الأحد، 9 مارس 2014

فتوى ابن تيمية في الاحتراز من تكفير المعين


سئل شيخ الإسلام رحمه الله: "عن قومٍ داوموا على الرياضة مرة -أي: الرياضة الروحانية وهي التعبد- فرأوا أنهم قد تجوهروا" أي: قد صُفِّيت نفوسهم حتى تحولوا إلى جواهر، ومعلوم أن أصل التصوف مأخوذ من الديانة الهندوسية ، وعندهم أن الإنسان يتجوهر أو يتروحن، أي: يعذب الجسد حتى يُصفى الجوهر فيبقى الروح فقط، وهذه طريقة عبادة الهنود، فإذا صُفِّيت الروح اتحدت ببراهما، ولهذا فإن أصل دينالاتحادية والحلولية والوجودية هو من ذلك الدين الباطل، فإنهم يقولون: نعبد الله حتى نتحد معه، ثم يقول أحدهم: أنا الله! أو سبحاني سبحاني! أو ما في الجبة إلا الله! تعالى الله عما يصفون!

يقول: "فرأوا أنهم قد تجوهروا فقالوا: لا نبالي الآن ما عملنا، وإنما الأوامر والنواهي رسوم العوام، ولو تجوهروا -أي: العوام- لسقطت عنهم، وحاصل النبوة يرجع إلى الحكمة والمصلحة"، أي: أن الغرض من النبوة ومن الدين ومن القرآن هو الحكمة والمصلحة، "والمراد منها ضبط العوام"، وهذا كما يقول الفلاسفة كـابن سيناوغيره: أن هذه الأوامر والنواهي والخطابات التي في القرآن عن صفات الله وغيرها، المراد بها الجمهور والعوام فقط، قال: "ولسنا نحن من العوام فندخل في حجر التكليف؛ لأننا قد تجوهرنا وعرفنا الحكمة.

فهل هذا القول كفر من قائله؟ أم يبدع من غير تكفير؟ وهل يصير ذلك عمن في قلبه خضوع للنبي صلى الله عليه وسلم؟".

لأنهم مع هذا الكفر يدعون محبة النبي صلى الله عليه وسلم واتباعه.

فأجاب رحمه الله: "لا ريب عند أهل العلم والإيمان أن هذا القول من أعظم الكفر وأغلظه، وهو شرٌ من قول اليهود والنصارى؛ فإن اليهودي والنصراني آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض"، وكذلك عندهم التزام ببعض الأوامر، أما هؤلاء فقد قالوا بالتحلل من كل أمرٍ ونهيٍ.

ثم ذكر أن هذا أيضاً شرٌ من شرك العرب؛ لأن العرب الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم كان لديهم التزام ببعض الشيء، فلم يقل بالتحلل بالكلية من الأمر والنهي إلا هؤلاء وشيوخ الصوفية الذين يقولون: يسقط عنا التكليف إذا بلغنا درجة اليقين، فإن الله يقول: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99] فعندهم: إذا بلغ العبد منزلة في العبادة سقطت عنه التكاليف!

يقول: "فمن كان من قوله هو أنه أو طائفة غيره قد خرجت عن كل أمرٍ ونهي، بحيث لا يجب عليها شيء، ولا يحرم عليها شيء، فهؤلاء أكفر أهل الأرض، وهم من جنس فرعون وذويه، وهم مع هذا لابد أن يلتزموا بشيء يعيشون به".

فحتى لو قالوا: لا نلتزم أمراً ولا نهياً، فإن هذا محال؛ لأنه لابد أن يلتزموا بشيء يعيشون به. قال: "إذ لا يمكن للنوع الإنساني أن يعيش إلا بنوع أمرٍ ونهي" بل حتى في بلاد الغرب التي يسمونها بلاد الحرية الشخصية والديمقراطية ...إلخ، لا يمكن أن يعيشوا من غير التزام أمرٍ ونهي، فالذي يقول: أنا لا أعبد شيئاً ولا ألتزم بأمر ولا بدين، فإن هذا محال، وإذا لم يكن عابداً لله فلابد أن يكون عابداً حتى للشيطان أو الطواغيت عموماً.

قال: "فيخرجون عن طاعة الرحمن وعبادته إلى طاعة الشيطان وعبادته"، ولهذا فالأوراد والأذكار والرياضات البدعية؛ كلها من عبادتهم للشيطان.

يقول: "ففرعون هو الذي قال لموسى: وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:23]" على سبيل الإنكار، "ثم كانت له آلهة يعبدها كما قال له قومه: وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ [الأعراف:127]، أو (وإلهتك) كما في قراءة أخرى، فيصير المعنى على هذه القراءة: لا يعبدك، وليس فيها شاهد على ما نحن بصدده، لكن على القراءة المشهورة (وآلهتك) أي: لا يعبد ما تعبد يا فرعون، وهنا الشاهد على ما قاله شيخ الإسلام .

إذاً: حتى فرعون كان يعبد آلهة، وهذا هو الواقع من تاريخ الفراعنة والمصريين القدماء أنهم كانوا يعبدون أصناماً.

يقول: "فمنهم من يزعم أنه سقطت عنه الصلوات الخمس لوصوله إلى المقصود، وربما قد يزعم سقوطها عنه إذا كان في حال مشاهدة وحضور"، كما يقول بعض الصوفية : أن الصلاة لا تسقط عنه دائماً لكن أحياناً، فيصلي بعض الصلوات، ويحضر بعض الجمع ويتخلف عن بعضها، فإذا قيل له في ذلك قال: لقد كنتُ في حال الجمع! أو كنت في حال المشاهدة والحضور! نعوذ بالله من ذلك! يقول: "وقد يزعمون سقوط الجماعات عنهم استغناءً عنها بما هو فيه من التوجه والحضور"، يقولون: إن الغرض من الذهاب إلى المسجد أن يكون الإنسان قلبه متعلقاً بالله وحاضراً، وهذا الأمر يحصل لنا ونحن في البيت! وهذا من أشد الكفر والضلال، يقول: "ومنهم من يزعم سقوط الحج عنه مع قدرته عليه؛ لأن الكعبة تطوف به"، وكم من شيوخ الصوفية قيلت عنه هذه الحكاية! يقال لأحدهم: لمَِ لم يحج الشيخ؟ فيقول: كيف يحج والكعبة تطوف به؟!! نعوذ بالله من هذا الكذب والافتراء على الله، فهذا القول أكفر من تركه لهذا الركن من أركان الإسلام، قال: "ومنهم من يستحل الفطر في رمضان لغير عذر شرعي، زعماً منه استغناءه عن الصيام"، يقول: إن الغرض من الصيام هو التهذيب الروحي ونحن في قمة الروحانية، فلِمَ الصيام؟!! "ومنهم من يستحل الخمر"، وأول من اكتشف الحشيش هم الصوفية الفقراء الهنود، عندما كانوا يمشون في الأرض ويأكلون أي شيء من النبات، فوجدوا هذه الشجرة فأكلوها، فرأوها شجرة عجيبة، يأكلها الفرد فيخرف ويظن أنه يرى الجنة والنار ..إلخ، فخدمت قضيتهم الروحانية الحمقاء، ولذلك أُثِرَ عن بعضهم أنهم كانوا ينهون عن شرب الخمر، ويقولون: الحشيش أحسن منه، والعياذ بالله!

يقول رحمه الله: "ومنهم من يستحل الخمر زعماً منه أنها إنما تحرم على العامة الذين إذا شربوها تخاصموا وتضاربوا دون الخاصة العقلاء"، فالحكمة عندهم والعلة في تحريم الخمر أنها تورث العداوة والبغضاء، كما ذكر الله في القرآن، يقولون: وهذه العداوة إنما تحصل بين العوام، الذين إذا سكروا تشاجروا وتخاصموا، لكن مشايخ الطرق إذا شربوا فلن يفعلوا شيئاً من هذا، فالعلة منتفية. قال: "ويزعمون أنها تحرم على العامة الذين ليس لهم أعمال صالحة، فأما أهل النفوس الزكية والأعمال الصالحة، فتباح لهم دون العامة".

وهذه من الشبهات الشيطانية التي لبسها عليهم الشيطان، وما أكثر التلبيس!

قال شيخ الإسلام : "وهذه الشبهة كانت قد وقعت لبعض الأولين"، فقد شرب أفراد من الصحابة الخمر ظناً منهم أنها حلال، تأويلاً لقوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا [المائدة:93].

قال: "ومن هؤلاء من يستحل بعض الفواحش؛ كاستحلال مؤاخاة النساء الأجانب والخلو بهن، زعماً منه أنه يحصل لهن البركة بما يفعله معهن، وإن كان مُحرماً في الشريعة"، لقد كان يقال هذا الكلام فيقول البعض: لعله إشاعات غير صحيحة، وها هو ذا شيخ الإسلام يذكره، وهذا ما يقوله الصوفية من البركة في الخلوة والزنا والفواحش والموبقات، والعياذ بالله!

يقول: "فهؤلاء كفار باتفاق المسلمين، وهم بمنزلة من يستحل قتل المسلمين بغير حق، ويسبي حريمهم، ويغنم أموالهم، وغير ذلك من المحرمات".

 الشاهد لهذا الموضوع قوله: "لكن من الناس من يكون جاهلاً ببعض هذه الأحكام جهلاً يعذر به، فلا يحكم بكفر أحدٍ حتى تقوم عليه الحجة من جهة بلاغ الرسالة، كما قال الله تعالى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165]"، فمع ما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله عنهم إلا أنه يحترز ويذكر احتمالات حتى لا يفهم كلامه في سياقٍ دون ما يقصد، فيقول: لا يعني ذلك أن كل من استحل شيئاً من المحرمات يكفر مطلقاً؛ لأن من الناس من يكون جاهلاً ببعض هذه الأحكام جهلاً يعذر به، والتكفير يكون كما قال: "فلا يحكم بكفر أحد حتى تقام عليه الحجة من جهة بلاغ الرسالة"، فلابد أن يبلغ قبل أن نكفره، وهذا الحكم إنما هو عندنا نحن في تكفير الناس، وليس عند الله، أما عند الله فإن الله تعالى أعلم بعباده.

يقول: "كما قال تعالى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165]، وقال تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15]، وقد جعل شيخ الإسلام هذه الآية في العذاب الذي هو العقوبة في الدنيا، لكن المراد بها: عذاب الآخرة الذي هو العذاب على ترك أوامر الله، وليس العذاب الكوني القدري الذي يقع لهم في الدنيا إذا كفروا أو أعرضوا.

 قال رحمه الله: "ولهذا لو أسلم رجل ولم يعلم أن الصلاة واجبة عليه، أو لم يعلم أن الخمر يحرم؛ لم يكفر بعدم اعتقاد إيجاب هذا وتحريم هذا؛ بل ولم يعاقب حتى تبلغه الحجة النبوية".

وهذا الأمر يقع كثيراً عند الذين أسلموا قريباً ولم يعلموا بأحكام الشريعة.   

 ومما له علاقة بهذا الموضوع (فتوى ابن تيمية في الاحتراز من تكفير المعين ) الموادّ التالـيـة:


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق