الاثنين، 10 مارس 2014

الاقتتال بين المسلمين

الاقتتال بين المسلمين

الكاتب: محمد بن عبد السلام الأنصاري

طبع الله هذه الدنيا على أنها دار ابتلاء واختبار؛ وأنها دار ممر لدار الجزاء والقرار؛ كما قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك: 2]، وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا..} [هود: 7].
وإن من الاختبار للخلق ما أمر الله تعالى به من الالتزام بشرعه في هذه الحياة؛ والتقيد بأمره الذي شرعه…
وإن مما شرعه وأمر بالإتيان به الكف عن قتل المسلم لأخيه المسلم وسفك دمه؛ والتحذير من التعرض لكل ما فيه أذية للمسلم في عرضه وماله وبدنه، حيث وردت نصوص كثيرة من الكتاب والسنة آمرة بتعظيم حرمة دم المسلم؛ ناهية للتعرض له، كما في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 92، 93]، وقال تعالى: { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } إلى أن قال تعالى:{… وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } [الأنعام: 151].
وثبت في الصحيحين، عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة”.
وروى البخاري في صحيحه عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَنْ يَزَالَ الْمُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا.
وروى البخاري أيضاً عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: إِنَّ مِنْ وَرَطَاتِ الأُمُورِ الَّتِي لاَ مَخْرَجَ لِمَنْ أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِيهَا سَفْكَ الدَّمِ الْحَرَامِ بِغَيْرِ حِلِّهِ”.
ومما ورد من التحذير للتعرض لأذية المسلم لأخيه المسلم ما رواه مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ التَّقْوَى هَاهُنَا» وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ «بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ».
وهذا النهي الشديد والوعيد الفظيع من قتل المسلم أو أذيته في ماله ودمه وعرضه؛ قد يتجرأ بعض عباد الله في تجاوزه فيستحل الدم الحرام ويستبيح لنفسه سفك دماء إخوانه المسلمين؛ أو يقدم على أذية إخوانه في أعراضهم وأموالهم وأنفسهم؛ فيحصل بذلك نوع ابتلاء وامتحان بين عباد الله.
ومن أنواع ذلك الابتلاء: الاقتتال، حيث يسعى كل فريق إلى مقاتلة الطائفة الأخرى، وذمها والقدح فيها؛ ورميها بكل نقيصة.
ولما كان هذا القدر الكوني واقع ولا بد بين المسلمين؛ أشار الشرع إلى معالجته بالطرق الشرعية؛ والمتضمن للحكم المرعية، ومن ضمنها ما يأتي:
•الدعوة بالإصلاح بين الطائفتين المتنازعتين.
والإصلاح بين الطائفتين المتنازعتين من المسلمين هو صريح أمر الله عز وجل في قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا… } [الحجرات: 9].
قال الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى في تفسيره جامع البيان (21/ 357): يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ اقْتَتَلُوا، فَأَصْلِحُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بَيْنَهُمَا بِالدُّعَاءِ إِلَى حُكْمِ كِتَابِ اللَّهِ، وَالرِّضَا بِمَا فِيهِ لَهُمَا وَعَلَيْهِمَا، وَذَلِكَ هُوَ الْإِصْلَاحُ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ..
وقد طبق النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر الرباني حيث حصل في عهده اقتتال بين طائفتين من المسلمين فذهب ليصلح بينهما؛ كما روى البخاري في صحيحه عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ أَهْلَ قُبَاءٍ اقْتَتَلُوا حَتَّى تَرَامَوْا بِالحِجَارَةِ، فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، فَقَالَ: «اذْهَبُوا بِنَا نُصْلِحُ بَيْنَهُمْ».
والإصلاح بين المسلمين فضله عظيم وأجره كبير، “والساعي في الإصلاح بين الناس أفضل من القانت بالصلاة والصيام والصدقة، والمصلح لا بد أن يصلح الله سعيه وعمله”. يدل لذلك ما رواه الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ؟» قَالُوا: بَلَى، يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «إِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَفَسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ الْحَالِقَةُ»
وروى ابن أبي حاتم في تفسيره (4/ 1065) عن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَبِيبٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ فَقَالَ لَهُ مُحَمَّدٌ: أَيْنَ كُنْتَ؟ قَالَ: كَانَ بَيْنَ قَوْمِي شَيْءٌ فَأَصْلَحْتُ بَيْنَهُمْ. قَالَ: أَصْبَحْتَ لَكَ مِثْلُ أَجْرِ الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ قَرَأَ: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ}.
والاصلاح بين المسلمين لا بد أن يكون بالعدل؛ لأنه قد يكون هناك إصلاح لا عدل فيه؛ ويكون مآله إلى البغي مرة أخرى. ولذلك قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله في تفسيره: (ص: 800): هذا أمر بالصلح، وبالعدل في الصلح، فإن الصلح، قد يوجد، ولكن لا يكون بالعدل، بل بالظلم والحيف على أحد الخصمين، فهذا ليس هو الصلح المأمور به، فيجب أن لا يراعى أحدهما، لقرابة، أو وطن، أو غير ذلك من المقاصد والأغراض، التي توجب العدول عن العدل.
وإن لم تستجب الطائفة الباغية للدعوة إلى الصلح ينتقل المصلحون إلى الأمر الآخر وهو:
•مقاتلة الطائفة الباغية.
والانتقال إلى هذا الأمر هو صريح الأمر في قوله تعالى: {… فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } [الحجرات: 9].
قال الإمام ابن جرير الطبري في تفسيره (21/ 357): فَقَاتِلُوا الَّتِي تَعْتَدِّي، وَتَأْبَى الْإِجَابَةَ إِلَى حُكْمِ اللَّهِ {حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] يَقُولُ: حَتَّى تَرْجِعَ إِلَى حُكْمِ اللَّهِ الَّذِي حَكَمَ فِي كِتَابِهِ بَيْنَ خَلْقِهِ {فَإِنْ فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ} [الحجرات: 9] يَقُولُ: فَإِنْ رَجَعَتِ الْبَاغِيَةُ بَعْدَ قِتَالِكُمْ إِيَّاهُمْ إِلَى الرِّضَا بِحُكْمِ اللَّهِ فِي كِتَابِهِ، فَأَصْلِحُوا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الطَّائِفَةِ الْأُخْرَى الَّتِي قَاتَلَتْهَا بِالْعَدْلِ: يَعْنِي بِالْإِنْصَافِ بَيْنَهُمَا، وَذَلِكَ حُكْمُ اللَّهِ فِي كِتَابِهِ الَّذِي جَعَلَهُ عَدْلًا بَيْنَ خَلْقِهِ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
وقال القرطبي في تفسيره (16/ 317): في هَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ قِتَالِ الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ الْمَعْلُومُ بَغْيُهَا عَلَى الْإِمَامِ أَوْ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَعَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَنْ مَنَعَ مِنْ قِتَالِ الْمُؤْمِنِينَ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: قِتَالُ الْمُؤْمِنِ كُفْرٌ. وَلَوْ كَانَ قِتَالُ الْمُؤْمِنِ الْبَاغِي كُفْرًا لَكَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَمَرَ بِالْكُفْرِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ! وَقَدْ قَاتَلَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَنْ تَمَسَّكَ بِالْإِسْلَامِ وَامْتَنَعَ مِنَ الزَّكَاةِ، وَأَمَرَ أَلَّا يُتْبَعَ مُوَلٍّ، وَلَا يُجْهَزَ عَلَى جَرِيحٍ، وَلَمْ تُحَلَّ أَمْوَالُهُمْ، بِخِلَافِ الْوَاجِبِ فِي الْكُفَّارِ.
وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: لَوْ كَانَ الْوَاجِبُ فِي كُلِّ اخْتِلَافٍ يَكُونُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ الْهَرَبُ مِنْهُ وَلُزُومُ الْمَنَازِلِ لَمَا أُقِيمَ حَدٌّ وَلَا أُبْطِلَ بَاطِلٌ، وَلَوَجَدَ أَهْلُ النِّفَاقِ وَالْفُجُورِ سَبِيلًا إِلَى اسْتِحْلَالِ كُلِّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ وَسَبْيِ نِسَائِهِمْ وَسَفْكِ دِمَائِهِمْ، بِأَنْ يَتَحَزَّبُوا عَلَيْهِمْ، وَيَكُفَّ الْمُسْلِمُونَ أَيْدِيَهُمْ عَنْهُمْ، وَذَلِكَ مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: خُذُوا عَلَى أَيْدِي سُفَهَائِكُمْ.
وقال النووي رحمه الله في شرحه لصحيح مسلم (9/ 264):
قَالَ مُعْظَم الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَعَامَّة عُلَمَاء الْإِسْلَام : يَجِب نَصْر الْمُحِقّ فِي الْفِتَن ، وَالْقِيَام مَعَهُ بِمُقَاتَلَةِ الْبَاغِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي …} الْآيَة . وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح ، وَتُتَأَوَّل الْأَحَادِيث عَلَى مَنْ لَمْ يَظْهَر لَهُ الْحَقّ ، أَوْ عَلَى طَائِفَتَيْنِ ظَالِمَتَيْنِ لَا تَأْوِيل لِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ، وَلَوْ كَانَ كَمَا قَالَ الْأَوَّلُونَ لَظَهَرَ الْفَسَاد ، وَاسْتَطَالَ أَهْل الْبَغْي وَالْمُبْطِلُونَ . وَاَللَّه أَعْلَم .
وقد قاتل الصحابة رضوان الله عليهم جميعاً الطائفة الباغية لما رأوا أن الحق لم يكن في جانبهم؛ وهم الذين قتلوا عمار بن ياسر، كما روى البخاري في صحيحه عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ وَلِابْنِهِ عَلِيٍّ: انْطَلِقَا إِلَى أَبِي سَعِيدٍ فَاسْمَعَا مِنْ حَدِيثِهِ، فَانْطَلَقْنَا فَإِذَا هُوَ فِي حَائِطٍ يُصْلِحُهُ، فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَاحْتَبَى، ثُمَّ أَنْشَأَ يُحَدِّثُنَا حَتَّى أَتَى ذِكْرُ بِنَاءِ المَسْجِدِ، فَقَالَ: كُنَّا نَحْمِلُ لَبِنَةً لَبِنَةً وَعَمَّارٌ لَبِنَتَيْنِ لَبِنَتَيْنِ، فَرَآهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَنْفُضُ التُّرَابَ عَنْهُ، وَيَقُولُ: «وَيْحَ عَمَّارٍ، تَقْتُلُهُ الفِئَةُ البَاغِيَةُ، يَدْعُوهُمْ إِلَى الجَنَّةِ، وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ» قَالَ: يَقُولُ عَمَّارٌ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الفِتَنِ ”
وهذه المقاتلة ليس معناها استباحة المحرم دون قيد؛ بل التعبير القرآني “بالمقاتلة” يلحظ منه بأن الأمر من باب المدافعة؛ وهو أشبه بدفع الصائل الذي يدفع بالأقل؛ ومتى اندفع شره بأيسر الطرق لم يحتج إلى سلوك أشدها، وهذا ما فهمه الأئمة من هذه الآية، ولذلك قال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله في التمهيد (21/ 283):
وفي قوله: {فقاتلوا} دليل على أن الباغي إذا انهزم عن القتال أو ضعف عنه بما لحقه من الآفات المانعة للقتال حرم دمه لأنه غير مقاتل ولم نؤمر بقتاله إلا إذا قاتل؛ لأن الله تعالى قال: {فقاتلوا} ولم يقل فاقتلوا، والمقاتلة إنما تكون لمن قاتل والله أعلم.
وفي هذه المقاتلة لا يجوز التعدي على جريح الفئة الباغية، أو اتباع مدبرهم، أو قتل أسيرهم لكونهم مسلمين ما زلت حرمتهم باقية.
قال النووي رحمه الله في شرحه لمسلم (4/ 27): قَالَ الْقَاضِي : أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الْخَوَارِج وَأَشْبَاهَهُمْ مِنْ أَهْل الْبِدَع وَالْبَغْي مَتَى خَرَجُوا عَلَى الْإِمَام وَخَالَفُوا رَأْي الْجَمَاعَة وَشَقُّوا الْعَصَا وَجَبَ قِتَالهمْ بَعْد إِنْذَارهمْ ، وَالِاعْتِذَار إِلَيْهِمْ . قَالَ اللَّه تَعَالَى : { فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ } لَكِنْ لَا يُجْهَزُ عَلَى جَرِيحهمْ وَلَا يُتْبَعُ مُنْهَزِمُهُمْ ، وَلَا يُقْتَل أَسِيرهُمْ ، وَلَا تُبَاح أَمْوَالهمْ، وَمَا لَمْ يَخْرُجُوا عَنْ الطَّاعَة وَيَنْتَصِبُوا لِلْحَرْبِ لَا يُقَاتَلُونَ ، بَلْ يُوعَظُونَ وَيُسْتَتَابُونَ مِنْ بِدْعَتهمْ وَبَاطِلهمْ.
وبهذين الأمرين اللذين نصا عليهم الشرع في محكم الآيات؛ وصحيح الآثار تعالج الفتن التي تكون بين المسلمين؛ ويتبين به أن الاقتتال غير محمود على الإطلاق، بل الأصل فيه الحرمة، وأن المأذون فيه محدود بالضوابط؛ وغير مطلق بلا قيد..
********************
الكاتب: محمد بن عبد السلام الأنصاري


رابط الموضوع : http://www.assakina.com/taseel/30313.html#ixzz2vZ308iYi

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق