الثلاثاء، 11 مارس 2014

التحذير من آثار الفتن

التحذير من آثار الفتن

د عبد الله شاكر الجنيدى

الحمد لله، نحمده في السراء والضراء، وأشهد أن لا إله إلا الله الذي وسع سمعه الأصوات، وأشهد أن نبينا محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعدُ 
فإن الفتن خطرها عظيم وشرها مستطير، وهي أنواع كثيرة، منها ما ظاهره خير، ومنها ما ظاهره شر، كما قال تعالى وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً الأنبياء ، وأعظم الفتن ما كان في الدين، وهي من سنن الله في خلقه، قال تعالى أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ العنكبوت ، والمعنى أن الناس لا يُتركون دون فتنة، أي ابتلاء واختبار، بل لا بد من ذلك؛ ليتبين الصادق في إيمانه من الكاذب، وهي واقعة على الجميع، قال تعالى لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ آل عمران ، والآية تفيد أن الابتلاء واقع لا محالة، في المال بالجوائح والواجبات كالزكاة وغيرها، وفي النفس بالمرض والموت والتكاليف الشرعية، ومن أهل الكتاب بالسبّ والتحريش وغير ذلك، والمطلوب في مواجهة هذه الابتلاءات الصبر والتقوى وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ آل عمران
وفي عصرنا أمواج من الفتن تترى، وقد مرَّت مصرنا الحبيبة في الأيام الماضية بفتنة عظيمة؛ حيث خرج مئات الآلاف هنا وهناك رافعين شعارات مختلفة، وذلك لجمعها بين طوائف ومناهج متباينة، وبعضها لا صلة له بالإسلام، ولا يرغب في شريعة الرحمن، وقد اختلط فيها البر بالفاجر، والصالح بالطالح، واختلط الرجال بالنساء، وقد انتهت هذه الأزمة بتخلي الرئيس عن الحكم، وتسليم أمور البلاد للمجلس الأعلى للقوات المسلحة 
وأحب أن أقول بعد أن انتهت الأمور إلى ما انتهت إليه يجب أن يعلم المسلم أن ما يقع به من العنت والمصائب هو بسبب ما اقترفت يداه، فقد قال الله تعالى لخير الناس بعد الأنبياء وهم الصحابة الكرام بعد غزوة أحد أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ آل عمران ، وقال لعموم الناس وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ الشورى ، والآية تفيد أن كل مصيبة تصيب الإنسان، فهي بسبب ما اقترفت يداه، والله غفور، فلا يؤاخذ العبد بكل ذنب 
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره للآية السابقة «أي مهما أصابكم أيها الناس من المصائب، فإنما هي عن سيئات تقدمت لكم، وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ أي من السيئات، فلا يجازيكم عليها، بل يعفو عنها» وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ فاطر
سلوك المسلم عند الفتن
وبعد أن وقعت هذه المظاهرات، وخاض كثير من الناس فيها بكلامٍ اشتمل على حق وباطل، أود أن أبين هنا واجب الأمة تجاه هذه الأحداث، وما الذي يجب على المسلم فعلُه أمام هذه النازلة، وأحدد ذلك في النقاط التالية
أولاً التوبة من المعاصي والذنوب والسيئات
فالتوبة سبب في تفريج الكروب وغفران الذنوب ورفع العذاب، قال الله تعالى عن قوم يونس عليه السلام فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ يونس ، وقد ذكر ابن كثير عن قتادة أنه قال «لم ينفع قرية كفرت ثم آمنت حين حضرها العذاب فتُركت إلا قوم يونس، لما فقدوا نبيهم، وظنوا أن العذاب قد دنا منهم، قذف الله في قلوبهم التوبة، ولبسوا المسوح، وفرَّقوا بين كل بهيمة وولدها، ثم عجّوا إلى الله أربعين ليلة، فلما عرف الله منهم الصدق في قلوبهم، والتوبة والندامة على ما مضى منهم، كشف الله عنهم العذاب بعد أن تدلى عليهم» تفسير ابن كثير 
وقال ابن القيم رحمه الله «التوبة هي حقيقة دين الإسلام، والدين كله داخل في مسمى التوبة، وبهذا استحق التائب أن يكون حبيب الله، فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين، ويدخل في مسماها الإسلام والإيمان والإحسان، وتتناول جميع المقامات، ولهذا كانت غايةَ كل مؤمن، وبدايةَ الأمر وخاتمته، وهي الغاية التي وُجد لأجلها الخلق والأمر، والتوحيد جزءٌ منها، بل هو جزؤها الأعظم الذي عليه بناؤها» مدارج السالكين
ثانيًا الاستعانة بالله عز وجل والفزع واللجوء إليه وحده
فالنبي كان إذا حَزَبه أمر فزع إلى الصلاة؛ لأن فيها لجوءًا وإظهارًا لضعف العبد وحاجته بين يدي ربه ومولاه، وبها يستمطر العبد فضل ربه ورحمته، ومن ضيّعها فهو لما سواها أضيع، وقد ذكر الله عن أصحاب الكهف أنهم لما فرُّوا بدينهم من قومهم خشية أن يفتنوهم طلبوا من ربهم صلاح أحوالهم ونجاتهم، فقالوا كما ذكر الله عنهم إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا الكهف
ثالثًا إصلاح النفس وتهذيبها
وذلك بالإقبال على القرآن الكريم قراءة وتدبرًا وعملاً، قال الله تعالى إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا الإسراء ، ومن اتبع هدى الله كان في أمان من الضلال والشقاء، والحيرة والاضطراب، قال تعالى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى طه ، والشقاء مرتع وخيم للعبد، وهو ثمرة الضلال، كما أن النفس تهذب وتسعد بالأعمال الصالحة، وبها يقرب العبد من الله، وينال محبته ورضاه، ويمتلئ قناعة بما أعطاه، قال تعالى وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا وَإِذًا لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا النساء ، وقد بينت هذه الآيات أن من التزم بالتكاليف الربانية، حصلت له أنواع من المنافع منها 
حصول النفع له في الدنيا والآخرة، ومنها الثبات على الحق والاستمرار عليه، ومنها الحصول على الأجر العظيم من لدن رب العالمين، ومنها الهداية إلى الصراط المستقيم، وصدق الله في قوله يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ الأنفال
رابعًا الرجوع إلى العلماء الربانيين
وهذه مسألة مهمة للغاية، فإذا نزلت بالمسلمين نازلة أو حدث لهم أمر فعلى جميع الأمة الرجوعُ إلى أهل العلم والفقه، ممن سلمت عقائدهم، وعُرفوا بالاتباع، فهم أعلم الناس بالحق، وأدرى الناس بالموازين الشرعية، وهم ورثة الأنبياء، وأفقه الناس بالواقع، والله تعالى قد أمر في كتابه بالرجوع إليهم، فقال سبحانه وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً النساء 
وهذه الآية أصل عظيم في الاستنباط والاجتهاد، وقد أمرت عند حدوث ما يُوهم الاختلاف والقيل والقال بالرجوع إلى الرسول ، وذلك في حياته، وإلى سنته بعد مماته ، ثم إلى أولي الأمر، ويدخل فيهم العلماء؛ لأن العلماء إذا كانوا عالمين بأوامر الله ونواهيه، وكان يجب على غيرهم قبول قولهم لم يبعد أن يُسَمَّوْا أولي الأمر من هذا الوجه، والذي يدل عليه قوله تعالى لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ التوبة ، فأوجب الحذر بإنذارهم، وألزم المنذرين قبول قولهم، فجاز لهذا المعنى إطلاق اسم أولي الأمر عليهم، وقد أفادت الآية أن في أحكام الحوادث ما لا يُعرف بالنص، بل بالاستنباط، وأن الاستنباط الصحيح المبني على قواعد الشرع حجة، وأن على العامي تقليد العلماء في أحكام الحوادث، ووجوب التثبت في الأخبار، وعدم إشاعتها إلا بعد التدقيق والتحقيق، ومعرفة ما يمكن أن يُقال وما لا يقال 
قال القاسمي رحمه الله «في هذه الآية تأديب لكل من يحدّث بكل ما يسمع، وكفى به كذبًا، وخصوصًا عن مثل السرايا، والمناصبين الأعداء، والمقيمين في نحر العدو، وما أعظم المفسدة في لهج العامة بكل ما يسمعون من أخبارهم خيرًا أو غيره» تفسير القاسمي 
وقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال «كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما سمع» مسلم
شكر وتقدير
وأرى أن الذي يلزم المسلمَ في ظل هذه الأحداث والفتن الإخلاصُ في القول والعمل، والصبر والتعاون على البر والتقوى، وتفقُّد المحتاجين، ومساعدتهم، وتقديم العون لهم، وهنا أتوجه بكلمة شكر إلى اللجان الشعبية التي شُكّلت من المواطنين، وساهمت في المحافظة على الأمن ورعاية مصالح الناس 
وعلى الشباب المسلم الواعي التعقل والاتزان، والبعد عن التهور، وألا يسير خلف رايات علمانية، أو دعوات ضالة مضلة، ونحن لا نرضى بغير الإسلام بديلاً، وندعو جميع المسلمين إلى القيام به والالتزام بأحكامه، وعلى الحكومة أن تحافظ على هذا الدين، وأن تسوس الأمة بالكتاب والسنة، وأن تعظّم الشريعة الربانية، فهو الدستور الرسمي للدولة، ويجب تنفيذه في جميع السياسات، والإعراض عن جميع المناهج المخالفة والدساتير المستوردة، فإنها مهلكة ومضيعة 
أسأل الله أن يحفظ علينا ديننا، وأن يسلمنا وبلادنا وبلاد المسلمين من كل مكروه وسوء، وأن ينشر الأمن والأمان والاستقرار في أوطاننا، وأن يرد الأمة إليه ردًّا جميلاً، اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون؛ اهدنا لما اختُلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين
—-
مجلة التوحيد


رابط الموضوع : http://www.assakina.com/taseel/12425.html#ixzz2ve4JMBNz

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق