ثلب العلماء
إن لعلماء الشريعة منزلة عالية في الإسلام؛ ومكانة سامقة لم يصلها غيرهم؛ فهم قدوة الأنام؛ ومنارات يهتدى بها؛ وبهم يعرف الحلال من الحرام؛ نطق الكتاب الكريم بفضلهم؛ وصحت الآثار النبوية بمكانتهم.
ويكفيهم شرفاً أنهم أشهدهم ربهم مع ملائكته الكرام على أعظم مشهود وهو توحيده تعالى؛ حيث قال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18].
وقد رفعهم الله شأنهم كما قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 11].
وروى الإمام أحمد وغيره عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ” مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّهُ لَيَسْتَغْفِرُ لِلْعَالِمِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْمَاءِ، وَفَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، إِنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، وَإِنَّمَا وَرِثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَ بِهِ، أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ “
وروى البزار في مسنده عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، قال : سمعت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: « ليس من أمتي من لم يجل كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه ».
ولما كانت هذه منزلة العلماء في الإسلام وجب أن يعاملوا بالتقدير والاحترام؛ ويتأدب معهم؛ وتعرف لهم مكانتهم؛ وتحفظ لهم منزلتهم.
وقد أدرك ذلك الحق للعلماء الرعيل الأول من الصحابة والتابعين؛ فكانوا يجلون علماءهم؛ ويصدرون عن رأيهم؛ ويعرفون لهم منزلتهم.
بل وقبل ذلك إجلالهم للمصطفى صلى الله عليه وسلم وتوقيرهم له؛ وعدم التقدم بين يديه بقول أو فعل.
وهذا الحق الذي اكتسبه العلماء إنما هو من أجل العلم المتصل بالوحي الذي حملوه؛ وتوقيرهم ما هو إلا توقير للوحي الذي في صدورهم، وقد ورد الأمر الشرعي بتوقير حملة الوحي من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ كما روى أبو داود في سننه عَنْ أَبِى مُوسَى الأَشْعَرِىِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: « إِنَّ مِنْ إِجْلاَلِ اللَّهِ إِكْرَامَ ذِى الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ، وَحَامِلِ الْقُرْآنِ؛ غَيْرِ الْغَالِى فِيهِ وَالْجَافِى عَنْهُ، وَإِكْرَامَ ذِى السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ ».
وقد ضرب الصحابة الكرام أروع الأمثلة في توقير علمائهم؛ فقد ذكر أصحاب السير أن ابن عباس رضي عنهما ربما جلس في الظهيرة في اليوم القائظ الشديد تُسفي عليه الريح بترابها عند باب أُبَيّ بن كعب ، فما يطرق عليه الباب ليخرجه وقت القائلة ، فيخرج إليه أبي بن كعب فيقول : يا ابن عم رسول الله هلا طرقت الباب ، وهلا أرسلت إلي ؟ فيقول رضي الله عنه: هكذا أمرنا أن نفعل .
وكان يأخذ بخطام دابة أُبي بن كعب ، احتراما لأبي بن كعب رضي الله عنهم جميعا .
ورووا أيضاً أن زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ رَكِبَ يوماً، فَأَخَذَ ابْنَ عَبَّاسٍ بِرِكَابِهِ ، فَقَالَ لَهُ: لا تَفْعَلْ يَا ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَقَالَ : هَكَذَا أُمِرْنَا أَنْ نَفْعَلَ بِعُلَمَائِنَا . فَقَالَ زَيْدٌ : أَرِنِي يَدَكَ . فَأَخْرَجَ يَدَهُ ، فَقَبَّلَهَا زَيْدٌ وَقَالَ : هَكَذَا أُمِرْنَا أَنْ نَفْعَلَ بِأَهْلِ بَيْتِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وروي عن طاوس بن كيسان رحمه الله تعالى وهو من التابعين ، من أكبر تلاميذ ابن عباس أنه قال: من السنة أن يُوَقَّر أربعة : العالم ، وذو الشيبة ، والسلطان ، والوالد ، هذا من سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم.
ولما أراد خلف بن الأحمر شيخ الإمام أحمد بن حنبل أن يجلس الإمام أحمد بجواره ، أبى الإمام أحمد وقال : لا أقعد إلا بين يديك ، أُمرنا أن نتواضع لمن نتعلم منه .
وقال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى في عقيدته المرضية: وعلماء السلف من السابقين ومن بعدهم من التابعين أهل الخير والأثر وأهل الفقه والنظر لا يذكرون إلا بالجميل ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل.
فالعلماء في الإسلام لهم مكانة خاصة؛ لا ينكرها إلا مكابر أو جاهل.
ولذلك فالطعن فيهم أو ذمهم أو القدح في علمهم أو التنقص من قيمتهم ومكانتهم من أعمال الجهلة الذين لا يعنيهم أمر آخرتهم في شيء.
وقد توعد الله تعالى بمن تعرض لأولياء بالحرب والانتقام منه عاجلاً أو آجلاً؛ وأولياء الله تعالى يأتي في مقدمتهم العلماء العاملون، وقد روى البخاري في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ.
وروى الخطيب البغدادي عن أبي حنيفة والشافعي رحمهما الله تعالى أنهما قالا: إن لم يكن الفقهاء أولياء الله فليس لله ولي.
وقد تناقل أهل العلم بعد ابن عساكر رحمه الله تعالى كلمته الشهيرة مستحسنين لها؛ وقد شهد لها الشرع كما مر من الأدلة؛ والواقع في أثره على المتنقصين لأهل العلم؛ وذلك حين قال: وأعلم يا أخي وفقنا الله وإياك لمرضاته ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته أن لحوم العلماء رحمة الله عليهم مسمومة وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة؛ لأن الوقيعة فيهم بما هم منه براء أمره عظيم، والتناول لأعراضهم بالزور والإفتراء مرتع وخيم، والإختلاق على من إختاره الله منهم لنعش العلم خلق ذميم، والإقتداء بما مدح الله به قول المتبعين من الإستغفار لمن سبقهم وصف كريم.
ومن القدح في العلماء غيبتهم والتهكم في فتاويهم والاستهزاء بفهومهم؛ ولذلك قال الشيخ الفقيه محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى: العلماء ورثة الأنبياء .. وإذا كان الأنبياء لهم حق التبجيل والتعظيم والتكريم ، فلمن ورثهم نصيب من ذلك ، أن يُبجل ويُعظم ويُكرم .. وبتوقير العلماء توقر الشريعة ؛ لأنهم حاملوها ، وبإهانة العلماء تهان الشريعة ؛ لأن العلماء إذا ذلوا وسقطوا أمام أعين الناس ذلت الشريعة التي يحملونها ، ولم يبق لها قيمة عند الناس ، وصار كل إنسان يحتقرهم ويزدريهم ؛ فتضيع الشريعة . فإذا استهان الناس بالعلماء لقال كل واحد: أنا العالم، أنا النحرير، أنا الفهامة، أنا العلامة، أنا البحر الذي لا ساحل له، ولما بقي عالمٌ، ولصار كل يتكلم بما شاء، ويفتي بما شاء، ولتمزقت الشريعة بسبب هذا الذي يحصل من بعض السفهاء…. العلماء -إذا سقطت- أقوالهم عند الناس ما بقي للناس أحدٌ يقودهم بكتاب الله. بل تقودهم الشياطين وحزب الشيطان ، ولذلك كانت غيبة العلماء أعظم بكثير من غيبة غير العلماء، لأن غيبة غير العلماء غيبة شخصية إن ضرَّت فإنها لا تضر إلا الذي اغتاب والذي قيلت فيه الغيبة، لكن غيبة العلماء تضرُّ الإسلام كلَّه ؛ لأن العلماء حملة لواء الإسلام فإذا سقطت الثقة بأقوالهم، سقط لواءُ الإسلام، وصار في هذا ضرر على الأمة الإسلامية. ا.هـ.
ولا يفهم مطالع لما سبق أن العلماء لا يخطئون؛ أو لا يجوز أن ينبهوا على خطأ عندما يقعون فيه؛ فإن العصمة من الوقوع في الخطأ لا يكون إلا للأنبياء في تبليغهم؛ ولو كانوا كذلك لكانوا في مقام الأنبياء؛ ولم يقل بذلك أحد من العلماء المعتبرين قديما وحديثاً.
ولكن هناك فرق بين ثلبهم وازدرائهم وتنقيصهم وغيبتهم والاستهزاء بهم وبين إسداء النصح لهم برفق ولين وخفض جناح بالكلمة الطيبة عندما يقعون في زلة أو خطأ.
وقد كثرت في هذه الأزمنة التطاول على العلماء المنافحين على الدين؛ والذين أمضوا أعمارهم في العلم والتعليم؛ وصار الخوض في أعراضهم فاكهة وسائل التواصل بشتى أنواعه؛ فليحذر أولئك الخائضين من التعرض لهذه الحرمات وانتهاكها؛ فمن حام حول الحمى وشك أن يقع فيه..
رابط الموضوع : http://www.assakina.com/taseel/26320.html#ixzz2vZFD5tpr
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق