سلسلة مناقشة الشبهات – 7 – شبهة الخروج على الحاكم وتبريره بكفره وتعدد الدويلات
شبهة الخروج على الحاكم وتبريره بكفره وتعدد الدويلات
لما انتقض ما قاله الغلاة من تكفير الحاكم، وتم رد مفهومهم ووجه استدلالهم بالآيات التي سقناها وأعقبنا كل آية بوجه استدلالهم وما قالوه فيها وما فهموه منه، وتبين عدم رجوعهم في مفهومهم إلى المعتمد عند أهل السنة والجماعة من مفسرين ومحدثين وكلاميين، نأتي إلى شبهة أخرى خاصة بالحاكم، وهي الخروج عليه، وقد برر الغلاة الخروج بأمرين:
الأمر الأول: لخلاف العلماء الواقع في تكفير العلماء.
فإن الغلاة لو سلموا لنا بأن الحكام لا نكفرهم نحن كما قال العلماء؛ لأن هذه المسألة الراجح فيها عدم تكفيرهم كما ثبت لدى أهل السنة والجماعة، أو أن العلماء اختلفوا فيها من وجهة نظرهم، فإن هذا أيضًا لا يمنع شرعًا من الخروج عليهم، وحجتهم في ذلك ما يأتي:
1- إذا كان لا يثبت كفرهم لاختلاف العلماء، فقد ثبت جورهم، فالخروج عليهم أسلوب من أساليب ردهم عن ظلمهم.
2- نحن أحرار فيما نعتقد ونقتنع، فلا تلزمونا برأيكم(1).
الأمر الثاني: لتعدد الدويلات الإسلامية وغياب الأمير الواحد وردهم في ذلك. فهم يبررون الخروج بهذا الاعتبار فيقولون: إذا سلمنا أن هؤلاء الحكام مسلمون، ولا يجوز الخروج على الحاكم المسلم وإن جار، لكن هذا الأصل عند أهل السنة إذا كان الأمير للمسلمين واحدًا، أما إذا تعدد الأمراء، كما هو حاصل الآن، فلا سمع لأحد منهم ولا طاعة، وإمارتهم غير شرعية، ومن هنا شرع الخروج عليهم(2).
وفي الحقيقة أن كلا الأمرين يشكلان شبهتين مستقلتين، ولكن الجمع بينهما في موطن واحد مفيد في الفهم والتحصيل، فأقول مستعينا بالله.
أولا: ردّ تبريرهم الخروج بأن تكفير الحاكم مختلف فيه، فإن كان ظالمًا فيجوز الخروج عليه لردِّه عن ظلمه.
- ورد هذه الشبهة من خلال الأمور الآتية:
الأمر الأول: أن الخلاف قد قام بين العلماء، إلا أن الراجح الذي عليه أهل السنة والجماعة عدم تكفير الحاكم، وخلافه مردود عليه بأدلة قوية.
الأمر الثاني: أن الخروج في هذا العصر ظهرت فيه مفاسد عظيمة تكاد تكون أعظم من ظلم الحاكم، وأقصد به تفرق الأمة وإصابتها في مقتل، وبالتالي فلا يجوز الخروج تنزيلا على خروج بعض العلماء من السلف، فإنهم كانوا في عصور تعرف الحق ومظانه، فكانوا ينصرون الحق وآله، أما في عصورنا لم يأتِ الخروج بخير؛ ولما كان الأمر كذلك حكم بعدم جواز الخروج على الأئمة وإن جاروا، فلا يقال إن جورهم من باب دفع الظلم لترتب مفسدة أعظم، وتفادي المفاسد العظيمة هو من مقاصد الشرع الحنيف، وقد نص غير واحد على هذا الاتفاق.
الأمر الثالث: وقع في السنة ما يدل على عدم جواز الخروج على الحاكم الجائر من نحو الروايات التالية:
1- ما أخرجه اللالكائي في “شرح أصول اعتقاد أهل السنة” بسنده إلى البخاري قال: لقيت أكثر من ألف رجل من أهل العلم: أهل الحجاز، ومكة، والمدينة، والكوفة، والبصرة، وواسط، وبغداد، والشام، ومصر، لقيتهم كرّاتٍ، قرنًا بعد قرن، ثم قرنًا بعد قرن، أدركتهم وهم متوافرون، منذ أكثر من ستة وأربعين سنة: أهل الشام، ومصر، والجزيرة مرتين، والبصرة أربع مرات، في سنين ذوي عدد، بالحجاز ستة أعوام، ولا أُحْصي كم دخلتُ الكوفة وبغداد مع محدثي آل خراسان، منهم: فأورد أسماء بعض المحدثين، ثم ذكر بعض مسائل الاعتقاد، منها قوله: “وأن لا ننازع الأمر أهله…. وأن لا يرى السيف على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقال الفضيل: لو كان لي دعوة مستجابة لم أجعلها إلا في إمام؛ لأنه إذا صلح الإمام أَمَّنَ البلاد والعباد، قال ابن المبارك: يا معلم الخير، من يجترئ على هذا غيرك(3).
وهذه الرواية تؤكد على معتقد أمير المؤمنين في حديث أبي عبد الله البخاري في مسألة الخروج على الحاكم وعدم تجويزه ذلك.
2- وروى اللالكائي بسنده إلى ابن أبي حاتم الرازي في بيان معتقد أبيه وأبي زرعة، فقال: سألت أبي وأبا زرعة عن مذهب أهل السنة في أصول الدين، وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار، وما يعتقدان من ذلك؟ فقالا: أدركنا العلماء في جميع الأمصار – حجازًا، وعراقًا، وشامًا، ويمنًا- فكان من مذهبهم… فذكر أمورًا كثيرة منها: ولا نرى الخروج على الأئمة، ولا القتال في الفتنة، ونسمع ونطيع لمن ولاه الله عز وجل أمرنا، ولا ننزع يدًا من طاعته، ونتبع السنة والجماعة، ونجتنب الشذوذ والخلاف والفرقة(4).
كلام أهل العلم الثقات في هذه المسألة:
1- الإمام أحمد بن حنبل: سئل عن الحسن بن صالح بن حي فقال: «لا نرضى مذهبه»، يقول أبو الحسين ابن أبي يعلى في ترجمته: وقد كان ابن حي قعد عن الجمعة، وكان يرى السيف، وقد فتن الناس بسكوته وورعه(5).
2- الحافظ ابن حجر: ذكر في ترجمة الحسن بن صالح بن حي أيضًا، أن منهم من قال فيه: كان يرى السيف، فقال الحافظ: وقولهم: كان يرى السيف، يعني كان يرى الخروج بالسيف على أئمة الجور، وهذا مذهب للسلف قديم، لكن استقر الأمر على ترك ذلك؛ لما رأَوْه قد أفضى إلى أشد منه، ففي وقعة الحرة، ووقعة ابن الأشعث، وغيرهما؛ عِظةٌ لمن تدبّر”(6).
3- الإمام ابن تيمية: قال: إن الله تعالى بعث رسوله صلى الله عليه وسلم بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، فإذا تولى خليفة من الخلفاء كيزيد وعبد الملك والمنصور وغيرهم، فإما أن يقال يجب منعه من الولاية وقتاله حتى يُولّى غيره كما يفعله من يرى السيف، فهذا رأى فاسد فإن مفسدة هذا أعظم من مصلحته، وقل من خرج على إمام ذي سلطان إلا كان ما تولد على فعله من الشر أعظم مما تولد من الخير كالذين خرجوا على يزيد بالمدينة، وكابن الأشعث الذي خرج على عبد الملك بالعراق، وكابن المهلب الذي خرج على ابنه بخراسان، وكأبي مسلم صاحب الدعوة الذي خرج عليهم بخراسان أيضًا، وكالذين خرجوا على المنصور بالمدينة والبصرة.
وغاية هؤلاء إما أن يَغْلبوا وإما أن يُغْلبوا ثم يزول ملكهم فلا يكون لهم عاقبة، فإن عبد الله بن علي وأبا مسلم هما اللذان قتلا خلقا كثيرا، وكلاهما قتله أبو جعفر المنصور، وأما أهل الحرة وابن الأشعث وابن المهلب وغيرهم فهزموا وهزم أصحابهم فلا أقاموا دينًا ولا أبقوا دنيا، والله تعالى لا يأمر بأمر لا يحصل به صلاح الدين ولا صلاح الدنيا، وإن كان فاعل ذلك من أولياء الله المتقين ومن أهل الجنة فليسوا أفضل من علي وعائشة وطلحة والزبير وغيرهم، ومع هذا لم يحمدوا ما فعلوه من القتال وهم أعظم قدرا عند الله وأحسن نية من غيرهم(7).
وفي كلام ابن تيمية إشارات واضحات لمفاسد الخروج وشروره، وفي موضع آخر من مجموع فتاويه يقول: كان من العلم والعدل المأمور به؛ الصبر على ظلم الأئمة وجورهم، كما هو من أصول أهل السنة والجماعة(8).
وفي موضع آخر يؤكد ذلك بقوله: لم يُثْنِ النبي صلى الله عليه وسلم على أحد لا بقتال في فتنة، ولا بخروج على الأئمة، ولا نَزْع يدٍ من طاعة، ولا مفارقة للجماعة(9).
الأمر الرابع: أما قولهم لا تلزمنا برأيكم فنقول لهم: إن كان الاختلاف في الخروج على الحاكم وقع في القديم، فهو محجوج باتفاق العلماء اللاحق بعد ذلك في عدم جواز الخروج على الحاكم، ولا يخالف في هذا إلا معناد ومكابر، وخصوصًا أنه سيترتب على هذه المخالفة من إهلاك الحرث والنسل، وانفلات الزمام، وتصدُّر الجهلة، وترؤس السفلة، وانفراط النظْم(10).
ثانيًا: رد تبريرهم للخروج بتعدد الدول وتعدد الحكام.
- ورد ذلك فيما يلي من أمور:
الأمر الأول: الأولى من الخروج بحجة الحاصل الآن: العودة إلى روح الشرع وأصوله، فإن الاعتصام بالكتاب والسنة، والعمل على عدم بث الفرقة والفتنة، والتعاون على البر والتقوى، وإحلال الأمن والأمان في المجتمع المسلم، وعدم ترويع الآمنين، وعدم الإفساد في الأرض، كل هذا أولى من الخروج.
الأمر الثاني: اقرؤوا قول الحق سبحانه: ﴿واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا﴾، وقوله تعالى: ﴿ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا كل حزب بما لديهم فرحون﴾، وقوله عز وجل: ﴿إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون﴾.
فإن عدم العمل بهذه النصوص وتجويز الخروج يترتب عليه مفاسد عظيمة؛ الأمر الذي لا يجيزه أهل السنة، فهم يجيزون أن يسمعوا لكل حاكم في المعروف بغض النظر عن كون الأمة دويلات، فتكون الطاعة في حدود حكمه أي دولته، وأن يتعاونوا معه على البر والتقوى، ونصرة المظلوم، وردع الظالم،… إلى غير ذلك مما يجب على ولاة الأمور.
ولنا في ذلك أثر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فقد قال: « إذا كنتم ثلاثة فأمروا عليكم واحدا منكم، فإذا مررتم براعي الإبل فنادوا يا راعي الإبل، فإن أجابكم فاستسقوه وإن لم يجبكم فأتوها فحلوها واشربوا، ثم صروها» قال البيهقي: هذا عن عمر رضي الله عنه صحيح بإسناديه جميعًا(11).
فهذه الوصية من الفاروق تدل على أن الظروف لو ألجئت جماعة المسلمين إلى أن يؤمروا عليهم أميرًا منهم، وبالتالي سيتعدد الأمراء كما هو حاصل الآن، فيكون الحال السمع والطاعة لهذا الأمير، على حسب ما جاء في تربية النبي صلى الله عليه وسلم لأمته في حديث العرباض بن سارية قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة ذرفت منها العيون، ووجَلَتْ منها القلوب، فقلنا: يا رسول الله، إن هذا لموعظة مودع، فإذا تعهد إلينا قال: «قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، ومن يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين من بعدي، وعليكم بالطاعة وإن كان عبدًا حبشيًا، عضوًا عليها بالنواجذ»(12).
أوليس تقسيم الأمة إلى دول من جملة ما قاله نبينا عليه الصلاة والسلام: « ومن يعشْ منكم فسيرى اختلافا كثيرا» ؟ ولم يترك نبينا عليه الصلاة والسلام الأمر هكذا وإنما أردف بالعلاج الذي منه: « وعليكم بالطاعة، وإن كان عبدًا حبشيًا ».
الأمر الثالث: تكلم العلماء الثقات عن قضية تفرق الأمة إلى دويلات، وكان المتفق عليه بينهم أن كل إمام على قُطْر له حكم الإمام الواحد على الأمة، وذلك كما يلي:
1- قال الإمام ابن تيمية: «والسنة أن يكون للمسلمين إمامٌ واحد، والباقون نوّابه، فإذا فُرِض أن الأمة خرجت عن ذلك- لمعصية من بعضها، وعَجْزٍ من الباقين – فكان لها عدة أئمة، لكان يجب على كل إمام أن يقيم الحدود، ويستوفي الحقوق»(13).
وهذا الكلام من شيخ الإسلام يقابله ما انطوى فيه من وجوب طاعته، وعدم الخروج عليه؛ لأنه وجب عليه أن يحكم بين الناس ويستوفي الحقوق، قتأمل كلامه رحمه الله.
2- قال الأمير الصنعاني في شرح قوله صلى الله عليه وسلم: « من خرج عن الطاعة، وفارق الجماعة، ومات؛ فَمِيتته جاهلية » قوله: « عن الطاعة »: أي طاعة الخليفة الذي وقع الإجماع عليه، وكأنَّ المراد خليفة أي قطر من الأقطار، إذْ لم يجتمع الناس على خليفة في جميع البلاد الإسلامية من أثناء الدولة العباسية، بل استقل أهل كل إقليم بقائم بأمورهم، إذ لو حمل الحديث على خليفة اجتمع عليه أهل الإسلام؛ لقلَّت فائدته»(14).
3- قال الإمام الشوكاني: بعد انتشار الإسلام، واتساع رقعته، وتباعد أطرافه؛ فمعلوم أنه قد صار في كل قطر – أو أقطار- الولاية إلى إمام أو سلطان، وفي القطر الآخر كذلك، ولا ينعقد لبعضهم أمر ولا نهي في قطر الآخر أو أقطاره التي رجعت إلى ولايته، فلا بأس بتعدد الأئمة والسلاطين، ويجب الطاعة لكل واحد منهم بعد البيعة له على أهل القطر الذي ينفذ فيه أوامره ونواهيه، وكذلك صاحب القطر الآخر، فإذا قام من ينازعه في القطر الذي ثبتت فيه ولايته، وبايعه أهله؛ كان الحكم فيه أن يُقْتل، إذا لم يتب، ولا تجب على أهل القطر الآخر طاعته، ولا الدخول تحت ولايته؛ لتباعد الأقطار، فإنه قد لا يبلغ إلى ما تباعد منها خبر إمامها أو سلطانه، ولا يُدرى من قام منهم أو مات، فالتكاليف بالطاعة –والحال هذا– تكليف بما لا يطاق، وهذا معلوم لكل من له اطلاع على أحوال العباد والبلاد، فاعرف هذا، فإنه المناسب للقواعد الشرعية، والمطابق لما تدل عليه الأدلة، ودعْ عنك ما يقال في مخالفته؛ فإن الفرق بين ما كانت عليه الولاية الإسلامية في أول الإسلام، وما هي عليه الآن أوضح من شمس النهار، ومن أنكر هذا فهو مباهت لا يستحق أن يُخاطب بالحجة؛ لأنه لا يعقلها(15).
وكأن الشوكاني في ختام كلامه يخاطب المغالي ويوصيه بالفهم وعدم مخالفته، ويكثر من حثه بما هو أوضح من شمس النهار من فروق بين ما كانت عليه أمة الإسلام أولا وما صارت إليه آخرًا.
وقد أعجبني تعليق على كلام الشوكاني الذي يفيد: أن طاعة الإمام الواحد غير ممكنة لتباعد الأقطار، فإنه قد لا يبلغ إلى ما تباعد منها خبر إمامها أو سلطانه، ولا يُدرى من قام منهم أو مات، فالتكاليف بالطاعة – والحال هذا – تكليف بما لا يطاق.
فقال: وما ذكره الإمام الشوكاني من علة في ذلك الأمر منتفٍ الآن؛ لسهولة الاتصال بأطراف العالم في أقل زمن وتكلفة، لكن بقي أمر العجز عن الاجتماع، كما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – فبقي الحكم قائمًا أيضًا، والله أعلم(16).
4- وقد تكلم على مسألة تعدد الدول علماء الإسلام من المعاصرين منهم:
(أ) الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: سمى الحكومات بأنها حكومات مؤقتة للضرورة، ولها السمع والطاعة، فإن زالت الضرورة وجبت الوحدة، فقد قال: إن جمهور المسلمين أجمعوا على أن تعدد الإمامة الإسلامية غير جائز، ومقتضاه أن الحكومة الإسلامية التي تتعدد للضرورة وتعذر في ترك اتباع الجماعة هي حكومة ضرورة، تعتبر مؤقتة وتنفذ أحكامها، ولكن لا تكون مساوية للأولى، وإن كانت مستجمعة لشروط الإمامة مثلها، وظاهر القول الآخر الذي عدوه شاذًا أنها إذا كانت مستجمعة للشروط كانت إمامة صحيحة، وهذا هو التعدد الحقيقي، ولكن لم يختلف اثنان في أنها للضرورة، فإذا زالت وجبت الوحدة(17). وأسهب رحمه الله في الكلام على هذه «الضرورة» وتأسى وتحزن على أنها شقت وحدة المسلمين.
(ب) وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: “الأمة الإسلامية تفرقت من عهد الصحابة، تعلمون أن عبد الله بن الزبير في مكة، وبني أمية في الشام، وكذلك في اليمن أناس، وفي مصر أناس، وما زال المسلمون يعتقدون أن البيعة لمن له السلطة في المكان الذي هم فيه، ويبايعونه، ويدْعونه بأمير المؤمنين، ولا أحد ينكر ذلك، فهذا شاقٌّ لعصا المسلمين من جهة عدم التزامه بالبيعة، ومن جهة أنه خالف إجماع المسلمين من عهد قديم.. والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: « اسمعوا وأطيعوا؛ وإن استعمل عليكم عبد حبشي»…”(18).
فهذه أقوال أئمة من عصورنا الحديثة، وسبقهم كلام للعصور السالفة، أدركنا جميعًا بعد قراءتنا لها أن الأمة سلفًا وخلفًا اهتموا بوحدة هذه الأمة، ووجدوا لها المخرج الشرعي عند تفرقها إلى دويلات، فلِمَ العناد والتكبر من المغالين مع وضوح الدلائل والعبارات، أنت معي أنهم يبحثون عن مأرب سياسي، وظهر لنا أن هذا المأرب طبقوه في الصحراء وفي بطون الجبال، فمع تفرقهم إلا أن لكل جماعة منهم أميرا يسوسهم، ويعطيهم الأوامر، ويمدهم بالقنابل، فالذي من أجله خرجوا، هم فيه قد وقعوا.
—————-
الهوامش:
(1) التفجيرات والاغتيالات لأبي الحسن مصطفى السليماني (ص 110).
(2) السابق (ص 114).
(3) رواه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (2/197-198، برقم 321).
(4) رواه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (6/115).
(5) انظر: طبقات الحنابلة (1/58).
(6) انظر: تهذيب التهذيب (2/263).
(7) انظر: منهاج السنة النبوية (4/ 527، 528).
(8) انظر: مجموع الفتاوى (28/279).
(9) انظر: مجموع الفتاوي (4/527 – 531).
(10) انظر: التفجيرات والاغتيالات (ص 111) لأبي الحسن مصطفى بن إسماعيل السليماني.
(11) انظر: سنن البيهقي الكبرى (9/359).
(12) انظر: المستدرك على الصحيحين (1/175، رقم: 331).
(13) انظر: مجموع الفتاوى (34/ 175- 176).
(14) انظر: سبل السلام (3/499).
(15) انظر: السيل الجرار (4/512).
(16) انظر: التفجيرات والاغتيالات (ص 115) لأبي الحسن مصطفى بن إسماعيل السليماني.
(17) انظر: كتاب الخلافة (ص 59).
(18) انظر: الفتاوى الشرعية في القضايا العصرية (ص 81 – 82).
لما انتقض ما قاله الغلاة من تكفير الحاكم، وتم رد مفهومهم ووجه استدلالهم بالآيات التي سقناها وأعقبنا كل آية بوجه استدلالهم وما قالوه فيها وما فهموه منه، وتبين عدم رجوعهم في مفهومهم إلى المعتمد عند أهل السنة والجماعة من مفسرين ومحدثين وكلاميين، نأتي إلى شبهة أخرى خاصة بالحاكم، وهي الخروج عليه، وقد برر الغلاة الخروج بأمرين:
الأمر الأول: لخلاف العلماء الواقع في تكفير العلماء.
فإن الغلاة لو سلموا لنا بأن الحكام لا نكفرهم نحن كما قال العلماء؛ لأن هذه المسألة الراجح فيها عدم تكفيرهم كما ثبت لدى أهل السنة والجماعة، أو أن العلماء اختلفوا فيها من وجهة نظرهم، فإن هذا أيضًا لا يمنع شرعًا من الخروج عليهم، وحجتهم في ذلك ما يأتي:
1- إذا كان لا يثبت كفرهم لاختلاف العلماء، فقد ثبت جورهم، فالخروج عليهم أسلوب من أساليب ردهم عن ظلمهم.
2- نحن أحرار فيما نعتقد ونقتنع، فلا تلزمونا برأيكم(1).
الأمر الثاني: لتعدد الدويلات الإسلامية وغياب الأمير الواحد وردهم في ذلك. فهم يبررون الخروج بهذا الاعتبار فيقولون: إذا سلمنا أن هؤلاء الحكام مسلمون، ولا يجوز الخروج على الحاكم المسلم وإن جار، لكن هذا الأصل عند أهل السنة إذا كان الأمير للمسلمين واحدًا، أما إذا تعدد الأمراء، كما هو حاصل الآن، فلا سمع لأحد منهم ولا طاعة، وإمارتهم غير شرعية، ومن هنا شرع الخروج عليهم(2).
وفي الحقيقة أن كلا الأمرين يشكلان شبهتين مستقلتين، ولكن الجمع بينهما في موطن واحد مفيد في الفهم والتحصيل، فأقول مستعينا بالله.
أولا: ردّ تبريرهم الخروج بأن تكفير الحاكم مختلف فيه، فإن كان ظالمًا فيجوز الخروج عليه لردِّه عن ظلمه.
- ورد هذه الشبهة من خلال الأمور الآتية:
الأمر الأول: أن الخلاف قد قام بين العلماء، إلا أن الراجح الذي عليه أهل السنة والجماعة عدم تكفير الحاكم، وخلافه مردود عليه بأدلة قوية.
الأمر الثاني: أن الخروج في هذا العصر ظهرت فيه مفاسد عظيمة تكاد تكون أعظم من ظلم الحاكم، وأقصد به تفرق الأمة وإصابتها في مقتل، وبالتالي فلا يجوز الخروج تنزيلا على خروج بعض العلماء من السلف، فإنهم كانوا في عصور تعرف الحق ومظانه، فكانوا ينصرون الحق وآله، أما في عصورنا لم يأتِ الخروج بخير؛ ولما كان الأمر كذلك حكم بعدم جواز الخروج على الأئمة وإن جاروا، فلا يقال إن جورهم من باب دفع الظلم لترتب مفسدة أعظم، وتفادي المفاسد العظيمة هو من مقاصد الشرع الحنيف، وقد نص غير واحد على هذا الاتفاق.
الأمر الثالث: وقع في السنة ما يدل على عدم جواز الخروج على الحاكم الجائر من نحو الروايات التالية:
1- ما أخرجه اللالكائي في “شرح أصول اعتقاد أهل السنة” بسنده إلى البخاري قال: لقيت أكثر من ألف رجل من أهل العلم: أهل الحجاز، ومكة، والمدينة، والكوفة، والبصرة، وواسط، وبغداد، والشام، ومصر، لقيتهم كرّاتٍ، قرنًا بعد قرن، ثم قرنًا بعد قرن، أدركتهم وهم متوافرون، منذ أكثر من ستة وأربعين سنة: أهل الشام، ومصر، والجزيرة مرتين، والبصرة أربع مرات، في سنين ذوي عدد، بالحجاز ستة أعوام، ولا أُحْصي كم دخلتُ الكوفة وبغداد مع محدثي آل خراسان، منهم: فأورد أسماء بعض المحدثين، ثم ذكر بعض مسائل الاعتقاد، منها قوله: “وأن لا ننازع الأمر أهله…. وأن لا يرى السيف على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقال الفضيل: لو كان لي دعوة مستجابة لم أجعلها إلا في إمام؛ لأنه إذا صلح الإمام أَمَّنَ البلاد والعباد، قال ابن المبارك: يا معلم الخير، من يجترئ على هذا غيرك(3).
وهذه الرواية تؤكد على معتقد أمير المؤمنين في حديث أبي عبد الله البخاري في مسألة الخروج على الحاكم وعدم تجويزه ذلك.
2- وروى اللالكائي بسنده إلى ابن أبي حاتم الرازي في بيان معتقد أبيه وأبي زرعة، فقال: سألت أبي وأبا زرعة عن مذهب أهل السنة في أصول الدين، وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار، وما يعتقدان من ذلك؟ فقالا: أدركنا العلماء في جميع الأمصار – حجازًا، وعراقًا، وشامًا، ويمنًا- فكان من مذهبهم… فذكر أمورًا كثيرة منها: ولا نرى الخروج على الأئمة، ولا القتال في الفتنة، ونسمع ونطيع لمن ولاه الله عز وجل أمرنا، ولا ننزع يدًا من طاعته، ونتبع السنة والجماعة، ونجتنب الشذوذ والخلاف والفرقة(4).
كلام أهل العلم الثقات في هذه المسألة:
1- الإمام أحمد بن حنبل: سئل عن الحسن بن صالح بن حي فقال: «لا نرضى مذهبه»، يقول أبو الحسين ابن أبي يعلى في ترجمته: وقد كان ابن حي قعد عن الجمعة، وكان يرى السيف، وقد فتن الناس بسكوته وورعه(5).
2- الحافظ ابن حجر: ذكر في ترجمة الحسن بن صالح بن حي أيضًا، أن منهم من قال فيه: كان يرى السيف، فقال الحافظ: وقولهم: كان يرى السيف، يعني كان يرى الخروج بالسيف على أئمة الجور، وهذا مذهب للسلف قديم، لكن استقر الأمر على ترك ذلك؛ لما رأَوْه قد أفضى إلى أشد منه، ففي وقعة الحرة، ووقعة ابن الأشعث، وغيرهما؛ عِظةٌ لمن تدبّر”(6).
3- الإمام ابن تيمية: قال: إن الله تعالى بعث رسوله صلى الله عليه وسلم بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، فإذا تولى خليفة من الخلفاء كيزيد وعبد الملك والمنصور وغيرهم، فإما أن يقال يجب منعه من الولاية وقتاله حتى يُولّى غيره كما يفعله من يرى السيف، فهذا رأى فاسد فإن مفسدة هذا أعظم من مصلحته، وقل من خرج على إمام ذي سلطان إلا كان ما تولد على فعله من الشر أعظم مما تولد من الخير كالذين خرجوا على يزيد بالمدينة، وكابن الأشعث الذي خرج على عبد الملك بالعراق، وكابن المهلب الذي خرج على ابنه بخراسان، وكأبي مسلم صاحب الدعوة الذي خرج عليهم بخراسان أيضًا، وكالذين خرجوا على المنصور بالمدينة والبصرة.
وغاية هؤلاء إما أن يَغْلبوا وإما أن يُغْلبوا ثم يزول ملكهم فلا يكون لهم عاقبة، فإن عبد الله بن علي وأبا مسلم هما اللذان قتلا خلقا كثيرا، وكلاهما قتله أبو جعفر المنصور، وأما أهل الحرة وابن الأشعث وابن المهلب وغيرهم فهزموا وهزم أصحابهم فلا أقاموا دينًا ولا أبقوا دنيا، والله تعالى لا يأمر بأمر لا يحصل به صلاح الدين ولا صلاح الدنيا، وإن كان فاعل ذلك من أولياء الله المتقين ومن أهل الجنة فليسوا أفضل من علي وعائشة وطلحة والزبير وغيرهم، ومع هذا لم يحمدوا ما فعلوه من القتال وهم أعظم قدرا عند الله وأحسن نية من غيرهم(7).
وفي كلام ابن تيمية إشارات واضحات لمفاسد الخروج وشروره، وفي موضع آخر من مجموع فتاويه يقول: كان من العلم والعدل المأمور به؛ الصبر على ظلم الأئمة وجورهم، كما هو من أصول أهل السنة والجماعة(8).
وفي موضع آخر يؤكد ذلك بقوله: لم يُثْنِ النبي صلى الله عليه وسلم على أحد لا بقتال في فتنة، ولا بخروج على الأئمة، ولا نَزْع يدٍ من طاعة، ولا مفارقة للجماعة(9).
الأمر الرابع: أما قولهم لا تلزمنا برأيكم فنقول لهم: إن كان الاختلاف في الخروج على الحاكم وقع في القديم، فهو محجوج باتفاق العلماء اللاحق بعد ذلك في عدم جواز الخروج على الحاكم، ولا يخالف في هذا إلا معناد ومكابر، وخصوصًا أنه سيترتب على هذه المخالفة من إهلاك الحرث والنسل، وانفلات الزمام، وتصدُّر الجهلة، وترؤس السفلة، وانفراط النظْم(10).
ثانيًا: رد تبريرهم للخروج بتعدد الدول وتعدد الحكام.
- ورد ذلك فيما يلي من أمور:
الأمر الأول: الأولى من الخروج بحجة الحاصل الآن: العودة إلى روح الشرع وأصوله، فإن الاعتصام بالكتاب والسنة، والعمل على عدم بث الفرقة والفتنة، والتعاون على البر والتقوى، وإحلال الأمن والأمان في المجتمع المسلم، وعدم ترويع الآمنين، وعدم الإفساد في الأرض، كل هذا أولى من الخروج.
الأمر الثاني: اقرؤوا قول الحق سبحانه: ﴿واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا﴾، وقوله تعالى: ﴿ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا كل حزب بما لديهم فرحون﴾، وقوله عز وجل: ﴿إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون﴾.
فإن عدم العمل بهذه النصوص وتجويز الخروج يترتب عليه مفاسد عظيمة؛ الأمر الذي لا يجيزه أهل السنة، فهم يجيزون أن يسمعوا لكل حاكم في المعروف بغض النظر عن كون الأمة دويلات، فتكون الطاعة في حدود حكمه أي دولته، وأن يتعاونوا معه على البر والتقوى، ونصرة المظلوم، وردع الظالم،… إلى غير ذلك مما يجب على ولاة الأمور.
ولنا في ذلك أثر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فقد قال: « إذا كنتم ثلاثة فأمروا عليكم واحدا منكم، فإذا مررتم براعي الإبل فنادوا يا راعي الإبل، فإن أجابكم فاستسقوه وإن لم يجبكم فأتوها فحلوها واشربوا، ثم صروها» قال البيهقي: هذا عن عمر رضي الله عنه صحيح بإسناديه جميعًا(11).
فهذه الوصية من الفاروق تدل على أن الظروف لو ألجئت جماعة المسلمين إلى أن يؤمروا عليهم أميرًا منهم، وبالتالي سيتعدد الأمراء كما هو حاصل الآن، فيكون الحال السمع والطاعة لهذا الأمير، على حسب ما جاء في تربية النبي صلى الله عليه وسلم لأمته في حديث العرباض بن سارية قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة ذرفت منها العيون، ووجَلَتْ منها القلوب، فقلنا: يا رسول الله، إن هذا لموعظة مودع، فإذا تعهد إلينا قال: «قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، ومن يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين من بعدي، وعليكم بالطاعة وإن كان عبدًا حبشيًا، عضوًا عليها بالنواجذ»(12).
أوليس تقسيم الأمة إلى دول من جملة ما قاله نبينا عليه الصلاة والسلام: « ومن يعشْ منكم فسيرى اختلافا كثيرا» ؟ ولم يترك نبينا عليه الصلاة والسلام الأمر هكذا وإنما أردف بالعلاج الذي منه: « وعليكم بالطاعة، وإن كان عبدًا حبشيًا ».
الأمر الثالث: تكلم العلماء الثقات عن قضية تفرق الأمة إلى دويلات، وكان المتفق عليه بينهم أن كل إمام على قُطْر له حكم الإمام الواحد على الأمة، وذلك كما يلي:
1- قال الإمام ابن تيمية: «والسنة أن يكون للمسلمين إمامٌ واحد، والباقون نوّابه، فإذا فُرِض أن الأمة خرجت عن ذلك- لمعصية من بعضها، وعَجْزٍ من الباقين – فكان لها عدة أئمة، لكان يجب على كل إمام أن يقيم الحدود، ويستوفي الحقوق»(13).
وهذا الكلام من شيخ الإسلام يقابله ما انطوى فيه من وجوب طاعته، وعدم الخروج عليه؛ لأنه وجب عليه أن يحكم بين الناس ويستوفي الحقوق، قتأمل كلامه رحمه الله.
2- قال الأمير الصنعاني في شرح قوله صلى الله عليه وسلم: « من خرج عن الطاعة، وفارق الجماعة، ومات؛ فَمِيتته جاهلية » قوله: « عن الطاعة »: أي طاعة الخليفة الذي وقع الإجماع عليه، وكأنَّ المراد خليفة أي قطر من الأقطار، إذْ لم يجتمع الناس على خليفة في جميع البلاد الإسلامية من أثناء الدولة العباسية، بل استقل أهل كل إقليم بقائم بأمورهم، إذ لو حمل الحديث على خليفة اجتمع عليه أهل الإسلام؛ لقلَّت فائدته»(14).
3- قال الإمام الشوكاني: بعد انتشار الإسلام، واتساع رقعته، وتباعد أطرافه؛ فمعلوم أنه قد صار في كل قطر – أو أقطار- الولاية إلى إمام أو سلطان، وفي القطر الآخر كذلك، ولا ينعقد لبعضهم أمر ولا نهي في قطر الآخر أو أقطاره التي رجعت إلى ولايته، فلا بأس بتعدد الأئمة والسلاطين، ويجب الطاعة لكل واحد منهم بعد البيعة له على أهل القطر الذي ينفذ فيه أوامره ونواهيه، وكذلك صاحب القطر الآخر، فإذا قام من ينازعه في القطر الذي ثبتت فيه ولايته، وبايعه أهله؛ كان الحكم فيه أن يُقْتل، إذا لم يتب، ولا تجب على أهل القطر الآخر طاعته، ولا الدخول تحت ولايته؛ لتباعد الأقطار، فإنه قد لا يبلغ إلى ما تباعد منها خبر إمامها أو سلطانه، ولا يُدرى من قام منهم أو مات، فالتكاليف بالطاعة –والحال هذا– تكليف بما لا يطاق، وهذا معلوم لكل من له اطلاع على أحوال العباد والبلاد، فاعرف هذا، فإنه المناسب للقواعد الشرعية، والمطابق لما تدل عليه الأدلة، ودعْ عنك ما يقال في مخالفته؛ فإن الفرق بين ما كانت عليه الولاية الإسلامية في أول الإسلام، وما هي عليه الآن أوضح من شمس النهار، ومن أنكر هذا فهو مباهت لا يستحق أن يُخاطب بالحجة؛ لأنه لا يعقلها(15).
وكأن الشوكاني في ختام كلامه يخاطب المغالي ويوصيه بالفهم وعدم مخالفته، ويكثر من حثه بما هو أوضح من شمس النهار من فروق بين ما كانت عليه أمة الإسلام أولا وما صارت إليه آخرًا.
وقد أعجبني تعليق على كلام الشوكاني الذي يفيد: أن طاعة الإمام الواحد غير ممكنة لتباعد الأقطار، فإنه قد لا يبلغ إلى ما تباعد منها خبر إمامها أو سلطانه، ولا يُدرى من قام منهم أو مات، فالتكاليف بالطاعة – والحال هذا – تكليف بما لا يطاق.
فقال: وما ذكره الإمام الشوكاني من علة في ذلك الأمر منتفٍ الآن؛ لسهولة الاتصال بأطراف العالم في أقل زمن وتكلفة، لكن بقي أمر العجز عن الاجتماع، كما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – فبقي الحكم قائمًا أيضًا، والله أعلم(16).
4- وقد تكلم على مسألة تعدد الدول علماء الإسلام من المعاصرين منهم:
(أ) الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: سمى الحكومات بأنها حكومات مؤقتة للضرورة، ولها السمع والطاعة، فإن زالت الضرورة وجبت الوحدة، فقد قال: إن جمهور المسلمين أجمعوا على أن تعدد الإمامة الإسلامية غير جائز، ومقتضاه أن الحكومة الإسلامية التي تتعدد للضرورة وتعذر في ترك اتباع الجماعة هي حكومة ضرورة، تعتبر مؤقتة وتنفذ أحكامها، ولكن لا تكون مساوية للأولى، وإن كانت مستجمعة لشروط الإمامة مثلها، وظاهر القول الآخر الذي عدوه شاذًا أنها إذا كانت مستجمعة للشروط كانت إمامة صحيحة، وهذا هو التعدد الحقيقي، ولكن لم يختلف اثنان في أنها للضرورة، فإذا زالت وجبت الوحدة(17). وأسهب رحمه الله في الكلام على هذه «الضرورة» وتأسى وتحزن على أنها شقت وحدة المسلمين.
(ب) وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: “الأمة الإسلامية تفرقت من عهد الصحابة، تعلمون أن عبد الله بن الزبير في مكة، وبني أمية في الشام، وكذلك في اليمن أناس، وفي مصر أناس، وما زال المسلمون يعتقدون أن البيعة لمن له السلطة في المكان الذي هم فيه، ويبايعونه، ويدْعونه بأمير المؤمنين، ولا أحد ينكر ذلك، فهذا شاقٌّ لعصا المسلمين من جهة عدم التزامه بالبيعة، ومن جهة أنه خالف إجماع المسلمين من عهد قديم.. والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: « اسمعوا وأطيعوا؛ وإن استعمل عليكم عبد حبشي»…”(18).
فهذه أقوال أئمة من عصورنا الحديثة، وسبقهم كلام للعصور السالفة، أدركنا جميعًا بعد قراءتنا لها أن الأمة سلفًا وخلفًا اهتموا بوحدة هذه الأمة، ووجدوا لها المخرج الشرعي عند تفرقها إلى دويلات، فلِمَ العناد والتكبر من المغالين مع وضوح الدلائل والعبارات، أنت معي أنهم يبحثون عن مأرب سياسي، وظهر لنا أن هذا المأرب طبقوه في الصحراء وفي بطون الجبال، فمع تفرقهم إلا أن لكل جماعة منهم أميرا يسوسهم، ويعطيهم الأوامر، ويمدهم بالقنابل، فالذي من أجله خرجوا، هم فيه قد وقعوا.
—————-
الهوامش:
(1) التفجيرات والاغتيالات لأبي الحسن مصطفى السليماني (ص 110).
(2) السابق (ص 114).
(3) رواه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (2/197-198، برقم 321).
(4) رواه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (6/115).
(5) انظر: طبقات الحنابلة (1/58).
(6) انظر: تهذيب التهذيب (2/263).
(7) انظر: منهاج السنة النبوية (4/ 527، 528).
(8) انظر: مجموع الفتاوى (28/279).
(9) انظر: مجموع الفتاوي (4/527 – 531).
(10) انظر: التفجيرات والاغتيالات (ص 111) لأبي الحسن مصطفى بن إسماعيل السليماني.
(11) انظر: سنن البيهقي الكبرى (9/359).
(12) انظر: المستدرك على الصحيحين (1/175، رقم: 331).
(13) انظر: مجموع الفتاوى (34/ 175- 176).
(14) انظر: سبل السلام (3/499).
(15) انظر: السيل الجرار (4/512).
(16) انظر: التفجيرات والاغتيالات (ص 115) لأبي الحسن مصطفى بن إسماعيل السليماني.
(17) انظر: كتاب الخلافة (ص 59).
(18) انظر: الفتاوى الشرعية في القضايا العصرية (ص 81 – 82).
رابط الموضوع : http://www.assakina.com/shobhat/13810.html#ixzz2vSxLpGf8
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق