الاثنين، 10 مارس 2014

قــصــة الـخــــوارج للعلامة الشيخ: سليمان بن سحمان، رحمه الله تعالى

قــصــة الـخــــوارج

قال العلامة الشيخ: سليمان بن سحمان، رحمه الله تعالى في الدرر السنية:
ورد علينا منك رسالة، تطلب فيها أن نكتب لك قصة الخوارج مستوفاة، من حين خروجهم على علي رضي الله عنه، إلى آخر ماكان من أمرهم؛ فقد ذكر ذلك شيخنا، الشيخ: عبد اللطيف، في رده على داود بن جرجيس، وهذا نص ماذكر، وبه الكفاية:
قال رحمه الله: إنه لما اشتد القتال يوم صفين، قال عمرو بن العاص، لمعاوية بن أبي سفيان، هل لك في أمر أعرضه عليك، لايزيدنا إلا اجتماعا ولا يزيدهم إلا فرقة؟ قال نعم؛ قال: نرفع المصاحف، ثم نقول لما فيها: “هذا حكم بيننا وبينكم” فإن أبى بعضهم أن يقبلها، رأيت فيهم من يقول ينبغي لنا أن نقبلها، فتكون فرقة فيهم، فإن قبلوا، رفعنا القتال عنا إلى أجل.
فرفعوا المصاحف بالرماح، وقالوا: هذا كتاب الله بيننا وبينكم؛ من لثغور الشام بعد أهله؟ من لثغور العراق بعد أهله؟ فلما رآها الناس، قالوا: نجيب إلى كتاب الله.
فقال لهم علي: عباد الله، امضوا على حقكم وصدقكم، فإنهم ليسوا بأصحاب دين، ولا قرآن، أنا أعلم بهم منكم، والله ما رفعوها إلا خديعة، ووهنا ومكيدة؛ قالوا: لايسعنا أن ندعى إلى كتاب الله فنأبى أن نقبله؛ وقال لهم علي: إنما أقاتلهم ليدينوا بحكم الكتاب ،فإنهم قد عصوا الله ونسوا عهده.
قال له مسعر بن فدكي التميمي، وزيد بن حصين الطائي، في عصابة من القراء: ياعلي: أجب إلى كتاب الله إذا دعيت إليه، وإلا دفعناك برمتك إلىالقوم، أو نفعل بك كما فعلنا بابن عفان ؛ فلم يزالوا به حتى نهى الناس عن القتال.
ووقع السباب بينهم وبين الأشتر وغيره، ممن يرى عدم التحكيم، فقال الناس: قد قبلنا أن نجعل القرآن بيننا وبينهم حكما.
فجاء الأشعث بن قيس إلى علي، فقال: إن الناس قد رضوا بما دعوهم إليه من حكم القرآن، إن شئت أتيت معاوية، قال علي: ائته.
فأتاه فقال: لأي شيء رفعوا المصاحف؟ قال: لنرجع نحن وأنتم إلى ما أمر الله به في كتابه؛ تبعثون رجلا ترضون به، ونبعث رجلا نرضى به، فنأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب الله، لايعدوانه، فعاد إلى علي فأخبره، قال الناس قد رضينا.
قال أهل الشام: رضينا عمرو بن العاص، وقال الأشعث، وأولئك القوم الذين صاروا خوارج: رضينا بأبي موسى الأشعري، فراودهم على غيره، وأراد ابن عباس، قالوا: والله لانبالي، أنت كنت حكمها، أم ابن عباس، ولا نرضى إلا رجلا منك، ومن معاوية سواء؛ وأبوا غير أبي موسى، فوافقهم علي كرها، وكتب كتاب التحكيم.
فلما قرئ على الناس، سمعه عروة بن أمية أخو أبي بلال، قال: تحكمون في أمر الله الرجال، لاحكم إلا لله، وشد بسيفه فضرب دابة من قرأ الكتاب، وكان ذلك أول ما ظهر الحرورية “الخوارج” وفشت العداوة بينهم وبين عسكر علي وقطعوا الطريق في إيابهم، بالتشاتم والتضارب بالسياط، تقول الخوارج: يا أعداء الله داهنتم في دين الله؛ ويقول الآخرون: فارقتم إمامنا، ومزقتم جماعتنا، ولم يزالوا كذلك حتى قدموا العراق، فقال بعض الناس من المتخلفين: ماصنع علي شيئا، ثم انصرف بغير شيء؛ فسمعها علي، فقال: وجوه قوم ما رأوا الشام، ثم أنشد شعرا:
أخوك الذي إن أجرضتك ملمة *** من الدهر لم يبرح ببابك واجما
وليس أخوك بالذي إن تشعبت *** عليك الأمور ظل يلحاك لائما
فلما دخل الكوفة، ذهبت الخوارج إلى حروراء، فنزل بها اثنا عشر ألفا على ماذكره ابن جرير، ونادى مناديهم: إن أمير القتال شبث بن ربعي التميمي، وأمير الصلاة عبد الله بن الكواء، والأمر شورى بعد الفتح، والبيعة لله عز وجل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فلما سمع علي ذلك وأصحابه، قامت إليه الشيعة، فقالوا له: في أعناقنا بيعة ثانية، نحن أولياء من واليت، وأعداء من عاديت؛ قالت لهم الخوارج؛ استبقتم أنتم , وأهل الشام إلى الكفر، كفرسي رهان ـ أهل الشام بايعوا معاوية على ما أحب وأنتم بايعتم عليا على أنكم أولياء من والى وأعداء من عادى ـ يريدون: أن البيعة لاتكون إلا على كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لأن الطاعة له تعالى.
وقال لهم زياد بن النضر: والله ما بسط علي يده فبايعناه قط، إلا على كتاب الله وسنة نبيه، ولكنكم لما خالفتموه جاءت شيعته، فقالوا: نحن أولياء من واليت، وأعداء من عاديت، ونحن كذلك، وهو على الحق والهدى، ومن خالفه ضال مضل.
وبعث علي رضي الله عنه: عبد الله بن عباس إلى الخوارج، فخرج إليهم فأقبلوا يكلمونه، فقال: نقمتم من الحكمين، وقد قال الله عز وجل: ( فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها) الآية فكيف بأمة محمد صلى الله عليه وسلم؟! قالوا له: ماجعل الله حكمه إلى الناس، وأمرهم بالنظر فيه، فهو إليهم، وما حكم فأمضى فليس للعباد أن ينظروا فيه، في الزنا مائة جلدة، وفي السرقة قطع، فليس للعباد أن ينظروا في هذا.
قال ابن عباس: فإن الله تعالى يقول: (يحكم به ذوا عدل منكم) قالوا: تجعل الحكم في الصيد، والحرث، وبين المرأة وزوجها، كالحكم في دماء المسلمين؟ وقالوا له: أعدل عندك عمرو بن العاص، وهو بالأمس يقاتلنا؟ فإن كان عدلا فلسنا بعدول، وقد حكمتم في أمر الله الرجال؛ قد أمضى الله حكمه في معاوية وأصحابه، أن يقتلوا أو يرجعوا، وقد كتبتم بينكم وبينهم كتابا، وجعلتم بينكم وبينهم الموادعة، وقد قطع الله الموادعة بين المسلمين وأهل الحرب، منذ نزلت براءة، إلا من أقر بالجزية.
فجاء علي وابن عباس يخاصمهم، فقال: إني نهيتك عن كلامهم حتى آتيك، ثم تكلم رضي الله عنه، فقال: اللهم هذا مقام من يفلج فيه، كان أولى بالفلج يوم القيامة؛ وقال لهم: من زعيمكم؟ قالوا: ابن الكواء، فقال: فما أخرجكم علينا؟ قالوا حكومتكم يوم صفين؛ قال: أنشدكم الله أتعلمون أنهم حين رفعوا المصاحف، وملتم بجنبهم، قلت لكم إني أعلم بالقوم منكم، إنهم ليسوا بأصحاب دين؟ وذكرهم مقالته. ثم قال: وقد اشترطت على الحكمين: أن يحييا ما أحيا القرآن، ويميتا ما أمات القرآن، فإن حكما بحكم القرآن فليس لنا أن نخالفه، وإن أبيا فنحن من حكمهما برءاء، قالوا: فخبرنا، أتراه عدلا تحكيم الرجال في الدماء؟ 
قال: إنا لسنا حكمنا الرجال، إنما حكمنا القرآن، إنما هو خط مسطور بين دفتين، وإنما يتكلم به الرجال.
قالوا: فخبرنا عن الأجل، لم جعلته بينكم؟ 
قال: ليعلم الجاهل، ويثبت العالم، ولعل الله يصلح في هذه الهدنة، هذه الأمة، فادخلوا مصركم رحمكم الله، فدخلوا من عند آخرهم.
فلما جاء الأجل، وأراد علي أن يبعث أبا موسى للحكومة، أتاه رجلان من الخوارج، زرعة بن البرج الطائي، وحرقوص بن زهير السعدي، فقالا له: لاحكم إلا لله؛ فقال علي: لاحكم إلا لله؛ وقالا تب من خطيئتك، وارجع عن قضيتك، واخرج بنا إلى عدونا نقاتلهم، حتى نلقى الله ربنا، فقال علي: قد أردتكم على ذلك فعصيتموني: قد كتبنا بيننا وبين القوم كتابا، وشرطنا شروطا، وأعطينا عهودا، وقد قال تعالى: ( وأفوا بعهد الله إذا عاهدتم).
فقال حرقوص: ذلك ذنب ينبغي أن تتوب منه؛ قال علي: ما هو ذنب، ولكنه عجز من الرأي، وقد نهيتكم عنه؛ قال زرعة: يا علي لئن حكمت الرجال، لأقاتلنك أطلب وجه الله؛ فقال له علي: بؤسا لك ما أشقاك، كأني بك قتيلا تسفى عليك الرياح؛ قال: وددت لو كان ذلك؛ وخرجا من عنده، يقولان: لاحكم إلا لله.
وخطب علي ذات يوم، فقالوها في جوانب المسجد، فقال علي: الله أكبر، كلمة حق أريد بها باطل؛ فوثب يزيد بن عاصم المحاربي، فقال: الحمد لله غير مودع ربنا، ولا مستغنى عنه ، اللهم إنا نعوذ بك من إعطاء الدنية في ديننا، فإن إعطاء الدنية في الدين إدهان في أمر الله، وذل راجع بأهله إلى سخط الله؛ ياعلي: أبالقتل تخوفنا؟ أما والله إني لأرجو أن نضربكم بها عما قليل غير مصفحات، ثم لتعلم أينا أولى بها صليا.
وخطب علي يوما آخر، فقال رجال في المسجد: لاحكم إلا لله، يريدون بهذا إنكار المنكر على زعمهم؛ فقال علي: الله أكبر، كلمة حق أريد بها باطل، أما إن لكم علينا ثلاثا ما صحبتمونا، لانمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسمه، ولا نمنعكم الفيء مادامت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تبدؤونا، وإنا ننتظر فيكم أمر الله؛ ثم عاد إلى مكانه من الخطبة.
ثم إن الخوراج لقي بعضهم بعضا، واجتمعوا في منزل عبد الله بن وهب الراسبي، فخطبهم وزهدهم في الدنيا، وأمرهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ ثم قال: اخرجوا بنا من هذه القرية الظالم أهلها، إلى بعض كهوف الجبال، أو إلى بعض هذه المدائن، منكرين لهذه البدع المضلة.
فقال حرقوص بن زهير: إن المتاع في هذه الدنيا قليل، وإن الفراق لها وشيك، فلا تدعونكم بزينتها وبهجتها إلى المقام بها، ولا تكفنكم عن طلب الحق وإنكار الظلم، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، فقال حمزة بن سنان الأسدي، ياقوم: إن الرأي مارأيتم، فولوا أمركم رجلا منكم، فإنه لابد لكم من عماد وسناد، وراية تحفون بها وترجعون إليها.
فعرضوا ولايتهم على زيد بن حصين الطائي، وعرضوها على حرقوص بن زهير، فأبياها، وعلى حمزة بن سنان وشريح بن أوفى العبسي، فأبيا، ثم عرضوها على عبد الله بن وهب، فقال: هاتوها أما والله لا آخذها رغبة في الدنيا، ولا أدعها فرارا من الموت، فبايعوه لعشر خلون من شوال، وكان يقال له ذو الثفنات، فاجتمعوا في منزل شريح بن أوفى العبسي، فقال ابن وهب: اشخصوا بنا إلى بلدة نجتمع فيها، وننفذ حكم الله، فإنكم أهل الحق.
قال شريح: نخرج إلى المدائن فننزلها، ونأخذ بأبوابها، ونخرج منها سكانها، ونبعث إلى إخواننا من أهل البصرة، فيقدمون علينا، فقال زيد بن حصين: إنكم إن خرجتم مجتمعين تبعوكم، ولكن أخرجوا وحدانا ومستخفين، فأما المدائن فإن بها من يمنعكم، ولا تسيروا حتى تنزلوا بجسر النهروان، وتكلموا إخوانكم من أهل البصرة، قالوا: هذا الرأي؛ فكتب عبد الله بن وهب، إلى من بالبصرة، ليعلمهم ما اجتمعوا عليه، ويحثهم على اللحاق بهم، فأجابوه. فلما خرجوا صار شريح بن أوفى العبسي يتلوا قوله: (فخرج منها خائفا يترقب) إلى قوله: (سواء السبيل) وخرج معهم طرفة بن عدي فاتبعه أبوه فلم يقدر عليه وأرسل عدي إلى عامل علي على المدائن يحذره، فحذر وضبط الأبواب، واستخلف عليها المختار بن أبي عبيد، وخرج بالخيل في طلبهم، فأخبر ابن وهب، فسار على بغداد، ولحقه ابن مسعود أمير المدائن بالكرخ، في خمسمائة فارس، فانصرف إليه ابن وهب الخارجي في ثلاثين فارسا، فاقتتلوا ساعة، وامتنع القوم منهم، فلما جن الليل على ابن وهب، عبر دجله، وصار إلى النهروان، ووصل إلى أصحابه، وتفلت رجال من أهل الكوفة، يريدون الخوارج، فردهم أهلوهم.
ولما خرجت الخوارج من الكوفة، عاد أصحاب علي وشيعته إليه، فقالوا نحن أولياء من واليت، وأعداء من عاديت، فشرط لهم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء ربيعة بن شداد الخثعمي، فقال: أبايع على سنة أبي بكر وعمر، قال علي ويلك؛ لو أن أبا بكر وعمر، عملا بغير كتاب الله وسنة رسوله، لم يكونا على شيء من الحق، فبايعه ونظر إليه علي، فقال: أما والله لكأني بك وقد نفرت مع هذه الخوارج فقتلت، وكأني بك وقد وطأتك الخيل بحوافرها؛ فكان ذلك، وقتل يوم النهروان مع الخوارج. وأما خوارج البصرة، فإنهم اجتمعوا في خمسمائة رجل، جعلوا عليهم مسعر بن فدكى التميمي، وعلم بهم ابن عباس، فأتبعهم بالأسود الدؤلي، ولحقهم بالجسر الأكبر، فتوافوا حتى حجز دونهم، وأدلج مسعر بأصحابه، وسار حتى لحق بابن وهب.
فلما انقضى أمر التحكيم ـ وخدع عمرو بن العاص أبا موسى الأشعري، وصرح عمرو بولاية معاوية، بعد أن عزل أبو موسى عليا، خدعه عمرو بذلك، فهرب أبو موسى إلى مكة ـ قام علي في الكوفة فخطبهم، وقال في خطبته: الحمد لله وإن أتى الدهر بالخطب الفادح، والحدثان الجليل؛ وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله. أما بعد: فإن المعصية تورث الحسرة، وتعقب الندم، وقد كنت أمرتكم في هذين الرجلين ـ يعني أبا موسى، وعمرو بن العاص ـ وفي هذه الحكومة أمري، ونحلتكم رأيي، ولو كان لقصير رأيي، ولكن أبيتم إلا ما أردتم، فكنت أنا وأنتم كما قال أخو هوازان:
أمرتهمو أمري بمنعرج اللوى **** لم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد
ألا إن هذين الرجلين، اللذين أخرجتموهما حكمين، قد نبذا حكم القرآن وراء ظهورهما، وأحييا ما أمات القرآن، فاتبع كل واحد منهما هواه بغير هدى من الله، فحكما بغير حجة بينة، ولا سنة قاضية، واختلفا في حكمهما، وكلاهما لم يرشد، فبرئ الله منهما ورسوله، وصالح المؤمنين، فاستعدوا وتأهبوا للمسير إلى الشام.
وكتب إلى الخوارج، من عبد الله : علي أمير المؤمنين، إلى زيد بن حصين، وعبد الله بن وهب، ومن معهما من الناس. أما بعد: فإن هذين الرجلين، اللذين ارتضيتما حكمين، قد خالفا كتاب الله، واتبعا أهواءهما بغير هدى من الله، فلم يعملا بالسنة، ولم ينفذا للقرآن حكما، فبرئ الله منهما ورسوله، والمؤمنون، فإذا بلغكم كتابي هذا، فأقبلوا إلينا، فإنا سائرون إلى عدونا وعدوكم، ونحن على الأمر الأول الذي كنا عليه.
فكتبوا إليه، أما بعد: فإنك لم تغضب لربك، وإنما غضبت لنفسك، فإن شهدت على نفسك بالكفر، واستقبلت التوبة، نظرنا فيما بيننا وبينك، وإلا فقد نابذناك على سواء ( إن الله لايحب الخائنين) فلما قرأ كتابهم أيس منهم، ورأى أن يدعهم، ويمضي بالناس إلى قتال أهل الشام، فقام في الكوفة فندبهم إلى الخروج معه، وخرج معه أربعون ألف مقاتل، وسبعة عشر من الأبناء، وثمانية آلاف من الموالي والعبيد، وأما أهل البصرة، فتثاقلوا، ولم يخرج إلا ثلاثة آلاف.
وبلغ عليا: أن الناس يرون قتال الخوراج أهم وأولى، قال لهم علي: دعوا هؤلاء، وسيروا إلى قوم يقاتلونكم، كيما يكونون جبارين ملوكا، ويتخذوا عباد الله خولا؛ فناداه الناس: أن سر بنا ياأمير المؤمنين حيث أحببت.
ثم إن الخوارج استقر أمرهم، وبدؤوا بسفك الدماء، وأخذوا الأموال، وقتلوا عبد الله بن خباب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجدوه سائرا بامرأته على حمار، فانتهروه، وأفزعوه، ثم قالوا له: ما أنت؟ فأخبرهم، قالوا: حدثنا عن أبيك الخباب، حديثا سمعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، تنفعنا به؟.
فقال: حدثني أبي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ستكون فتنة يموت فيها قلب الرجل كما يموت فيها بدنه، يمسي مؤمنا ويصبح كافرا، ويصبح كافرا ويمسي مؤمنا) قالوا: لهذا سألناك، فما تقول في أبي بكر وعمر؟ فأثنى عليهما خيرا، فقالوا: ما تقول في عثمان في أول خلافته، وفي آخرها؟ قال: إنه كان محقا في أولها، وآخرها. قالوا: فما تقول في علي قبل التحكيم، وبعده؟ قال: أقول إنه أعلم بالله منكم، وأشد توقيا على دينه، وأنفذ بصيرة، فقالوا: إنك تتبع الهوى، وتوالي الرجال على أسمائها، لاعلى أفعالها، والله لنقتلنك قتلة ماقتلناها أحدا، فأخذوه فكتفوه، ثم أقبلوا به وبامرأته وهي حبلى، فنزلوا تحت نخل مثمر، فسقط منه رطبة، فأخذها أحدهم فلاكها في فيه، فقال له آخر: أخذتها بغير حلها وبغير ثمن، فألقاها؛ ثم مر بهم خنزير فضربه أحدهم بسيفه، فقالوا: هذا فساد في الأرض، فلقي صاحب الخنزير ـ وهو من أهل الذمة ـ فأرضاه.
فلما رأى ذلك ابن الخباب، قال: لئن كنتم صادقين فيما أرى، فما علي بأس، ما أحدثت في الإسلام حدثا، ولقد أمنتموني؛ فأضجعوه وذبحوه، وأقبلوا إلى امرأته، فقالت: أنا امرأة، ألا تتقون الله، فبقروا بطنها؛ وقتلوا أم سنان الصيداوية، وثلاثا من النساء، فلما بلغ ذلك عليا، بعث الحارث بن مرة العبدي يأتيه بالخبر، فلما دنا منهم قتلوه. فألح الناس على علي في قتالهم، وقالوا نخشى أن يخلفونا في عيالنا وأموالنا، فسر بنا إليهم، وكلمه الأشعث بمثل ذلك، واجتمع الرأي على حربهم، وسار علي يريد قتالهم، فلقيه منجم في مسيرة، فأشار عليه أن يسير في وقت مخصوص، وقال إن سرت في غيره، لقيت أنت وأصحابك ضررا شديدا؛ فخالفه علي في الوقت الذي نهاه عنه.
فلما وصل إليهم، قالوا: ادفعوا إلينا قتلة إخواننا نقتلهم، ونترككم، فلعل الله أن يقبل بقلوبكم، ويردكم إلى خير ما أنتم عليه؛ فقالوا: كلنا قتلهم، وكلنا مستحل لدمائهم ودمائكم.
وخرج إليهم قيس بن سعد بن عبادة، فقال: عباد الله، أخرجوا إلينا طلبتنا منكم، وادخلوا في هذا الأمر الذي خرجتم منه، وعودوا بنا إلى قتال عدونا، فإنكم ر كبتم عظيما من الأمر، تشهدون علينا بالشرك، وتسفكون دماء المسلمين.
فقال له عبد الله بن شجرة السلمي: إن الحق قد أضاء لنا، فلسنا متابعيكم، أو تأتونا بمثل عمر؟ فقال: مانعلمه غير صاحبنا، فهل تعلمونه فيكم؟ قالوا: لا، قال: نشدتكم الله في أنفسكم أن تهلكوها، فإني لاأرى الفتنة إلا وقد غلبت عليكم. وخطبهم: أبو أيوب الأنصاري، فقال: عباد الله، إنا وإياكم على الحال الأولى التي كنا عليها، ليست بيننا وبينكم فرقة، فعلام تقاتلوننا عليه؟ فقالوا: إن تابعناكم اليوم حكمتم الرجال غدا؛ فقال: فإني أنشدكم الله، أن تعجلوا فتنة العام، مخافة مايأتي في القابل.
وأتاهم علي رضي الله عنه، فقال: أيتها العصابة، التي أخرجها عداوة المراء واللجاجة، وصدها عن الحق الهوى، وطمح بها النزق، وأصبحت في الخطب العظيم، إنني نذير لكم: أن تصبحوا تلعنكم الأمة غدا صرعى، بأثناء هذا النهر، وبأهضاب هذا الغائط، بغير بينة من ربكم، ولا برهان.
ألم تعلموا أني نهيتكم عن الحكومة، ونبأتكم أنها مكيدة، وأن القوم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، فعصيتموني، فلما فعلتم: أخذت على الحكمين، واستوثقت أن يحييا ما أحيا القرآن، ويميتا ما أمات القرآن، فاختلفا، وخالفا حكم الكتاب، فنبذنا أمرهما، فنحن على الأمر الأول، فمن أين أتيتم؟
قالوا: إنا حكمنا فلما حكمنا أثمنا، وكنا بذلك كافرين، وقد تبنا، فإن تبت فنحن معك ومنك، فإن أبيت فإنا منابذوك على سواء.
قال علي: أصابكم حاصب، ولا بقي منكم دابر؛ بعد إيماني برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهجرتي معه، وجهادي في سبيل الله، أشهد على نفسي بالكفر؟ لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين.
وقيل: كان من كلامه ـ ياهؤلاء، إن أنفسكم قد سولت لكم فراقي بهذه الحكومة، التي أنتم ابتدأتموها وسألتموها، وأنا لها كاره، وأنبأتكم أن القوم إنما طلبوها مكيدة، ووهنا، فأبيتم علي إباء المخالفين، وعندتم علي عنود النكداء العاصين، حتى صرفت رأيي إلى رأيكم، رأي معاشر، والله أخفاء الهام، سفهاء الأحلام، فما آتى لا أبالكم هجرا؟!. والله ماحلت عن أموركم، ولا أخفيت شيئا من هذا الأمر عنكم، ولا أوطأتكم عشوى، ولا أدنيت لكم ضرا، وإن كان أمرنا لأمر المسلمين ظاهرا فأجمع رأي ملئكم: أن اختاروا رجلين، فأخذنا عليهما أن يحكما بالحق، ولا يعدوانه، فتركا الحق وهما يبصرانه، وكان الجور هواهما، والتقية دينهما، حتى خالفا سبيل الحق، واتيا بما لايعرف.
فبينوا لنا بم تستحلون قتالنا؟ والخروج عن جماعتنا، وتصفون سيوفكم على عواتقكم، ثم تستعرضون الناس تضربون رقابهم؟ إن هذا هو الخسران المبين؛ والله لئن قتلتم على هذا دجاجة، لعظم عند الله قتلها، فكيف بالنفس التي قتلها عند الله حرام؟! فتنادوا: أن لاتخاطبوهم ولا تكلموهم، وتهيئوا للقاء الله الرواح، الرواح، إلى الجنة، فرجع علي عنهم.
ثم إنهم قصدوا جسر النهر، فظن الناس أنهم عبروه، فقال علي: لم يعبروه، وإن مصارعهم لدون النهر، والله لايقتلون منكم عشرة، ولا يسلم منهم عشرة، فتعبأ الفريقان للقتال، فناداهم أبو أيوب فقال: من جاء هذه الراية فهو آمن، ومن انصرف إلى الكوفة أو إلى المدائن، وخرج من هذه الجماعة، فهو آمن، فانصرف فروة بن نوفل الأشجعي، في خمسمائة فارس، وخرجت طائفة أخرى متفرقين.
فبقي مع عبد الله بن وهب ألف وثمان مائة، فزحفوا إلى علي، وبدؤوه بالقتال، وتنادوا: الرواح الرواح إلى الجنة، فاستقبلت الرماة من جيش علي، بالنبل والرماح والسيوف، ثم عطفت عيهم الخيل، من الميمنة والميسرة، وعليها أبو أيوب الأنصاري، وعلى الرجالة أبو قتادة الأنصاري، فلما عطفت عليهم الخيل والرجال، وتداعى عليهم الناس، ما لبثوا أن أناموهم فماتوا في ساعة واحدة، فكأنما قيل لهم موتوا فماتوا.
وقتل ابن وهب، وحرقوص، وسائر سراتهم، وفتش علي في القتلى والتمس المخدج، الذي وصفه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الخوارج، فوجده في حفرة على شاطئ النهر، فنظر إلى عضده، فإذا لحم مجتمع كثدي المرأة، وحلمته عليها شعرات سود، فإذا مدت امتدت حتى تحاذي يده الطولى، فلما رآها، قال: الله أكبر، والله ماكَذَبت، ولا كُذِبت، والله لولا أن تنكلوا عن العمل، لأخبرتكم بما قضى الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، لمن قاتلهم متبصرا في قتالهم، عارفا للحق الذي نحن عليه.
وقال حين مر بهم صرعى: بؤسا لكم، لقد ضركم من غركم، قالوا: يا أمير المؤمنين، من غرهم؟ قال: الشيطان، ونفس أمارة بالسوء، غرتهم بالأماني، وزينت لهم المعاصي، ونبأتهم أنهم ظاهرون.
هذا ملخص أمرهم، وقد عرفت شبهتهم، التي جزموا لأجلها بكفر علي، وشيعته، ومعاوية وأصحابه، وبقي معتقدهم في أناس متفرقين، بعد هذه الوقعة، وصار غلاتهم يكفرون بالذنوب، ثم اجتمعت لهم شوكة ودولة، فقاتلهم المهلب بن أبي صفرة، وقاتلهم الحجاج بن يوسف، وقاتلهم قبله ابن الزبير زمن أخيه عبد الله، وشاع عنهم التكفير بالذنوب، يعني مادون الشرك، انتهى ماذكره شيخنا.
فتأمل رحمك الله: مافي هذه القصة من الأمور، التي خاطبوا بها أمير المؤمنين، علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وما أجابهم به، فمن نصح نفسه وأراد نجاتها، فليتأمل مافي كلامهم من إرادة الخير، وطلبه والعمل به، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنهم مافعلوا ذلك إلا ابتغاء رضوان الله.
ولكن: لما كان هذا منهم غلوا في الدين، ومجاوزة للحد الذي أمروا به، حتى كفروا معاوية رضي الله عنه، ومن معه من الصحابة، والتابعين، وكفروا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومن معه من أفاضل الصحابة والتابعين، لما وافقهم في تحكيم الحكمين.
ثم زعموا: أن تحكيم الرجال في دين الله كفر يخرج من الملة، وأنهم قد أثموا بذلك وكفروا، فتابوا من هذا الأمر، وقالوا لعلي إن تبت فنحن معك ومنك، وإن أبيت، فإنا منابذوك على سواء.
فإذا تبين لك: أن مافعلوه إنما هو إحسان ظن بقرائهم، الذين غلوا في الدين، وتجاوزوا الحد في الأوامر والنواهي، وأساؤوا الظن بعلماء الصحابة، الذين هم أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، ولإظهار دينه.
فلما لم يعرفوا لهم فضهلم، ولم يهتدوا بهديهم، ضلوا عن الصراط المستقيم، الذي كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وزعموا أنهم داهنوا في الدين، والذي حملهم على ذلك أخذهم بظواهر النصوص في الوعيد، ولم يهتدوا لمعانيها وما دلت عليه، فوضعوها في غير مواضعها، وسلكوا طريقة التشديد، والتعسير والضيق، وتركوا ماوسع الله لهم من التيسير الذي أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: “إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين”.
ولهذا كان أمير المؤمنين: علي رضي الله عنه، يسير فيهم بهذه الطريقة، ويناصحهم لله وفي الله، ويتلطف لهم في القول، لعل الله أن يقبل بقلوبهم، وأن يرجعوا إلى ماكانوا عليه أولا؛ ويراجعهم المرة بعد المرة، كما قاله في خطبته إياهم لما خطبهم، فقالوا:لاحكم إلا لله، يريدون بهذا إنكار المنكر،على زعمهم.
فقال علي:الله أكبر،كلمة حق أريد بها باطل، أما إن لكم علينا ثلاثا، ماصحبتونا: لانمنعكم مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، ولا نمنعكم الفيء مادامت أيديكم مع أيدينا،ولا نقاتلكم حتى تبدؤونا، وإنا ننتظر فيكم أمر الله.
ولما قيل له: يا أمير المؤمنين، أكفار هم؟ قال: من الكفر فروا؛
فقالوا: أفمنافقون هم؟ قال: إن المنافقين لايذكرون الله إلا قليلا، وهؤلاء يذكرون الله كثيرا؛
قالوا: فما هم؟قال: إخواننا بغواعلينا.
فهذه سيرته رضي الله عنه، مع هؤلاء المبتدعة الضلال، مع قوله لأصحابه: والله لولا أن تنكلوا عن العمل، لأخبرتكم بما قضى الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم لمن قاتهلم متبصرا في قتالهم، عارفا للحق الذي نحن عليه، ومع علمه بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم (يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، ثم لايرجعون إليه حتى يرجع السهم إلى فوقه) ومع قوله صلى الله عليه وسلم فيهم: (إينما لقيتموهم فافتلوهم، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد) مع كونهم من أكثر الناس عبادة وتهليلا، حتى إن الصحابة يحقرون أنفسهم عندهم،وهم إنما تعلموا العلم من الصحابة.
فعلى من نصح نفسه، وأراد نجاتها:أن يعرف طريقة هؤلاء القوم، وأن يجتنبها، ولا يغتر بكثرة صلاتهم، وصيامهم وقراءتهم، وزهدهم في الدنيا، وأن يعرف سيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كانوا عليه من ا لهدى ودين الحق، الذي فضلوا به على من بعدهم، وعدم تكلفهم في الأقوال والأفعال، لعله أن يسلم من ورطات هؤلاء الضلال، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وصلى الله على محمد.
المرجع: الدرر السنية 9/212ـ232
****************************
وأريد أن أعيد بعض العبارات لعل الله أن ينفع بها أولئك الشباب الذين لاهم لهم إلا الطعن في كبار العلماء، وتكفير الحكام، نسأل الله لنا ولهم الهداية.
فخذوا العبرة من هذه القصة، وإليكم بعض الأمور التي ينبغي للعاقل أن يقف عندها ويتأمل فيها:
1ـ (((وخطب علي ذات يوم، فقالوها في جوانب المسجد، فقال علي: الله أكبر، كلمة حق أريد بها باطل؛ فوثب يزيد بن عاصم المحاربي، فقال: الحمد لله غير مودع ربنا، ولا مستغنى عنه ، اللهم إنا نعوذ بك من إعطاء الدنية في ديننا، فإن إعطاء الدنية في الدين إدهان في أمر الله، وذل راجع بأهله إلى سخط الله؛ ياعلي: أبالقتل تخوفنا؟ أما والله إني لأرجو أن نضربكم بها عما قليل غير مصفحات، ثم لتعلم أينا أولى بها صليا))).
ومن هذا نستفيد أنهم رجال أقوياء! يصدعون بما يعتقدونه، ويرون أنهم على الحق في الدنيا والآخرة، فهم المجاهدون حقا!!!.
2ـ (((ثم إن الخوراج لقي بعضهم بعضا، واجتمعوا في منزل عبد الله بن وهب الراسبي، فخطبهم وزهدهم في الدنيا، وأمرهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ ثم قال: اخرجوا بنا من هذه القرية الظالم أهلها، إلى بعض كهوف الجبال، أو إلى بعض هذه المدائن، منكرين لهذه البدع المضلة.
فقال حرقوص بن زهير: إن المتاع في هذه الدنيا قليل، وإن الفراق لها وشيك، فلا تدعونكم بزينتها وبهجتها إلى المقام بها، ولا تكفنكم عن طلب الحق وإنكار الظلم، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون))).
وفي هذا الكلام عبرة لكل معتبر بأن هؤلاء زهدوا في الدنيا، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ـ حسب فهمهم ـ وينكرون الظلم ـ حسب زعمهم ـ وقارنوا بين فعل هؤلاء وكلامهم، وبين مايقوم به من يزعم الإصلاح، في قناة الإفساد، وأنه إنما ينشر معايب ومساوئ الحكام في السعودية من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ورفع الظلم، فتشابهت قلوبهم، نسأل الله العافية في ا لدنيا والآخرة.
3ـ (((فعرضوا ولايتهم على زيد بن حصين الطائي، وعرضوها على حرقوص بن زهير، فأبياها، وعلى حمزة بن سنان وشريح بن أوفى العبسي، فأبيا، ثم عرضوها على عبد الله بن وهب، فقال: هاتوها أما والله لا آخذها رغبة في الدنيا، ولا أدعها فرارا من الموت، فبايعوه…))).
تأملوا بين هذا الكلام في زهدهم في الدنيا وعدم طلبهم للمناصب، وبين مايقوله بعض الناس عن فلان بأنه ترك الدنيا والأموال من أجل الله !!، فليست العبرة بالألفاظ، أو الأفعال التي ظاهرها حب الآخرة وكره الدنيا، وإنما العبرة بالتمسك بمنهج وعقيدة أهل السنة والجماعة.
4ـ (((ثم إن الخوارج استقر أمرهم، وبدؤوا بسفك الدماء، وأخذوا الأموال، وقتلوا عبد الله بن خباب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجدوه سائرا بامرأته على حمار، فانتهروه، وأفزعوه، … ـ إلى أن قالوا ـ: فما تقول في أبي بكر وعمر؟ فأثنى عليهما خيرا، فقالوا: ما تقول في عثمان في أول خلافته، وفي آخرها؟ قال: إنه كان محقا في أولها، وآخرها.
قالوا: فما تقول في علي قبل التحكيم، وبعده؟ قال: أقول إنه أعلم بالله منكم، وأشد توقيا على دينه، وأنفذ بصيرة،
فقالوا: إنك تتبع الهوى، وتوالي الرجال على أسمائها، لاعلى أفعالها، والله لنقتلنك قتلة ماقتلناها أحدا، فأخذوه فكتفوه، ثم أقبلوا به وبامرأته وهي حبلى، فنزلوا تحت نخل مثمر، فسقط منه رطبة، فأخذها أحدهم فلاكها في فيه، فقال له آخر: أخذتها بغير حلها وبغير ثمن، فألقاها؛ ثم مر بهم خنزير فضربه أحدهم بسيفه، فقالوا: هذا فساد في الأرض، فلقي صاحب الخنزير ـ وهو من أهل الذمة ـ فأرضاه. فلما رأى ذلك ابن الخباب، قال: لئن كنتم صادقين فيما أرى، فما علي بأس، ما أحدثت في الإسلام حدثا، ولقد أمنتموني؛ فأضجعوه وذبحوه، وأقبلوا إلى امرأته، فقالت: أنا امرأة، ألا تتقون الله، فبقروا بطنها؛ وقتلوا أم سنان الصيداوية، وثلاثا من النساء))).
وفي هذا أقول: ثم إن (…) بدأوا بالتفجير والتكفير، وطعنوا في الشباب الذين يأخذون عن العلماء وقالوا لهم كما قال إخوانهم من قبل لعبد الله بن خباب: إنك تتبع الهوى، وتوالي الرجال على أسمائها، لاعلى أفعالها، والله المستعان.
5ـ تكلم علي رضي الله عنه معهم بكلام طويل، نأخذ جزءا مما قاله، وما ردوا به، حيث قال لهم:
(((فبينوا لنا بم تستحلون قتالنا؟ والخروج عن جماعتنا، وتصفون سيوفكم على عواتقكم، ثم تستعرضون الناس تضربون رقابهم؟ إن هذا هو الخسران المبين؛ والله لئن قتلتم على هذا دجاجة، لعظم عند الله قتلها، فكيف بالنفس التي قتلها عند الله حرام؟!
فتنادوا: أن لاتخاطبوهم ولا تكلموهم، وتهيئوا للقاء الله الرواح، الرواح، إلى الجنة، فرجع علي عنهم))).
فسبحان الله، ما أشبه الليلة بالبارحة، فهؤلاء المفجرين في ديار المسلمين، قام العلماء والدعاة إلى الله، والمسئولين بمناداتهم أن يرجعوا عن غيهم وضلالهم، ومع ذلك يتنادون للجهاد في ديار المسلمين، وفي بلاد الحرمين، ويمنون أنفسهم بجنات عرضها السماوات والأرض، كما كان إخوانهم من قبل مع أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، وتنادوا الرواح الرواح إلى الجنة!!؛ وهم كلاب أهل النار، فنسأل الله النجاة النجاة، وسلوك طريق أهل السنة والجماعة، والبعد عن منهج الخوارج والبغاة.
وأخيرا أكرر جزءا مهما مما قاله الشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله:
فإذا تبين لك: أن مافعلوه إنما هو إحسان ظن بقرائهم، الذين غلوا في الدين، وتجاوزوا الحد في الأوامر والنواهي، وأساؤوا الظن بعلماء الصحابة، الذين هم أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، ولإظهار دينه.
فلما لم يعرفوا لهم فضهلم، ولم يهتدوا بهديهم، ضلوا عن الصراط المستقيم، الذي كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وزعموا أنهم داهنوا في الدين، والذي حملهم على ذلك أخذهم بظواهر النصوص في الوعيد، ولم يهتدوا لمعانيها وما دلت عليه، فوضعوها في غير مواضعها، وسلكوا طريقة التشديد، والتعسير والضيق، وتركوا ماوسع الله لهم من التيسير الذي أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: “إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين”.


رابط الموضوع : http://www.assakina.com/book/14430.html#ixzz2vXtmhZ5T

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق