الجمعة، 7 مارس 2014

"حِوَارٌ بَيْنَ خَاطِرَتَيْنِ, عَنْ مَحَبَّةِ القَرِيبِ الكَافِرِ"

"حِوَارٌ بَيْنَ خَاطِرَتَيْنِ, عَنْ مَحَبَّةِ القَرِيبِ الكَافِرِ"


     الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين.

أغَرُّ عليهِ للنبوَّةِ خاتَمٌ        من الله مشهودٌ يلوحُ ويشهدُ

وضمَّ الإلهُ اسم النبيّ إلى اسمه        إذا قال في الخمسِ المؤذّنُ أشهدُ

وشَقَّ له من اسمه ليُجَلَّهُ        فذو العرشِ محمودٌ وهذا محمّدُ

نبيٌّ أتانا بعدَ يأسٍ وفترةٍ        من الرُّسلِ, والأوثانِ في الأرضِ تُعبدُ

فأمسى سراجاً مُستنيراً وهادياً       يلوحُ كما لاحَ الصقيلُ المُهَنَّدُ

وأنذَرَنا ناراً وبَشَّرَ جنَّةً       وعَلّمَنَا الإسلامَ فاللهَ نحمَدُ

وأنتَ إله الخلقِ ربي وخالقي        بذلك ما عمّرت فيا الناسِ أشهدُ

تعاليت ربَّ الناسِ عن قولِ من دعا      سِوَاكَ إلهاً, أنت أعلى وأمجدُ

لك الخلقُ والنّعماءُ والأمرُ كلُّهُ       فإيّاكَ نستهدي وإياكَ نعبُدُ

        وبعد: فذاتَ سَحَرٍ رمضاني صحا القلب على ترنيمتَي سَحَرٍ تطرقانه وتهتفان به، خطرت الأولى وعلى إثرها أختها، تهفو كل منهما لولوجه، وتتربع على يقينه. كان  ذلك على ضوء مصباحِ مدارسةٍ مع أحد أجلّةِ مشايخي، ومن وحي تلك المدارسة قلت: ما عَدَلَ من حكم قبل سماع المتخاصمتين الودودتين، والصديقتين اللدودتين, فأدليا بحجتيكما، وابسطا برهانيكما، والتزما تعظيم جناب الجبّار، وأحسنا فيه الظن فهو الستير الغفار، وأوجزا ولا تكثرا, والسكوتُ خيرٌ من عيِّ المنطق. وكان سجالهما في موضوع حكم محبة القريب الكافر محبّةً طبيعية لا دينية.

    قالت الأولى: لا يحلّ لمؤمن أن يحبّ كافراً، ولو كان أقرب قريب، ولو كان الوالد والولد والزوجة، أبداً حتى يؤمنوا بالله وحده. قال الله تعالى: "لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم" ومن استثنى أحداً بعد هذا العموم فعليه الدليل, وأنّى له! والتعامل معهم يكون بالرحمة والشفقة, لا المحبة والمودة.

وهل يُنبتُ الخَطِّيَّ إلا وشيجَهُ     وتُغْرَسُ إلا في منابتها النخلُ

وبهذا أفتى إمام عصره ابن باز.

     وقالت أختها: حالي كحال الأعشى حينما قال:

قالوا الركوبَ فقلنا تلك عادتنا       أو تنزلون فإنا معشرٌ نُزُلُ

    بل المحبة محبتان، شرعية دينية فهذه للمؤمنين, ولا حظّ فيها لكافر سافر ولا لمشرك فاجر. والأخرى محبة طبيعية، قد جعلها الله جبلّة وغريزة في قلب المرء وضرورة نفسانية في لبّه لا تنفك عنه، كمحبة الوالد والولد والزوجة حتى وإن كانوا كفاراً، وهي الوجه الآخر للمحبة، وهي خارجة عن حكم تحريم مودة الكفار، لأنها غير ملازمة للمحبة الدينية والبغضاء الدينية، فبينهما انفكاك في الحال والمآل والحكم. فقد تجتمعان جميعاً وقد ترتفعان جميعاً وقد تثبت واحدة دون الأخرى. وبهذا جزم جمعٌ من أهل العلم ولعلّهم الأكثر.

     ثم تحاورتا وتساجلتا، في ساح المناظرة, وأمعنّا جميعاً النظر, وأنعمنا التأمل والفكر, وبعد انجلاءِ قَتَرِ المثافنة والعِراك, ولبُود النّقعِ بعد الحِرَاك, والسكونِ بعد التلاقح, والهدوءِ بعد الضجيج؛ اتفقنا آخراً على رقم هذا المنشور:

    إن لزجر آية: "لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم" لقرعاً لكل قلبٍ تقيٍّ وَجِلٍ، فالجرأة على إخراج أحد ممن حادّ الله ورسوله بعدها لعظيم، إلا لمن اطمأنَّ بدليل, مشفوع بتعليل، ولكن لِمَ لَمْ يذكر الزوجات مع الآباء والأبناء والعشيرة, مع أن مودتهن قائمة مع طول العشرة بلا ريب؟! هل ذلك اكتفاء بآية الممتحنة: "ولا تمسكوا بعصم الكوافر"؟ لكن أين ذلك من آية المائدة: "والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم"؟ إلا إن كانت العِلَّة من إباحتهن دعوتهن أو سد حاجة الرجل المضطر فلا إشكال، لكن الآية لم تشر للاضطرار, بلْه الحاجة! وبالقول بدعوتهنَّ؛ يُقْبِلُ اليُسْرُ من طرفيه، فمن جهتهن فهن زوجاتٌ مسُودَاتٌ عانياتٌ, وذلك أدعى لقرب إسلامهن وأرجى، خاصة بعد إخراجهن من بين يدي آبائهن الكفرة وتسلطهم وحؤولهم دون تلقي هداية الإرشاد تامّة.

    ولكن يورَدُ على ذلك تخصيص الحلّ بالكتابيات، وجوابه: أنهنّ أقرب للإيمان والإقرار بالرسل والكتب, فهُنَّ يتعبّدن ببقايا كتاب محرّفٍ, ويتبعن رسولاً من رسل الله وإن كان رسماً دون تحقيق، واعتَبِرْ ذلك بالقيد "محصنات" أي عفيفات في دينهن, وهذا يكون لمن لهنّ صلة بكتاب، حتى إن كُنَّ كافرات في الجملة.

      لذا إن خشي الزوجُ على دينه؛ وَجَبَ الفراقُ بلا ريب، فقد ختم الله الآية بقوله: "ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين".

     ولكن ثمّ أمران: أحدُهما قولُهُ تعالى في القصص: "إنك لا تهدي من أحببتَ" فنسَبَ المحبة له, فهل الحبُّ هنا هو حب الطبيعة والجبلّةِ والإحسان؟ كما ذهب لذلك جمعٌ كابن كثير والسِّعْدِي، ولا أعلم أحداً من أهل القرون المفضلة قال به، إلا إن كان الأمرُ  اكتفاءً بظاهر الحال لبعض الأصحاب دون تفصيل المقال!

    أم المعنى: إنك لا تهدي من احببتَ هدايتَهُ؟ كما قطع بذلك الطبري، وإن كان قد جعل للوجه الآخر وجهاً وإن لم يقل به. إذن فالأمر بحمد الله محتملٌ ولكلِّ حظُّه من النظر، فَثَمَّ سعةٌ إن شاء الله لمن أخذ بالقول الأول: وهو إباحة الحب الطبيعي الغريزي الإنساني لذوي القرابات كذا الزوجات الكتابيات، دون الحبِّ الديني الذي تُحملُ عليه آيات تحريم المودة للكفرة، وقد نحا لذلك العثيمين والفوزان والبراك والخضير والسَّعد في جمع من أهل العلم. وإن كان القول الأول أظهر وأقوى وأسدّ وأحوط، كما جزم به ابن باز وغيره.

    الثاني: هل يُتصوّرُ أنَّ رسول الله صلوات الله وسلامه عليه كان يبغضُ أُمَّهُ بغضاً تامَّاً كذلك والدَهُ؟! أم أن الله ابتلاه بكفر أبويه حتى يستخلصَ منه كمال الولاء والبراء, وقد فعل بأبي هو وأمي وولدي ونفسي؟ إذن فقد يكون بكاءُهُ على جَدَثِ والدته من قبيل الشفقة والرحمة، دون المحبة والمودة؟ ولكن هذا محتاجٌ لطول تأمل، ولست عليه بجريئ. بل إني لأتصاغر وأتحاقر حتى لأكاد لا أحس بنفسي حياءً وإجلالاً وتوقيراً! وحُقّ لكل مؤمن ذلك، فلمقامِ النبوة وأنوارِ الإجلال وأمواج المحبة؛ هيبةٌ تكسر أجنحة الإيغال في تأمُّلِ حالِهِ، والسباحةِ في التفكّر في جوّ مشاعره وبحر أحاسيسه، وقد خاب من ولد آدم من رام إدراك حقائق ما في قلبه على التفصيل، أو تَوَهُّمِ ذلك على التحقيق, كيف وهو من اصْطُفِيَ من النسل الآدمي، وشُقَّ صدرُهُ وغَسَلَ جبرائيلُ قلبَهُ، ونزع منه حظّ الشيطان منه وألقاه، وغَسَلَهُ تارة أخرى للمعراج العظيم لخطاب رب العالمين، وارتفاعه جسداً وروحاً وقدْراً فوق الطِّباق حتى رأى سدرة المنتهى, ودخل الجنة ومشى على أرضها, ورأى النار على الحقيقة وبعضَ أهلِها, وكلَّمَهُ الجبارُ جل جلاله وتقدست أسماؤه وصفاته، فقرّبه وأدناه, وفرض عليه الصلوات، وأذن له بالتردّد عليه للتخفيف عن أمته، ومع كل هذه العظمة والجلال وسُبُحَاتِ البهاء مدحه رب العزة بقوله: " مازاغ البصر وما طغى" عليه الصلوات والتسليمات والبركات من رب البريات. وخالق الأرض والسماوات. ولله الحمد كما ينبغي له أن جعلنا من أتباع هذا الكامل الخاتم العبد الرسول، الذي أُعطيَ ناموساً ما ضرب الخافقين مثله، ولا رُحمت البشريه بشبيه له، فلله الحمد كله.

شوقاً إليك تفيضُ منه الأدمُعُ       وجوىً عليك تضيق عنه الأضلُعُ

     ودونك في ذيّاكَ السبيل شيئاً من إشارات أخبار خيار أمته في البراءة لله من كل عدوٍّ له:

نجومُ ظلامٍ كلما غاب كوكبٌ        بدا ساطعاً في حِنْدِسِ الليلِ كوكبُ

    أبو عبيدة قَتَلَ والده, فمُدح لإلغائه محبة الطبيعة بإزاء محبة الديانة. وكأن هذه جادّة للأصحاب رضي الله عنهم كأبي بكر في كلامه على قتل ابنه, وعمر في ابن عمّه، وعلي في قتل أبناء عمومته..وإن كان يَرِدُ على ذلك تنزيلها على حال حربهم لله ورسوله، فمن المحتَّماتِ اضمحلال بل إلغاء تيك العلاقة الطينية، إذ الأمر تقابل كفر وإيمان. وهذا هو الأشبه بفضلهم والأشكل بهم والأليق بسجاياهم.

ذاك وادي الأراكِ فاحبس قليلاً         مُقْصِراً في ملامتي أو مُطيلاً

    وأم المؤمنين أم حبيبة لما استأذنت لأمِّهَا أمرَها صلى الله عليه وسلم بالصلة ولم يذكر مودة، كذا فعلها مع أبيها في طي الفراش. وكل ذلك يسلكه نظام واحد وهو كمال البراءة من الكفر والكفار.

     وتحقيق ذلك البراء إنما هو بتحكيم آية الممتحنة على الطبعِ المُبْتَلَى، فصراحةُ الآيةِ ونَصَاعةُ بيانها كفيلة بإجلاء كلّ غَبَشٍ عن عين المتدبر "وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده" والآية نزلت في معرض المدح وسياق الثناء فتعمّ، ومن خصها فعليه الدليل.

    أما إباحة الكتابية؛ فمعلوم لكل حنيف أن المشركة لا تُضاهي المؤمنة الموحدة مهما علا قدرها وجلّت منزلتها في رتب الدنيا، لذا فهي مباحة بشروط لا مستحبة بإطلاق، وشتّان! وهاتان مرتبتان فَصَلَتَا المرأتين، فمن أدخل الزوجة الكتابية في حكم مودة الزوجة المؤمنة فقد تكلّف وتحكَّم، لأن سياق المنّةِ بالزواج تابع للمنن بالهداية، وهذا مالا يتأتى في الكافرة بحال!

    أما القول بالمحبة الطبيعية موازاة للدينية وأنهما غير متلازمتين فهذا صحيح من حيث الطبيعة البشرية، فللحب أطراف وشعب وأوجه، ولكن ليس هذا مناط الحكم ومحك الخلاف، فلسنا بسبيله, بل المناط هو هل يحلّ ذلك شرعاً؟ هنا تختلف أسنَّةُ النظر، وتتطاعن أقران الفِكَر، ويتقاطع محوري الخلاف.

     وهل يَسْلَمُ صاحبه من الذمِّ والذنب، خاصةً إن كان في مقدوره الانفكاك من ذلك بفراق الكافر القريب أو الكافرة الزوجة، أو على الأقل بالعُزلةِ الشعورية ووضع حجاب البراء بين قلبه وبين مشاعره حيال ذيّاكَ الإنسان الذي فَجَرَ وَكَفَرَ، فإنّ ألحّت الضرورة النفسانية بالمَيلِ فليولِجْهَا لُجَّةَ المرحمة دون المحبة, وليُركِبْهَا فُلْكَ الشفقة دون المودّة, بِمَنْ هذا حاله وذاك مآله إن لم يهتد!

     فإن أبى الطبعُ العاثرُ والقلبُ المعذَّبُ إلا صريحَ حبِّ الطبيعة فليستغفر ربه، وليعُدَّ ذلك من ذنوبه التي تستغيث توبة واستغفاراً، فهذا من الامتحان العسير لا شك لأن العشق غلّاب إلا من وُفِّق، ولكن: "أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى" "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا".

     فإن قيل فالأصحاب الأطهار قد تزوجوا بكتابيات كابن اليمان عليه من الله الرضوان! قلنا: أثبتوا ذلك أوَّلاً، فإن فعلتم فاحملوها على ما ذكرنا في سياق آية المائدة، فالمؤمنة الأصل والكتابية الاستثناء، والاستثناء لا يقيّد إطلاقات الأصل إلا ببينة، وما ثمّت، فما من دليلٍ صريح على مشروعية تقسيم المحبة لطبيعية ودينية، ويعزّزُ ذلك حالُ الصحابة ونبيهم صلوات الله وسلامه عليه في البراءة التامة المقتضية للبغض التام.

      فإن قيل: فأينكم عن قول رب العزة جل جلاله: "وجعل بينكم مودة ورحمة" قلنا: قد قال ربنا "بينكم" أي أهل الملة شرعاً، وإن كانت المودة قد تتخلف قدراً كما قال: "فإن كرهتموهن".

     فإن قيل: قد سلّم المشرّعُ صلوات الله وسلامه عليه أمره لربه في أمره كله وفي القِسمة حين قال :"فلا تلمني فيما تملك ولا أملك" رواه أحمد وأهل السنن, وهذا في الحب والمودة التي لا سلطان له عليها، فالجواب: أن أمهات المؤمنين لهن كامل المودة شرعاً وطبعاً لذا فهن غير داخلات في المسألة.

     ومن ابتلي بزوجة كافرة وأبت الإسلام وخاف على نفسه أو ذريته فالفراق الفراق، قبل يوم الفراق"يومئذ يتفرقون" قال قتادة: هو الفراق الذي لا لقاء بعده.

دهاك الفراق فما تصنع         أتصبر للبين أم تجزع؟!

إذا كنت تبكي وهم جيرة       فكيف تكون إذا ودّعوا؟!

    فعلى من كان في البَرِّ والسكون أن يقنع ويرضى، ومن خاض البحر الخضم فالله يتولى الصابرين. ومن بُلي بقريب من هؤلاء فإنما هي الجنة أو النار، فليُشفقْ وليرحم, وليدعُ وليدعُ وليدعُ، وليتذكر محادّة ذلك الإنسان لرب العالمين ومبارزته بالكفر إصباحاً وإمساءً، وهل أعظم ممن رمى  الله بالصاحبة والولد؟! تعالى الله وجلّ وعزّ, كما قال أحمد: لا أطيق أن أنظر إلى نصراني وقد قال في الله ما قال! وليعلم أن عهود المحبّين تقتضي من الُمحب الصادق أن لا يحب عدوَّ حبيبه الحق، ولو استغرق حب الله تعالى قلبه لخرج كل عدو لله منه.

      فهذا من محكّات ابتلاء العباد المحبين، فليعِظْهُ وليدعُه بالحسنى, فإن كان وإلا فالبراءة حالاً ومقالاً، خلا الصلة والإحسان، وليروّض عواطفة بالشريعة، وليوطّنها حمى الإيمان وليخطمها بزمام الصبر واليقين، وليتعلق بالملك الديان...والله المستعان وعليه التكلان.

ولا بُعْدَ من خير وفي الله مطمع      ولا يأسَ من رَوْحٍ وفي القلب إيمانُ

وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

إبراهيم الدميجي

26شوال1433

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق