في مسائل الشرك (317).
(8) انظر: ضوابط التكفير عند أهل السنة والجماعة, عبدالله القرني (203-210).
(9) انظر: الحقائق في التوحيد, علي الخضير (47), حيث عقد بابا قال فيه: باب تلازم الظاهر والباطن في المسائل الظاهرة.
(10) انظر: ضوابط التكفير عند أهل السنة والجماعة, عبدالله القرني (212), وإشكالية الأعذار بالجهل (283).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق