معالم في فقه الاختلاف
* وقوع الاختلاف أمر قدري كوني .
قال تعالى {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ …}.
والخلاف أمر متوقع لا غرابة فيه لكون الناس متباينين في قدراتهم وعقولهم وأفهامهم وأهوائهم .
لكن الخلاف في مجمله يقود إلى الشر كما قال ابن مسعود رضي الله عنه:( الخلاف شر ).
ولهذا فقد وضع الله تعالى الصراط المستقيم هداية للناس إلى الحق وأمرهم أن يسألوه التوفيق إلى هذا الصراط سبعة عشر مرة في اليوم والليلة ، وحرصت الشريعة على الألفة ووحدة الصف وبينت ضوابط الاختلاف وأسس التعامل بين المختلفين وكيفية الوصول إلى الحق .
*معنى الاختلاف :
يقول الجرجاني:(هو منازعة تجري بين المتعارضين لتحقيق حق أو لإبطال باطل).
( التعريفات / حرف الخاء ).
ويقول الفيروز أبادي في تعريف الاختلاف: أن يأخذ كل واحد طريقاً غير طريق الآخر في حاله أو فعله. [بصائر ذوي التمييز 2/562].
*- أنواع الاختلاف :
أـ الاختلاف المذموم : كخلاف المشركين والكفار للحق .
وسبب هذا الخلاف : اتباع حظ النفس والتقليد الأعمى للآباء والأجداد { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ }. ومن أسبابه : الحسد والبغضاء كما قال تعالى { وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
ومن الاختلاف المذموم : الخلاف الذي يكون بين المسلمين في قطعيات العقيدة وأصول الشريعة والمسلمات الفقهية والمعلوم من الدين بالضرورة ، وهو فرع من الاختلاف المذموم . ومنه خلاف الخوارج والرافضة والمعتزلة والقرآنيين ، وقد يصل في بعض صوره إلى الكفر.
ب-الاختلاف الواجب : وهو مخالفة أهل الحق للمشركين والكفار وأهل الضلال في عباداتهم وأحوالهم . فهذه مخالفة ممدوحة ومحمودة شرعاً بل هي مقصد شرعي.
ج-الاختلاف غير السائغ : ومنشؤه الاختلاف في الآراء والمواقف ، وجعل ذلك سبباً للتبديع أو التضليل أو الاتهام في النوايا .
وهذا النوع هو الذي يؤدي إلى فرقة الأمة وتشرذمها، وجاءت النصوص القرآنية والنبوية في التحذير منه، كقوله تعالى { وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ }.وقوله{وَلاَ تَنَـٰزَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ }.وقوله {وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَٱخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ ٱلْبَيّنَـٰتُ }.
ومن أهم أسباب هذا الاختلاف : اتباع الهوى : فتجد أحدهم يوالي من يوافقه على هواه ويعادي من يخالفه في هواه ، قال تعالى{ أفرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا}.
والنفس مشحونة بحب العلو والرياسة وإن خفي ذلك على صاحبها ، كما قال شداد بن أوس : (يا بقايا العرب ، إن أخوف ما أخاف عليكم : الرياء والشهوة الخفية ، قيل لأبي داود السجستاني ، صاحب السنن ، وما الشهوة الخفية ؟ . قال : حب الرئاسة ، فهي تخفى على الناس ، وقد تخفى على صاحبها).( مجموع الفتاوى 16 / 346 ).
ومن علامات اتباع الهوى : محبة من يعظمه بقبول رأيه أو الاستماع له أكثر من غيره ، وإن كان ذلك الغير أتقى لله وأكثر علماً وأعمق فقهاً. وربما أبغض من يشاركه في العلم والاتباع حسداً وبغياً ، كما أنكرت اليهود نبوة محمد صلى الله عليه و سلم حسداً وبغياً رغم يقينهم بصدق رسالته .
وربما وقف صاحب الهوى في وجه من يخالفه ليصده عن الدعوة وبيان الحق للناس بحجة التحذير منه والتنفير من رأيه ، ويرميه بالألقاب المكروهة المنفرة والله تعالى يقول { ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان } ، والنبي صلى الله عليه و سلم يقول :” المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده “. لكن صاحب الهوى يزعم أنه بسبه وطعنه ولمزه ، مصلح يحارب الفساد والإفساد ، ونسي أن فعله عبن الفساد والإفساد.
قال الله تعالى عن فرعون {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ } .
فأهل الهوى يقلبون الحقائق ، ليصبح المفسد مصلحاً والمصلح مفسداً.
إن اتباع الهوى نوع من الشرك ، كما قال بعض السلف : ( شر إله عبد في الأرض :الهوى). لأنه يضل صاحبه عن الحق وإن كان يعرفه ، فإذا صار الهوى هو القائد والدافع ؛ صار أهله شيعاً يتعصب كل منهم لرأيه ويعادي من خالفه ، ولذلك تجد هؤلاء كلما علم أحدهم أن من يخالفه تكلم في مسألة ما أو موضوع ما ، بادر إلى الرد عليه ، بل يبذل جهده في تضليل مخالفه وتفنيد رأيه بكل ما يستطيع ولو برأي تافه أو تعسف بغيض ، دون تأمل في قول ذلك المخالف أو تلمس لوجه الصواب أو التماس عذر له فضلاً عن الدفاع عنه ، في زمن اشرأبت فيه أعناق المنافقين وتطاولوا على الدين والمسلمات وطعنوا في الثوابت والقطعيات ولمزوا أهل التدين والصلاح ، بل إن صاحب الهوى قد يوافقهم على طعنهم ولمزهم لإسقاط أهل العلم والدعوة بدلاً ن الذب عنهم وحفظ أعراضهم والنبي صلى الله عليه و سلم يقول :” من حمى مؤمناً من منافق ، حمى الله لحمه من نار جهنم يوم القيامة “. رواه أبو داود وصححه الألباني .
قال الشاطبي رحمه الله : ( كل مسألة حدثت في الإسلام فاختلف الناس فيها ولم يورث ذلك عداوة ولا بغضاء ولا فرقة ، علمنا أنها من مسائل الإسلام ، وكل مسألة طرأت فأوجبت العداوة والتنابز والتنافر والقطيعة علمنا أنها ليست من أمر الدين في شيء ، فيجب على كل عاقل أن يجتنبها ، ودليل ذلك قوله تعالى {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}.فإذا اختلفوا وتقاطعوا كان ذلك لحدث أحدثوه من اتباع الهوى ، فالإسلام يدعو إلى الألفة والتحاب والتراحم والتعاطف، وكل رأي أدى إلى خلاف ذلك فخارج عن الدين ) . (الموافقات 186 ) .
وقال شيخ الإسلام : ( كان بعض السلف يقول : ما أبالي أي النعمتين أعظم ، أن هداني الله للإسلام ، أو أن جنبني الهوى ).
وكان من آثار هذه الآفة الخطيرة أن تبلبلت أفكار كثير من الشباب . فمنهم من ضل طريق الهدى وصار يتبع ما يرسمه له متبعوا أهوائهم ووقعوا في حزبية مقيته وعصبية جاهلية منتنة. ومنهم من صار بينه وبين العلماء فجوة كبيرة ووحشة عظيمة فابتعد عنهم بل وقع في أعراضهم ، وبات يلهث خلف من يفسدون في الأرض بدعوى الإصلاح تارة بالعلمنة وتارة بالتغريب وتارة ببث روح الفرقة والشقاق في المجتمع .
ولا يخفى أن فتنة المسلم في دينه أعظم من سفك دمه{والفتنة أكبر من القتل} .
فالواجب عند الاختلاف في المسائل التحلي بالإخلاص والنصح والتجرد عن الهوى والعدل والإنصاف.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( ومعلوم أننا إذا تكلمنا فيمن هو دون الصحابة ، مثل الملوك المختلفين على الملك ، والعلماء والمشائخ المختلفين في العلم والدين ، وجب أن يكون الكلام بعلم وعدل ، لا بجهل وظلم ، فإن العدل واجب لكل أحد وعلى كل أحد وفي كل حال .
والظلم محرم مطلقاً لا يباح قط بحال قال تعالى { وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى }.
وهذه الآية نزلت في بغضهم للكفار ، وهو بغض مأمور به ، فإذا كان البغض الذي أمر الله به قد نُهي صاحبه أن يظلم من أبغضه ، فكيف في بغض مسلم بتأويل أو شبهة أو بهوى نفس ، فهو أحق ألا يظلم ، بل يعدل عليه).أ.هـ.(منهاج السنة 126 / 5) .
فالحق ليس حكراً على أحد،والخلاف في الرأي لا يجوز أن يكون سبباً للتدابر والتقاطع،وحق النقد لا يجعل الحق حكراً على الناقد.
ومما يقود إلى الخلاف المذموم : التصنيف .
فهذا إخواني وهذا سلفي ، وهذا سروري وهذا تبليغي وهذا تحريري ، إلى آخر ما هنالك من أسماء ليست من الإسلام في شيء،بل هي من الجاهلية ومدعاة التفرقة.
ورد في بعض الآثار لفظ ” السلف ” ، ولا شك أن الانتماء إلى طريقتهم واتباع هديهم شرف ما بعده شرف ، ولكن إذا استعملت هذه العبارة للتعصب والتحيز ، صارت ممقوتة.
جاء في السيرة أنه اقتتل غلامان ، غلام من المهاجرين وغلام من الأنصار ، فنادى المهاجر : يا للمهاجرين ، ونادى الأنصاري : يا للأنصار ، فخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم قائلاً : ” ما هذا ، أبدعوى الجاهلية أنا بين أظهركم ، دعوها فإنها منتنة “. رواه مسلم.
مع أن اسم المهاجرين والأنصار وردا في القرآن الكريم ورضي الله عن أهلهما وتاب عليهم وهم محبوبون لله ولرسوله صلى الله عليه و سلم.
ولكن لما استعمل هذين الاسمين لنوع من العصبية صار ذلك من فعل الجاهلية. وصارت دعوى منتنة لأنها تقود إلى التفرق والنزاع.
وقريب من هذا ما ذكره شيخ الإسلام ، ونقله عنه ابن بطة في الإبانة ( 238 ) واللالكائي ( 133 ) ، حيث قال : روينا عن معاوية رضي الله عنه أنه سأل ابن عباس رضي الله عنه أأنت على ملة علي أو ملة عثمان ؟.
فقال: لست على ملة علي ولا على ملة عثمان بل أنا على ملة رسول الله صلى الله عليه و سلم.
أما إذا كان المقصود من هذه التسميات تمييز أهل البدعة والفرقة عن أهل السنة والجماعة ، فإن التحذير لا يكون بالتسميات والتقسيمات، بل يكون بذكر أوصافهم دون تعيينهم أو تصنيفهم.
قال الشاطبي رحمه الله : ( ينبغي أن تذكر أوصاف أهل البدع ولا يعينون بأعيانهم لئلا يكون ذلك داع إلى الفرقة والوحشة وعدم الألفة التي أمر بها الله ورسوله صلى الله عليه و سلم.
قال تعالى {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا}.
وقال تعالى { فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُم}.
وفي الحديث :” لا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخواناً “.رواه البخاري.
وأمر عليه الصلاة والسلام بإصلاح ذات البين ، وأخبر أن فساد ذات البين هي الحالقة ، وأنها تحلق الدين والشريعة طافحة بهذا المعنى).أ.هـ.( الاعتصام 423 وما قبلها ) .
الله تعالى سمانا المسلمين فلا نعدل عن هذا الاسم إلى أسماء محدثة ، ولا يجوز لأحد أن يمتحن الناس بهذه الأسماء ولا يُوالى عليها ولا يُعادى عليها ، بل إن أكرم الخلق عند الله أتقاهم { إن أكرمكم عند الله أتقاكم }.
* إن الاجتماع وتوحيد الكلمة بين المسلمين من أوجب الواجبات خصوصاً في هذا الزمان الذي تتعرض فيه الأمة لغزو شرس وهجمة وحشية تستهدف دينها ووجودها وتميزها وجميع جوانب الحياة فيها.
ولقد نعى الله تعالى على أهل الكتاب تفرقهم، واختلاف كلمتهم، وتغاير قلوبهم، بل عد هذا من صفات المشركين الذين نُهينا عن التشبه بهم وأُمرنا بمخالفة هديهم .
فقال تعالى { وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون}.
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسرا**وإذا افترقن تكسـرت آحـادا
فمن قواعد الشرع ومقتضيات الإيمان والاعتصام بحبل الله : الوحدة والألفة والتعاون على الحق وعلى البر والتقوى والتكاتف والتعاضد .
عن أبي موسى رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم:” المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً، ثم شبك بين أصابعه”. متفق عليه.
يقول القرطبي رحمه الله :( فواجب على الناس التعاون ، فالعالم يعين بعلمه والغني بماله والشجاع بشجاعته في سبيل الله ، وأن يكون المسلمون متظاهرين كاليد الواحدة ، فالمؤمنون تتكافأ دماؤهم ، ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم ). (التفسير 6 / 47 ).
وإن مخالفة هذا الأصل العظيم تورث الشقاق والاختلاف كما قال تعالى {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاق }.
فالله تعالى أوجب أن نجعل اجتماعنا ووحدتنا حول دينه وكتابه لا حول حزبيات تشرذم وتسميات تفرق ومذاهب مضللة وجاهلية منتنة.
وبالتأمل في تاريخ الأمة الطويل نجد أن الخلاف قد وقع بين المسلمين لكنه كان في مجمله خلافاً سائغاً في فروع العقيدة لا في أصولها كرؤية الرسول صلى الله عليه و سلم ربه ليلة المعراج، وكنه المعراج بالنبي صلى الله عليه و سلم هل هو بالروح أم بالجسد ، وفي فروع الفقه ، ومنه خلاف المذاهب الفقهية .
ولأن هذا الخلاف مما يسوغ ، فإنه لم يكن يوماً سبباً لشر أو فرقة أو تشرذم أو تنافر.
ولذا يجب التفريق بين هذا النوع من الاختلاف السائغ وبين غيره من أنواع الاختلاف المذمومة:
- فالاختلاف السائغ لا يكون في المسائل الأصولية في الدين، العقدية منها والفقهية، كالوحدانية وأصول الإيمان، وحجية السنة، وفرضية الصلاة أو فرضية الوضوء للصلاة ووجوب الصوم والحج وعدد ركعات الصلاة .
فمثل هذه المسائل تضافرت الأدلة الصحيحة الصريحة في الكتاب والسنة على إثباتها.
- الاختلاف السائغ لا يكون في المسائل التي انعقد الإجماع فيها كعلو الله عز وجل وكلامه ، فإن وقع خلاف من مجتهد في مثل هذا فهو اجتهاد يعذر فيه لكن لا نسوغه.
يقول ابن تيمية:( وقوع الغلط في مثل هذا ــــ يعني علو الله على خلقه ــــ يوجب ما نقوله دائماً: إن المجتهد في مثل هذا من المؤمنين إن استفرغ وسعه في طلب الحق فإن الله يغفر له خطأه، وإن حصل منه نوع تقصير فهو ذنب .
فمن أخطأ في بعض مسائل الاعتقاد من أهل الإيمان بالله وبرسوله وباليوم الآخر والعمل الصالح لم يكن أسوأ حالاً من هذا الرجل (الذي طلب من أهله إحراقه إذا مات) فيغفر خطأه ، أو يعذبه إن كان منه تفريط في اتباع الحق على قدر دينه ) أ . هـــ . (الاستقامة 1/163).
ويقول رحمه الله أيضاً:( من خالف الكتاب المستبين، والسنة المستفيضة، أو ما أجمع عليه سلف الأمة خلافاً لا يعذر فيه، فهذا يعامل بما يعامل به أهل البدع ) . (الفتاوى: 4/172–173).
ويقول الذهبي: ( ومن عاند أو خرق الإجماع فهو مأزور).(السير 19/322).
-ومن علامات الاختلاف السائغ:أن يكون القول صادراً عن اجتهاد ونظر في الأدلة الشرعية المعتبرة بقصد الوصول إلى الحق الذي أراده الله ورسوله صلى الله عليه و سلم.
فلا عبرة لمن صدر في رأيه عن العقل أو الرؤى المنامية أو الهوى أو العصبية. قال الشاطبي: (الاجتهاد الواقع في الشريعة ضربان، أحدهما الاجتهاد المعتبر شرعاً، وهو الصادر عن أهله الذين اضطلعوا بمعرفة ما يفتقر الاجتهاد إليه.والثاني: غير المعتبر، وهو الصادر عمن ليس بعارف بما يفتقر الاجتهاد إليه، لأن حقيقته أنه رأي بمجرد التشهي .فكل رأي صادر عن هذا الوجه فلا مرية في عدم اعتباره، لأنه ضد الحق … ) . (الموافقات:4/167).
*وللاختلاف السائغ أسباب . منها :
-اختلاف العلماء في حجية بعض المصادر الفقهية أو اختلافهم في رتبة الاحتجاج بها كما في خلاف الفقهاء في حجية القراءات الشاذة والحديث المرسل والاستحسان وشرع من قبلنا وإجماع أهل المدينة.
-اختلافهم في فهم النصوص. كما في قوله { أَوْ لَـٰمَسْتُمُ ٱلنّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيّباً} .
فسرها الجمهور بأنها الجماع، ولم يجعلوا لمس المرأة مما ينقض الوضوء، فيما أخذ الشافعي بظاهرها فجعل مجرد لمس المرأة ناقضاً للوضوء.
-الاختلاف في فهم علة الحكم كما في الخلاف في مشروعية القيام للجنازة ــــ قبل أن ينسخ ــــ هل هو للمؤمن أم للكافر؟
وهل يقام تعظيماً للملائكة أم لهول الموت؟
أم أنه خاص بالكافر حتى لا تعلو جنازة الكافر رأس المسلم؟.
-الجهل بالدليل لعدم بلوغه، كما خفي على عمر رضي الله عنه حكم دخول أرض الطاعون، بل وعلى كثير من الصحابة ، فاختلفوا حتى أخبرهم عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه بنهي النبي صلى الله عليه و سلم عن ذلك.
-عدم الوثوق بصحة الدليل : فقد يضعَّف العالم حديثاً ، ومن ثم لا يعتد به ، بينما يصححه الآخرون ويعملون به ، وقد تكون أسباب التصحيح والتضعيف : الاختلاف في تعديل أحد الرواة، أو لعلة يراها في السند أو المتن تجعل الرواية شاذة أو لغير ذلك من أسباب رد الرواية مما هو مسطر في كتب علم الحديث.
ومن ذلك قصة عمر رضي الله عنه مع فاطمة بنت قيس حين رد حديثها بقوله: (لا نترك كتاب الله وسنة نبينا صلى الله عليه و سلم لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أو نسيت) . رواه مسلم .
- الاختلاف في دلالات الألفاظ والنصوص لكون اللفظ مشتركاً أو مجملاً كقوله صلى الله عليه و سلم : ” لا طلاق ولا عتاق في إغلاق”. رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه وهو صحيح .
فقد اختلفوا في تفسير الإغلاق ففسره بعضهم بالإكراه، وآخرون بالغضب، وآخرون بغياب العقل لشدة الغضب. وتبعاً لذلك اختلف الفقهاء في بعض أحكام الطلاق.
ومثله قد وقع من الصحابة عام الخندق كما في الصحيحين عندما قال صلى الله عليه و سلم لأصحابه: ” لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة” رواه البخاري ومسلم .
فتمسك بعضهم بظاهر النص ففاتتهم الصلاة، وتمسك الآخرون بمفهوم النص والمراد منه، وهو الإسراع فصلوا وهم في الطريق، قال ابن عمر: (ولم يعنف النبي صلى الله عليه و سلم واحداً منهم).
ما هو موقفنا من هذا الخلاف ؟.
يقول سماحة العلامة ابن عثيمين رحمه الله :( موقفنا من هؤلاء يكون على وجهين :
الأول : كيف خالف هؤلاء الأئمة لما يقتضيه الكتاب وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم وهذا يمكن أن يُعرَف الجواب عنه بمعرفة أسباب الخلاف ـــ التي بينا جزءاً منها ـــ .
الثاني: ما هو موقفنا من اتباعهم ؟.
ومن يتبع الإنسان من هؤلاء؟.
أيتبع إماماً لا يخرج عن قوله ، ولو كان الصواب مع غيره كعادة المتعصبين للمذاهب ، أم يتبع ما ترجح عنده من دليل ولو كان مخالفاً لمن ينتسب إليه من هؤلاء الأئمة ؟.
الجواب هو الثاني فالواجب على من علم بالدليل أن يتبع الدليل ولو خالف من خالف من الأئمة ، إذا لم يخالف إجماع الأمة ، ومن اعتقد أن أحداً غير رسول الله صلى الله عليه و سلم يجب أن يؤخذ بقوله فعلاً وتركاً بكل حال وزمان ، فقد شهد لغير رسول الله صلى الله عليه و سلم بخصائص الرسالة ، لأنه لا يمكن أحداً أن يكون هذا حكم قوله إلا رسول الله صلى الله عليه و سلم ، ولا أحد إلا يؤخذ من قوله ويترك سوى رسول الله صلى الله عليه و سلم).
ويتابع رحمه الله : ( ولكن يبقى الأمر فيه نظر ، لأننا لا نزال في دوامة، من الذي يستطيع أن يستنبط الأحكام من الأدلة ؟.
هذه مشكلة ، لأن كل واحد يقول أنا صاحبها ، وهذا في الحقيقة ليس بجيد ، نعم من حيث الهدف والأصل ، هو جيد أن يكون رائد الإنسان كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم ، لكن كوننا نفتح الباب لكل من عرف أن ينطق بالدليل ، وإن لم يعرف معناه وفحواه ، فنقول له : أنت مجتهد تقول ما شئت ، هذا يحصل فيه فساد الشريعة وفساد الخلق والمجتمع…).أ . هـ . ( من رسالة : الخلاف بين العلماء ، أسبابه وموقفنا منه . 24 ــ 26 بتصرف يسير ) .
*ضوابط الاختلاف :
1- إحسان الظن بالعلماء وأن لا يعتقد أنهم تعمدوا ترك الحق الذي بان له ـــــ وقد يكون هو المخطئ ـــــ ، وعليه فلا يحكم بهلكتهم في خلافهم له ، بل يلتمس لهم العذر في ذلك.
قال صلى الله عليه و سلم: ” إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فأخطأ فله أجر”. رواه البخاري ومسلم .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ( وكثير من مجتهدي السلف والخلف قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة ولم يعلموا أنه بدعة، إما لأحاديث ضعيفة ظنوها صحيحة، وإما لآيات فهموا منها ما لم يُرد منها، وإما لرأي رأوه، وفي المسألة نصوص لم تبلغهم، وإذا اتقى الرجل ربه ما استطاع دخل في قوله {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } وفي الصحيح يقول الله عز وجل : ” قد فعلت” رواه مسلم. ( الفتاوى 19/286).
ومنه قول علي رضي الله عنه لعمر بن طلحة بن عبيد الله ، وكان بينه وبين طلحة رضي الله عنه خلاف يوم الجمل: (إني لأرجو أن يجعلني الله وأباك في الذين قال الله عز وجل فيهم { وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَـٰبِلِينَ }. رواه الحاكم والبيهقي في السنن .
قال يحيى بن سعيد الأنصاري : ( ما برح أولو الفتوى يختلفون، فيحل هذا ويحرم هذا، فلا يرى المحرّم أن المحل هلك لتحليله، ولا يرى المحل أن المحرم هلك لتحريمه ) .(جامع بيان العلم 2/80 ).
ويقول الذهبي عن التابعي قتادة السدوسي: ( كان يرى القدر نسأل الله العفو .. ولعل الله يعذر أمثاله ممن تلبس ببدعة يريد بها تعظيم الباري وتنزيهه وبذل وسعه إذا كثر صوابه ، وعُلم تحريه للحق، واتسع علمه وظهر ذكاؤه وعرف صلاحه وورعه واتباعه يغفر له زللـه، ولا نضلله ونطرحه وننسى محاسنه، نعم ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك ). (سير الأعلام 7/271).
وفي أصحاب الخلاف الشاذ (الذين أحلوا نكاح المتعة وربا الفضل وشرب النبيذ ) يقول ابن تيمية في تحقق النصوص الشرعية التي جاءت بالوعيد لمن صنع ذلك:( فلا يجوز أن يقال: إن هؤلاء مندرجون تحت الوعيد، لما كان لهم العذر الذي تأولوا به، أو لموانع أخرى). (رفع الملام عن الأئمة الأعلام ص66).
2- ومن الضوابط : أن لا يؤدي الاختلاف إلى جفوة وفتنة بين المختلفين، وفي ذلك يقول شيخ الإسلام: ( كانوا يتناظرون في المسائل العلمية والعملية مع بقاء الألفة والعصمة وأخوة الدين، ولو كان كلما اختلف مسلمان في شيء تهاجرا لم يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوة). (الفتاوى: 4/172–173).
ويقول يونس الصدفي:( ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يوماً في مسألة ثم افترقنا ولقيته فأخذ بيدي ثم قال: يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة ).قال الذهبي:(هذا يدل على كمال عقل هذا الإمام وفقه نفسه، فما زال النظراء يختلفون)(السير 10/16-17) وقال محمد بن أحمد الفنجار: ( كان لابن سلام مصنفات في كل باب من العلم،وكان بينه وبين أبي حفص أحمد بن حفص الفقيه مودة وأخوة مع تخالفهما في المذهب ) . (سير أعلام النبلاء10/630).
3 ــ ومن الضوابط أن لا يُنكر على المجتهد في اجتهاده وعمله بهذا الاجتهاد، ولا يمنع هذا من إقامة الحجة عليه أو المحاورة معه للخروج من الخلاف والوصول إلى الحق، بل هو الأولى، إذ مازال السلف يرد بعضهم على بعض في مسائل الفقه والفروع من المعتقد، وهذا من النصيحة للمسلمين.
وقد نقل عن كثير من السلف عدم الإنكار في مسائل الخلاف إذا كان للاجتهاد فيها مساغ .
ومقصدهم في ذلك الإنكار المؤدي إلى الفرقة ، لا مجرد التنبيه وإقامة الدليل على صحة ما يعتقده الإنسان، وإلا انسد كثير من أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
يقول سفيان: ( إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي اختلف فيه وأنت ترى غيره فلا تنهه ). (الفقيه والمتفقه 2/69).
وروى عنه الخطيب أيضاً أنه قال: (ما اختلف فيه الفقهاء فلا أنهى أحداً عنه من إخواني أن يأخذ به). [الفقيه المتفقه 2/69].
ويقول أحمد فيما يرويه عنه ابن مفلح: ( لا ينبغي للفقيه أن يحمل الناس على مذهب ولا يشدد عليهم ).
ويقول ابن مفلح: ( لا إنكار على من اجتهد فيما يسوغ منه خلاف في الفروع ). [الآداب الشرعية 1/186].
قال النووي :( ليس للمفتي ولا للقاضي أن يعترض على من خالفه إذا لم يخالف نصاً أو إجماعاً أو قياساً جلياً). [شرح النووي على صحيح مسلم 2/24].
ويقول ابن تيمية:(مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر عليه ولم يهجر، ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه)(مجموع الفتاوى20/207]
وسئل القاسم بن محمد عن القراءة خلف الإمام فيما لم يجهر به فقال: ( إن قرأت فلك في رجال من أصحاب محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم أسوة، وإذا لم تقرأ فلك في رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم أسوة). [التمهيد، ابن عبد البر 11/54].
وعبر الفقهاء عن هذا بقاعدتهم التي تقول: ( الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد ). [الأشباه والنظائر، ابن نجيم ص105].
عن أنس رضي الله عنه قال: (إنا معشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم كنا نسافر، فمنا الصائم ومنا المفطر، ومنا المتم ومنا المقصر، فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم، ولا المقصر على المتم، ولا المتم على المقصر) . رواه البيهقي في السنن .
4 ــ ومن آداب الاختلاف : البعد عن المراء والجدال .
قال صلى الله عليه و سلم :” ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه ، إلا أوتوا الجدل “.
ولذا رغب النبي صلى الله عليه و سلم في ترك الجدال والمراء فقال صلى الله عليه و سلم :” من ترك المراء وهو مبطل ، بنى الله له بيتاً في رب الجنة ، وإن تركه وهو محق ، بنى الله له بيتاً في وسطها، ومن حسن خلقه بني له في أعلاها “. رواه الترمذي وحسنه . وصححه الألباني رحمه الله.
فالمراء والجدل ليسا من سمت أهل العلم ولا من هديهم، إنما يقع فيهما من لا حظ له من ذلك .
قال الحسن رحمه الله : ( ما رأينا فقيهاً يماري ).
وقال أيضاً : ( المؤمن يداري ولا يماري ، ينشر حكمة الله فإن قبلت حمد الله وإن ردت حمد الله ) .
وقال محمد بن الحسين : ( وعند الحكماء أن المراء أكثره يغير قلوب الإخوان ويورث التفرقة بعد الألفة والوحشة بعد الأنس ) .
5 ـــ ومن الضوابط العمل على رفع الخلاف بالوسائل الشرعية: فالخلاف شر، وينبغي على المسلمين العمل على رفعه، طلباً للحق، وحفظاً لوحدة المسلمين، وقد كان العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إذا تنازعوا في الأمر اتبعوا أمر الله تعالى في قوله {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْء فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلاْخِرِ ذٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}.
فقولنا بأن الخلاف في المسألة سائغ لا يمنع من تحري الحق، والمحاورة والمناظرة بين أهل العلم للوصول إلى مراد الشرع في المسالة.
ولأجل هذا دونت مئات الكتب التي تبين مواطن الاختلاف وموارد النزاع.
ومن آداب الحوار :
1-التواضع .
2-وطلب الحق .
3-والجدال بالتي هي أحسن {وَلاَ تُجَـٰدِلُواْ أَهْلَ ٱلْكِتَـٰبِ إِلاَّ بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ }، {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا }. قال القرطبي: ( وهذا كله حض على مكارم الأخلاق، فينبغي للإنسان أن يكون قوله للناس ليناً، ووجهه منبسطاً طلقاً مع البر والفاجر والسني والمبتدع من غير مداهنة، ومن غير أن يتكلم معه بكلام يظن أنه يرضي مذهبه… ثم قال: فيدخل في هذه الآية اليهود والنصارى فكيف بالحنيفي). [الجامع لأحكام القرآن 2/16].
وكلام القرطبي لا يمنع ولا يرفع ما ذكره العلماء في هجر المبتدع أو الفاسق ، فذلك أيضاً من وسائل الدعوة التي قد تردع عن الفسق والبدعة.
* ــ صور من اختلاف السلف رحمهم الله تبرز أدبهم العظيم في هذا الباب:
ـــ اختلف الصحابة في موت النبي صلى الله عليه و سلم حتى إن عمر رضي الله عنه أنكر ذلك علانية وأشهر سيفه في وجه من يقول بموته حتى دخل أبو بكر وتلا قوله تعالى {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ }.
وقوله تعالى { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ } .
فأذعن عمر رضي الله عنه .
اختلافهم في مكان دفنه صلى الله عليه و سلم حتى قال أبو بكر رضي الله عنه سمعت من رسول الله صلى الله عليه و سلم ما نسيته قال :” ما قبض الله نبياً إلا في الموضع الذي يجب أن يدفن فيه “. رواه الترمذي وحسنه الألباني .
اختلافهم في الخلافة بعده صلى الله عليه و سلم ، وقصة سقيفة بني ساعدة مشهورة معلومة ، وكامن من مظاهر اختلافهم أن قالوا : منا أمير ومنكم أمير.
وقال آخرون : نحن المراء وأنتم الوزراء حتى قام عمر رضي الله عنه فبايع أبا بكر وتوالت البيعة وكان الرضوخ من الجميع لمصلحة الأمة .
ــ اختلف عمر رضي الله عنه مع أبي بكر رضي الله عنه في حرب أهل الردة ، ولا زال يراجعه بأدب ورفق وأبو بكر يرد عليه من غير تثريب ، حتى شرح الله صدر عمر رضي الله عنه لقول أبي بكر رضي الله عنه. والقصة معلومة مشهورة .
اختلف أبو بكر وعمر في سبي نساء أهل الردة، فسباهن أبو بكر ، وكان عمر لا يرى ذلك .
اختلفا في قسمة الأراضي المفتوحة.
- اختلف ابن مسعود وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما في كثير من المسائل ، حتى أوصلها ابن القيم إلى نحو مائة مسألة منها:
أن ابن مسعود رضي الله عنه كان ينهى عن وضع اليدين على الركب في الركوع ويأمر بالإطباق ، وخالفه عمر رضي الله عنه .
اختلفا فيمن زنا بامرأة ثم تزوجها فيرى ابن مسعود رضي الله عنه أنهما لا زالا يزنيان حتى ينفصلا ، وخالفه عمررضي الله عنه. [إعلام الموقعين 2/237].
وبرغم ذلك كانا يثنيان على بعضهما.
يقول عمررضي الله عنه عن ابن مسعودرضي الله عنه: (كنيف ملئ فقهاً أو علماً آثرتُ به أهل القادسية).[السير 1/491].
ويقول ابن مسعود رضي الله عنه عن عمر رضي الله عنه : (كان للإسلام حصناً حصيناً يدخل الناس فيه ولا يخرجون، فلما أصيب عمر انثلم الحصن). رواه الحاكم في المستدرك .
- اختلف الصحابة في توريث الأخوة مع وجود الجد، فكان زيد وعلي وابن مسعود لا يرونه، وأما ابن عباس فخالفهم وكان يقول: (ألا يتقي الله زيد يجعل ابن الابن ابناً، ولا يجعل أب الأب أباً) وقال: (لوددت أني وهؤلاء الذين يخالفونني في الفريضة نجتمع فنضع أيدينا على الركن ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين).أنظر مصنف عبد الرزاق.
ورغم هذا ، فإنه ذات يوم رأى زيداً رضي الله عنه على دابته فأخذ بخطامها وقال: هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا وكبرائنا، فقال زيد رضي الله عنه : أرني يدك، فأخرج ابن عباس رضي الله عنه يده فقبلها زيد رضي الله عنه وقال: هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا صلى الله عليه و سلم . [تقبيل اليد، أبو بكر المقري ص 95].
ولما دفن زيد رضي الله عنه قال ابن عباس رضي الله عنه : (هكذا ذهاب العلم، لقد دفن اليوم علم كثير).رواه البيهقي في السنن والحاكم .
وبالجملة فقد اختلف الصحابة ومن بعدهم من التابعين في كثير من المسائل : فمنهم من كان يجهر بالبسملة في الصلاة ومنهم من لا يرى ذلك ، ومنهم من كان يتوضأ من الرعاف والقيء والحجامة ومن من لا يرى ذلك ، ومنهم من يتوضأ من أكل لحم الإبل أو مما مسته النار ومنهم من يرى رأيه لعدم بلوغ الدليل .
ولم يكن هذا الاختلاف مبرراً للطعن والتثريب والتفسيق والعداوة والبغضاء فيما بينهم .
- بل حينما وقع بين الصحابة خلاف أدى بهم إلى الاقتتال،فإن هذا الخلاف لم يكن مبرراً للشقاق والتفرقة،بل كان مليئاً بالصور المشرقة والمعاني محمودة . منها:
- خلو قلوبهم من الغل، ومنه قول مروان بن الحكم (ما رأيت أحداً أكرم غلبة من علي رضي الله عنه، ما هو إلا أن ولينا يوم الجمل وناد منادٍ: ولا يذفف (يجهز) على جريح) . رواه البيهقي في السنن .
- نال أحدهم من عائشة رضي الله عنها يوم الجمل وسمعه عمار رضي الله عنه ــ وكان في معسكر علي رضي الله عنه فقال: ( اسكت مقبوحاً منبوحاً، أتؤذي محبوبة رسول الله صلى الله عليه و سلم ، أشهد أنها زوجة رسول الله صلى الله عليه و سلم في الجنة) . رواه الترمذي .
- لما قتل ابن خيري رجلاً وجده مع زوجته، رفع الأمر إلى معاوية رضي الله عنه فأشكل ذلك عليه فكتب إلى أبي موسى رضي الله عنه أن يسأل له علياً رضي الله عنه فكتب إليه علي بالجواب. وكان هذا بعد وقعة الجمل.أخرجه مالك في الموطأ .
- ولما وصف ضرار بن حمزة الكناني علياً رضي الله عنه بين يدي معاويةرضي الله عنه: بكى معاوية وجعل ينشف دموعه بكمه، ويقول لمادح علي رضي الله عنه : كذا كان أبو الحسن رحمه الله. ( انظر الاستيعاب 4/1697).
- من المعلوم أن هناك خلاف كبير بين أهل الرأي وأهل الحديث .
يقول شعبة وهو من أهل الحديث عند وفاة أبي حنيفة وكان من أهل الرأي : (لقد ذهب معه فقه الكوفة، تفضل الله عليه وعلينا برحمته).
ويقول الشافعي:(الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة ) [سير أعلام النبلاء 6/403]
-وسئل مالك يوماً عن عثمان البتي فقال : كان مقارباً ، وسئل عن أبي شبرمة فقال : كان مقارباً ، قيل : فأبو حنيفة ، فقال : لو جاء أساطينكم هذه ـــ يعني سواري المسجد ـــ فقايسكم على خشب لظننتم أنها خشب . إشارة منه إلى براعته في القياس .
-ويقول الإمام الشافعي عن الإمام مالك : مالك بن أنس معلمي ، عنه أخذت العلم ، وإذا ذكر العلماء ، فمالك النجم وما احد امنَّ عليَّ من مالك بن أنس … .
-قال صالح بن الإمام أحمد : لقيني يحيى بن معين فقال لي : أما يستحيي أبوك مما يفعل ؟. فقلت : وما يفعل ؟. فقال : رأيته مع الشافعي راكباً ، وهو راجل آخذ بزمام دابته فقلت لأبي ذلك ، فقال: إن لقيته فقل : يقول لك أبي : إذا أردت أن تتفقه ، فتعال فخذ ركابه من الجانب الآخر.
-صلى الشافعي الصبح في مسجد أبي حنيفة ــ وكان يرى القنوات في صلاة الصبح ، ويرى الجهر بالبسملة ـــ فلم يقنت ولم يجهر ببسم الله تأدباً مع أبي حنيفة رحمهما الله . [طبقات الحنفية 1/433].
قال القرطبي:( كان أبو حنيفة وأصحابه والشافعي وغيرهم يصلون خلف أئمة أهل المدينة من المالكية وإن كانوا لا يقرؤون البسملة لا سراً ولا جهراً.
وصلى أبو يوسف خلف الرشيد وقد احتجم وأفتاه مالك بأنه لا يتوضأ فصلى خلفه أبو يوسف ولم يعد) رغم أنه يرى أن خروج الدم بحجامة أو غيرها ينقض الوضوء.[الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، 23/375].
- قال الذهبي عن تأول ابن خزيمة حديث الصورة المشهور ، فيقول : (فليُعذر من تأول بعض الصفات، وأما السلف فما خاضوا في التأويل بل آمنوا وكفوا وفوضوا علم ذلك إلى الله ورسوله، ولو أن كل من أخطأ في اجتهاده مع صحة إيمانه وتوخيه لاتباع الحق أهدرناه وبدعناه لقل من يسلم من الأئمة معنا) . [سير أعلام النبلاء 14/374].
ـ يقول الإمام أحمد بن حنبل: ( لم يعبر الجسر إلى خراسان مثل إسحاق وإن كان يخالفنا في أشياء، فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضاً ) . [سير أعلام النبلاء 11/371].
وقال: ( ولو أنا كلما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأ مغفوراً له قمنا عليه وبدعناه وهجرناه لما سلم معنا لا ابن نصر ولا ابن مندة ولا من هو أكبر منهما، والله هو هادي الخلق إلى الحق وهو أرحم الراحمين فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة ) . [سير أعلام النبلاء 14/40].
ويقول الذهبي في تعليقه على اختلاف الناس في أبي حامد الغزالي بين مادح وذام: ( مازال العلماء يختلفون ويتكلم العالم في العالم باجتهاده، وكل منهم معذور مأجور، ومن عاند أو خرق الإجماع فهو مأزور، وإلى الله ترجع الأمور ) . [سير أعلام 19/322].
وفي عصرنا حدث خلاف بين علماء كبار العلماء كالشيخ ابن باز والشيخ الألباني والشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمهم الله تعالى ، في كثير من المسائل الفقهية : كحكم تارك الصلاة ، وإباحة الذهب المحلق، وتغطية وجه المرأة ، والأخذ من اللحية ما زاد عن قبضة ، ووضع اليد اليمنى على اليسرى بعد الرفع من الركوع وغيرها.
ولكن لم يكن هذا الخلاف أبداً سبباً للتنافر بين هؤلاء العلماء الأجلاء أو ذريعة للقطيعة وعدم التعاون.
بل كان كل واحد منهم يذكر الآخر بخير ويثني عليه.
وهذه نصوصهم تنضح بتقدير كل واحد منهما للآخر:
يقول العلامة ابن باز رحمه الله في الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله: ( لا أعلم تحت قبة الفلك في هذا العصر أعلم من الشيخ ناصر). ( كوكبة من أئمة الهدى ومصابيح الدجى ، للقريوتي 227 ) .
وقال فيه أيضاً : ( إن الشيخ معروف لدينا بحسن العقيدة والسيرة ومواصلة الدعوة إلى الله سبحانه ، مع ما يبذله من الجهود المشكورة في العناية بالحديث الشريف …. ) . (المصدر السابق 226 )
وقال العلامة الألباني رحمه الله في مقدمة كتابه ” الذب الأحمد عن مسند الإمام أحمد ” : ( أما بعد ، فهذا كتاب الذب الأحمد عن مسند الإمام أحمد ألفته قبل أكثر من عشرين عاماً في دمشق الشام تنفيذاً لطلب كريم من أخ فاضل كريم وهو سماحة الشيخ العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز … . وقال : وما ذاك الطلب من الشيخ ، وهذا الجواب مني بتوفيق ربنا ، إلا صورة علمية مشرقة إنشاء الله تمثل حقيقة تعاون أهل الحديث ودعاة السنة على البر والتقوى وتواصيهم بالحق والصبر … ) . ( مقدمة الذب الأحمد 5 بتصرف يسير ) .
وقال الشيخ ابن عثيمين عن الشيخ الألباني : واسع الاطلاع طويل الباع شديد الإقناع ) .
إن اتباع هدي هؤلاء العلماء الربانيين ومن قبلهم السلف الصالح من الصحابة والتابعين وأئمة الدين ، وجعل ذلك واقعاً عملياً نتعامل به ونحتكم إليه؛ يؤدي إلى صفاء القلوب وتآلف النفوس، واجتماع الكلمة، وانتظام الجهود، وحلول الوئام محل التناقض والخصام.
-*****-
رابط الموضوع في الموقع الشخصي للشيخ:
http://www.saadalbreik.com/Sad/news.php?action=show&id=661
رابط الموضوع : http://www.assakina.com/taseel/27663.html#ixzz2vZEBtl4L
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق