الخوارج كما وردت في النصوص
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أما بعد
إن هذا الموضوع ليس جديدا كموضوع بحث حيث تحدث العلماء – وما زالوا – عن الخوارج قديما وحديثا سواء في كتب العقيدة أو في كتب الحديث وذلك من خلال شرحهم للأحاديث التي وردت في الموضوع ، لكن من الملاحظ على كثير ممن خاض في الموضوع أنهم ركزوا على فئة معينة كانت لها آراء معروفة في حقبة من الزمان ، ثم بعد ذلك صار اسما لها مما جعل من السهل بمكان أن ينكر كل واحد أن يكون منها ويتبرأ منها .
فهل من شروط الخوارجية أن يكون الإنسان معتقداً بكفر مرتكب الكبيرة ؟.
وهل هذه الصفة التي هي الأشهر في معتقدات الخوارج – في عصر الإمام علي رضي الله عنه – هي المعيار الوحيد ليكون الإنسان خارجياً ؟
وهل هي الوحيدة التي وردت في النصوص التي وردت في الخوارج ؟ .
ما نريده من بحثنا هذا هو أن نعرف ما ورد في الخوارج من الصفات في النصوص بعيداً عن تنزيلها في فرقة معينة أو حقبة زمنية معينة لكي يتسنى لنا – جميعاً – أن نحذر من الوقوع في تلك الصفات، لا أن نُلقي على غيرنا فحسب مما يعطينا ضماناً ضد الحذر، فلو سلمت أنت لنفسك أولى لك– لا أبا لك – من أن تحكم على غيرك بالمخالفة ولنفسك بالموافقة، وأنت ترتع فيما ارتعت منه الخوارج ، وتقع فيما وقعت فيه إن لم يكن أزيد.
الخارجية ليست مذهبا بقدر ما هي طريقة تفكير :
إن صفات الخوارج بعد قراءة متأنية ومتكررة تجد أنها طريقة تفكير بالمقام الأول يمكن أن يقع فيها أي واحد منا أكثر من كونها مسائل محصورة في نطاق معرفي يمكن أن نبتعد عنها.
وقد رأيت بعض من يمارس أشدّ مما فعلته الخوارج في السابق، ومع ذلك لا يرضى ولا يقبل أن يُوصف نفسه بالخوارج، وليس ذلك إلا لأنه عرف الخوارج بأنها فئة ضالة، وفرقة مبتدعة، ولا يريد لنفسه أن يكون ضالاً ولا مبتدعاً دون أن يكلف نفسه البحث عن الأسباب التي جعلت هؤلاء ضالين ليبتعد عنها، وهذا الآفة من تلبس إبليس، وهي من أشد ما يبتلى به الإنسان ، وقد وقع فيها الكثير من أهل هذا الزمان – سلمنا الله والقارئ منها – وهي ما يمكن أن نسميه ( ترحيل النصوص ) .
ترحيل النصوص :
ونعني بترحيل النصوص تلك الظاهرة الآخذة في التكاثر، وهي باختصار أن يتعلم الإنسان النصوص ليس ليعمل بها لنفسه أولا ثم يبلغ بالآخرين بحكمة – كما هو المطلوب منا جميعا – وإنما ليضرب به الآخرين، وكثيرا ما تجد إنساناً ليس بذلك في تعبده لربه – جل وعلا – وإنما همه الأول والأخير تفتيش عيوب الآخرين ، ومخالفاتهم الشرعية، ولربما من ينتقدهم ويتهمهم بالمخالفات الشرعية أكثر منه التزاماً ، وهذه من مكايد إبليس لعنه الله
عدم الاغترار بالأعمال الصالحة:
وقد يضاف إلى هذا أيضاً أن صفات الخوارج تتضمن صفات إيجابية، هي من صفات المسلم المستقيم، كقراءة القرآن وحسن أدائه، والصلاة وحسن أدائها، والدعوة لتطبيق الشريعة، والتحاكم إلى الكتاب، من صفات إيجابية لو كانت خالية عن تلك الصفات الممزوجة في الخوارج، وهذا يؤكد لنا بوضوح على أن صفات المدح إذا شابتها صفات غير حميدة تكون الغلبة للصفات غير الحميدة، كالماء والنجاسة التي تقع فيه فتغيره من ماء طاهر مطهر إلى شيء يُنجِّس كل ما يصيبه، وهذا بحد ذاته يدعو إلى وقفة تأملية حول الموضوع .
كما أن هناك سؤالا مهما جدا، وهو هل هذه الآفة يُخشى لكل واحد – منا- أن يقع فيها؟ أم أن هذه الآفة تصيب فئة معينة من المجتمع المسلم ؟ .
وبصريح العبارة هل يمكن أن يكون خارجياً غير الملتزم؟ .
الذي يظهر – والله أعلم – من خلال قراءة النصوص الواردة في الموضوع أن هذه الآفة تصيب فئة الملتزمين فقط، فإن صفات الخوارج نظرياً، والتطبيق العملي لها يؤكدان بأنها تنحصر في فئة واحدة معينة فلا يمكن أن يكون خارجياً غير الملتزم .
وبالتالي فإن أولى من يجب عليه أن يحذر من هذه الآفة هم الملتزمون قبل غيرهم،
ولهذا سطرت حول الموضوع مجموعة من الوقفات تأتي تباعاً – بإذن الله تعالى – على هذا الموقع المبارك وفق الله القائمين عليه لكل خير .
الوقفة الأولى ( التعريف بالخوارج )
التعريف اللغوي :
الخوارج جمع خارجة مثل قواعد جمع قاعدة، وفواكه جمع فاكهة ، فكلمة ” خارجة ” صفة ، وكأننا قلنا ( فرقة خارجة ) ثم حذفنا كلمة فرقة، وقلنا : خارجة فيأتي جمعها على ( خوارج ) .
ولا يقال : الخوارج جمع خارج ؛ لأن الجمع هنا جمع تكسير، وضابطه تغيير صورة المفرد، وجمع التكسير سماعي في معظمه، ولم يرد جمع فاعل صفة لمذكر عاقل على ” فواعل ” إلا في الشعر ، وفي كلمتين هما : 1- فارس - فوارس 2- وهالك – هوالك ، كما أشار بذلك صاحب
الخلاصة بقوله :
فـواعـل ّ لفوعل ٍ وفاعل*** وفاعلاء مع نحو كاهـل
وحائض ٍ وصاهل ٍ وفاعله*** وشذّ في الفارس مع ما ماثله
وإجازة مجمع اللغة العربية في القاهرة بجواز مجيء فاعل صفة لمذكر عاقل على ” فواعل ” مطلقاً فكإجازة مجمع البحوث الإسلامية بجواز بناء الجدار الفولاذي، وسقوط كلا القولين معاً لا يخفى على طالب العلم، والرد على القول الثاني واجب كفائي، وأرجو أن ما قام به الدكتور العوجي في الفضائية السيارة – الجزيرة- يندفع به الحرج عن البقية، واستدلال ممثل مجمع البحوث الدكتور … بقوله تعالى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا …} لجواز بناء الجدار كاستدلال قوله تعالى : {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا } لقتل الناس، فإذا كانت الآية تمنع الفلسطيني – على فهم الدكتور – من دخول مصر، فمنعها اليهودي من دخول فلسطين أوضح، فعليهم الجلاء ثم لا حاجة للجدار ؛ لأن الجدار لحماية اليهود فإذا ارتحلوا فما الحاجة لبنائه ؟!!
وخطورة مثل تلك الفتاوى ليست مخالفتها الصريحة للشريعة وتطويع المؤسسات الدينية لرغبات وأهواء الساسة فحسب، بل إنها تتجاوز لتُفتن بعض الصلحاء ، فيُغالون – بضم الياء – في الفهم وفي التطبيق، ثم لا تسأل بعد ذلك عن مآل الأمة ومصيرها، والتفريط والإفراط كلهما مذمومان. وأملي أن القارئ الكريم يعذرني في إطالة تلك الجمل الاعتراضية ، فلم أكن أقدر مواصلة الحديث عن الموضوع بدونها.
التعريف الاصطلاحي :
(( كل من خرج على الإمام الحق الذي اتفقت الجماعة عليه يسمى خارجياً سوء كان الخروج في أيام الصحابة على الأئمة الراشيد أو كان بعدهم على التابعين بإحسان والأئمة في كل زمان )) [الملل والنحل للشهرستاني (479هـ 548هـ ) 131 – 159 ]
وقال النووي رحمه الله : ( الخوارج : صنف من المبتدعة يعتقدون أن من فعل كبيرة كفر، وخلد في النار، ويطعنون لذلك في الأئمة ولا يحضرون معهم الجمعات والجماعات ) [ روضة الطالبين م /3 ص 101-122] .
وقال ابن تيمية رحمه الله : ( وهؤلاء الخوارج ليسوا ذلك المعسكر المخصوص المعروف في التاريخ بل يخرجون إلى زمن الدجّال) [مجموع الفتاوى28/495-496]
(وتخصيصه صلى الله عليه وسلم للفئة التي خرجت في زمن علي بن أبي طالب رضي الله عنه إنما هو لمعان قامت بهم, وكل من وجدت فيه تلك المعاني ألحق بهم، لأن التخصيص بالذكر لم يكن لاختصاصهم بالحكم بل لحاجة المخاطبين في زمنه صلى الله عليه وسلم إلى تعيينهم ) [ المجموع 28/476-477 ] .
قال الآجري رحمه الله: ( لم يختلف العلماء قديماً وحديثاً أن الخوارج قوم سوء عصاة لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم وإن صلوا وصاموا واجتهدوا في العبادة ، فليس ذلك بنافع لهم ، وإن أظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وليس ذلك بنافع لهم لأنهم قوم يتألون القرآن على ما يهوون ، ويموهون على المسلمين( [الشريعة للآجري ص21]
وهناك تعاريف أخرى، وأنت كما ترى فقد نظر كل واحد من هؤلاء العلماء جانبا، ولكن التعريف الأول هو المتداول في كثير من المؤلفات في الفرق، لكن الأمر ليس على إطلاقه فليس كل من خرج على الإمام الحق يسمى خارجياً، وإنما بغاة، ثم قد يكون خارجياً ، وقد لا يكون، فالخروج على الحاكم ليس شرطاً ليكون خارجياً، فقد يعتقد معتقداتهم فيكون خارجياً ولو على فراشه في بيته ، وهذا لا يفظن له الكثيرون ربما !!
ونحن لا نتوقف كثيرا حول التعريف للخوارج، وأيها الجامع المانع؛ لأن هدفنا في هذه الوقفات ليس أن نعرف ما قيل عنهم بقدر ما نهدف أن نعرف الصفات التي وردت فيهم من خلال .
كما أن كتب الفقه مليئة بالحديث عن أحكام البغاة ، وأفردوا لها أبواباً وفصولاً، لكن لم يتطروا إلى الحديث عن الخوارج كثيرا، وبعضهم ألحقهم في البغاة، بينما نجد كتب الفرق تفيض بالحديث عن الخوارج ، بل هي الفرقة التي لا يخلو منها أي كتاب، مهما كانت معتقدات المؤلف، لكن الملاحظ أن الفرق عدى الخوارج قاموا بتدوين آرائهم ومعتقداتهم في مؤلفاتهم ، بينما الخوارج لم يفعلوا بذلك، وإنما خلدوا تاريخهم عبر السيف وسفك الدماء .
تعريف النص :
النص لغة : ” رفعك الشيء ، وكل ما أظهر فقد نص ، ومنه نصت الظبية رأسها ، أي رفعته ، ومنه منصة العروس ” [ لسان العرب 7/97]. وهو الكرسي الذي تجلس عليه لترى بين النساء ، ومنه قول الشاعر :
وجيد كجيد الريم ليس بفاحش إذا هي نصته ولا بمعطّل [ المعلقة رقم البيت 33]. .
واصطلاحاً : الصريح في معناه ، وقيل : ما أفاد بنفسه من غير احتمال ، وقد يطلق النص على ما تطرق إليه احتمال يعضده دليل .
والنص : قد يطلق على الظاهر ، ويطلق على الوحي ، وقد يطلق على كل ما دل على معنى من المعاني [شرح مختصر الروضة (1/555) ]
ونعني هنا بالنصوص الأحاديث الواردة في الخوارج ، ولم ترد في السنة أحاديث صحيحة تبين وتحذر فرقة من الفرق التي انحرفت عن الإسلام مثل أحاديث الخوارج .
وتمكن أهمية دارسة مذهب الخوارج – لأنه ليس مجرد آراء وأفكار كما هو شأن كثير من المذاهب الفلسفية والكلامية ، بل يتعدى الأمر إلى ممارسات وتطبيقات واقعية تجاه المخالفين لهم ، وهذا ممكن خطورة الخوارج الحقيقي .
وقد عدّ الحافظ ابن حجر في الفتح رواة أحاديث الخوارج من الصحابة :
1- علي بن أبي طالب . 2- عبد الله بن مسعود . 3- أبو ذر . 4- عبد الله بن عباس .
5- عبد الله بن عمرو بن العاص 6- وعبد الله بن عمر . 7- وأبو سعيد الخدري .
8- وأنس بن مالك . 9- وحذيفة . 10- وأبو بكرة .
11- وعائشة – 12- وجابر بن عبد الله . 13- وأبو برزة . 14- وأبو أمامة .
15- وعبد الله بن أبي أوفى . 16- وسهل بن حنيف . 17- وسلمان الفارسي.
18- ورافع بن عمرو 19- وسعد بن أبي وقاص . 20- وعمار بن ياسر .
21- وجندب بن عبد الله البجلي . 22- وعبد الرحمن بن عديس . 23- وعقبة بن عامر.
24- وطلق بن علي . 25- وأبو هريرة .
ثم قال ابن حجر –رحمه الله فهؤلاء خمسة وعشرون نفسا من الصحابة , والطرق إلى كثرتهم متعددة كعلي وأبي سعيد وعبد الله بن عمر وأبي بكرة وأبي برزة وأبي ذر , فيفيد مجموع خبرهما القطع بصحة ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . ” الفتح” (12|316)
وهناك أحاديث وردت في الخوارج لكنها لم تصح، لذا نختصر – بإذن الله على معرفة ما ورد في الصحاح من الأحاديث التي تتضمن صفات الخوارج ، لئلا نقع فيها ونحذر منها .
كيف ينظر الخوارج إلى أنفسهم ؟!
من نافلة القول أن نقول بأن الخوارج لا ينظرون إلى أنفسهم بهذه الطريقة التي ينظر إليها غيرهم شأنهم في ذلك شأن أي متلبس بأمر ما فإنه له نظرة مغايرة لمن ليس متلبساً بهذا الأمر .
لذا فهم يسمون أنفسهم ” الشُراة ” جمع شار مثل قضاة وقاض، وسموا أنفسهم بهذا الاسم – على زعمهم- بأنه اشتروا أنفسهم من الله سبحانه وتعالى .
وانظر مقولة حرقوص بن زهير إلى الإمام علي – رضي الله عنه – ” يا ابن أبي طالب : لا نريد بقتلك إلا وجه الله والدار الآخرة، فقال له علي :بل مثلكم قال الله تعالى : ” قل ” منهم أنت ورب الكعبة .
وغني عن القول بأن نقول أيضاً : ” إذا كان هؤلاء الخوارج الذين عاصروا الصحابة ، وانطبقت عليهم تلك الصفات كانوا ينظرون إلى أنفسهم بتلك النظرة غير مكتثرين بأعلام الصحابة – رضي الله عنهم – فكيف بمن تأثر بالخوارج من الأقوام المعاصرين ، أو يحملون نفس أفكار الخوارج ؟! ، وهل يتوقع أن يعترفوا بذلك ويعلنوا بأنهم الخوارج ؟! ، كلا ، لكن هدفنا ليس ذلك كما أسلفنا في الحلقة السابقة، وإنما لنعرف صفات الخوارج لنحذر فالمسألة أكبر مما يتصوره البعض ولله در البخاري – رحمه الله – حين قال :
إن تحيأ تفجأ بالأحبة كلهم وفناء نفسك لا أبا لك أفجع.
فالإنسان يفكر بنجاة نفسه أولا ، ثم يأتي دور الإصلاح والتصحيح، وإن أخشى ما أخشاه أن يتجاوز نظر البعض إلى الآخرين فقط دون نفسه، فينزلق في المهالك دون أن يدري بعد أن وطّد على نفسه بأنه على الجادة ، وعلى الصراط المستقيم فيكون كحرقوص بن زهير – أعاذنا الله والقارئ – من إغواء إبليس، وتسويل النفس .
الحديث الأول : بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم قسما ، أتاه ذو الخويصرة ، وهو رجل من بني تميم ، فقال : يا رسول الله اعدل ، فقال : ( ويلك ، ومن يعدل إذا لم أعدل ، قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل ) . فقال عمر : يا رسول الله ، ائذن لي فيه فأضرب عنقه ؟ فقال : ( دعه ، فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم ، وصيامه مع صيامهم ، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء ، ثم ينظر إلى رصافه فما يوجد فيه شيء ، ثم ينظر إلى نضيه – وهو قدحه – فلا يوجد فيه شيء ، ثم ينظر إلى قذذه فلا يوجد فيه شيء ، قد سبق الفرث والدم ، آيتهم رجل أسود ، إحدى عضديه مثل ثدي المرأة ، أو مثل البضعة تدردر ، ويخرجون على حين فرقة من الناس ) [ البخاري : 3610] .
الوقفة الأولى : من هو ذو الخويصرة ؟
قول أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه- ( بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه ذو الخويصرة )) هذا التعبير يشعر بأنه كان معروفاً لدى من كان يحدثهم أبو سعيد على الأقل، لكن استدراكه بقوله ( رجل من بني تميم ) يدل على أنه لم يكن مشهوراً
الوقفة الثانية : وهل كان ذو الخويصرة مسلماً ؟
خطاب ذو الخويصرة للرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: يا رسول الله يفيد بأنه كان من المسلمين، فهذه الصيغة هي التي كان الصحابة يستخدمونها في مخاطبتهم للرسول صلى الله عليه وسلم ، أما غيرهم فقد كانوا يقولون: يا محمد.
والأمر الثاني قوله صلى الله عليه وسلم لخالد بن الوليد عند ما قال ( يا رسول الله ، ألا أضرب عنقه ؟ قال – عليه السلام – : (( لا ، لعله أن يكون يصلي ) فقال خالد : وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس من قلبه ) [ البخاري : 4351] ، فلو كان من غير المسلمين لقالوا بأنه ليس مسلماً
الوقفة الثالثة : ما اسم ذي الخويصرة ؟
جاء في أغلب الروايات أن هذا القائل هو ذو الخويصرة بدون تصريح لاسمه، لكن في إحدى روايات البخاري – رحمه الله – وعن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه- (رقم الحيث 6421) جاء اسمه مصرحاً على أنه عبد الله بن ذي الخويصرة .
الوقفة الرابعة : السؤال الذي يطرح نفسه هل كان صحابياً ؟
ذكر الحافظ في الإصابة تحت الرقم (2452) فقال : ذو الخويصرة التميمي ، وأشار إلى ذكر ابن الأثير ذا الخويصرة في الصحابة ، وكل ما اعتمده ابن الأثير في ذلك هو حديث الباب ،
لكن الحافظ تعقب على ابن الأثير بقوله : ” وعندي في ذكره في الصحابة وقفة ” لله درك – يا ابن حجر- فقد أصبت في اختيار اسم الكتاب كما وُفقت في مضمونه فصار اسماً على مسمى، وممن ذكره أيضاً الذهبي فقال: في الأعلام بأن ذي الخويصرة هو حرقوص بن زهير موافقا بذلك ابن الأثير وعده من الصحابة، وأنه بعد الحكمين صار من أشد الخوارج على علي- رضي الله عنه – وعلى كل فإن الموضوع يحتاج إلى بحث أكثر تفصيلاً ، لكن هذا الذي ذكرناه هو ما يحتمله الموضوع كمقال ، وقد أحسن الذهبي – رحمه الله – حيث قال في ترجمة ذي الخويصرة : ” في سيرته اضطراب ” وهناك ذو الخويصرة اليماني فلا تخلط بينهما.
والنظر والانشغال بهذا الجانب من القصة ربما هو أضعف نقطة في الدروس والعبر، فليس مهما لأحباب محمد – صلى الله عليه وسلم– أن يعرفوا من كان ” ذو الخويصرة” ؟ و ولا كيف ؟ وهل كان منافقاً ؟ أم مرتداً، أم مسلما جاهلاً ؟ وفي كل تلك الأسئلة بحث الكثيرون عنها، ولا شك أن الكل متفق بأن شقاوة هذا الإنسان واضحة للعيان .
لكن الأهم بالنسبة – لأحبابه صلى الله عليه وسلم- أن يعرفوا ماذا كان موقف نبي الرحمة – صلوات ربي وسلامه عليه – ؟ ليقتدوا به ويستمسكوا بهديه في ذلك، ليواجهوا كل من يقابلهم بسنة ذي الخويصرة بسنة خير الأنام وسيرته لا بسنة من عندهم ليس لهم في ذلك مرجع ولا مستند ، كما أن من المهم أن نعرف إذا وجد في المدينة المنورة من كان تصرفه هذا، ولم تخل من تلك النوعيات التي تصدر منهم مخالفات لم تكن مقبولة، فإن الدنيا لن تخلو من تكرار تلك النوعيات أبداً، و لن تعدم أمثالهم ، والتاريخ يعيد نفسه ، وهذه من التأملات بمكان، فمن أتانا بسيرة ذي الخويصرة أتينا له بسنة وسيرة سيد الأنام .
الوقفة الخامسة : صفات ذي الخويصرة .
ومن هذا الباب اسمح لي – أيها القارئ العزيز – أن ننظر صفات هذا الرجل التي وردت في كتب الحديث فنتأملها لنأخذ منها العبر والدروس ، فقد جاء في روايات كثيرة وفي الصحاح والسنن والمسانيد والمعاجم والمستدركات وغيرها من كتب الأحاديث أوصاف متعددة لذي الخويصرة، وقد استوعب الحافظ في الفتح12/306.
1-مشرف الوجنتين .
2-غائر العينين .
3-ناشز الجبهة .
4-ناتئ الجبين.
5-محلوق الرأس .
6-أسود.
7-طويل.
8-مطموم الشعر: وطم شعره إذا جزه واستأصله ، وبهذا يظهر الفرق بينه وبين حلق الرأس.
9-كث اللحية .
10-مشمر الإزار.
11-بين عينه أثر السجود.
12-رجل من أهل البادية .
13-حديث عهد بأمر الله .
وهذه الصفات في الحقيقة هي ثلاثة أقسام
(1)فصفاته من رقم 1 وحتى الرقم 7 صفات خلقية – بفتح الخاء- لا تؤثر على الإنسان ، واختلاف ألوان الناس وألسنتهم – لغاتهم – من آيات الله الدالة على عظمته كما قال تعالى :
{ وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ } [ الروم : 22].
(2)ومن الرقم 8 ، و9 و 10 هي صفات مطلوبة فإعفاء اللحية من سنن الهدى ، ورفع الثوب كذلك، وكثرة السجود مرغوب ، لكن كما ترى لم تنفع ذا الخويصرة تلك السنن الظاهرة عليه، ولن تنفع بعده أي خارجي، وهنا يجب أن يقف الإنسان طويلاً ويفكر ما الذي جعل رجلا تظهر عليه تلك الآثار الطيبة أن ينحرف كهذا ليقول كلامه المشؤوم لرسول رب العالمين – صلى الله عليه وسلم.
(3)لكن الصفتان 11 و 12 هما الصفات التي أهلكت الرجل، فأن تكون حديث عهد بأمر الله – أي بأحكام الله تعالى، ومعرفة شرعه – يتطلب أن تطلب العلم، وأن تعرف حكم الله – سبحانه – وأن تثني الركب لتلقي العلم من أهله، فمن فعل هذا فقد سلك سبيل المؤمنين ، أما أن تكون حديث عهد بأمر الله، ثم تسول لك نفسك وإبليسك بأنك التقي النقي قبل أن تنقي نفسك ليُهلكَك فهذه صفة الخارجي.
وهذه الصفة الأخيرة لم يخل منها أي خارجي على مر الزمان فانظروا وفتشوا، فإنهم كذلك والله المستعان ، لكنني أهمس في أذنيك ” لا تنس – وأنت تستعرض طولا وعرضاً عباد الله – نفسك، وابدأ بنفسك أنت، واسأل هل أنت حديث عهد بالعلم الشرعي .
الوقفة السادسة : قوله ” اعدل ”
•(( اعدل )) نقد مباشر لفعل الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا ما لا يعرف أنه صدر من أحد من الصحابة الذين كانوا يتسابقون إلى التبرك بوضوئه كما ورد في أحاديث صلح الحديبية .
•( اعدل ) كلام عام لم يأت بشيء محدد يمكن تقييمه، وإنما يتضمن أمرين
•التعيمم
•عدم الاستفسار وطلب الإيضاح .
وكلاهما مرفوضان في الإسلام، وقد ورد في مواضع كثيرة من القرآن الاستثناء، وعدم التعميم .
وهذه صفة ملازمة للخارجي.
•( اعدل ) فيه أيضاً رؤيته للحدث دون الالتفات إلى رؤية الآخرين، وبرؤيته حكم ، وهذه آفة كبيرة تعود إلى الاعتداد بالرأي بحيث يكون صاحبها مستعداً ليعترض على الجميع، وهذه الآفة ملازمة للخارجي في كل العصور، فانظر أنت من حولك ممن تشك في خارجيته فهذه الصفة ميزان يصلح للتقييم .
قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه القيم : ” أول الخوارج وأقبحهم حالة ذو الخويصرة ” وقال في تعليقه لحديث أبي سعيد الخدري : ” فهذا أول خارجي خرج في الإسلام ، وآفته أنه رضي برأي نفسه ، ولو وقف لعلم أنه لا رأي فوق رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم ” [ تلبيس إبليس ص 86] .
•قوله: ( اعدل ) لم يسأل لماذا ؟ حكم على فعله، وأمر : مع أن قوله ( يا رسول الله ) يناقض قوله ( اعدل ) وهذه صفة ثانية وهي أن الخارجي يناقض نفسه بنفسه، وهذه الصفة لم يخل منها أي خارجي في العصور .
•قوله : ” اعدل ” تغليف الأطماع بثوب التدين واتهام الآخرين بقلة التدين، إنه الظهور بمظهر المتدين ، وإظهار الآخر بمظهر المخالف للدين .
•” اعدل ” إنها كلمة في غير محلها ، فمن هو ذاك الذي تطلب منه العدل يا ذا الخويصرة ؟!!! إنه رسول رب العالمين الذي جاء ليقيم العدل، وليكون قدوة البشرية في ذلك، وهذه ميزة في الخارجية إنها تضع الأمور في غير محلها .
إن هذه الصفة لا بد أن تكون لدى أي خارجي فتجد العامي الجاهل غير المعروف محاضن العلم المختلفة يقف أمام الجبل الطود في العلم الذي أفنى عمره – عمر الجاهل- في فتك أبكار المسائل، وفتق العوائص ليعلن كلمة جميلة براقة ذات مضمون جميل لكنه يضعها في غير موضوعها .
فإذا رأيت من لا يفرق بين البيض والباذنجان حكماً وقياساً، فيعطي حكم الأولى للثانية ، ويقيس الثانية على الأولى فاعلم أنما متبع لطريقة الخوارج – إن لم يكن خاريجاً قحاً – وإن زعم السنة وجاهر بمذهب السلف صباحاً ومساءً ومنذ متى عُرف السلف بالجهل يا فتى، فإذا انتظر من الخارجي أن يعلن بأنه خارجي لتحذر منه فإنك لعريض القفا، ولست معنيا بقراءة هذه التأملات.
عجبا لهؤلاء لكن كيف تعجب من هذا، وقد استن بسنة ذي الخويصرة، وليس لك إلا أن تعلن بأن من شأنُه هذا إلا أنه من ضئضيء هذا .
الحديث الأول : بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم قسما ، أتاه ذو الخويصرة ، وهو رجل من بني تميم ، فقال : يا رسول الله اعدل ، فقال : ( ويلك ، ومن يعدل إذا لم أعدل ، قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل ) . فقال عمر : يا رسول الله ، ائذن لي فيه فأضرب عنقه ؟ فقال : ( دعه ، فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم ، وصيامه مع صيامهم ، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء ، ثم ينظر إلى رصافه فما يوجد فيه شيء ، ثم ينظر إلى نضيه – وهو قدحه – فلا يوجد فيه شيء ، ثم ينظر إلى قذذه فلا يوجد فيه شيء ، قد سبق الفرث والدم ، آيتهم رجل أسود ، إحدى عضديه مثل ثدي المرأة ، أو مثل البضعة تدردر ، ويخرجون على حين فرقة من الناس ) [ البخاري : 3610]
الوقفة السابعة :
جواب الرسول صلى الله عليه وسلم ( ويلك ، ومن يعدل إذا لم أكن أعدل ؟ لقد خبت وخسرت ) قال النووي - رحمه الله - : ” روي بفتح التاء في ( خبت وخسرت ) وبضمهما فيهما , ومعنى الضم ظاهر , وتقدير الفتح : خبت أنت أيها التابع إذا كنت لا أعدل لكونك تابعا ومقتديا بمن لا يعدل , والفتح أشهر . والله أعلم ” [ ذكر الخوارج وصفاتهم ، رقم الحديث 1761 ]
يدل على ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم من الحلم والصبر على الأذى الذي كان يلقاه من من الأعراب وغيرهم من المنافقين وكل من يؤذيه – وإن كانت أذيته محرمة وممنوعة شرعاً وعقلاً – بأبي وأمي ما أحلمك ؟!
ولكن الأهم في التأملات حول هذا الجواب ربما هو أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقل اضربوه أو قيدوه على سوء فعله ، بل تجاهل – والتجاهل قيمة رفيعة في التعامل مع الناس – بل ومنع من المساس به ، وهذا يدل على خطأ البعض عند ما ينتقدون ويعتبرون نقدهم بمثابة نقد للدين ، أو استهزاء بالدين نفسه ، فإن أي نقد مهما كانت منزلة المنتقد لا ترقى إلى منزلة نقد الدين ، ولو كان هذا الأمر صحيحاً ، لكان هذا الموقف استدعى بتبيانه .
الوقفة الثامنة :
من هو الذي طلب بقتل ذي الخويصرة ؟
ورد في في الصحيحين بأن عمر قال (( ائذن لي فيه أضرب عنقه )) فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم ( دعه ) وورد أيضاً – وهذه الرواية في الصحيحن – بأن خالد بن الوليد قال : يا رسول الله ! ألا أضرب عنقه ؟ فقال ” لا . لعله أن يكون يصلي ” . قال خالد : وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس . ولا أشق بطونهم
والجمع بينما أن يكون كل منهما ابتدر وقال بقوله فنقل الحاضرون كل بما سمعه، وهذا كثير،
[ لكن في رواية عند مسلم بينت بأن عمر – رضي الله عنه – طلب قتل الرجل أولا ، ثم انصرف الرجل فطلب خالداً بقلته ] ، وبهذا يندفع الإشكال.
وفي هذا أيضا منقبة عظيمة لكل من عمر وخالد رضي الله عنهما حيث ابتدرا للذب عنه صلى الله عليه وسلم .
الوقفة التاسعة:
قول عمر أو خالد ( ائذن لي فيه أضرب عنقه ) يدل على أن الصحابة – رضي الله عنهم- لم يكونوا يقدمون أي عمل بدون إذن منه صلى الله عليه وسلم ، وهذا هو المطلوب من المسلم أن يكون له في تصرفه إذن من الشرع قبل أن يقدم ، قال تعالى :
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [ الحجرات : 1] .
ومشكلة بعضنا اليوم يفعل ما يشاء، ثم يبحث بعد ذلك استدلالاً !! ، فكان كمن لبس النظارة لتترآ له الدنيا بلون نظارته ، كما أن مشكلة بعضنا اليوم أنه يتصرف بدون أن يكلف نفسه البحث عن الحكم في المسألة ، وإنما ينقاد لرغباته وأهوائه .
ولعل البعض يفهم من هذا الموقف- أعني موقف عمر وخالد – بأن هذا التصرف يؤدي إلى مثل هذا العقاب المقترح ( القتل ) في نظر الأصحاب – وهم من هم – ويقاس عليه ما شابهه من الإساءة لأهل العلم وحملة الشريعة .
ولا شك أن هذا التصرف – الاعتراض على النبي صلى الله عليه وسلم – كان لا يجوز بأي حال من الأحوال، لكن الأهم في الحادثة هو موقف الرسول صلى الله عليه وسلم ومعالجته للموقف، وما دام الرسول صلى الله عليه وسلم منع منهم رد فعلهم هذا، فالاعتبار هو المنع ، وإذا تكرر هذا التصرف أو شبيهه في أي موقف مشابه فالمنع يتكرر أيضاً، وهذا ينبغي أن نستحضره عند ما نقف على بعض تصرفات لآحاد الصحابة لا تتطابق مع توجيهاته صلى الله عليه وسلم .
الوقفة العاشرة :
قوله صلى الله عليه وسلم ( لا ، لعله يصلي ) يدل على عظم أمر الصلاة ، وأنها تحقن الدماء، وأننا بمجرد معرفة كون الإنسان يصلي نحكم بعصمة دمه ، ويمنع من التعدي عليه حتى وإن كان بدر منه بعض ما يخدش ، ومن تجرأ على المصلين وقتلهم – مهما كانت الأسباب – فإنه خالف سنة الحبيب المصطفى ، وهذه إحدى علامات الخوارج .
الوقفة الحادية عشرة :
مقولة خالد رضي الله عنه ( وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه )
في هذه الحالة ليست المسألة مجرد اتهام للنية مجردة عن القرائن، بل كانت هناك قرينة واضحة وهو توجيه صفة غير لائقة ( عدم العدل ) لخيار الناس فضلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أن هذه القرينة لم تقبل من خالد، وهذا التفكير بهذه الطريقة ، والاستنتاج بفعل الرجل الظاهر ما يبطن به، واستدلال الظاهر المخالف لفساد الباطن لا سيما وأن خالد اعتمد قرينة واضحة ( وهي التطاول على مقام الرسول صلى الله عليه وسلم ) ، وفي هذه الحالة ليست اتهام للنوايا وإنما قرينة واضحة ، لكن لم تقبل منه ، ولن يقبل من أحد بعده .
الوقفة الثانية عشرة :
قول صلى الله عليه وسلم ( إني لم أومر أن أنقب قلوب الناس ، ولا أشق بطونهم ) حسم واضح لاقتحام النوايا وحظر منيع لما يمكن أن يسبب من مشاكل لا أول لها ولا آخر، فمن صلى معنا نعتبره مسلما ، ولا نتهم نواياه ، وأمر النيات إلى رب الناس ، وليس إلى الناس ، وهذا دليل لا يقبل الـتأويل على خطأ من يوزع ويكيل الاتهام جزافاً ، بحجة الدفاع عن الدين لا سيما في قوم لم يظهر لنا منهم ما يمكن أن يصل إلى تلك الجريمة التي ارتكبها ذو الخويصرة ، ولا سيما أن هؤلاء المندفعين ليسوا في مرتبة خالد بن الوليد رضي الله عنه .
الوقفة الثالثة عشرة : معاني كلمات الحديث :
الرمية : الصيد المرمي
نصله : أي حديدة السهم
رصافه : عصبه الذي يكون فوق مدخل النصل
نضيه : عود السهم قبل أن يراش وينصل .
قذذه : جمع قذة ، وهي ريش السهم .
آيتهم : علامتهم .
البضعة: بفتح الباء قطعة لحم .
تدردر : أي تضطرب
الوقفة الرابعة عشرة : قوله : ” إن له أصحاباً “
الصاحب هو من طالت صحبته معك، وهو يختلف عن الصديق ، والحبيب ، والخليل ، ولكل معناه الخاص في اللغة، لكن اشتهر استخدام الصحبة بمعنى النصرة، والصاحب بمعنى النصير ، فالأصحاب هم المناصرون للرجل ، والمناضلون عنه، والمنفذون لأوامره، وهو بهذا المعنى لم يقل أحد بأنه كان لذي الخويصرة جيش ،ولا طلاب، ولا أتباع، وإنما كان هذا علماً من أعلام نبوته – صلى الله عليه وسلم – بأن هذا الفكر المنحرف، وهذه البذرة السيئة تمتد، وتكون لها أتباع يتحزبون، ويناضلون من أجلها ، كما أنه عند التأمل ينبغي للإنسان أن لا يفتح طريقاً للشر يُقتدى من بعده، كيلا يتحمل كبرها بعد ذلك، وهو بهذا المعنى يقترن معنى الحديث الآخر ، ” ما من نفس تقتل ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها ” ، لأن كل من يسلك هذا المسلك يكون من أصحابه، وفيه من الإشارات أيضاً بأن من يقفون في وجه علي – رضي الله عنه – يكونون على خطأ،وهو - رضي الله عنه -على الصواب، وأنهم يرفون شعاراً ، وروايات الصحيحين جاءت بلفظ ” إن له أصحاباً “،لكن جاء في المسند ” فقال عمر بن الخطاب يا رسول الله ألا نقتله ” فقال : ” لا دعوه فإنه سيكون له شيعة ” [ مسند الإمام أحمد :12/3] ، ورواية الإمام أحمد توضح معنى رواية الصحيحين ، وبهذا زال الإشكال – بحمد الله تعالى -.
كما أن قوله : ” إن له أصحاباً” يدل على أنهم يتحزبون تحت راية،وأنهم يكونون على إمرة واحدة، وهذه إحدى علامات الخوارج.
الوقفة الخامسة عشرة : صفات الخوارج في النصوص
1-الاجتهاد في العبادة
2-القرآن لا يجاوز حناجرهم
3- سفهاء الأحلام
4-حدثاء الأسنان
5-يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان
6-الدعوة إلى كتاب الله
7-الجهاد على المسلمين
8-العجب بالنفس
9-المروق من الدين
10-وضع الآيات التي نزلت على الكفار على المسلمين
11- شر الخلق
12-أنهم أهل فرقة وافتراق
13- الخروج من بين أظهر المسلمين
14- ليس فيهم أهل العلم
15 – سيماهم التحليق
16- ليسوا من الامة
17- كلاب جهنم
18- الفتك بمن ينتسب إلى الإسلام بالقتل والسلب
19- إلى آخر القائمة الطويلة من صفاتهم.
وما ذكرناه من صفات الخوارج هي خطوط عريضة ، وهو قِلُ من جُلٍّ، وغيض من فيضٍ، وهي مبثوثة في كتب التفاسير والحديث، وكتب العقائد ، والمؤلفات الخاصة بالفرق – وفي العصر الحاضر ألفت عشرات الكتب في الخوارج خاصة بعضها مفيد لكن كثيرا منها مجرد تأليف، وسرد لأقوال وأحكام دون ولوج للب الموضوع، والله المستعان .
لكن الذي أنبه عليه أننا نسير في بحثنا عن صفات الخوارج ليس أخذ ما قيل عنهم، أو سُجّل من خلال النظر إلى واقعهم، وإنما الصفات التي وردت في النصوص الصحيحة، لأن الهدف من بحثنا هو أن نحذر منها ولا نقع فيها، وهي التي برأيي لا ينفك عنها أي خارجي في أي زمان ومكان، أما بقية الصفات التي تورد في هذا الكتاب أو ذاك ، فهي مجرد مواصفات لا يمكن أن تنضبط أو تكون عامة عليهم ، وبالتالي نعرض عنها صفحاً.
الوقفة السادسة عشرة : الصفة الأولى : الاجتهاد في العبادة .
فالأحاديث الصحيحة التي وردت في الخوارج اتفقت على هذه النقطة، وهي كثرة تعبدهم، وقد أشارت إلى أنواع من العبادة قال – صلى الله عليه وسلم -: ” فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم ، وصيامه مع صيامهم ، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم ” .
وعند أبي داود : ” ليست قراءتكم إلى قراءتهم شيئا ، ولا صلاتكم إلى صلاتهم شيئا ، ولا صيامكم إلى صيامهم شيئا ” [ أبو داود : 4768 ]
وعند التأمل في الحديث الذي معنا نجد ما يلي :
( يحقر ) يعني التزامهم الواضح بحيث يكونون أفضل من غيرهم في ممارسة أركان الإسلام الظاهرة .
ولا ننسى أن الخطاب ” أحدكم ” موجه للصحابة ، وهم من هم في إقامة الصلاة كما هي مطلوبة بأداء أركانها ، والمحافظة على واجباتها ، والإتيان بهيئأتها وسننها، وإذا كان الصحابة – رضي الله عنهم – يحتقرون صلاتهم مع صلاتهم فكيف بغير الصحابة ؟ !
كما نجد أن الأعمال المذكورة هي ثلاثة أعمال :
الصلاة .
الصيام .
قراءة القرآن .
وعند التأمل والتفكر في هذه الأعمال التي تضافرت الأدلة باجتهادهم عليها نجد بأنها أعمال ذاتية بدنية ، وهي التي يعبر عنها الفقهاء في بيان أقسام العبادات وأنواعها، بـ ” العبادات القاصرة النفع ” بمعنى أن نفعها لصاحبها دون غيره ، فلو صليتَ مائة ركعة فأجرها وثوابها لك – إن شاء الله – لكن فلانا من الناس تصدق بمليون شلن فأجرها وثوابها له، وينتفع بها أيضاً إخوانه من المسلمين .
فلم يرد في أوصافهم مثلا ” الصدقة ” ، ولم يذكر الحج ، والعمرة ، ولا الجهاد ، وغيرها من شعب الإيمان وما زلت أفكر في الموضوع وأتامل ولم أر من اهتم بدارسة هذا الجانب .
إن حديث الخوارج لهو علم من أعلم نبوته صلى الله عليه وسلم حيث جاءت أحوال هؤلاء القوم كما بينت هذه الأحاديث، وقد صور حبر هذه الأمة ، وترجمان القرآن ، وابن عم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أحسن تصوير لما عليه القوم من الاجتهاد في العبادة ، بكلمات يسيرة فقال بعد رجوعه من مناظرته للخوارج الشهيرة : ” فأتيتهم فدخلت على قوم لم أر أشد اجتهادا منهم , أيديهم كأنها ثفن الإبل , ووجوههم معلمة من آثار السجود ” [ مصنف عبد الرزاق (10/158) ، والمعجم الكبير (10/257).
ولو لا هذه الأحاديث لتعجب الناس ولما صدقوا ما تترآ أعينهم كيف ! وهم قوم نحقر صلاتنا عند صلاتهم ، ولهذا أورد البخاري هذا الحديث في كتاب المناقب : علامات النبوة في الإسلام برقم (3341).
الوقفة السابعة عشرة : الصفة الثانية : القرآن لا يجاز تراقيهم.
" فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم ، وصيامه مع صيامهم ، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم "
لقد كانت الخوارج يقرءون القرآن و لكنهم لم يكونوا أهل فهم و علم, يقول الرسول صلى الله عليه و سلم:"يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم" رواه البخاري (1/53).
قال الإمام النووي - رحمه الله- " المراد أنهم ليس لهم فيه حظ إلا مروره على ألسنتهم لا يصل إلى حلوقهم فضلا عن أن يصل إلى قلوبهم لأن المطلوب تعقله و تدبره بوقوعه في القلب" .
وعند التأمل في هذا التعبير " يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم " لم يكتف الحديث بوصفهم قراء يقرؤون القرآن، أو يحسنون قراءتهم كما في وراية أبي داود : " ليست قراءتكم إلى قراءتهم شيئا ... " [ أبو داود : 4768 ] وإنما وصفهم وصفا دقيقاً يصاحب الخوارج في كل زمان وعصر، وهو عدم الفهم، وقلة العلم الشرعي ، وأينما وجد الخارجي توجد هذه الصفة ملازمة له .
يقول ابن تيمية- رحمه الله تعالى – ” وكانت البدع الأولى مثل – بدعة الخوارج – إنما هي من سوء فهمهم للقرآن لم يقصدوا معارضته لكن فهموا منه ما لم يدل عليه ” [ الفتاوى (3/20)].
وفي زماننا هذا كثر القراء وقل الفقهاء العارفون بما جاء عن الله – سبحانه وتعالى – و رسوله – صلى الله عليه و سلم- , واستوى في القراءة الكبار و الصغار، و الرجال و النساء, بسبب كثرة مدارس تحفيظ القرآن الكريم ، وهي من نعم الله تعالى علينا، لكن الذي ينبغي التنبيه عليه، هو أن هناك فرقاً شاسعاً وبوناً كبيراً ، بين القارئ للقرآن والعلوم الشرعية ، والفقيه فيها، فينبغي الحذر وعدم الاغترار بقراءة الكتب الشرعية دون التلقي ممن آتاهم الله – سبحانه وتعالى – حتى لا يقع المرء فيما وقعت فيه الخوارج ، فيهلك كما هلكت .
الوقفة الثامنة عشرة: ملخص ما يستفاد من الصفات الواردة في هذا الحديث:
1 – قوم يجتهدون في العبادات التي تكون بين العبد وبين ربه ، مثل الصلاة والصوم وقراءة القرآن ، لكن يسيئون العلاقة بينهم وبين خلق الله فيتعاملون معهم وفق أهوائهم .
2- يقعون في ما حرم الله عليهم في كتاب الله ، وذلك لعدم فقههم للقرآن ، مجرد قراءة ، حفظة دون فهم ووعي للمراد من الكلام ، وهذا ما عبر عنه الحديث في أحسن تعبير ، وأدق تصوير ( يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم ) ، وهذا الحديث يتضمن أيضاً من الفوائد الكثيرة منها أن المهم ليس قرءة القرآن فحسب بل الفهم والوعي والعمل بأوامره .
3- وفي الحديث الآخر : ( القرآن إما لك أو عليك ) ، والخوارج من من القسم الثاني الذين يكون القرآن حجة عليهم .
ذكر أهل البدع بما فيهم من الخير ليس تزكية لهم.
كثرة الأعمال ليست دليلا على صحة العمل.
إذا اجتمعت صفتان حميدة وذميمة في الشخص أو الجماعة أو الأمة ، تذكر الصفتان معا في حال الحذر ، وهذا فوق كونه في غاية الإنصاف فإنه مفيد لتبيان أمر المحذور منه حتى لا يختلط أمره على الناس فينظروا إلى الصفة المحمودة لتحجب عنهم الصفة المذمومة فيهلكوا في المتابعة عليه في أمره كله .
الحديث الثاني : قال علي رضي الله عنه إذا حدثتكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأن أخر من السماء أحب إلي من أن أكذب عليه وإذا حدثتكم فيما بيني وبينكم فإن الحرب خدعة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ” يأتي في آخر الزمان قوم حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من خير قول البرية يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية لا يجاوز إيمانهم حناجرهم فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن قتلهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة ” [ رواه السبعة، البخاري ، ومسلم ، وأبو داود، و النسائي ، والترمذي، وابن ماجه، والإمام أحمد].
وفي رواية [ سيخرج في آخر الزمان قوم أحداث الأسنان ، سفهاء الأحلام .... ] [ البخاري : 6930] ، و [ مسلم : 1066] .
وانفرد الإمام أحمد بسند صحيح عن علي – رضي الله عنه –[ يخرج في آخر الزمان أقوام أحداث الأسنان سفهاء الأحلام ] [ مسند الإمام أحمد 2/45].
وعند ابن ماجه عن ابن عمر رضي الله عنهما :أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :” ينشأ نشء يقرءون القرآن لايجاوز تراقيهم ، كلما خرج قرن قطع ” قال ابن عمر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :”كلما خرج قرن قطع ” أكثر من عشرين مرة ، “حتى يخرج في عراضهم الدجال ” [ ابن ماجه وصححه الألباني ] .
سنقف مع هذا الحديث في حلقتنا السادسة عدة وقفات كما فعلنا مع الأحاديث السابقة، فقد تضمن هذا الحديث برواياته المتعددة عدة صفات نتاول كما هي مرتبة في الحديث .
الوقفة التاسعة عشرة:الصفة الثالثة: حدثاء الأسنان.
معنى ( حدثاء الأسنان ) صغار السن ، شباب.
قال الحافظ – رحمه الله تعالى – ” بمهملة ثم مثلثة جمع حدث بفتحتين والحدث هو الصغير السن … قال في ” المطالع ” معناه شباب ….قال ابن التين : والأسنان جمع سن والمراد به العمر , والمراد أنهم شباب ” .
قال ابن الأثير : ” حَداثَة السِّنّ: كناية عن الشّباب وأوّل العُمر ” [ النهاية 1/434]
قال السندي في شرحه لابن ماجه : ” .. الناشئ بهمزة في آخره الغلام والجارية جاوز حد الصغر”[ سنن ابن ماجه – المقدمة – في ذكر الخوارج - برقم (170) ].
فعامة الخوارج، ومن يتبنى فكرهم من الشباب الذين تغلب عليهم الخفة والاستعجال والحماس وسفاهة العقول.
الوقفة العشرون : الصفة الرابعة: سفهاء الأحلام.
معنى ( سفهاء الأحلام ) ضعفاء العقل، قاصروا النظر والإدراك.
قال النووي : ” صغار العقول ” جمع حلم بكسر أوله والمراد به العقل, والمعنى أن عقولهم رديئة.
وقال الحافظ والسندي والسيوطي : ” ضعاف العقول “
وقال ابن الأثير : ” الأحلام : الألباب والعقول ، والسفه :الخفة والطيش “.
وقال النووي:” يستفاد منه أن التثبت وقوة البصيرة تكون عند كمال السن وكثرة التجارب وقوة العقل”.
وقد تعقب الحافظ في الفتح على قول الإمام قائلاً:” ولم يظهر لي وجه الأخذ منه فإن هذا معلوم بالعادة لا من خصوص كون هؤلاء كانوا بهذه الصفة “.
قال كاتب السطور: وأنا لم يتضح لي وجه اعتراض الحافظ على الإمام – رحمهما الله تعالى-، فإن مما لا شك فيه أن هذا المعنى الذي أشار إليه النووي واضح ، ويفهم من الحديث مباشرة ، فالعادات تختلف حسب الزمان والمكان، و العادات في الغالب مضطربة بفعل عوامل الزمن والمكان والبيئة ، فقد رأينا أقوما عادتهم تقديم الصغار على أولي النهى في شؤون العامة، وتتويج الصغار على أعلى منافذ الحكم ، وبهذا يتضح أن ما قاله الحافظ ينبطق على بيئته وليس كل البيئات، ولا أظن أن هؤلاء – المقدمين للصغار- علموا من عادتهم بأن التثبت وقوة البصيرة تكون عند كمال السن.
وعلى كل فالخوارج جمعوا بين حدثاء السن وسفاهة العقل ، فكيف اذا اجتمعت مع حداثة الالتزام ، وقلة العلم الشرعي، والإسلام منع من السفيه التصرف فيما يخصه وحجر عليه ، – كما هو معروف، فلم يخل كتاب من كتب الفقه باب الجحر على السفيه ، فكيف بالشأن العام ؟ لكن كما يقال إذا تفرقت الأغنام قادتها العنز العرجاء، وبالتالي فإن الخوارج لم يخرجوا إلا حين فرقة من الناس.
ومن سفاهة العقل ارتكاب المحرم شرعا، والمجمع على تحريمه ثم الافتخار به والإعلان به، والجهر به .
تأمل حول هذين الصفتين :
تأملت حول هاتين الصفتين ، وهما من الصفات التي وردت في جميع النصوص الواردة في الخوارج ، ومن الصفات التي صحت سنداً ومتناً، وقد اتفقت كلمة الرواة على تقديم صفة حداثة السن على سفاهة الحلم ، ولا بد أن للتقديم هنا معنى مقصوداً لذاته ، منها أن حداثة السن – العمر – يمكن إدراكه وملاحظته بكل سهولة وبدون حاجة لغير حاسة العين المجردة، لكن سفاهة الحلم ليست بادية كما هي صفة الحداثة فقدمت ؛ لأنها يمكن ملاحظتها بدون تعقيد ، ولا تخفى على العين المجردة .
إنهما صفتان متلازمتان، تلازم الرشد للبلوغ ، فإذا تحققت الأولى وهي -صغر السن – فستتحقق الثانية تباعاً، ولهذا تم تقديها على الثانية فيما يبدو لنا – والله أعلم – .
بل إن حداثة السن بحد ذاتها – وإن لم يعتنق صاحبها الفكر الخارجي – مشكلة تحتاج إلى المراعاة، وانظر ماذا تفعل حداثة السن بالإنسان، وانظر كيف تورد المهالك، وكيف أن أولي الرأي مقدمون، وفيهم النجاة – بإذن الله تعالى – لهم ولغيرهم.
أليست حداثة السن هي التي جعلت هؤلاء يتجاوزون كل الحدود المعقولة حتى قالو : ” يغفر الله لرسول – صلى الله عليه وسلم- يعطي قريشاً ويترك الأنصار، وسيوفنا تقطر من دمائهم”
أي كلام هذا ؟! وأي جرأة تلك ؟! سبحان الله ! كيف يقال هذا لرسول الله ؟
لكن حكمة رسول رب العالمين ، وعفوه ، وخلقه العظيم تعالج الموقف ، فيستدعي الأنصار بعد ما بلغته هذه المقولة فيجتعون فيأتي إليهم فيقول : : ” ما كان حديث بلغني عنكم؟ ”
ما أحلمك يا رسول الله !!
موقف صعب جداً ، أيمكن أن يصدر هذا من الأنصار؟
فيأتي رد الأنصار ” فقال له فقهاؤهم: أما ذووا آرائنا يا رسول الله، فلم يقولوا شيئاً، وأما أناس منّا حديثة أسنانهم، فقالوا: يغفر الله لرسول – صلى الله عليه وسلم- يعطي قريشاً ويترك الأنصار، وسيوفنا تقطر من دمائهم! ” أخرجه البخاري في صحيحه برقم (3147).
وضع – أيها القارئ الكريم – تحت كلمة ” فقهاؤهم ” وكلمة ” ذووا آرائنا ” مائة خط ثم تأمل مرات ومرات تدرك معنى ماذا يعني : الفقه والفقهاء والرأي في سبيل النجاة ، واعتدال السفينة ، والنجاح في قيادة الأمة ، وليس كما سوّل إبليس لبعضهم بمحاربة الفقه وأهله.
وخلاصة القول أن هذين الصفتين ملازمة للخارجي في كل زمان ومكان.
ولا أدري ما الذي جعل الشيخ عبد المحسن العبيكان يقول في كتابه : ” ثم قال : حدثاء الأسنان ، يقول ابن الأثير : حداثة السنِّ : كناية عن الشباب وأوّل العمر.
فلم يكبروا حتى يعرفوا الحق ، وهذا ينطبق على أولئك القوم الذين استحلوا المسجد الحرام ، بينما الخوارج الذين خرجوا على عليٍّ – رضي الله عنه – كانوا من أكابر الناس، ومن كبار السن، وفيهم كبار في قومهم.
وقال : سفهاء الأحلام ، يقول ابن الأثير : الأحلام: الألباب والعقول، والسفه الخفة والطيش ، وهو ينطبق على من ذكرنا.
بينما الخوارج الذين خرجوا على عليٍّ – رضي الله عنه – كانوا من ذوي العقول ” [ الخوارج والفكر المتجدد ص 20-21].
عجباً لك أيها الشيخ !! إن الذين خرجوا على علي – رضي الله عنه – انطبقت عليهم كل الصفات الواردة في الأحاديث الصحيحة، ولا يجوز بحال من الأحوال أن نصفهم بأنهم ” من أكابر الناس ، ومن كبار السن ، وأنهم كانوا من ذوي العقول ” في سبيل إثبات أن هناك خوارج جدد ، فإن من يأتي بعدهم ينضم إلى تلك القافلة، وما قلتَه عن الخوارج – الذين خرجوا على علي – رضي الله عنه – لم يسبق إليه أحد.
الوقفة الحادية والعشرون : ولأولي الأحلام اعتبار في الإسلام؟
فعن أبي مسعود – رضي الله عنه – قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح مناكبنا في الصلاة ويقول: ” استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم ليلني منكم أولو الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ” مسلم ، كتاب الصلاة ، باب تسوية الصفوف برقم الحديث(654).
قال النووي – رحمه الله – في شرحه لهذا الحديث : ” وأولو الأحلام هم العقلاء وقيل البالغون … قوله صلى الله عليه وسلم : ( ثم الذين يلونهم ) معناه الذي يقربون منهم في هذا الوصف .
و في هذا الحديث تقديم الأفضل فالأفضل إلى الإمام لأنه أولى بالإكرام , ولأنه ربما احتاج الإمام إلى استخلاف فيكون هو أولى, ولأنه يتفطن لتنبيه الإمام على السهو لما لا يتفطن له غيره، وليضبطوا صفة الصلاة, ويحفظوها وينقلوها ويعلموها الناس وليقتدي بأفعالهم من ورائهم ولا يختص هذا التقديم بالصلاة، بل السنة أن يقدم أهل الفضل في كل مجمع إلى الإمام وكبير المجلس كمجالس العلم والقضاء والذكر والمشاورة , ومواقف القتال وإمامة الصلاة والتدريس والإفتاء وإسماع الحديث ونحوها , ويكون الناس فيها على مراتبهم في العلم والدين والعقل والشرف والسن والكفاءة في ذلك الباب , والأحاديث الصحيحة متعاضدة على ذلك . وفيه تسوية الصفوف واعتناء الإمام بها والحث عليها ” .
ومن الخطأ البين، والغبن الفاحش أن يتم تقديم الإنسان على أساس النسب والرحم ، أو التوافق الفكري والمذهبي ، أو الولاء الحزبي ، أو لاعتبارات أخرى غير العلم والكفأة والتدين ، فإذا كان هذا الأمر معروفا فيما أصاب بالأمة في دولها وحكوماتها، فما يفعله من الانحرافات أشد وأكثر في الجماعات التي وسمت نفسها بأنها مجاهدة، وتقدم صغار السن وضعاف العقول، وصفر العلم الشرعي للأمة على أنهم المراجع والأعلام ، والأسوأ من هذا أن يشن هجوم على أولي النهى للتشويش عليهم، ولعدم مجاراتهم سفهاء العقول .
الحديث الثاني : قال علي رضي الله عنه إذا حدثتكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأن أخر من السماء أحب إلي من أن أكذب عليه وإذا حدثتكم فيما بيني وبينكم فإن الحرب خدعة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ” يأتي في آخر الزمان قوم حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من خير قول البرية يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية لا يجاوز إيمانهم حناجرهم فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن قتلهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة ” [ رواه السبعة، البخاري ، ومسلم ، وأبو داود، و النسائي ، والترمذي، وابن ماجه ، والإمام أحمد ].
وفي رواية ” يمرقون من الدين “
سنقف مع هذا الحديث في حلقتنا السابعة وقفات كما فعلنا مع الأحاديث السابقة، وقد تضمن هذا الحديث برواياته المتعددة عدة صفات نتاول كما هي مرتبة في الحديث.
و نشير إلى أننا تناولنا في حلقات سابقة عدة صفات هي :
الصفة الأولى : الاجتهاد في العبادة.
الصفة الثانية : القرآن لا يجاز تراقيهم.
الصفة الثالثة : حدثاء الأسنان.
الصفة الرابعة : سفهاء الأحلام.
الوقفة الثانية والعشرون: الصفة الخامسة : يقولون من خير قول البرية
معنى ” يقولون من خير قول البرية “
ذهب العلماء في تفسير المراد من هذه الصفة إلى ثلاث أقوال :
(1) القرآن.
والمعنى:أي خير ما يتكلم به الخلائق، وهو القرآن، قال الحافظ :” أي من القرآن كما في حديث أبي سعيد الذي قبله ” يقرءون القرآن ” وكان أول كلمة خرجوا بها قولهم: لا حكم إلا الله , وانتزعوها من القرآن وحملوها على غير محملها”.
وقد بوّب الإمام البخاري – رحمه الله تعالى – في صحيحه كتاب فضائل القرآن ، باب إثم من رآءى بقراة القرآن أو تأكل به أو فخر به وأورد هذا الحديث ، و قال الحافظ : ” يقولون من خير قول البرية ” هو من المقلوب والمراد من ” قول خير البرية ” أي من قول الله , وهو المناسب للترجمة.
(2)الأحاديث .
وهذا ما رجح به صاحب عون المعبود حيث قال : ” أي خير ما يتكلم به الخلائق , وقيل أراد بخير قول البرية القرآن , وفي بعض النسخ من قول خير البرية . والظاهر أن المراد بخير البرية النبي صلى الله عليه وسلم والله أعلم . [ عون المعبود شرح سنن أبي داود – كتاب السنة – باب في قتال الخوارج ] .
(3)القول الحسن مطلقاً .
وهو تفسير له وجاهة ولا ينفى ما سبق من التفاسير ، وقد أشار الحافظ – رحمه الله – إلى هذا الاحتمال بعد ذكره لمن قال : بأن المراد هو القرآن ، فقال : ” ويحتمل أن يكون على ظاهره والمراد القول الحسن في الظاهر وباطنه على خلاف ذلك كقولهم ” لا حكم إلا لله “.
وهو اختيار الإمام النووي – رحمه الله تعالى – حيث قال : ” معناه : في ظاهر الأمر كقولهم : لا حكم إلا لله , ونظائره من دعائهم إلى كتاب الله تعالى . والله أعلم ” . [ 1771] .
وهو ما ذهب إليه السندي – رحمه الله – : ” أي يتكلمون ببعض الأقوال التي هي من خيار أقوال الناس ” .
الوقفة الثالثة والعشرون : الصفة السادسة : المروق من الإسلام أو الدين
معنى المروق من الدين ؟
وردت صفة المروق من الدين ، أو الإسلام كما في بعض الروايات في الأحاديث الصحيحة والثابتة ، ومعنى المروق الخروج ، فقوله صلى الله عليه وسلم ” يمرقون من الدين ” كيخرجون لفظا ومعنى .
قال ابن الأثير في معنى “يَمْرُقون ” : أي يَجُوزونَهُ ويَخْرِقُونَهُ وَيَتَعَدَّونَهُ كما يَخْرِقُ السَّهْمُ الشيء الْمَرْمِيَّ به ويخرج منه . [ النهاية 4/320 ] .
وقال الرازي : ومَرَقَ السهم من الرميَّة خرج من الجانب الآخر وبابه دخل ومنه سُمِّيَتْ الخوارج مارِقةً لقوله – صلى الله عليه وسلم - : يمرقون من الدِّين كما يمرق السهم من الرميَّة ، وجمع الْمارِق مُرَّاقٌ . [ مختار الصحاح 1/259]
قال القاضي عياض ” يخرجون منه … و ( الدين ) هنا هو الإسلام , كما قال سبحانه وتعالى : { إن الدين عند الله الإسلام } ، وما قاله القاضي هو الذي ذهب إليه المحدثون ، وساروا عليه ، وهو الذي يقتضيه السياق، وتضافرت عليه روايات الباب .
وقال الخطابي : ” هو الطاعة أي من طاعة الإمام ” ، قال كاتب السطور : وإذا كان يمكن أن يكون معنى الدين بمعنى الطاعة ، فإن الروايات التي وردت بلفظ الإسلام – وهي في الصحيحين وغيرهما تمنع هذا التوجيه .
وعند الطبري و النسائي عن علي - رضي الله عنه – ” يمرقون من الحق “
قال الحفاظ - رحمه الله – ” فيه تعقب على من فسر الدين هنا بالطاعة ” ، وابن حجر يشير بذلك إلى الإمام الخطابي - رحهما الله تعالى -
وبناء على هذه الصفة التي وردت في هذه الأحاديث لقبت الخوارج بــــ ” المارقة ” ، وهم يرضون بألقابهم ما عدى هذه الصفة كما قال القاضي عياض – رحمه الله – ” وهم يرضون الأسماء والألقاب كلها إلاّ المارقة ” .
وقد استدل بهذه الصفة من يرى بأن الخوارج كفار، لكن سنتاول هذه المسألة - حكم الخوارج – بالتفصيل في وقفة خاصة بعد الانتهاء من الصفات الواردة فيهم .
تأمل لهذه الصفة :
إن هذه الصفة من أشد الصفات الواردة في الخوارج ذماً لهم ، وهي صفة تكفي للتنفير عن مذهبهم وطريقة تفكيرهم ، وهي التي تجعل كل مسلم يبتعد عن هذا الفكر والانزاق نحوه ، وهي التي بسببها استحقت الخوارج في كل زمان ومكان الذم ، إن هذه الصفة صريحة وواضحة لكل من يقرأ الأحاديث التي وردت فيهم ، وهي نتيجة للصفات التي سبقتها في الحديث من حداثة السن وسفاهة الحلم ، وعدم فهمهم للقرآن , وقلة فقههم.
إنك لتدرك مدى مروق القوم من الدين عند تقرأ أبيات الهالك عمران بن حطان الذي قام يمدح قاتل ” الإمام علي – رضي الله عنه – ” قائلاً :
لله درّ المرادي الذي سفكت***********كفّــاه مهجة شرّ الخلق إنسانــــا
أمسى عشيّة غشّاه بضربته************ممــا جناه من الآثام عريـانــــا
يا ضربةً من تقيٍّ ما أراد بها******إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إنّي لأذكـــــره حيناً فأحسبه******أوفى البريّة عنــــد الله ميزانا
ومن أحسن من ردّ على هذا الأفاك الأثيم ، المحدث الشاعر ، أبو عبد الرحمن التاهرتي – رحمه الله – الذي قال قصيدة مدوية رددها الزمان متجدة ومبطلة لفكر كل خارجي، فاستحق الثناء من كل سني منابذ للفكر الخارجي فرحمك الله - يا أبا عبد الرحمن - ورفع منزلتك في الفردوس الأعلى
قل لابن ملجم والأقدار غالبةٌ***********هدمت ويحك للإسلام أركانا
قتلت أفضل من يمشي على قدمٍ***********وأوّل الناس إسلاماً وإيمانا
وأعلم الناس بالقرآن ثم بما**********سنّ الرسول لنا شرعاً وتبيانا
صهر النبيّ ومولاه وناصره**************أضحت مناقبه نوراً وبرهانا
وكان منه على رغم الحسود له**********مكان هارون من موسى بن عمران
وكان في الحرب سيفاً صارماً ذكراً*******ليس إذا لقي الأقران أقرانا
ذكرت قاتله والدمع منحدرٌ ************فقلت : سبحان ربّ الناس سبحانا
إنّي لأحسبه ما كان من بشرٍ ************يخشى المعاد ولكن كان شيطانا
أشقى مرادٍ إذا عدّت قبائلها***********وأخسر الناس عند الله ميزانا
كعاقر الناقة الأولى التي جلبت *******على ثمود بأرض الحجر خسرانا
قد كان يخبرهم أن سوف يخضبها ********قبل المنيّة أزماناً فأزمانا
فلا عفا الله عنه ما تحمّله ********ولا سقى قبل عمران بن حطّانا
لقوله في شقيٍ ظلّ مجترماً ********ونال ما ناله ظلماً وعدوانا
” يا ضربةً من تقيٍّ ما أراد بها********إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
بل ضربةٌ من غويٍّ أوردته لظىً ********فسوف يلقى بها الرحمن غضبانا
ومن عجائب الزمان حقاً أن ظهرت – مؤخراً – بعض الكتابات التي تمجد مذهب الخوارج ، وتقارنها بالمذاهب الفقهية، بل تفضلها عليهم ليس بتلميح، وإنما بتصريح ، وليست فلتة لسان في مجلس، تدارك صاحبها بعد التنبيه ، وإنما في أشرطة مسجلة ، ومحاضرات عامة ، وتصفهم بأن ” عقيدتهم سلفية ” ” وإنما خطأهم كان في المنهج وليس في المعتقد ” فكيف تجتمع هذه النظرة للخوارج مع الادعاء بأنهم – أي الممجدون لهم – حاملوا راية الحديث ، وأنهم أهل الحديث ، إن أهل الحديث بريء لمثل هذه الأفكار الضالة، فهاتوا مَنْ مِنَ المحدثين سبقكم إلى هذا القول ” قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ” فإلى الله المشتكى .
—————
نقلاً من موقع الصومال اليوم
رابط الموضوع : http://www.assakina.com/book/16225.html#ixzz2vXr55fNb
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق