الثلاثاء، 11 مارس 2014

تهييج العامة على ولاتهم

تهييج العامة على ولاتهم

تكرر كثيرا في هذه النافذة الإشارة إلى أهمية الأمن وضرورته لحياة الإنسان، وأن الإنسان بلا أمن كتائه في الظلمات لا يدري متى هلاكه، ولا يعرف قيمة الأمن إلا من فقده، واسألوا إن شئتم البلاد التي لا زالت تكتوي بانفراط الأمن وذهابه؛ لتجيبكم بأن الأمن هو المطلب الأول من مطالبها. 
ولو أن الزمن يعود للخلف لرأينا أن أول شرارة لفقد الأمن وانفلاته هو التهييج للناس وبث الكراهية لساستهم، دون اللجوء للطرق الشرعية والقانونية في استخلاص الحقوق، ورد المظالم، وكف المعتدي.
ولذلك كان التهييج أول باب للفتنة؛ والمنطلق لهاوية انفلات الأمن.
ولقد سدت الشريعة الغراء كل منفذ يتوقع نفوذ الشر منه للمسلمين؛ لتستقيم حياتهم؛ ويصفو عيشهم؛ ويعبدوا ربهم في أمن وأمان، وكان من أبرز المنافذ التي سدتها وحرمت الوقوع فيها محاولة بث الفرقة والشقاق والكراهية بين ولي الأمر وبين رعيته، والتهييج على التطاول في إضعاف هيبته، أو التقليل من شأنه، وقد تضافرت النصوص الشرعية في وجوب السمع والطاعة لولي الأمر بالمعروف؛ وحرمت الخروج عليه، وتلك النصوص الشرعية من الشهرة بمكان ولا تخفى على أكثر المسلمين.
وإنما الذي يخفى على بعضهم أن ذكر مثالب الولاة أمام العامة وتهييجهم للخروج عليهم هو داخل في النهي عن الخروج عليهم، والعبرة بالمقاصد التي تؤدي إليها تلك الوسائل، والوسائل في الشريعة لها حكم مقاصدها؛ فكل وسيلة تؤدي إلى محرم فهي محرمة، ولذلك حرمت الشريعة بيع العنب لمن يتخذه خمراً، أو بيع السلاح لمن يقتل به نفساً محرمة.
وقد وعى السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم هذا الفقه المتين، فلم يكونوا يذكرون أئمتهم أمام العامة إلا بكل خير، وإن كانوا يناصحونهم ويرشدوهم إلى ما فيه خيرهم وخير المسلمين جميعاً.
ويدل على ذلك ما رواه البيهقي في شعب الإيمان وغيره عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: ” نَهَانَا كُبَرَاؤُنَا مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا تَسُبُّوا أُمَرَاءَكُمْ وَلَا تَغُشُّوهُمْ، وَلَا تَعْصُوهُمْ، وَاتَّقُوا اللهَ وَاصْبِرُوا، فَإِنَّ الْأَمْرَ قَرِيبٍ “
وروى ابن سعد في الطبقات عن هلال بن أبي حميد، قال : سمعت عبد الله بن عكيم يقول: لا أعين على دم خليفة أبداً بعد عثمان. فيقال له: يا أبا معبد أو أعنت على دمه ؟! فيقول: إني أعد ذكر مساويه عوناً على دمه.
وقد كانوا يعدون نصحهم أمام الملأ فتح لباب شر مغلق، وتطلع إلى فتنة عمياء، تهلك الحرث والنسل.
قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: ليس من منهج السلف التشهير بعيوب الولاة, وذكر ذلك على المنابر; لأن ذلك يفضي إلى الفوضى وعدم السمع والطاعة في المعروف, ويفضي إلى الخوض الذي يضر ولا ينفع, ولكن الطريقة المتبعة عند السلف: النصيحة فيما بينهم وبين السلطان, والكتابة إليه, أو الاتصال بالعلماء الذين يتصلون به حتى يوجه إلى الخير .
أما إنكار المنكر بدون ذكر الفاعل: فينكر الزنا, وينكر الخمر, وينكر الربا من دون ذكر من فعله, فذلك واجب; لعموم الأدلة.
ويكفي إنكار المعاصي والتحذير منها من غير أن يذكر من فعلها لا حاكما ولا غير حاكم.
ولما وقعت الفتنة في عهد عثمان رضي الله عنه قال بعض الناس لأسامة بن زيد رضي الله عنه: ألا تكلم عثمان ؟ فقال : إنكم ترون أني لا أكلمه , إلا أسمعكم؟ إني أكلمه فيما بيني وبينه دون أن أفتتح أمرا لا أحب أن أكون أول من افتتحه.
ولما فتح الخوارج الجهال باب الشر في زمان عثمان رضي الله عنه وأنكروا على عثمان علناً عظمت الفتنة والقتال والفساد الذي لا يزال الناس في آثاره إلى اليوم, حتى حصلت الفتنة بين علي ومعاوية, وقتل عثمان وعلي رضي الله عنهما بأسباب ذلك, وقتل جمع كثير من الصحابة وغيرهم بأسباب الإنكار العلني, وذكر العيوب علنا, حتى أبغض الكثيرون من الناس ولي أمرهم وقتلوه , وقد روى عياض بن غنم الأشعري, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يبده علانية ، ولكن يأخذ بيده فيخلو به ، فإن قبل منه فذاك وإلا كان قد أدى الذي عليه ». نسأل الله العافية والسلامة لنا ولإخواننا المسلمين من كل شر , إنه سميع مجيب. مجموع فتاوى ابن باز (8/ 210)
والنهي عن سب الأمراء وتهييج العامة عليهم ” ليس تعظيماً لذوات الأمراء وإنما لعظم المسئولية التي وكلت إليهم في الشرع، والتي لا يقام بها على الوجه المطلوب مع وجود سبهم والوقيعة فيهم، لأن سبهم يفضي إلي عدم طاعتهم في المعروف وإلي إيغار صدور العامة عليهم مما يفتح مجالاً للفوضى التي لا تعود على الناس إلا بالشر المستطير ،كما أن مطاف سبهم ينتهي بالخروج عليهم وقتالهم وتلك الطامة الكبرى والمصيبة العظمي”.
وقد يظن بعض المهيجة أن الأمر لا يعدو استنكار لما يقوم به ولي الأمر من الظلم فحسب؛ وردعه عن المظالم، ولا يتجاوز ذلك بيان الأمر؛ ولكن هيهات هذا الظن، فإن عقد الأمن إذا انفرط فلا يمكن حجز خرزاته من الانفلات، وسيصعب رد العامة بعد إيغارهم إلى ما كانوا عليه من جمع الكلمة وإجلال سلطانهم.
ولذلك كان يقول شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله: والفتنة إذا وقعت عجز العقلاء فيها عن دفع السفهاء فصار الأكابر … عاجزين عن إطفاء الفتنة وكف أهلها، وهذا شأن الفتن؛ كما قال تعالى: ( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة..) وإذا وقعت الفتنة لم يسلم من التلوث بها إلا من عصمه الله. منهاج السنة النبوية (4/ 343).
ولو سلمنا جدلاً أن هذا التهييج هو منفعة محضة في نفسه، لما جاز إقراره لما يترتب عليه قطعاً من بعض المفاسد التي أشرنا إليها.
بل المصلحة المحضة إن كانت ستنقلب إلى مفسدة نهي عنها لأجل أن لا تتخذ ذريعة إلى إشاعة الفساد؛ ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية: فإذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مستلزما من الفساد أكثر مما فيه من الصلاح لم يكن مشروعا، وقد كره أئمة السنة القتال في الفتنة التي يسميها كثير من أهل الأهواء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإن ذلك إذا كان يوجب فتنة هي أعظم فسادا مما في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم يدفع أدنى الفسادين بأعلاهما؛ بل يدفع أعلاهما باحتمال أدناهما، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة والامر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين. ا.هـ. الاستقامة (1/ 330)
وبهذا يتبين بجلاء أن ما يسعى له المهيجة من تثوير العامة على ولاتهم لا يقره شرع ولا عقل، لما فيه من المفاسد المتحققة الوقوع؛ ومن أعظمها فوات أعظم مطالب الخلق وهو أمنهم على حياتهم وأعراضهم وأموالهم..


رابط الموضوع : http://www.assakina.com/taseel/23674.html#ixzz2vdWsLjV4

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق