الاثنين، 10 مارس 2014

شبهة استحلال الغدر بالحكام المسلمين وغيرهم

شبهة استحلال الغدر بالحكام المسلمين وغيرهم

من العجائب والعجائب جمة أن يكون من شبه الغلاة الخوارج استحلال المحرم تحريما قاطعاً في الشريعة ليكون بابا للجهاد المزعوم تشبثهم بأن ما يقومون به من الغدر ونقض العهود هو من المأذون لهم في الشريعة؛ ويستدلون بفعل الصحابي الجليل محمد بن مسلمة رضي الله عنه حين قتل كعب بن الأشرف اليهودي.
فهل شبهتهم هذه تصح أن تكون دليلا على غدرهم وخيانتهم، لنرى ذلك في هذه الوقفات السريعة:
الوقفة الأولى: أن مقارنة المسلم الذي يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ بالكافر الأصلي، ومن هذا الكافر أيضاً؟ إنه اليهودي الذي آذى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بالطعن والسب والشتم! مقارنة فاسدة باطلة من جميع الوجوه.
فقد أخرج البخاري رحمه الله في صحيحه وغيره عن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ آذَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: أَنَا. فَأَتَاهُ فَقَالَ: أَرَدْنَا أَنْ تُسْلِفَنَا وَسْقًا أَوْ وَسْقَيْنِ، فَقَالَ: ارْهَنُونِي نِسَاءَكُمْ. قَالُوا: كَيْفَ نَرْهَنُكَ نِسَاءَنَا وَأَنْتَ أَجْمَلُ الْعَرَبِ، قَالَ: فَارْهَنُونِي أَبْنَاءَكُمْ، قَالُوا: كَيْفَ نَرْهَنُ أَبْنَاءَنَا فَيُسَبُّ أَحَدُهُمْ فَيُقَالُ: رُهِنَ بِوَسْقٍ أَوْ وَسْقَيْنِ؛ هَذَا عَارٌ عَلَيْنَا، وَلَكِنَّا نَرْهَنُكَ اللَّأْمَةَ، قَالَ سُفْيَانُ: يَعْنِي السِّلَاحَ، فَوَعَدَهُ أَنْ يَأْتِيَهُ فَقَتَلُوهُ، ثُمَّ أَتَوْا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرُوهُ. 
وفي هذا الحديث دلائل:
أولها: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأن اليهودي كعب بن الأشرف قد آذى الله ورسوله، ولم يعمم الحكم على جميع اليهود، فهل الغلاة الخوارج قد نزل عليهم وحي بأن حكام المسلمين الذين يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله قد آذوا الله ورسوله؟
ثانيها: أن الصحابي الجليل محمد بن مسلمة رضي الله عنه لم يُقدم على فعله إلا بعد طلب النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، واستئذانه رضي الله عنه من النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أكد ذلك بقوله في الرواية الأخرى في البخاري: (..أَتُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَأْذَنْ لِي أَنْ أَقُولَ شَيْئًا..)، فمن الذي استأذنه هؤلاء الغلاة بالغدر بالمسلمين، وانتهاك حرماتهم؟
ثالثها: أن العلماء قد أوردوا هذا الحديث في كتب الجهاد، تحت باب الفتك بأهل الحرب، كما هو صنيع الإمام البخاري رحمه الله، فهل يعتبرون هؤلاء الخوارج جميع المسلمين حكاماً ومحكومين في كفة تماثل كفة اليهود في عداوتهم للإسلام؛ وأنهم في كفة!!
الوقفة الثانية: أن الغدر قد تقرر في الشريعة أنه من صفات المنافقين، فقد صح عند البخاري رحمه الله عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا، إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ.
وعن أبي هريرة- رضي اللّه عنه- عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «قال اللّه: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثمّ غدر، ورجل باع حرّا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره) رواه البخاري.
وروى البخاري أيضاً عَنْ نَافِعٍ قَالَ: لَمَّا خَلَعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ، جَمَعَ ابْنُ عُمَرَ حَشَمَهُ وَوَلَدَهُ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّا قَدْ بَايَعْنَا هَذَا الرَّجُلَ عَلَى بَيْعِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِنِّي لَا أَعْلَمُ غَدْرًا أَعْظَمَ مِنْ أَنْ يُبَايَعَ رَجُلٌ عَلَى بَيْعِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُنْصَبُ لَهُ الْقِتَالُ، وَإِنِّي لَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْكُمْ خَلَعَهُ وَلَا بَايَعَ فِي هَذَا الْأَمْرِ إِلَّا كَانَتْ الْفَيْصَلَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ.
وقد عدّ الإمام ابن حجر الغدر ضمن الكبائر، وعدّ معه القتل والظّلم لمن له أمان أو ذمّة أو عهد، وقال: عدّ هذه الثّلاثة هو صريح الأحاديث وهو ظاهر، وبه قدح بعضهم فى قتل المعاهد وعدّه في الغدر، وقد جاء عن عليّ- رضي اللّه عنه- أنّه عدّ من الكبائر نكث الصفقة أي الغدر بالمعاهد.
وإلى مثل هذا ذهب الإمام الذّهبيّ فعدّ الغدر وعدم الوفاء بالعهد الكبيرة الخامسة والأربعين، وذكر من الشّواهد القرآنية والأحاديث ما يؤيّد ذلك.
فأي صفة خبيثة أخبث من الغدر، ومتى كان الغدر دين يدان به لله عز وجل ، وهل بعد هذه النصوص الصحيحة المحكمة شبهة يتعلق بها الغلاة في غدرهم بولاة المسلمين وأفرادهم.
الوقفة الثالثة: يزعم الغلاة بأنهم أقدموا على الغدر لأنهم لم يعطوا عهداً ولا أماناً لولي الأمر، ولذا فهم معفوون من الإثم المترتب على الغادرين، فهل يلزم من كل المسلمين أن يعطوا العهد لولاتهم حتى يكونوا ملزمين بذلك العهد، أو يشترط ليكون الوالي ولايته صحيحة أن يبايعه كل المسلمين، لنرى ما يقول العلماء المعتبرين في هذه المسألة:
قال الإمام أحمد رحمه الله في أصول السنة: ومن خرج على إمام من أمة المسلمين وقد كان الناس اجتمعوا عليه وأقروا له بالخلاقة بأيِّ وجه كان بالرضا أو بالغلبة فقد شق هذا الخارج عَصَا المسلمين وخالف الآثار عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فإن مات الخارج عليه مات ميتةً جاهليِّة. ولا يحل قتال السلطان ولا الخروج عليه لأحدٍ من الناس فمن فعل ذلك فهو مبتدع على غير السنة والطريق.
وقال ابن قدامة رحمه الله في لمعة الاعتقاد (181): ومن ولي الخلافة واجتمع عليه الناس ورضوا به أو غلبهم بسيفه حتى صار خليفة وسمي أمير المؤمنين وجبت طاعته وحرمت مخالفته والخروج عليه وشق عصا المسلمين.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في منهاج السنة النبوية – (1 / 531): ولو قدر أن بعض الناس كان كارها للبيعة لم يقدح ذلك في مقصودها فإن نفس الاستحقاق لها ثابت بالأدلة الشرعية الدالة على أنه أحقهم بها ومع قيام الأدلة الشرعية لا يضر من خالفها ونفس حصولها ووجودها ثابت بحصول القدرة والسلطان بمطاوعة ذوي الشوكة.
وقال رحمه الله أيضاً في منهاج السنة النبوية – (1 / 527)
بل الإمامة عندهم تثبت بموافقة أهل الشوكة عليها ولا يصير الرجل إماما حتى يوافقه أهل الشوكة عليها الذين يحصل بطاعتهم له مقصود الإمامة فإن المقصود من الإمامة إنما يحصل بالقدرة والسلطان فإذا بويع بيعة حصلت بها القدرة والسلطان صار إماما. 
 ولهذا قال أئمة السلف من صار له قدرة وسلطان يفعل بهما مقصود الولاية فهو من أولى الأمر الذين أمر الله بطاعتهم مالم يأمروا بمعصية الله فالإمامة ملك وسلطان والملك لا يصير ملكا بموافقة واحد ولا اثنين ولا أربعة إلا أن تكون موافقة هؤلاء تقتضي موافقة غيرهم بحيث يصير ملكا بذلك وهكذا كل أمر يفتقر إلى المعاونة عليه لا يحصل إلا بحصول من يمكنهم التعاون عليه.
وقال الإمام الماوردي في كتابه الأحكام السلطانية (35)
فَإِذَا اجْتَمَعَ أَهْلُ الْعَقْدِ وَالْحَلِّ لِلِاخْتِيَارِ تَصَفَّحُوا أَحْوَالَ أَهْلِ الْإِمَامَةِ الْمَوْجُودَةِ فِيهِمْ شُرُوطُهَا فَقَدَّمُوا لِلْبَيْعَةِ مِنْهُمْ أَكْثَرَهُمْ فَضْلًا وَأَكْمَلَهُمْ شُرُوطًا وَمَنْ يُسْرِعُ النَّاسُ إلَى طَاعَتِهِ وَلَا يَتَوَقَّفُونَ عَنْ بَيْعَتِهِ ، فَإِذَا تَعَيَّنَ لَهُمْ مِنْ بَيْنِ الْجَمَاعَةِ مَنْ أَدَّاهُمْ الِاجْتِهَادُ إلَى اخْتِيَارِهِ عَرَضُوهَا عَلَيْهِ ، فَإِنْ أَجَابَ إلَيْهَا بَايَعُوهُ عَلَيْهَا وَانْعَقَدَتْ بِبَيْعَتِهِمْ لَهُ الْإِمَامَةُ فَلَزِمَ كَافَّةَ الْأُمَّةِ الدُّخُولُ فِي بَيْعَتِهِ وَالِانْقِيَادُ لِطَاعَتِهِ.
وقال القاضي أبي يعلى الفراء في الأحكام السلطانية أيضا بمثل قول الماوردي حيث قال: (1 / 24) فإذا تعين لهم من بين الجماعة من أداهم الاجتهاد إلى اختياره وعرضوها عليه, فإن أجاب إليها بايعوه عليها، وانعقدت له الإمامة ببيعتهم، ولزم كافة الأمة الدخول في بيعته والانقياد لطاعته.
وبهذه النقول يتبين أن بيعة أهل الشوكة وأهل الحل والعقد كافية في إلزام عموم المسلمين لتلك البيعة، والقيام بواجباتها وحقوقها، ومن ضمنها الوفاء بها وحرمة فسخها والخروج منها.
ويتبين ضعف حجة الغلاة حينما ادعوا بأن بيعة المسلمين للإمام لا تلزمهم.


رابط الموضوع : http://www.assakina.com/shobhat/shobhat1/4510.html#ixzz2vYYvzyGR

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق