الجمعة، 7 مارس 2014

هل انتشر الإسلام بحد السيف؟!

سلسلة حلقات كشف الشبه عن الإسلام

 هل انتشر الإسلام بحد السيف؟!

    الحمد لله القوي الكبير المتين,  القهار الجبار العظيم. قال في محكم التنزيل: "ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين . إنهم لهم المنصورون . وإن جندنا لهم الغالبون" (الصافات: 171_173) "كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز" (المجادلة: 21) وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, أنزل الحديد فيه بأس شديد ليتحقّق في عالم الشهادة عِلْمُهُ في من ينصره فيفلح, ومن بالخذلان يرميه فتخسر صفقته وتخيب سَفْرَتُه, وبسكين الشقاء يُذبح. وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله خير الورى وسيد الأنبياء, نبي الرحمة والملحمة, الضحوك القتَّال, قرَع الله بناموسه ما بين الخافقين, وشقَّ نور هديهِ ظلمات الثقلين, فأشرقت الأرض بنور ربها. أعنقت إليه منقادة ألبابُ الحكماء, وكرعت في بحر هديه حتى ضربت بعطنٍ أفئدةُ العلماء وفِطَرُ البسطاء. القائل فيما رواه الشيخان: "نصرت بالرعب مسيرة شهر"  عليه الصلاة والسلام والبركة والنعمة عدد ما ذَرَّ في الأفق شارقٌ ولمع في الخضراء بارق, ورضي الله عن الأصحاب والتابعين والأتباع السابقين والأبرار, زينوا مُحيّا الدنيا بعبادتهم وجهادهم, إذ دعوا الناس لدين الله بالحسنى, وقاتلوا في سبيل الله من أبى. دعوتهم: الإسلام, فمن أبى فالجزية والصغار, فمن ركب ضلالة رأسه أذاقوه الحتف المبين.  فلله أجساداً لهم طاهرة منثورة في تنائف الغبراء إعلاء لدين رب العالمين. حقيق بألويتهم الصادقة وكتائبهم السابقة وصف ابن برْدٍ:

إِذا الـمَلِكُ الـجَبّارُ صَـعَّرَ خَـدَّهُ    ...   مَـشَينا إِلَـيهِ بِـالسُيوفِ نُـعاتِبُه
وَكُـنّا إِذا دَبَّ الـعَدُوُّ لِـسُخطِنا   ...   وَراقَـبَنا فـي ظـاهِرٍ لا نُـراقِبُه
رَكِـبنا لَـهُ جَـهراً بِـكُلِّ مُثَقَّفٍ  ...    وَأَبـيَضَ تَـستَسقي الدِماءَ مَضارِبُه
وَجَيشٍ كَجُنحِ اللَيلِ يَرجُفُ بِالحَصى  ...    وَبِـالشَوكِ وَالـخَطِّيِّ حُـمرٌ ثَعالِبُه
غَـدَونا لَهُ وَالشَمسُ في خِدرِ أُمِّها  ...    تُـطالِعُنا وَالـطَلُّ لَـم يَجرِ ذائِبُه
بِضَربٍ يَذوقُ المَوتَ مَن ذاقَ طَعمَهُ  ...    وَتُـدرِكُ مَـن نَـجّى الفِرارُ مَثالِبُه
كَـأَنَّ مُـثارَ الـنَقعِ فَوقَ
 رُؤُسِنا   ...  وَأَسـيافَنا لَـيلٌ تَـهاوى كَواكِبُه
وَأَرعَـنَ يَغشى الشَمسَ لَونُ حَديدِهِ   ...   وَتَـخلِسُ أَبـصارَ الـكُماةِ كَتائِبُه
تَـغَصُّ بِـهِ الأَرضُ الفَضاءُ إِذا غَدا   ...   تُـزاحِمُ أَركـانَ الـجِبالِ مَـناكِبُه
     مُـعِدّينَ ضِـرغاماً وَأَسـوَدَ سالِخاً  ...    حُـتوفاً لِـمَن دَبَّـت إِلَينا عَقارِبُه

    ألا فالتهتزّ يا ابن الأكرمين لذكر سلفك المجاهدين الذين مدّوا لنا سلالم المجد والعلا بدمائهم وبنوا لنا  دَرَجَ الخير والهدى بجماجمهم, فرضي الله عنهم وألحقنا بهم غير خزايا ولا ندامى ولا مفتونين ولا مبدّلين. أما بعد:

    فمن مرارات الليالي وحرقات الأيام؛ أن يرى المؤمن فئاماً من خيرة قومه يتساقطون صرعى في حتوف شبهات أهل الغضب والضلال, ويستطيبون طعم الباطل وهو طُعْمُ صيدهم لو كانوا يعلمون! فغدا الصائد مصيداً, ولو تدرّع العزّة ابتداءً لهابَتْهُ الثعالب والرخم, والليثُ إذا نسيَ جنسه قادتهُ الأحمرة.. ألا بئس الرأي الدَّبَرى!

    في هذا الزمان العصيب, يهرول بعض سراتنا طارقين أبواب أهل الكتاب, رافعين شعار الحوار لكن ليت شعري: أيّ حوار هذا؟! فإن كان لدعوتهم للإسلام أو كف شرهم عن الأمة أو الاتفاق على مشتركات لا تخل بالثوابت تخدم الأمة ولا تستذلها وترعى مصالحها ولا تجتاحها؛ فحيهلاً. أما غيرها من تقريب هدي (الآخر!) وتسويغ فِرَاه, وإقرار تغلُّبه, وتمييع الثوابت؛ فلا ثم لا! هذا جانب.

    أما الجانب الآخر؛ فيزعم بعض قومنا أن الحوارات القائمة مع أهل الأديان لا تمسُّ الأديان, ولكن يأبى عبّاد عزيز والصليب والبقر وبوذا ذلك! فقد رأينا وسمعنا الحاخام يبهت وينبح, والقس يهزأ ويجرح, والكاهن البوذي يذبح, وبعض بني قومنا لا يبيتون على خسف يرادُ بهم!

    ورأينا آخرين يهيمون في غيهم لإبطال شريعة الجهاد على غير هدى, إذ نفوا شرعية جهاد الطلب جملة وحشروا نصوص الوحيين في الدفاع فقط, فضلوا وأضلوا. بل ألف بعضهم الكتب وسطر الطروس وأحال على المحال برد الظواهر القواطع من براهين الوحي المنزل! وكم أقيمت المؤتمرات وأُنشئت الندوات من أجل نشر هذه البدعة الدنيئة! والخطر كامن في تبني بعض الهيئات الإسلامية العامة, وبعض الشخصيات العلمية المتبوعة بدعة القول بأن الإسلام ليس فيه جهاد الطلب إنما هو الدفاع فقط..كَبُرَتْ كلمة! فمهلاً يا نعايانا!

إلى كم ذا التخلّف والتواني   ...   وكم هذا التمادي في التمادي؟!

    هل أصبح رضى الكافرين أحب غائب إلينا؟! إلا إن تلك المُنَى أكذب من سراب, وأقفر من خراب "ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم" (البقرة:120) فيا قوماه الوَحَا الوحا! فالأماني تخدعكم, وعند الحقائق تدعكم!

    إخوتاه! إياكم والضَّعةِ والهوينى, وخذوا الكتاب بقوّة, وكونوا كما قال أبو تمام:

أعاذلتي ما أخشن الليل مركباً  ...  وأخشن منه في الملمات راكبه

ذريني وأهوال الزمان أُقاسها   ...   فأهواله العظمى تليها رغائبه

    لقد نادى على نفسه بالجهل من دعا إلى نقض شطر فريضة الجهاد بحصره في الدفاع دون الطلب, إذ تأباه الآيات وترده الأحاديث وتشهد ببطلانه المغازي, وينقضه الإجماع المنعقد. ونحن لسنا بحاجة لأن نعرض إسلاما مشوهاً, رغبة في ثناء أعدائه! "وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم" (القتال: 38) فيا دعاة الانفتاح, ماذا فتحتم في حصن أمتكم من حصون حصينة وثغور منيعة؟! ما ذا تركتم للمُثَّاقلين؟! والمُمِضُّ أن لسبيلهم سابلةٌ, ولدعواتهم قلوبٌ قابلة.

    فإن سُئلوا: ما براهينكم؟ أحالوا على نصوص الرفق والكفّ والعفو والمسامحة, غافلين عن أضدادها في مكانها وزمانها وأهلها, ثم نراهم يُضحكون الثكلى باستدلالهم بدخول شعوب في الإسلام بجهاد الكلمة دون جهاد الطلب! وهذا لعمر إلهنا تسطيحٌ للمسالة, ولَجَجٌ في المناظرة! فالجميع متفقون على أن الغاية من جهاد السيف هي نشر الإسلام, فإن تحقق الأمر بدونه فقد كُفِيَ المجاهدون, لكن ماذا إن أبى الطغاة وتفرعن الجبابرة؟! وحتى لا يكابر المخالف؛ فنقول: كيف دخل الإسلام البلاد من الهند وخراسان شرقاً إلى تركيا وألبانيا وكوسوفا شمالاً, إلى مصر والمغرب العربي والأندلس شرقاً؟ بل من فتح فارس والعراق والشام واليمن؟ أليست سيوف الصحابة والتابعين والأتباع؟!

    ثم يركض بعضهم بشبهة مفادها؛ أنه لم يجد في الوحيين لفظ جهاد الطلب. والجواب: أن أهل العلم أخذوه استقراءً, فسبروا وقسّموا تسهيلاً لطلاب العلم, وهو مصطلح لا مشاحة فيه, فاقبلوا بمعناه الذي دلت عليه النصوص ثم سمّوه ما شئتم. فالسلف لم يسموه بذلك لأنهم نظروا للجهاد كتلة واحدة, ومن أخرج جهاد الطلب فهو المطالب بالدليل, لا لأنه خالف المصطلح بل لأنه خالف الدليل.

    ثم سار المبطل في طِوَل غيِّه فتعلّق برسالة منسوبة لشيخ الإسلام ابن تيمية, ويزعم فيها أن شيخ الإسلام يقرّ ما نَحَتْ له مُبْطِلَةُ جهادِ الطلب! مع أن هذه الرسالة لم تثبت, ولو أنّهم نسبوها لغير هذا الإمام الذي جاهد في مصنفاته لإثبات جهاد الطلب ونافح عنه لكان لنسبتهم وجه, وقد نفاها جمع من أهل العلم الذين خبروا مصنفات شيخ الإسلام كسليمان بن حمدان وابن إبراهيم وابن قاسم وابن باز وغيرهم, وهي عبارة عن نصوص ملفق بعضها من كلام شيخ الإسلام مع زيادة ونقص, وقد وجّهها بعض الفضلاء توجيهاً وسطاً فقالوا بأنها لو صحت؛ فالمراد منها الرد على قويلٍ فقهي ضعيف, يقول أصحابه بأن قتال الكفار هو لأجل كفرهم لا حربهم, ولهذا فهؤلاء يرون قتل كل كافر, سواء كان قادرًا على القتال أو عاجزاً عنه، محارباً أو مسالماً إلا النساء والذرية, فأبطل الشيخ هذا القول الشاذ. وحتى لو افترضنا نصر الشيخ لمذهبهم فلا عبرة بكلام أحد خالف الوحي ومنهج السلف الصالح كائناً من كان.

    والعجب أنهم نسبوا قولهم لجماهير العلماء وحكموا على من خالفهم بالشذوذ! فهلّا بينتم يا أهل الإجمال؟! 

شُبَهٌ تهافتْ كالزجاجِ تخالها   ...  حقًّا وكلٌّ كاسرٌ مكسورُ

    والعجب لا ينقضي من هؤلاء الذين يتهمون من قال بجهاد الطلب بالشذوذ, وينسبون رأيهم للجمهور, مع أن قولهم هذا محض بدعة رديئة, ومخالفة للإجماع المنعقد, وكفى بذينك ضلالاً مبيناً. وقد نقل الإجماع شيخ المفسرين ابن جرير الطبري في تفسيره (4/ 269)  كذلك ابن عطية في تفسيره (2/ 43) وقال العلامة ابن باز: "أما قول من قال بأن القتال للدفاع فقط، فهذا القول ما علمته لأحد من العلماء القدامى، أن الجهاد شرع في الإسلام بعد آية السيف للدفاع فقط، وأن الكفار لا يُبدؤن بالقتال وإنما يشرع للدفاع فقط". مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (3/171-201)

    وكأن هؤلاء لم يعلموا أن الخلاف إنما هو في فرضية جهاد الطلب هل على الأعيان, أم على الكفاية, وقد هجروا قول من استحبّه. ولم يقل أحد من المتقدمين بعدم مشروعيته, لكن أفراخ الاستعمار من العصرانيين استساغوا ذلك فشقّوا كلمة الأمة وخرقوا إجماعها.

ويعرفُ أخلاق الجبانِ جوادُهُ   ...   فيُجهِدُهُ كَرًّا ويُرهِقُهُ ذُعراً

ومن يَحْلُ تِطلابَ المعاني بصدره   ...   يجدْ حُلوَ ما يُعطاهُ من غيرِها مُرّاً

    وبعضهم قد يظن أن الرأفة والرحمة مانعتان من جهاد الطلب, ولو أنعمَ التأمل لأيقن أن الرحمة بحذافيرها في جهاد الطلب, لكن الميزان مائل!"والآخرة خير وأبقى" (الأعلى: 19) 

    ولْتنزّل معكم مفترضين صواب تضعيفكم حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بُعِثْتُ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ بالسَّيْفِ حتى يُعبدَ اللهُ وحدَه لا شريك له، وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلّ رُمْحِي، وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَأَمْرِي، وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُم" رواه أحمد وصححه جمع من النقاد, فما أنتم صانعونحيال محكمات الآي: "واقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ" (البقرة:191) "وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا" (البقرة:217( "فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً" (النساء:89( "فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُواوَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ" (التوبة:5) "إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ" (التوبة:111) "فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ" (محمد:4(

    كذلك صريح السنة التي تُبطل ما بنيتموه وزيفتموه؟! كقوله عليه الصلاة والسلام "أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله, ويقيموا الصلاة, ويؤتوا الزكاة, فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله تعالى" متفق عليه. كذلك بفعله في جل مغازيه المباركات عليه الصلاة والسلام. وفي حديث بريدة رضي الله عنه المخرج في مسلم وغيره قال: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَمَرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ, أَوْصَاهُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا، ثُمَّ قَالَ: "اغْزُوا بِسْمِ اللَّهِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ ... فَإِنْ هُمْ أَبَوْا أَنْ يَدْخُلُوا فِي الإِسْلامِ فَسَلْهُمْ إِعْطَاءَ الْجِزْيَةِ، فَإِنْ فَعَلُوا فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ ، فَإِنْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ" وله من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في ذكر حديث فتح خيبر وإعطائه الراية علياً رضي الله عنه وأنه قال له: "امش ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك" قال: فسار علي شيئاً، ثم وقف ولم يلتفت فصرخ: يا رسول الله: على ماذا أقاتل الناس؟ قال: "قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله".

    فليت شعري! أين يذهب بنا أولئك المخذّلون؟! "وأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض" (الرعد: 17)

    وهذا المقال شطره لإخواننا ممن شُبِّهَ عليهم الأمر, وشطره لمن هم خارج دائرة الإسلام ممن راجت عليهم شبه أعدائه.

    والآن إلى تفصيل الكلام على السؤال الذائع المُحدث:  هل انتشر الإسلام بحد السيف؟!

    والجواب: أن في هذا السؤال إجمال موهم, فهو محتَمِلٌ لأكثر من مقصد, فإن كان القصد منه هذه الصيغة: هل أمر الله بالجهاد لإكراه الناس وإجبارهم على الدخول في الإسلام_وهذا هو المتبادر لأذهان الكثير عند طرق السؤال أسماعهم_؟ فالجواب قطعاً: لا.

أما إن كان القصد منه هذه الصيغة: هل أمر الله بالجهاد في مناكب الأرض لدعوة الناس إلى الإسلام عبر دعوتهم قبل قتالهم على الترتيب إلى اعتناقه, فإن أبوا فبدفع الجزية, فإن عاندوا فبقتالهم قتالاً كريماً يحفظ حقوقهم كحفظ العقد, وإيفاء العهد, وإبرار الذمة, واجتناب الُمثلة, والإحسان للأسرى, والكفّ عن الضعفى والزمنى والأطفال والنساء والمنفردين في الصوامع..ونحو ذلك من آداب الجهاد النبوي؛ وكان القصد إزاحة الطواغيت الجاثمة على حريّات الناس وإعطاء الفرصة للإسلام لإظهار حقائقه مع قرعِ أفئدتهم وإيقاظها بجزية رمزية قد تكون أقل من نصاب الزكاة المفروض على المسلمين, فهذا حق لا لبس فيه. والجواب فيه بالإيجاب.

    ولك أن ترى الفرق بين إكراه الناس على الإسلام, وبين إزاحة الطواغيت. فالأول قَيْدٌ للحريّة, وإدخال في نفق النفاق! أما الثاني فهو فتح الحريّة للقلوب لتختاره إن شاءت عن قناعة ورضى ويقين. فإما الإسلام _وهو الغاية الخالصة_ فيكون له ما للمسلمين وعليه ما عليهم, وإما الجزية, والجزية تعبير عن تبعيته لولاية الإسلام, أو ما يسمى الحكومة الإسلامية, لذلك رُوعي فيها الذل والصغار قرعاً لقلبه, وتنبيها لِلُبِّهِ علَّ إباء ذل الكفر وصغاره يُنفخُ فيه فيسعد سعادة الدارين, فإن أبى إلا دينه الباطل؛ فلا إكراه في الدين, شريطة ألا يضل الناس ويمنعهم من الدين القويم. أما إن أبى الرؤساء والكبراء إلا الجلاد؛ فلا بد منه نصحاً ورحمة بأهل المعمورة أجمعين.

    فالحوار بالحكمة والموعظة الحسنة يكون مع المخالف ابتداءً, فإن لجّ في تردُّدِه, وتعلّق بشبهاته؛ فيُجادل بالتي هي أحسن لهدايته اليه برفق, فإن عاند الحق وكابر الهدى بعد الظهور والبيان؛ فبالجلاد ما أمكن, وبجرّه إلى الجنة بالسلاسل, وبإزاحة سلطانه عمن خلفه ممن استضعفهم واستخفهم "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون" (العنكبوت: 46)

    يا سادةَ الحضارةِ؛ ليس باللين فقط تكمل الأخلاق! فقد يركب الحليم المجرب مراكب الخطر وأسنة الرماح دفعاً لثفال الباطل, وإحقاقاً لمباني الهدى, وإمضاءً لشُهُب الحق ..بل أحياناً:

أحلامنا تزن الجبال رزانة   ...  وتخالنا جِنّاً إذا ما نجهلُ

    والكليم عليه السلام قال للمدعوِّ المتكبر: "وإني لأظنك يا فرعون مثبوراً" (الإسراء: 102) ورسول الهدى صلى الله عليه وسلم قال للمدعويين: "أتيتكم بالذبح" رواه أحمد بسند حسن. وقال لمن حكم بقتله لما قال: من للصِّبْيَة؟ قال: "النار"! رواه أبو داود وصححه الألباني. ووضع الندى في موضع السيف بالعُلى مضرٌّ..

    وبالجملة؛ فلكل حال لبوسه, فالأصل والقاعدة الرفق واللين والتبشير والإحسان. والاستثناء عند موجبه هو الإنذار والشدة والقتل, ويا منصور أَمِتْ!!

    يا رفاق: لقد كدَّرَ شِرْبَ العلومِ شَوْبُ الأهويةِ, فلكم تزعزعت بِقَالاتِ السوء أبنيةُ المتقين, ووهنت عزائمُ المؤمنين, واضطربت ثوابتُ الزاهدين! ولكنهم لا يُعدمون نصح الناصحين:

وشمِّر فقد أبدى لك الموت وجهَهُ  ...   وليس ينال الفوزَ إلا المُشمرُ

وأخلص لدين الله صدراً ونيّةً   ...   فإن الذي تخفيه يوماً سيظهرُ

    يا صاحبي: كم زُخرف باطل وسُوِّقَ, وَرُدَّ حقٌّ وأُميت ..بركوب رواحل المجملات؟!

وسبيل الهدى هو التفصيل لا الإجمال, خاصة عند معترك التنازع. ألا وإن كلام مسوِّقي بدعة نفي شرعيّة جهاد الطلب؛ محضُ انهزام, يدل سائره على غابره, وأوله على آخره. ومراد أهل الأهواء من التكلم بالعبارات المشتبهة المجملة خداع الجهلة وخبط أذهانهم بالمجملات, فلا يتنبهوا لها, فيطيروا بهم لمهاجع الضلالة ومراقد الفتن! ولا يعني هذا ولا ما قبله ولا ما بعده اتهام من قال بتلك البدعة بسوء النية والقصد, بل الغرض هتك باطله ودحض شبهته, وإلا فهو أخو في الدين كريم, قد راجت عليه شبهة ظنها حقاً, أو هجمت عليه شهوة ظنّها هيّنة, أو اختلط سيل الشهوة بأبطح الشبهة, وكم لأبي مِرَّة من شهوة في ثوب تأويل!  

    قال تقي الدين ابن تيمية مبيناً شر المجملات عند التنازعات, وفي كلامه من نفس إمام السنة المبجل: "أهل البدع يتكلمون بالمتشابه من الكلام, ويخدعون الناس بما يشبهون عليهم, مثل قولهم: ليس بمتحيز ولا في جهة ولا كذا ولا كذا, فإن هذه ألفاظ مجملة متشابهة, يمكن تفسيرها بوجه حق, ويمكن تفسيرها بوجه باطل" (الفتاوى الكبرى) ( 6 / 353 ) وقال: "وما يذكره هؤلاء من تعظيم علوم الأسرار، والأمر بكتمانها عن الجمهور، وقصور الجمهور عن إدراك حقائق، هو كلام مجمل, يقوله الصديق والزنديق!" (درء التعارض) (5/ 85) كما ذكر رحمه الله قاعدة نافعة في المجملات, فحينما تكلم في بعض العبارات قال: "لم يجز إطلاق هذه العبارة إذا عنى بها المتكلم معنى صحيحاً، وهو يعلم أن المستمع يفهم منها معنى فاسداً لم يكن له أن يطلقها لما فيه من التلبيس إذ المقصود من الكلام البيان دون التلبيس" الاستغاثة" (2/522) وقال: "إنّ كثيرا من نزاع الناس سببه ألفاظ مجملة ومعان مشتبهة، حتى تجد الرجلين يتخاصمان، ويتعاديان على إطلاق ألفاظ ونفيها، ولو سئل كل منهما عن معنى ما قاله لم يتصوره، فضلاً عن أن يعرف دليله" الفتاوى (12/114) وقال  ابن القيم رحمه الله:

وعـلـيك بالتفصيل والتبيين فالـ   ...   إجمال والإطلاق دون بيان

قد أفسدا هذا الوجود وخبـطا الـ  ...    أذهان والآراء كل زمـان

    وقال ابن أبي العز رحمه الله مبيّنا معتقد أهل السنة والجماعة: "والتعبير عن الحق بالألفاظ الشرعية النبوية الإلهية هو سبيل أهل السنة والجماعة" شرح الطحاوية (1/ 71)وفي ما ذكرناه مقنع لراغب الحق.

    وبالجملة؛ فجهاد الطلب مر بأربع مراحل: المنع, ثم الإذن, ثم الأمر بقتال من قاتل, ثم الأمر بقتال المشركين كافة إما على الفرض العيني أو الكفائي وهو الأظهر, وقد بسط ذلك شيخا الإسلام في كثير من مصنفاتهما.

    وقال شيخ الإسلام في هذه القضية المشغوب بها: "ثم أنزل في براءة الأمر بنبذ العهود وأمرهم بقتال المشركين كافة, وأمرهم بقتال أهل الكتاب إذا لم يسلموا, حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون, ولم يبح لهم ترك قتالهم وإن سالموهم وهادنوهم هدنة مطلقة مع إمكان جهادهم" (الجواب الصحيح: 1/ 233) وقال أيضاً: "وجملة ذلك أنه لما نزلت براءة أُمر أن يبتدىء جميع الكفار بالقتال وثنيهم وكتابيهم, سواء كفوا عنه أو لم يكفوا" )الصارم المسلول على شاتم الرسول صلى الله عليه وسلم:410) وقال: "كل من بلغته دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دين الله الذي بعثه به فلم يستجب له, فإنه يجب قتاله"(مجموع الفتاوى: 28/ 349) وقال ابن القيم: "وأما جهاد الطلب الخالص فلا يرغب فيه إلا أحد رجلين؛ إما عظيم الإيمان يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله, وإما راغب في المغنم والسبي, فجهاد الدفع يقصده كل أحد ولا يرغب عنه إلا الجبان المذموم شرعاً وعقلاً, وجهاد الطلب الخالص لله يقصده سادات المؤمنين" (الفروسية: 187_188(

    أما قضية الهدنة أوالصلح إلى أمدٍ أو إلى غير إمدٍ؛ فليست مما نحن بسبيله, فلا تَرِدُ علينا.  

"شبهة انتشار الإسلام بالسيف والإكراه عند غير المسلمين"

    ولرواج هذه الشبهة منذ عهود الاستشراق؛ سأبسط القول فيها فأقول وبالله أحول وأصول:

    لما بهر الإسلامُ أعداءه بكماله وجماله، ورأوه يتمدد بسرعة في الأمصار، ويفتح القلوب قبل البلدان؛ حاولوا أن يجعلوا بين الناس وبينه حواجز فكرية كي لا يرخوا آذانهم لبيانه، ولا يصغوا لآياته، وهذا ديدن المشركين منذ القدم، ومن تلك الشبهات والحواجز التي ألقوها في مجتمعاتهم المتململة من ديانتها النصرانية الوثنية, المتشوّفة إلى دين الرحمة والكمال والجمال والجلال شبهة إكراه الناس على اعتناقه, فقالوا: إن دخول الناس في الإسلام كان بالسيف والإكراه, إذن فهو دين كراهية وإجبار, لا دين حرية وقناعة! كل هذا من أجل إلصاق الكراهية في نفوس البقية الباقية من المتشوِّقين الناظرين لتعاليمه وتطبيقاته، وأنى لهم ذلك "يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون . هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون" (الصف: 8_9)

     ثم نقول لكل منصفٍ حُرٍّ نبيلٍ:

     هل ذنب الإسلام أن نبيه لم يسلّم نفسه للقتل والصلب؟!

    هل ذنب الإسلام أن هاجر نبيه وكوّن دولة متينة وبنى حضارة نبيلة كريمة، ودافع عنها ببسالة وتضحية؟!

   هل ذنب الإسلام أن دعا الناس بالحسنى والإقناع حتى دخلوا فيه أفواجًا، فكانت كل قبيلة توفد للمدينة أعقلها رأيًا، وأنفذها بصيرة، وأكيسها حجةً، حتى ينظروا حال النبي صلى الله عليه وسلم ومقاله فيعودوا وقد بايعوه على الإسلام، ورجعوا هداة لقومهم؟!

   هل ذنب الإسلام أنه يقدم العفو والمسامحة والإحسان على العقوبة والانتقام، فملك قلوب أعدائه فأسلموا؟! "ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم . وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم . وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم" (فصلت: 34_36)

    هل ذنب الإسلام أن بدأ مخالفيه بالدعوة بالحكمة والبيان, وتوضيح الحجج وكشف الشبه، ثم ثنّى بالموعظة الحسنة وذكر يوم القيامة والترهيب من هول الموقف بين يدي العزيز الجبار سبحانه، وذكر الجنة والنار حتى تلين قلوب الغافلين، وتستيقظ أفئدة اللاهين، ثم ثلّث بالمجادلة والمحاورة بأحسن الطرق وأجمل الأساليب "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن" [النحل: 125]، فإن حال بين الناس وبينه قوى مانعة من إبلاغه أزالها بالسيف على قدر الحاجة, لأن من الظلم ترك الطواغيت تحول بين الناس وبين هداها، بل تزال الطواغيت ثم يعرض الدين على الناس فإن قبلوه فحسن وإلا لم يكرهوا عليه بأي حال من الأحوال، والنصوص شاهدة والتاريخ ناطق بصحة ذلك.

    وليس كحال منظمات التنصير العالمية, التي تستغل حاجة وفقر ومرض المسلمين لتنصيرهم وإضلالهم. ولولا أن المسيحية المبدلة باطلة ما بقي على ظهر الأرض أحد إلا دخلها لعظيم جهد المنصرين، ولولا أن الإسلام حق ما بقي في المسلمين أحد إلا اعتنق النصرانية، ولكن العاميّ الواحد من المسلمين بصفاء فطرته، وبداهة عقله، يستطيع كشف شبهات أكبر القساوسة، بل ويهتك أصولهم، ناهيك عن أهل العلم والمناظرة! قال تعالى: "هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً" [الفتح: 28] وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لن يشاد أحد هذا الدين إلا غلبه» متفق عليه. ولا زال علماء المسلمين يناظرون علماء النصارى ويفلجونهم ويكتسحونهم في المناظرات والحوارات، ومن أشهر المعاصرين الشيخ أحمد ديدات رحمه الله ولا زالت مناظراته مسجلة مسموعة ومرئية ومقروءة.

    إن الإسلام العظيم دين عالمي، وهو رسالة إلهية إلى جميع البشر، وقد أخذ حملته على عاتقهم إبلاغ هذه الرسالة الهادية الرحيمة بأحسن الأساليب وأرقى التعاملات، ففي البداية بإرسال الرسائل أو المشافهة المباشرة كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أرسل إلى كسرى وقيصر والمقوقس وحاكم عمان والبحرين وغيرها، ثم بإرسال الدعاة الهداة، ثم بإرسال الجيوش الفاتحة التي تقف على الحدود، ولا تدخل البلدان فجأة ولا خلسة ولا غدرًا، بل تراسل الحكومات وتطلب منها الدخول في الإسلام عن اختيار وطواعية فإن أسلموا فلهم كل ما للمسلمين وعليهم كل ما عليهم بلا عنصرية ولا طبقية ولا تعصب، فإن أبوا ذلك فهناك خيار سلمي ثان مبذول لهم وهو دفع الجزية للمسلمين وهي رمزية لتبعية تلك الحكومة للدولة الإسلامية، والجزية موجودة في الكتاب المقدس لدى أهل الكتاب (البيبل).

    فالجزية كانت موجودة في شرائع العهد القديم والجديد (يشوع 16: 10) (أخبار الأيام (2) 24: 2) (أخبار الأيام (2) 8: 7) (متى 21: 17ــ 21) (رومية 13: 1ــ 7) قالت كارين في كتابها (القدس) (ص391): «والجزية التي فرضت على اليهود والنصارى كانت أقل من الزكاة المفروضة على المسلمين، فقد كانت الجزية دينارًا واحدًا عن الأسرة في العام، أما الزكاة فكانت نسبة ثابتة من رأس المال ومن الثمار والحبوب والأغنام والإبل... وقد أُعطي من الجزية الشيوخ والأرامل والعاجزين، وكان لهم نصيب ثابت يأخذونه من بيت مال المسلمين ما يكفيهم لحياة شريفة».

    فغاية الجزية شريفة وغرضها نبيل ومن حكمتها الوصول إلى عامة ونخب الناس ودعوتهم بهدوء وإقناع للدخول في الدين، فإن أبت الحكومات ذلك فإن الدولة الإسلامية تكون قد اضطرت إلى السيف بعد استنفاذ كل الوسائل السلمية، مع ذلك فاستـخدام القوة قد قيّد بضوابط صارمة وتعليمات حازمة حفظًا لكرامة بني الإنسان من الانتهاك أو الانتقاص، فمنع أفراد الجيش المسلم من الظلم والنهب والاغتصاب وقتل غير المقاتلين، ومن إهلاك الحرث والنسل ومن جميع ضروب الإفساد، والجندي المسلم مُطالب أن يفتح القلوب قبل البلدان، وبأن يكون في الغاية من الرقي الحضاري الأخلاقي، قال الخليفة الأول أبو بكر رضي الله عنه في وصيته لقائد جيشه ــ وقد أخذ هذه الوصايا من نبيه صلى الله عليه وسلم ــ: «لا تـخونوا، ولا تغلوا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً ولا شيخًا، ولا تقطعوا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرًا إلا لمأكله، وسوف تمرون على قوم فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له». وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء، وقال زاجرًا جنده لما رأى امرأة قتيلة: «ألم أنهكم عن قتل النساء؟!»رواه البخاري، وقال: «ما كانت هذه لتقاتل» رواه البخاري ونهى كذلك عن المُثلة. وهي التمثيل بالجسد وتقطيعه وبقره بعد موته.

     إن الهدف الأسمى للجهاد في سبيل الله, في فتح البلاد هو بعث حرية الناس, ونفخ روح الخيار الذاتي فيها بإزالة القيادة الكفرية التي تتحكم في أمر العامة وتحول بينهم وبين معرفة حقيقة الإسلام، وكما قال تعالى: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير" [الأنفال: 38] والفتنة هي الشرك. فإذا تولى المسلمون القيادة، وخالطوا أهل البلاد المفتوحة، وأروهم عظمة الإسلام وجماله وجلاله وكماله بفعلهم وتطبيقهم قبل قولهم ومنطقهم، وأظهروا حسن مبادئه، وعدلوا فيهم، بل ورحموهم، كما كانوا يسقطون عنهم الجزية في حال فقرهم وعجزهم، وينفقون عليهم من بيت المال ما يكفيهم، ويمنعون أحدًا من ظلمهم ويمنعونهم من ظلم بعضهم لبعض، ولما ضرب أحد أبناء الولاة المسلمين أحد الأقباط بمصر استدعاه الخليفة الثاني عمر بن الخطاب للمدينة وأقاده منه، وقال كلمته المشهورة التي عبرت البحار وطارت خلف الجبال وتذاكرها السمّار والخطباء: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟!» وقد صارت فيما بعد هي القرار الأول لحقوق الإنسان في المنظمات العالمية. ولما رأى الناس هذا العدل وتلك الرحمة فتحوا قلوبهم لهداية الإسلام، فأضحوا من أهله ودخلوا في دين الله أفواجًا، فهم قد أيقنوا وشاهدوا الهدف الأساسي من الجهاد في سبيل الله ألا وهو صالحهم وهدايتهم وإخراجهم من الظلمات إلى النور، وليس توسعة البلاد ماديًا وجلب الأموال لخزائنها بل توسعة البلاد روحيًا والسعي لنصح الناس ونشر الرسالة السماوية الخالدة، وإيصال رحمتها إلى سويداء قلوب العالمين، ولما أتى خليفة المسلمين عمر الذي سحق دولة الأكاسرة، وأزال دولة القياصرة، رآه الناس داخلاً بيت المقدس لاستلام مفاتيحها، وشاهدوه وهو يمشي على رجليه يقود البعير الذي يحمل خادمه قالوا: «والله ما هذه بأخلاق الملوك، إنما هي قبس من نور الأنبياء».

    ولك أن تتأمل وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لصهره وقائد جيشه علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين أرسله لفتح خيبر وأعطاه الراية، وبشره بالفتح وقال: «انفذ على رسلك (أي بتؤدة ولين ورفق) حتى تنزل بساحتهم (أي تقترب من حصونهم وتقف على مكان يرونك ويسمعونك، بدون طيش وأصوات مزعجة، ومن غير ضعف ولا انتقاص عزيمة) ثم ادعهم إلى الإسلام (وهذا غاية المطالب؛ فالقصد من الجهاد هو هدايتهم للإسلام، فمع أنهم قد دُعوا من قبل للإسلام وأبوا، فأمره بتكرار الدعوة لهم حتى يعلموا أنه القصد من الجهاد، وليس التشفي بهم، أو أخذ أموالهم، بل هدايتهم وإنقاذهم من هلكة الكفر ومباءة الضلال) وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه (فأكد على أن الإسلام هو محض حق الله تعالى وحده، ثم ختم الوصية بهذه الجملة الرائعة الرائدة لكل محب للبشرية، طامع في الزلفى إلى رب البرية) فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً خير لك من حمر النعم» متفق على صحته. وحمر النعم هي الإبل الحمر، وهي أنفس أموال العرب، فأكد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصيته بالقسم؛ أن هداية إنسان واحد للإسلام، وإنقاذه من غضب الله وعذابه؛ خير من امتلاك الدنيا بأطرافها.. فهل بعد هذه الوصية النبوية السامية، والرحمة المحمدية الهادية، من مأخذ على الإسلام؟!.. كلا وربي!

    لقد دخل الجيش الإسلامي إلى طشقند في المشرق، فأرسل أهلها إلى الخليفة الأموي في دمشق أن الجيش لم ينذرهم بل بغتهم، فاستشار الخليفة علماء المسلمين فأمروه بإخراج جيش المسلمين إلى خارج أسوار مدينة طشقند وأن لا يبقى فيها جندي مسلم واحد، والالتزام بدعوة المدينة للإسلام أولاً ثم الجزية ثانيًا فإن أبوا فالقتال عن بيّنة، وقد امتثل الجيش المسلم لذلك فخرج عن المدينة الحصينة، فلما أغلق أهلها الأبواب، وتمت لهم المنعة فتحوها مرة أخرى طواعية واختيارًا وحبًا وانبهارًا بهذه الأخلاق العالية الجميلة, ودخلوا في الإسلام بدون قطرة دم، وهذه غاية الجهاد في سبيل الله أن تكون كلمة الله هي العليا, وهي لا إله إلا الله, محمد رسول الله.

    لقد كان نبي الرحمة صلوات الله وسلامه عليه يدعو لقومه بالهداية وبالمغفرة, حتى يوم كسرهم لثنيته وشجهم لوجهه وإدخالهم حلقتي المغفر في وجهه لما غزوه في أحد, وهو يقول: «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون» متفق عليه. ويحتمل أنه أراد حكاية قول النبي الحاكي قصته، وانظر كلام ابن حجر في شرح الحديثين (3477، 6929).

    وكان يوصي سراياه بقوله: «لا تقتلوا شيخًا فانيًا ولا طفلاً ولا امرأة...». رواه مسلم وأبو داود.

    ولا غرابة فربُّهُ تعالى قد رباه على الرحمة والرأفة والحكمة، ففي محكم التنزيل: "وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم" [الأنفال: 61]، "وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون" [التوبة: 6]، "ادع إلى سبيل ربط بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين . وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين . واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون . إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون" [النحل: 125ــ 128]، "ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون" [المؤمنون: 96]، "ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداًمن عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير" [البقرة: 109]، "وجزاء سيئة سيئةٌ مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين" [الشورى: 40]، "قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ليجزي قوماً بما كانوا يكسبون . من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون" [الجاثية: 14، 15]، "ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين" [يونس: 99]، "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي" [البقرة: 256]، "ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً" [الإنسان: 8]، "يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا" [النساء: 94].

    لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قادرًا على إرسال فدائيين لمكة في جنح الليل لكسر الأصنام، لكنه لم يفعل لأنه يريد كسرها في قلوبهم أولاً حتى يكسروها هم بأيديهم في ثاني الحال إذا ثبت لهم أنها لا تضر ولا تنفع، فقد كانوا متعلقين بها يرجون نفعها ويخافون ضرها، حتى قال زعيمهم أبو سفيان _ وقد أسلم في فتح مكة وحسن إسلامه_ في أحد مفتـخرًا بأوثانه وأصنامه مستجلبًا نصرها: أعل هُبَل (صنم كان في جوف الكعبة) فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجاله أن يردوا عليه بقولهم: «الله أعلى وأجلّ»، فقال أبو سفيان: لنا العزّى ولا عزّى لكم (وهي شجرة كانوا يعبدونها) فأمرهم صلى الله عليه وسلم أن يقولوا: «الله مولانا ولا مولى لكم».

    وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدق أصحابه لما جرّدوا توحديهم لربهم تعالى فنصرهم حتى عادوا وفتحوا مكة، وكسر صلى الله عليه وسلم أصنامها بنفسه وهو يردد: "وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً" [الإسراء: 81] فسحق كل الأصنام التي في الحرم، وهناك علم المشركون أن أصنامهم لا تغني عنهم، وأن الله هو المولى الحقيقي والناصر الغالب، وتكسرت الوثنية في صدورهم وهدمت في قلوبهم، فملأها التوحيد والإيمان، ودخلوا في دين الله العظيم القويم، وصاروا من قادة الإسلام. وهكذا يعصف التوحيد بالوثنِ.

    لقد أخذ المسلمون هذا الدرس العملي وطبقوه في فتوحاتهم، فبعد سنين طويلة فتح محمود بن سبكتكين بجيشه المسلم ربوع الهند حتى وصل إلى أكبر معبد فيها، وقد جمعوا فيه كبار آلهتهم وأصنامهم، ومنها صنم كبير قد صاغوه من الذهب الأحمر الخالص، ورصّعوه بأنفس الجواهر واليواقيت والزبرجد والألماس فأمر بكسرها وحرقها، ثم عرضوا على محمود أن يعطوه أحمال الذهب والفضة والجواهر على أن يترك لهم تلك الأصنام ــ مع شدة حاجة المسلمين إلى المال حينها ــ فأبى ذلك بعزة إسلامية، وقد قولته الخالدة: «إذا وقفت الأشهاد بين يدي رب العباد في يوم المعاد، فأريد أن أُنادى بين يدي الله تعالى: هذا كاسر الأصنام وهادم الأوثان» وفعلاً هدمها وحرقها، فلما علمت الهنود أن آلهتهم لم تغن عنهم من الله شيئًا دخلوا في الإسلام حتى صاروا من قادته ورؤسائه وسادته، ولا زالوا حتى اليوم وقد جاوزت أعدادهم الملايين، فلله الحمد والمنة على نعمة الإسلام.

    ثم كيف يستقيم الزعم بأن الإسلام قد انتشر بالسيف, ونحن نرى أن أكبر دولة إسلامية من حيث عدد السكان هي إندونيسيا التي فاق سكانها مئة مليون مسلم, مع العلم بأنه لم يطلق في بلدهم رصاصة واحدة ولم تنهر قطرة دم واحدة من أجل إدخالهم في دين الله؟!

وماليزيا غالبيتها مسلمون ولم يطأ بلادهم جندي مسلم واحد؟!

    لقد رأوا في أخلاق تجار المسلمين وحسن سيرتهم واتفاق ظاهرهم مع باطنهم وجمال شعائرهم، ما ملأ قلوبهم الضامئة للحق، ونفوسهم المتلهفة للتوازن الروحي الجسدي.

    لقد انتشر الإسلام بسيف الوحي والفكر والعلم والدعوة الحسنة والقدوة المثالية، أما سيف البطش فكان لإزالة العقبات المادية عن القلوب ليس إلا.

    وتأمل الشهادة المنصفة للمؤرخ النصراني هــ. سانت. ل. موس في كتابه (ميلاد العصور الوسطى) حيث كتب مشكوراً: «أقام المسلمون والعرب في مصر دولة تتصف بالسماحة والتسامح المطلق مع باقي الأديان، ولم ينشروا عقائدهم بالقوة، بل تركوا رعاياهم أحرارًا في ممارسة عقائدهم بشرط أداء الجزية، فقام النصارى باعتناق الإسلام رويدًا رويدًا، وكان الاضطهاد الروماني (النصراني) وكثرة الضرائب والقهر الديني (الكاثوليكي) لشعوب مصر والشام سببًا في ضياع ولاء هؤلاء للدولة البيزنطية (النصرانية) بل ساعدوا المسلمين. ولقد قام البيزنطيين بمذابح بشعة ضد اليهود أيضًا لأجل تنصيرهم بالإكراه، ولقد عرض الإمبراطور هرقل عقيدة روما في المسيح (الطبيعتين والمشيئتين) على سكان مصر والشام المؤمنين بعقيدة الطبيعة الواحدة في المسيح، فرفضوا عقيدة روما، فأنزل بهم الرومان أشد أنواع التنكيل، وعندما انتصر المسلمون على الروم ساد الفرح الشعوب النصرانية الشرقية، واعتبروا أن هذا هو عقاب السماء للرومان الكفار(هراطقة خلقيدونيا الكاثوليك)... وقد دخل المسلمون مصر بدون إراقة نقطة دم واحدة، أو تدمير ممتلكات، بل تم إخضاعها سلميًا».

    وقال الدكتور أحمد سوسة ــ وكان يهوديًا فأسلم وهو مهندس عراقي ــ: «وجد اليهود تحت راية الإسلام أمنًا وعدلًا، واتقوا شر الاضطهاد والاعتداء... » في طريقي للإسلام (ص85).

    وقال ول ديورانت: «المسيحيون كانوا في كثير من الأحيان يفضلون حكم المسلمين على حكم أهل ملتهم» قصة الحضارة (13/ 297). وقال: «كان أهل الذمة المسيحيون والزرادشتيون واليهود والصابئون, يستمتعون في عهد الخلافة الأموية بدرجة من التسامح لا نجد لها نظيرًا في المسيحية هذه الأيام» السابق (13/ 130، 131).

    والعجب أن من يحمل كبر هذه الافتراءات هم رجال الكنيسة المسيحية (المبدلة بالطبع)!! وتناسوا وتعاموا وتغافلوا عن أن كنيستهم قد قامت على الدم والجماجم والظلم والاضطهاد، ومن له أدنى دراية بالتاريخ يدهش ويصعق من فضاعة تلك الأخبار الشنيعة،ونقول لهؤلاء:

    ألم تقم الكنيسة الرومانية بقتل المخالفين بالسيف، وإحراق أناجيلهم؟!

    ألم تقم الحروب بين الكنائس دهورًا، وراح ضحيتها مئات الآلاف من النساء والشيوخ والأطفال والرجال المظلومين في القرون الوسطى المظلمة؟! أي في أوروبا، أما الإسلام فكان عصره زاهرًا.

    ألم تتحارب الكنيستين وتكفر إحداهما الأخرى وكلّاً منهما تصدر صك الحرمان للأخرى وصك الغفران لأتباعها؟!

    ألم تقم محاكم التفتيش البشعة بكل ألوان الهمجية التي عرفها بنو آدم ضد المسلمين واليهود والنصارى المخالفين في أسبانيا؟ بل وطال حتى من هرب لهولندا وإنجلترا.

    كذلك أفلم تقم الجيوش الصليبية بالحرب المقدسة! ضد المسلمين في الشام فقتلت في بضعة أيام تسعين ألفًا من الأبرياء، جلّهم من الأطفال والنساء؟!

   ألم يتفننوا في إحراق أسراهم بالنار وهم يشربون نخب ذلك النصر المقدس؟!

    ألم تُجرم جيوش النصارى الأوروبيين بالهنود الحمر ــ أهل أمريكا الأصليين ــ وتقترف في حقهم أشنع الجرائم في التاريخ الأمريكي على الإطلاق؟!

    ألم يحرقوهم، ويبيدوهم، ويبقروا بطون الحوامل، ويلقوا الرجل للكلاب الضاريةويجعلوا الأطفال أهدافًا لتدريب القناصة؟! ولا عجب فهم يقرؤون في كتابهم المقدس عن داود عليه السلام ــ وكذبوا ــ: «وأخرج الشعب الذين فيها ووضعهم تحت المناشير ونوارج حديد وفؤوس حديد وأمرّهم في آتون الأجر وهكذا صنع بجميع مدن بني عمون» (صموئيل (2) 12: 31) وغيرها كثير لا يحصر، ونوارج الحديد آلات زراعية ضخمة لسحق الحبوب، وآتون الأجر هي أفران الغاز! فهل كان هتلر يرد لهم الصاع الأوفى؟!

    ألم تقم الحربين العالميتين المدمرتين على أطماع الدول المسيحية البولسية؟!

   ألم يهلك في الحرب العالمية الثانية سبعون مليونًا من البشر سوى المصابين والزمنى وهدم البنى التحتية وتسميم الهواء والكوارث البيئية بالأسلحة التقليدية والجرثومية والكيميائية والنووية... كل هذا قربانًا لأطماع قادة المسيحية المبدلة؟!

    هل راعت أمريكا البروتستانتية الأبرياء في هيروشيما ونجازاكي بحرقهم دفعة واحدة بالسلاح النووي وتشويه من بقي حيًا إلى أجياله المتعاقبة؟!

    هل راعى الكاثوليك الألمان البروتستانت الإنجليز حين أمطروا لندن بقنابل كالمطر لا تبقي ولا تذر؟!

    ثم ألم يكن الرد أعنف وأبشع بإحراق برلين بالقصف الكثيف وتدمير المساكن على الأبرياء، وإهلاك الحرث والنسل؟!

    ألم تكن الدول الصليبية هي من سيرت ملايين الجنود الذين لا حيلة لهم في مجاهل سيبيريا وبردها المميت، تارة بدفع الكاثوليك الألمان وأخرى أسارى مقيدين من الروس الأرثوذكس فأهلكهم البرد والجوع والأوبئة والقنابل والرصاص؟! أما مئات الألوف من مسلمي القوقاز الذين قضوا في ثلوج سيبيريا الرهيبة, فالله وحده يعلم الأهوال التي أكلتهم بنسائهم وأطفالهم!

    أهذا دين السلام الذي تزعمون؟!

    أفلا يستحيي مورد تلك الفرية على دين الرحمة والسلام, الذي شدد في تحريم قتل المدنيين العزل بل حتى إتلاف الحرث والزرع والحيوان؟!

    ألم تقم بريطانيا (العظمى!) البروتستانتية بتقديم جنودها من الراجلة الهنود أمام جنودها النظامية البيض أثناء عبور حقول الألغام؟!

    ألم تقم صربيا الأرثوذكسية بالمذابح الجماعية المروعة ضد المسلمين في البوسنة والهرسك وكوسوفا، وإخفائهم في مقابر جماعية كسربنتشيا؟!

    ألم تنتقم أمريكا رأس النصرانية الحالية من المسلمين بقتل مليوني مسلم أكثرهم من المدنيين في العراق، وشوّهت المواليد بقذائف البلوتونيوم واليورانيوم المشع، ومنعت دخول حليب الأطفال ودواءهم للعراق حتى مات نصف مليون طفل عراقي مسلم؟!.

    ألم يقتحم جنود أمريكا الصليبيون مكتبة بغداد الكبرى التي حوت أروع نفائس الكتب ثم حرقوها بالنار في همجية تاريخية؟!

    ألم تقصف أمريكا النصرانية وحلفاؤها النصارى قرى مدنية في أفغانستان وسوتها بالتراب على من فيها؟!

   ألم تقصف أمريكا بقنابلها الهائلة ثلاثة أعراس للمدنيين الأفغان العزل, وتئد فرحتهم وتحولها إلى مآتم بحجة الاشتباه بوجود بعض المقاتلين بينهم؟!

    أليست أمريكا البولسية هي صاحبة السجنين ــ سيئي الذكر ــ أبو غريب وجوانتنامو اللذين أنسيا الناس سجن الباستيل, وما قبله بمعدلات تجاوزت حقوق الإنسان وألغتها في سجية أمريكية بامتياز.

    ألم تزرع الدول النصرانية بدءًا ببريطانيا حتى أمريكا دولة الصهاينة في أرض الإسلام بقوة السلاح، وقتل المدنيين أهل الأرض، وإحلال اليهود ــ قتلة المسيح حسب عقيدة النصارى ــ مكانهم؟!.

     ونقول: إن كانت دعواكم بالدين فالدين هو الإسلام وهو الدين الذي لا يقبل الله سواه، وإن كانت بالتاريخ فمن المعلوم أن الفلسطينيين هم من عمر تلك الأرض من تاريخها الغابر وفي سفر الخروج (5: 14): «تأخذ الرعدة سكان فلسطين» وفي هذا إثبات أنهم أهلها قبل اليهود.

    قالت كاريل آرمسترونج في كتابها (القدس): «لم تشهد القدس في تاريخها الدموي الطويل سلامًا إلا حين فتحها المسلمون بقيادة عمر بن الخطاب، وحين أعادوا فتحها بقيادة صلاح الدين»، وقالت (ص671): «ولم يتمكن اليهود من دخول المدينة المقدسة إلا في ظل الفتح الإسلامي في مناسبتين فقط هما: في عهد عمر, وعهد صلاح الدين».

    وقال الفيلسوف النصراني جان لوك في النصرانية: «هي ديانة سفّاكة وقتّالة، وتتعامل بالسيف مع كل من يقاومها». (المسيحية) للشيخ ساجد مير (ص318).

    وقال كارلايل: «لم يحوّل شارلمان الساكسون إلى المسيحية بالدعوة ولكن بالسيف» عن الأبطال وتمجيد البطل، توماس كارلايل (ص80).

    وأحيل القارئ الكريم إلى مقالي (أخلاق الكنيسة) على هذا الرابط الذي بين وحشية الكنيسة في تعاطيها مع المخالفين ولو كانوا من نفس النحلة:

http://aldumaiji.blogspot.com/2012_03_01_archive.html

للمقال بقيّة...

وصلى الله وسلم وبارك وأنعم على عبده ورسوله محمد.

إبراهيم الدميجي

21 محرم 1433

@aldumaiji
هنا

 (2/ 2)
سلسلة حلقات كشف الشبه عن الإسلام: الجزء الأول

هل انتشر الإسلام بحد السيف؟! (2/ 2)

    الحمد لله, والصلاة والسلام على رسول الله, وعلى آله وصحبه, وبعد:

    فلنا عشر وقفات خاتمة لما أسلفناه من حروف حيال هذا السؤال: هل انتشر الإسلام بالسيف:

    الأولى: حين سقطت الأندلس بيد النصارى أصدر البابا قرارًا بتقسيم أرض الكفار ــ ويعني بهم المسلمين ــ إلى دولتين هما أسبانيا والبرتغال (وأصل تسميتها من الكلمة العربية أرض البرتقال حسب تسمية المسلمين) وقامت محاكم التفتيش بأفعال وحشية ضخمة للقضاء على بقايا الإسلام في الأندلس بمنتهى البشاعة، فاستـخدمت أقسى وأبشع وسائل التعذيب في تاريخ البشرية لمطاردة الإسلام في كل شبر من أرض ما صار يسمى أسبانيا والبرتغال، حتى صارت الهينمة في جوف الليل مبررًا لدخول رجال التفتيش أي بيت تسمع فيه لأن ذلك الصوت هو صوت قراءة القرآن الكريم سرًا في الصلاة في هدأة الليل، وصار وجود حمام في أي بيت يدخله رجال التفتيش مبررًا لصب أنواع التعذيب على أهله؛ لأن الحمامات داخل البيوت كانت في ذلك الوقت من خصائص المسلمين لنظافتهم وطهارتهم وسترهم وحيائهم، ومع هذا التقطيع العرقي الديني ــ وليس التطهير ــ والتهجير والقتل والعسف والإكراه فقد استغرق الأمر مئتي عام حتى تكون الأندلس نصرانية خرافية ضالة بعد أن كانت حنيفة مسلمة مهتدية، وتم إعلان ذلك عام (1492م).

    وبعد سقوط الأندلس شجع البابا النصارى على متابعة المسلمين خارج الأندلس بنية القضاء على الدين الإسلامي في كل الأرض، ولكن بعد مشيئة الله ثم وجود الدولة العثمانية القوية في الشرق فقد حيل بينهم وبين ما يشتهون، فحالت تلك الدولة العثمانية دون اتجاههم لبيت المقدس وقتل مسلمي شمال أفريقيا والشام والأردن والجزيرة العربية، فحاولوا الالتفاف على العالم الإسلامي من أقصاه، وكانت البرتغال أول دولة استجابت للبابا وسارعت إلى تنفيذ مكره؛ ففي سنة (1497م) قام فاسكو ديجاما برحلته الشهيرة التي أعلن بعدها كشفه طريق رأس الرجاء الصالح ــ وقد كان هذا الطريق معروفًا لدى المسلمين منذ قرون! ــ وبمعاونة البحار العربي المسلم ابن ماجد وعلى هدي الخرائط الجغرافية الإسلامية للشواطئ الأفريقية والآسيوية، فدار حول إفريقيا متجهًا نحو الشرق حتى وصل إلى جزر الهند الشرقية، وهناك قال قولته الصليبية الشهيرة عند وصوله لتلك الجزر: الآن طوقنا عنق الإسلام ولم يبق إلا جذب الحبل ليموت. ثم تتابعت رحلات الكشوف العلمية ــ المُدّعاة ــ التي مهدت للاستعمار الصليبي للعالم الإسلامي، ولما برزت القوميات الأوروبية تلبّست الروح الصليبية تجاه المسلمين فأصبح التنافس على استعمار البلاد الإسلامية ونهب خيراتها، وتنصير أهلها، وحتى حين أصبحت تلك القوميات علمانية تمامًا لم يؤثر ذلك على صليبية الحملات الاستعمارية لأن الروح الصليبية صارت شيئًا قائمًا بذاته لا علاقة له بتدين أصحابه، إنما هي كراهية وحقد للإسلام والمسلمين لا لتدين الأوروبيين ولكن عداءً للمسلمين ودينهم بوصفهم أعداء الأوروبيين. (وانظر: مذاهب فكرية معاصرة، محمد قطب (ص567ــ 569)، الإسلام على مفترق الطرق، ليوبلد فايس ــ محمد أسد ــ(ص52ــ 59).

    إن التاريخ ليقف ساخطًا كارهًا متبرءًا من أفعال النصارى في تلك الحقبة، ومن خزايا الكنيسة ومحاكم تفتيشها ما قرروه بقانونهم: «يحق لمحكمة التفتيش إذا أصر المتهم على إنكار أي تهمة أن تقطعه أشلاءً شلوًا بعد شلو أمام عينيه، وأن تقرض لحمه بالمقراض، وأخيرًا تحرقه» (حرية الفكر، سلامة موسى: 62). «وكانت المحكمة عبارة عن سجون مظلمة تحت الأرض بها غرف خاصة للتعذيب، وآلات لتكسير العظام وسحق الجسم البشري، وكان الزبانية يبدأون بسحق عظام الأرجل، ثم عظام الصدر والرأس واليدين تدريجيًا حتى يهشم الجسم كله ويخرج من الجانب الآخر كتلة من العظام المسحوقة والدماء الممزوجة باللحم المفروم، وكان لدى المحكمة آلات تعذيب مروعة منها آلات على شكل توابيت تثبت فيها سكاكين حادة فيلقون الضحية في التابوت ثم يطبقونه عليه فيتمزق جسمه إرْبًا إربًا، وآلات كالكلاليب تغرز في لسان المعذب أو أثداء النساء ثم تشد فتقصه أو تـخلعه أو تقطعه!! وصور أخرى مروعة». (وانظر: التعصب والتسامح، محمد الغزالي (ص311ــ 318)، أسبانيا أرضها وشعبها، الفصل الثامن، دوروثي لورد، عن: العلمانية، د. الحوالي (ص131، 132).

    الثانية: قارن شناعات النصارى بكريم أخلاق المسلمين. ذكرت المؤرخة النصرانيةكارين آرمسترونج في كتابها (القدس مدينة واحدة وثلاث عقائد) الفصل الثالث عشر: «ظهر التراحم التوحيدي في فتح عمر بن الخطاب لبيت المقدس، ودون إراقة نقطة دم واحدة، أو إحراق للرموز الدينية، أو نزع ملكية، أو إجبار أحد على اعتناق الإسلام، أو طرد أحد» ثم مدحت في (ص482) الفتح الإسلامي السلمي على يد صلاح الدين الأيوبي،وذكرت بكاء صلاح الدين وهو يرى بؤس الأسر المسيحية تحت الحكم الصليبي، وقيام شقيقته بعتق ألف أسير مسيحي من مالها الخاص».

    وبالمثل تكلمت إيريس حبيب المصري في كتابها (قصة الكنيسة القبطية) عن الفتح الإسلامي لمصر، وفي الكتاب الثاني (ص208) وقالت: «انسحب الجيش البيزنطي من أمام المسلمين إلى الإسكندرية، ووقف القبط موقفًا سلبيًا يتفرجون على الحوادث دون أن يتعرض لهم المسلمون، وكان البيزنطيون (النصارى الأوروبيون المحتلون لمصر)يستنزفون دماء المصريين» وفي (ص212، 213): «وبعث عمرو بن العاص إلى بطريرك الأقباط ليعود إلى مقره من منفاه... ولم يطالبهم عمرو بغير الجزية، وألغى الضرائب الفادحة التي فرضها أباطرة القسطنطينية (النصارى) على المصريين (النصارى) بلا رحمة وبلا تسامح معهم» (نقلًا عن: رد شبهات النصارى على الإسلام، الشماس المصري السابق د. وديع أحمد فتحي (ص147، 148) مع ملاحظة أن ما بين الأقواس للتوضيح وليست من صلب الكتاب).

الثالثة: دندنة أعداء الأمة وتكرارهم ما نسجته أيدي مخابرات أمريكا بحادثة برجي التجارة في الحادي عشر من سبتمبر فلا نسلم لهم بحكاية الحكومة الأمريكية في زعمها أن المسلمين هم من فعلوا ذلك ببرجي التجارة العالميين, فالمعطيات المقدمة لا تصمد لأدنى مساءلة، والأدلة المطروحة لا تكفي لقتل قطّة، فما بالك من الانتقام من شعوب بأكملها؟!والأظهر أن هذا من تلفيق الحكومة الأمريكية فهي من فعلت ذلك وهي من زرعت الأدلة الواهية، وقد شكك في روايتها كثير من السياسيين والإعلامين والمفكرين والعامة، ومن أبسط قواعد التحقيق في القضايا: ابحث عن المستفيد من الجريمة أولًا، والجميع يعلم أن الحكومة الأمريكية لها فوائد كبيرة وغنائم كثيرة من جراء تصديق الناس لدعواها، وهي التهمة التي تستطيع مخابراتها إلصاقها بسهولة فيمن شاءت، ثم تدير آلتها الإعلامية الضخمة من زوايا عدة حتى تشكل تصوّر المتلقي ليصدّق هذا الزيف! ويستمر الكذب حتى ينسى الكاذب أنه كذب، وشعاره: ما أريكم إلا ما أرى، ثم من المعلوم بداهة في إجراءات الترافع والدعاوى أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته، وليس بالدعوى فقط يكون إيقاع العقوبة، والعقلاء وقافون عند حدود التهم ولا يلغ في العقوبة قبل الثبوت إلا ظالم كيف وقد قال مدير المخابرات الأمريكية الأسبق جورج تينيت في مذكراته: إن بوش دخل البيت الأبيض وقرار غزو العراق في جيبه!

    ثم إن هاهنا مسألة أخرى، وهي أن الأمة لا تؤاخذ بجريرة بعض أفرادها ــ هذا مع التنزل بما يوصم به بعض أتباعها من ذلك ــ ومن محكمات التنزيل عندنا: "أم لم ينبأ بما في صحف موسى . وإبراهيم الذي وفى . ألا تزر وازرة وزر أخرى" [النجم: 36ــ 38]، والبشر لا يتفقون على نفسية واحدة، ولا عقلية متقاربة، ولا سجية متحدة، بل خلقهم الله تعالى مختلفين، والإسلام يهذب النفوس مهما كانت شراستها وشدة طباعها، مع ذلك فالعجب أن يخرج بعض المنتسبين إليه من أبنائه ويفعل أشياء يكون محركها الأول ردة فعل لمظالم وفجائع يراها بعينه، ومهما يكن من أمر، وبغض النظر عن قضية بعينها فالإسلام بريء من كل ظلم وتعدي وخيانة وغدر وقتل للمدنيين العزل وإرهاب للأبرياء، فالملوم هو من خرج عن تعاليم الإسلام الربانية السمحة، وليس الملوم هو الإسلام.

    الرابعة: التاريخ يؤكد سماحة الإسلام مع غيره ورحمة أبنائه بمخالفيهم, ولا يضاهيهم غيرهم في رحمة بني الإنسان. من أمثلة ذلك ما كتبه عنه المؤرخ أوليري: «التاريخ يؤكد بوضوح عدم صحة الأسطورة القائلة بأن المسلمين المتعصبين قد صالوا وجالوا في العالم وفرضوا الإسلام على الناس بالسيف، أسطورة وهمية منافية للعقل ظل المؤرخون يرددونها» (الإسلام في مفترق الطرق، أوليري : 8). وقال: «كم ذا تمنيت أن يكون الإسلام هو سبيل العالم». وقال الدكتور راغب السرجاني عبر موقعه قصة الإسلام, مسلطًا الضوء على تلك المقولة ومفندًا لها بلغة الأرقام ــ باختصار وتصرف بسيط ــ: «لو قمنا بإحصاء عدد الذين ماتوا في كل الحروب النبوية ــ سواء من شهداء المسلمين أو من قتلى الأعداء ــ ثم قمنا بتحليل لهذه الأعداد، وربطها بما يحدث في عالمنا المعاصر، لوجدنا عجبًا! لقد بلغ عدد شهداء المسلمين في كل معاركهم أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم ــ وذلك على مدار عشر سنوات كاملة ــ (262) شهيدًا تقريبًا، وبلغ عدد قتلى أعدائه (1022) قتيلًا تقريبًا، وبذلك بلغ العدد الإجمالي لقتلى الفريقين (1284) قتيلًا فقط!

    وبحساب نسبة القتلى إلى عدد المقاتلين نجد أن شهداء المسلمين (1%) فقط، والأعداء (2%) فقط، وبذلك تكون النسبة المتوسطة لقتلى الفريقين (1.5%) فقط! وهذه النسب الضئيلة جدًا في معارك كثيرة بلغت (25) أو (27) غزوة، و(38) سرية، أي أكثر من (63) معركة لمن أصدق الأدلة على عدم دموية الحروب في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولكي تتضح الصورة بشكل أكبر وأظهر فقد قمت بإحصاء عدد القتلى في الحرب العالمية الثانية ــ كمثال لحروب الحضارات الحديثة ــ فوجدت أن نسبة القتلى في هذه الحرب الحضارية بلغت (351%)!! فالأرقام لا تكذب؛ فقد شارك في الحرب العالمية الثانية (15.600.000( جندي، ومع ذلك فقد بلغ عدد القتلى (54.800.000) قتيل! أي أكثر من ثلاثة أضعاف الجيوش المشاركة، والسبب هو أن كل هذه الجيوش المتحاربة كانت تقوم بإبادة المدنيين، وإسقاط آلاف الأطنان من المتفجرات على المدن والقرى الآمنة فتبيد البشر فضلًا عن تدمير البنى التحتية وتـخريب الاقتصاد وتشريد الشعوب، فأين هذا من رحمة الإسلام؟!».

    لقد حكم المسلمون الأندلس لمدة (736) سنة، مع ذلك لم يكرهوا أحدًا من النصارى ولا اليهود ولا غيرهم على الدخول في الإسلام، وحكموا الهند قرابة (1000) سنة، ولم يُكرهوا الهندوس والبوذيين وبقية الوثنيين عليه، فشعارهم: "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي" [البقرة: 256]، ونقول لمن وصف المسلمين بإكراه غيرهم باعتناق الإسلام تأمل في البقاع التي حكمتها أمة محمد صلى الله عليه وسلم وقس حالهم بإنصاف مع غيرهم. في الحبشة بلغ المسلمون (55%) على الأقل من السكان قبل ضم أريتريا ــ عنوة ــ إليها، وأريتريا كلها مسلمون، فكيف عاملتهم الدولة النصرانية المتسلطة عليهم؟ ــ في وقت هيلاسلاسي ــ.

    لا يوجد في الدولة وزير مسلم واحد يمثل أغلبية السكان، ولا موظف واحد من كبار الموظفين، ومدارس الدولة تمنع تعلم القرآن الكريم في مدارسها، وحين يفتح المسلمون الكتاتيب الخاصة الأهلية لتعليم القرآن الكريم تضع الدولة عليهم الضرائب الثقيلة حتى يغلقوها، ويُمنعون من تلقي معونات إنسانية وخيرية من الخارج، وإلى عهد غير بعيد كان المسلم إذا استدان من النصراني وعجز عن الوفاء استرقه النصراني! وقد وقف هيلاسلاسي في هيئة الأمم المتحدة وألقى خطابًا أعلن فيه أنه خلال اثني عشر عامًا لن يكون في الحبشة إلا المسيحية فقط! ــ وخسأ الظالم ــ. وذهب الطاغية وبقي الإسلام.

    ولا زال المسلمون من أهل أثيوبيا يعانون الاضطهاد والتضييق والظلم من حكومات النصارى المتعاقبة.

    والفلبين كانت يومًا ما أرضًا إسلامية، وعاصمتها مانيلا كانت تسمى (أمان الله) فغزاها أهل الصليب، وحكموها قهرًا بالحديد والنار، وعاملوا أهلها أسوأ معاملة، فقد ظلوا يطاردونهم ويخرجونهم من أرضهم وديارهم وأموالهم حتى حصروهم في قطاع صغير، ثم سموهم متمردين فاستباحوا قتلهم، وتحريق مزارعهم، بل تحريق أجسادهم شفاء للحقد الصليبي المتأصل في نفوسهم.

    والهند حكمها المسلمون وعاش أهلها في كنفهم في سلام وأمان، ولم يضطهدوهم ولم يكرهوهم على الإسلام مع أنهم يعبدون البقر والأوثان، ولم يمنعوهم سوى من عادة قبيحة بشعة وهي إحراق الأرملة حية مع زوجها المتوفي ــ وهذا ما حفظه أحرار الهند لهم ــ. فلما حكمها الهندوس لم يعاملو المسلمين بالمثل بل انقلبوا عليهم بتنكيل بشع وظلم، فلا تنقطع أخبار الشغب ــ كما تسميه الدولة الهندوسية ــ عن طريق هجوم الهندوس على القرى الإسلامية فيحرقوها على أصحابها ويقتلوا منهم ما نالته أيديهم، فيهب المسلمون لرد العدوان فتقتلهم الشرطة وتودعهم السجون بتهمة إثارة الشغب! بل صرح رئيسهم نهرو ــ والحكومة اليوم على خُطاه ــ فقال: إن حق تقرير المصير حق لكل الناس إلا في كشمير!

     أما فلسطين فشاهدة حية ناطقة بالتحالف الكتابي على أهلها المسلمين.

    قال الزعيم الألماني الفوهلر هتلر في كتابه "كفاحي": «أعتقد أن الذي استطاع أن يتعامل مع اليهود ويكسبهم ويشل حركتهم في نفس الوقت هو رسول الإسلام محمد، الذي فهم ما تدور به عقولهم وقلوبهم، لذا كان محمد حريصًا منهم حريصًا عليهم ليبلغ رسالته، فاستقطبهم بطريقته التي لم ولن يصل إلى رتبتها أحد، فالتعامل مع اليهود مشكلة غير عادية، إنهم لا يستحقون الحياة، إلا أن محمدًا كان واسع الصدر، يملك منطقًا غير عادي، تأكدنا منه لتعامله معهم بالود الذي لم يألفوه، وبالقوة التي شهدوها... أعتقد أنه لو كان محمد في عصرنا هذا ما فعل ما فعلت مع اليهود، لكنهم لا يستحقون إلا ما قمت به معهم» (عن الإسلام ورسوله: 103).

    وإن تعجب فعجب فعل النصارى معهم بتوطينهم في فلسطين لما ركبهم اليهود، وأوهموهم أنه لابد من بناء الهيكل المزعوم ــ حتى ينزل المسيح ــ ولم يعلموا أن مسيح اليهود هو الأعور الكذاب.

    وقال إيليا أبو الروس في كتابه (اليهودية العالمية وحربها المستمرة على المسيحية) (ص49): «وتاريخ اليهود حافل بتعصبهم اللئيم ضد المسيحيين وسائر الأديان، ففي سنة (135م) حاولوا بقيادة باركوخبا المسيح الدجال إقامة مملكة، وذبحوا المسيحيين في القدس، وفي القرن السادس تجمعوا وأقاموا ملكًا مع السامريين وقتلوا المسيحيين، وفي أوائل القرن السابع ذبحوا المسيحيين في القدس وسائر فلسطين برعاية الفرس طمعًا في إقامة حكم ذاتي لهم، كل ذلك من أجل دولة يقيمونها على سفك الدماء والسرقة والغش، فباؤوا بفشل ذريع، وتشتتوا في أنحاء الأرض. «لأن أعمالهم أعمال إثم وفعل الظلم في أيديهم. وأرجلهم إلى الشر تجري وتسرع إلى سفك الدم الزاكي. أفكارهم أفكار إثم. في طريقهم اغتصاب وسحق. طريق السلام لم يعرفوه. وليس في مسالكهم عدل. من أجل ذلك ينتظرون نورًا فإذا ظلام» (أشعيا 59: 6ــ 9).

    إن الإسلام حيث يدعو للجهاد لا يقاتل من أجل فرض عقيدته على الناس وهم كارهون، ولكن يقاتل لإزالة القوى الجاهلية المانعة من وصول الحق إلى الناس، دون حواجز نفسية أو حسية مادية. لقد فتح المسلمون مصر فدخلت الإسلام بسلام، وفتحو الأندلس فدخلت في الإسلام بسلام، حتى اليهود كانت الأندلس الملاذ الآمن لهم من بطش النصرانية الصليبية.

    فدينهم العظيم يأمرهم بالحسنى، قال تعالى: "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن" [النحل: 125]، وأمرهم تعالى بمجادلة أهل الكتاب من اليهود والنصارى بالتي هي أحسن خلا الظالمين: " ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم"  [العنكبوت: 46].

    ومن التطبيقات الإسلامية لقوله تعالى: "لا إكراه في الدين" [البقرة: 257] ففي سنن البيهقي عن أسلم قال: لما كنا بالشام أتيت عمر بماء فتوضأ منه، فقال: من أين جئت بهذا فما رأيت ماء بئر ولا ماء سماء أطيب منه؟ قال: قلت: من بيت هذه العجوز النصرانية. فلما توضأ أتاها فقال: أيتها العجوز أسلمي تسلمي، بعث الله بالحق محمدًا صلى الله عليه وسلم. قال: فكشفت رأسها فإذا مثل الثغامة (أي أن شعر رأسها قد ابيض كله كالسحابة البيضاء) قالت: وأنا أموت الآن. قال: فقال عمر: اللهم اشهد" سنن البيهقي (1/ 32) فعمر لم يستـخدم عليها ولا على غيرها أي وسيلة إكراه أو ضغط ولا تهديد ولا تعذيب، بل بالنصح والكلمة الطيبة، وهذا شأن دعاة أهل الإسلام أيها المنصفون.

    وتأمل قصة إسلام ثمامة بن أثال سيد بني حنيفة حينما أسرته خيل المسلمين فأبقاه النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد ثلاثة أيام وكان يعرض عليه الإسلام عرضًا كريمًا، وكان يرفض الإسلام فأطلقه بلا قيد أو شرط، فلما خرج من المسجد ذهب إلى نخل قريب فاغتسل وعاد معلنًا إسلامه اختيارًا وقناعة. والقصة بطولها في البخاري (450)، مسلم (1764).

    وقد قال أبو سفيان ــ بعد أن حارب الإسلام عشرين سنة ــ ثم هداه الله للإسلام ــ مخاطبًا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد حاربتك فنعم المحارب كنت، ثم سالمتك فنعم المسالم أنت» (الوافي بالوفيات، الصفدي: 1/ 2240)

    الخامسة:  قد يتعلّق بعضهم بحد الردّة, وقتل المرتد إن لم يعد للإسلام _وسيأتي بسط الكلام فيه استقلالاً في ما يُستَقبل إن شاء الله_ ونوجز القول فيه هنا فنقول:

     إن كان المرء قد دخل في الإسلام ثم خرج منه فهذا من الهزء بالدين، وهذا مما يزعزعه في نفوس الناس فيهلكوا، لذا وجب حسم مادة الفتنة بقطع دابرها والتشديد على من أراد هدم الملة من الداخل، وهذا أعظم جرمًا من الخيانة العظمى عند السياسيين فالدين أعظم من الملك. ونحن أمام مسلم ارتكب جريمة معينة هي الردة، ولسنا أمام يهودي أو نصراني نريد إكراهه على تبديل دينه وحمله كرهًا على الإسلام، والإسلام شرع الجزية وعقد الذمة وفي ذلك إقرار لغير المسلم على البقاء على دينه, أما المرتد فقد نقض العقد وارتكب الخيانة العظمى.

السادسة: المسلمون إذا أعطوا أعداءهم عهدًا فإنهم يوفون به ولا ينقضونه ولا يغدرون،ممتثلين أمر الله تعالى: "وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولاً" [الإسراء: 34] وقول نبيهم صلى الله عليه وسلم: «اغزوا باسم الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدًا ولا شيخًا ولا امرأة». رواه مسلم.

    فالمسلمون يشددون على العقد ولا ينقضونه، أما من خافوا خيانته من الأعداء فإنهم يردون عليه عهده علانية حتى لا يكون مغدورًا، قال تعالى: "وإما تخافنّ من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين" [الأنفال: 58]. والمعنى: أن من خفتم خيانتهم ممن بينكم وبينهم عهد, فلا يحل لكم أن تغدروا بهم, بل أرسل إليهم بفسخ العهد أولاً حتى يكونوا على بينة وجلاء من أمرك وأمرهم, ليأخذوا أُهبتهم فلا يُغدرون.

    وقد أعطى معاوية رضي الله عنه عهدًا للروم إلى أمد محدود، ثم جاءته عيونه تـخبره أن القوم يستغلون الهدنة للانقضاض على المسلمين ويستعدون لذلك، فاستشار مستشاريه من علماء الإسلام فقالوا: إمّا أن ترد إليهم عهدهم وتـخبرهم بفسخه حتى لا تبغتهم، وإما أن تنتظر إلى نهاية العهد، والله ينصرك بالطاعة والوفاء، فانتظر حتى نصره الله.

    وقارن ذلك النبل والكرامة بغدر الصليبيين بعهدهم مع صلاح الدين، ومباغتتهم المسلمين ونقضهم العهد والميثاق، فقتلوا المسلمين وأثخنوهم، فاحتمى المسلمون بالمسجد فقتلوهم فيه حتى غاصت الخيل إلى الركب من الدماء... فلما استدار الزمان ودالت الدولة وانتصر صلاح الدين أبى عليه دينه وإسلامه أن يشفي غيظه منهم بالانتقام فأحسن إليهم!ولم يغدر قط بميثاق واحد أعطاه لهم، في مثال شامخ على سماحة الإسلام ونبله وكرمه وعمقه. (وانظر: مذاهب فكرية، محمد قطب: 591ــ 602).

    وتأمل وفاء المسلمين لأهل ذمتهم في حال الهزائم العسكرية، فحين أسر التتار في هجومهم على بلاد الشام بعض المسلمين واليهود والنصارى, ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية ومعه ثلة من العلماء إلى سيد التتر غازان ــ في محاورة عظيمة جليلة ــ فسمح غازان بعدها بإطلاق أسرى المسلمين دون اليهود والنصارى, فقال شيخ الإسلام: بل تطلق جميع من أخذت من اليهود والنصارى الذين هم أهل ذمتنا فإننا نفتكهم، ولا ندع أسيرًا لا من أهل الملة ولا من أهل الذمة، فأطلقهم له.

    السابعة: نقول للذي يزعم أن الإسلام انتشر بالسيف: كيف يستقيم ذلك ونحن نرىالإسلام اليوم هو أسرع الأديان انتشارًا بين أبناء الأمم النصرانية وغير النصرانية خاصة من علية القوم وقادة الفكر، ودهاة السياسة، وأساطين العلم، وليس في أوساط العامة فقط، مع أن المسلمين اليوم يعيشون أضعف مراحلهم المادية والعسكرية؟!

    بل حتى الجيوش التي غزت المسلمين في دارهم قد تأثرت بالإسلام وبحضارته المشرقة؛ فالمغول قد دخلوا فيه واعتنقوه مع أنهم المنتصرين ماديًا وعسكريًا، والصليبيون قد دخل كثير منهم فيه أو عادوا لوطنهم بفكر منفتح حر بعدما احتكوا بالمسلمين.

    فمن ذلك مثلًا على مستوى القادة والزعماء والعلماء النصارى الذين اعتنقوا الإسلام بعد خوضهم الحروب العسكرية أو الفكرية مع أهله وحسن دعوة أهله لهم بحالهم وفعلهم قبل مقالهم وجدلهم: روبرت أوف سانت ألبانس، أحد كبار قادة فرسان المعبد سنة (1185م) وقد تزوج بإحدى حفيدات صلاح الدين، كذلك ابني أخت الملك الإنجليزي ريتشارد قلب الأسد، وقد تركـا معسكـر جيشهمـا إلى معسكر المسلمين والتحقا بجيش صلاح الدين سنة (1192م) (587هــ) كذلك الفارس الصليبي المشهور رانيود الذي أسلم وانضم بفرقته العسكرية إلى المسلمين.

    وفي الحملة الصليبية الأولى انفصلت جماعة كثيرة من الألمان وغيرهم من جيشهم إلى الجيش الإسلامي السلجوقي معتنقة الإسلام.

    وفي الحملة الصليبية الثانية انضمت فرقة كبيرة من الجيش الصليبي قوامها أربعة آلاف مقاتل تقريبًا إلى جيش الإسلام بعد فشل الحملة.

    أما الحملة الصليبية الثالثة فقد ذكر توماس أرنولد في كتابه (الدعوة إلى الإسلام) أن في تلك الحملة انضمت أعداد غفيرة من جيش الصليب إلى جيش الإسلام، وساق شهادة مؤرخ غربي مرافق لهذه الحملة ومتحسرًا على دخول جموع غفيرة من قومه في الإسلام: «وفريق من رجالنا تراهم يهجرون بني جلدتهم ويفرون إلى الأتراك، فلم يترددوا أن يصبحوا في زمرة المرتدين».

    ومن رجال الدين النصراني البولسي الذين صدقوا مع نفوسهم حين خاطبوها بالإسلام فأسلمت عبد الواحد الصوفي الذي كان قسًا بكنيسة مريم في دمشق سبعين سنة، كذلك فقد أسلم دانيال أسقف خابور في منتصف القرن الثالث عشر الميلادي. وقد أشار توماس أرنولد نقلًا عن بعض المصادر اللاتينية إلى خلو كثير من الأسقفيات القبطية في بداية القرن الثالث عشر الميلادي في مصر من الأساقفة، ومن أمثلة ذلك دير القديس مكاريوس لم يبق منه غير أربعة قسيسن من أصل ثمانية في عهد البطريرك السابق. بل إن أحد رجال الدين الفرنسيسكان المنصرين لما أرسل إلى أفريقيا للتنصير عاد مسلمًا، وقد ذكر توماس أرنولد كثرة اعتناق القساوسة النصارى للإسلام في تلك الفترة.

    أما اعتناق الإسلام من قبل عامة النصارى فإنه لا خلاف أن العراق والشام ومصر وشمال أفريقيا والأندلس وغيرها كانت الديانة الغالبة على أهلها والسائدة على أرضها هي النصرانية قبل ظهور الإسلام، ومع انتشار نوره وضيائه دخل الناس فيه من تلك البلدان حتى أصبح الإسلام هو دين الغالبية، بدون إكراه أو تهجير، بل بالدعوة بالحسنى حتى هجر أكثرهم نصرانيته إلى الإسلام، وقد أسلم على يد ابن الجوزي وحده مئتان منهم.

     وذكر توماس أرنولد أنه بانتهاء القرن الحادي عشر الميلادي انضم إلى أهالي الشام وفلسطين من المسيحيين عنصر جديد يتألف من هذه الجموع الهائلة من الصليبيين الذين كانوا يدينون بشعائر الأمم اللاتينية.. وفي تلك الفترة كانت تحدث تحولات إلى الإسلام بين هؤلاء المهاجرين الغرباء... وكانت أعداد المرتدين عن المسيحية في القرن الثالث عشر كثيرة كثرة تلاحظها في سجلات الصليبيين القانونية التي يطلق عليها مجالس قضاء بيت المقدس، ومما يدل على كثرة اعتناق النصارى للإسلام في تلك الفترة فزع أحد قساوستهم في الشام وإرساله رسائل إلى البابا ورجال الدين في أوروبا, يطلب فيها أن لا يرسلوا الضعفاء والفقراء, لأنهم أكثر عرضة أن يفتنهم المسلمون فيعتنقون الإسلام. (وانظر: دعوة المسلمين للنصارى، الرسالة الناصرية، الأوضاع الحضارية في بلاد الشام في عصر الحروب الصليبية، الدعوة إلى الإسلام، توماس أرنولد. البداية والنهاية، ابن كثير الدمشقي، تاريخ الحروب الصليبية، رحلة ابن جبير، مذاهب فكرية معاصرة، محمد قطب:70ــ 78).

    الثامنة: شهادات منصفة للإسلام من كبار خارج دائرته: قال الزعيم الهندي الشهيرمهاتما غاندي في كتابه (ينج إنديا): «أردت أن أعرف صفات الرجل الذي يملك بدون نزاع قلوب ملايين البشر، لقد أصبحت مقتنعًا تمام الاقتناع أن السيف لم يكن الوسيلة التي من خلالها اكتسب الإسلام مكانته، وكلما اطلعت اكتشفت أن قوة الإسلام لا تكمن في السيف»، وقال: «إن نبي الإسلام هو الذي قادني للمناداة بتحرير الهند».

    وسبق نقل قول برنارد شو: «إن رجال الدين في القرون الوسطى، ونتيجة للجهل أو التعصب قد رسموا صورة قاتمة... لكني اطلعت على أمر هذا الرجل فوجدته أعجوبة خارقة، وتوصلت إلى أنه لم يكن عدوًا للمسيحية، بل يجب أن يسمى منقذ البشرية، وفي رأيي أنه لو تولى أمر العالم اليوم لوفق في حل مشكلاتنا بما يؤمن السلام والسعادة التي يرنو إليها البشر».

    وقال: «أرجو أن يفهموا نبوءتي: فالإسلام قادم ليصبح العالم به في حب وسلام، فقد دخل وما يزال يدخل الإسلام كثرة هائلة من بني قومي، ومن الأقوام الأخرى، حتى ليمكن أن يقال: عن تحول أوروبا للإسلام قد بدأ... ولم يسجل التاريخ أن رجلاً واحدًا سوى محمد كان صاحب رسالة وباني أمة ومؤسس دولة، هذه الثلاثة التي قام بها محمد كانت وحدة متلاحمة، وكان الدين هو القوة التي توحده  على مر التاريخ».

    هذا وإبراهيم عليه السلام لم يؤسس مملكة ودولة، كذلك موسى عليه السلام، أما داود وسليمان عليهما السلام فقد ملكا على ممالك سابقة بعد عهد القضاة، والمسيح عليه السلام لم يؤسس مملكة ودولة، أما محمد صلى الله عليه وسلم فقد أسس مملكة ودولة وشريعة جديدة. وهناك شهادات كثيرة في ذلك وللمزيد انظر مقالي: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    التاسعة: تأمل هذين المشهدين واحكم بنفسك, وهما مثال معبر عن سمات راسخة في الفريقين المُفترقين:

    الأول: حينما قدم وفد نجران النصارى لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، فحانت صلاتهم فقاموا يصلون في المسجد، فأراد بعض الناس منعهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعوهم»، فاستقبلوا المشرق فصلوا صلاتهم. (تاريخ الإسلام، للذهبي: 549).

    الثاني: في الترجمة الحديثة لكتاب الحياة يفسر البطريرك والقسيس قول المسيح في (متى 7: 6): «لا تعطوا القُدُس للكلاب ولا تطرحوا درركم قدام الخنازير» بأن المقصود: لا تعطوا الأناجيل للمسلمين!

    ولا أعلم كيف يستجيز أحد لنفسه هذا الكلام وهو يعلم أن المسلمين لم يخلقوا أصلًا إلا بعد مئات السنين من تلك الكلمة المشكوك في صحتها أصلًا! ولكن الحقد يفعل أكثر من ذلك.

    إن الأمة المسلمة تمنعها ريادتها الحضارية وكنزها العلمي الإيماني العملي أن تنزل لمستوى يجازي السيئة بمثلها، ففي حين أبت الشهامة المحمدية أن تأخذ عوضًا عن جثة الكافر الذي قاتلهم في الخندق وقتله المسلمون وبذل أهله المال في سبيل الحصول على جثته، فوهبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم جثته مجانًا، وفي المقابل نرى أمريكا رأس النصرانية بحربها الصليبية المقدسة! تأبى مبادؤها الجوفاء إلا أن ترمي بجثة المسلم في البحر وتبخل عليها بمتر من الأرض يحويها ــ هذا إن صدقت في روايتها المهتزة ــ ولما أسر المسلمون المصريون ملك فرنسا ومجيّش الجيوش الصليبية لحرب المسلمين، فما تراهم قد فعلوا به؟ لقد أكرموه في سجنه، ولم يهينوه ولم يمنعوه من حاجاته، ثم توّجوا لطفهم بإطلاقه، مع أنه أسير حرب معتدي مستحق للقتل، ولكن الغادر جزى إحسانهم بالسيئة، فأسس حربًا جديدة هي حرب الأفكار والقيم، والغزو الفكري والخلقي للمسلمين الأتقياء.

    وقد أخذ بوصاياه غلادستون ــ زعيم حزب الأحرار البريطاني ــ فقال: ما دام هذا القرآن موجودًا بين أيدي المسلمين فلن تستطيع أوروبا السيطرة على الشرق، ولا أن تكون هي نفسها في أمان. (كما نقله عنه صاحب كتاب قادة الغرب يقولون: دمروا الإسلام أبيدوا أهله: 38).

    وليس هذا فقط فلم تمر الأيام حتى غزاهم نابليون بونابرت بجيوشه وضرب الجامع الأزهر بالمدافع!

     والآن نطرح السؤال الكبير: من هم الأولى بالمسيح حقًا حين يقول_فيما ينسبونه له_: «أحبوا أعداءكم. أحسنوا إلى مبغضيكم. باركوا لاعنيكم. وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم. من ضربك على خدك الأيمن فاعرض له الآخر أيضًا. وكل من سألك فأعطه. ومن أخذ الذي لك فلا تغالبه. وكما تريدون أن يفعل الناس بكم فافعلوا أنتم أيضًا بهم هكذا. وإن أحببتم الذين يحبونكم فأي فضل لكم فإن الخطاة أيضًا يحبون الذين يحبونهم. وإذا أحسنتم إلى الذين يحسنون إليكم فأي فضل لكم فإن الخطاة أيضًا يفعلون هكذا» (لوقا 6: 28ــ 34)؟ وسنأخذ الإجابة من أفواه المنصفين من غير المسلمين فم غير متّهمين في حكمهم هذا بالتحيز:

    قال أرنست رينان: «لقد فهمت، لقد أدركت، ما تحتاج إليه البشرية هو شريعة سماوية تحق الحق وتزهق الباطل، وهي شريعة القرآن».

     وقال الأديب الروسي الشهير تولستوي في كتابه (حِكَم النبي محمد): «إن شريعة محمد ستسود العالم لانسجامها مع العقل والحكمة». وقال: «لا يوجد نبي حظي باحترام أعدائه سوى النبي محمد، مما جعل الكثرة من الأعداء يدخلون الإسلام».

     وقال المستشرق الألماني برتلي سانت هيلر في كتابه (الشرقيون وعقائدهم): «كان محمد في دعوته رحيمًا لطيفًا حتى مع أعدائه».

     وقال الكونت كاتياني في كتابه (تاريخ الإسلام): «لقد جاء الرسول محمد بدعوته لينشر في العالم الحب والسلام».

    وقال شاعر ألمانيا غوته: «استطاع رسول الإسلام بحبه للخير أن يجعل دعوته ورسالته تمتد وتنتشر وتضرب جذورها في أعماق النفس البشرية التواقة دائمًا للتعرف على النواحي الإيجابية في الحياة».

     وقال المستشرق الأسباني غوستاف لوبون في كتابه (حضارة العرب): «إن محمدًا رغم ما يشاع عنه من قبل خصومه ومخالفيه في أوروبا، قد أظهر الحلم الوافر والرحابة الفسيحة» وقد تقدم ذكر القول الفريد للمستشرق الأسباني جان ليك في كتابه (العرب): «لا يمكن أن توصف حياة محمد بأحسن مما وصفها الله بقوله: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" [الأنبياء: 107] كان محمد رحمة حقيقية، وإني أصلي عليه بلهفة وشوق».

    وقال الشاعر والمفكر الفرنسي فولتير: «إن الإسلام دين يستحق الإعجاب والإجلال والتقدير، وذلك لأنه جعل زنوج وسط أفريقيا يشعرون بآدميتهم، وجعل سكان جزر البحر الهندي يعرفون أن هناك قوة غير التي اعتادوا عليها». ثم ذكر شائعة انتشار الإسلام بالسيف وفندها بقوله: «هناك شائعات تحاول أن تقلل من قيمة الإسلام ورسوله، والدليل على ذلك أن كثيرين اعتنقوا الإسلام وهم بعيدون عن بلاده وغزواته وفتوحاته، إذن كيف وصلهم السيف الذي يدعيه مؤرخونا وخطباؤنا؟!...إن أقل ما يقال عن محمد: أنه قد جاء بكتاب وجاهد، والإسلام لم يتغير قط».

    وقال برتراند راسل: «لقد قرأت عن الإسلام ونبي الإسلام فوجدت أنه دين جاء ليصبح دين العلم والإنسانية».

    العاشرة: مقارنة عجلى بين تكوين النفسيات البانية للحضارات الإنسانية لأتباع الديانات الثلاث, فمع السكون يسود السلام:

    فنرى الديانة اليهودية قد أكب رجالاتها على المال وجمعه كيفما اتفق، سواءً كان ربًا أو ضرائب أو غشًا أو سرقات للقرابين "ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا" [البقرة: 96]، "ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائماً" [آل عمران: 75].

    وفي المقابل نرى في الديانة النصرانية الحث على الرهبانية والانقطاع عن الحياة العامة، والانزواء في الصوامع والأديرة، تاركًا حرث الدنيا وعمارة الأرض "ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم" [الحديد: 27]

    ثم نرى في الوسط بين تلك الفئتين الإسلام الحنيف يأمر بالإقبال على الآخرة مع حراثة الدنيا "وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الإرض إن الله لا يحب المفسدين" [القصص: 77]، وأمر بالضرب في الأرض وعمارتها وبنائها لتعين على الآخرة لا لتصد عنها، في اتساق بديع باهر "فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه" [الملك: 5]، "كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور" [سبأ: 15] وخفف عن عباده صلاة الليل لينشطوا في الصباح لرزقهم"وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله" [المزمل: 20] بل وضرب الإسلام أروع مثال في الإيجابية وحب العمل والإنتاج والنفع العام، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها فإن له بذلك أجر» أحمد والبخاري في الأدب المفرد وصححه الألباني.

    وتأمل هذه القصة: روى أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلًا من الأنصار جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله (أي مالًا) فقال: «أما في بيتك شيء؟» قال: بلى، حلس (جلد) نلبس بعضه، ونبسط بعضه، وقعب نشرب فيه الماء، قال: «ائتني بهما» فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وقال: «من يشتري هذين؟» قال رجل: أنا آخذهما بدرهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يزيد على درهم؟» مرتين أو ثلاثًا، قال رجل: أنا آخذهما بدرهمين، فأعطاهما إياه، فأخذ الدرهمين فأعطاهما الأنصاري وقال: «اشتر بأحدهما طعامًا فانبذه إلى أهلك واشتر بالآخر قدومًا (حديدة الفأس) فائتني به» فأتاه به، فشد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عودًا بيده، ثم قال: «اذهب فاحتطب وبع، ولا أرينك خمسة عشر يومًا»، ففعل، فجاء وقد أصاب عشرة دراهم، فاشترى ببعضها ثوبًا، وببعضها طعامًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذه خير لك من أن تجيء المسألة نكتة (أي بقعة) في وجهك يوم القيامة، وإن المسألة لا تصلح إلا لثلاث: لذي فقر مدقع، أو لذي غرم (دين) مفظع، أو لذي دم موجع (دية)» رواه أبو داود.

    وقال فانسان مونتيه أستاذ اللغة في جامعة باريس: «لما قرأت القرآن لأول مرة في حياتي... وعرفت تسامح الإسلام تجاه الديانات الأخرى، أعلنت إسلامي، فشعرت بالراحة في ظلاله... وليس مثل الإسلام دين يدفع إلى الأخلاق العليا والكرامة الإنسانية، لقد اخترت دين الإسلام لأنه دين الفطرة... أخذته دينًا ألقى به وجه ربي». (انظر: القرآن الكريم من منظور غربي، د. عماد الدين خليل: 78).

    وقال مارماديوك (وقد أسلم وتسمى: محمد مارماديوك باكتال)في كتابه (الثقافة الإسلامية): «يمكن للمسلمين أن ينشروا حضارتهم في العالم بنفس السرعة التي نشروه بها سابقًا، يرجعوا إلى أخلاقهم السابقة؛ لأن هذا العالم الخاوي لا يستطيع الصمود أمام روح حضارتهم»

    ختاماً نقول بكل ثقة: إن أمة الإسلام هي أسمى أمة حضارية في التاريخ بلا منازع, وهي أمة الرحمة والسماحة, ولم تسعد البشرية في زمن كسعادتها بدين الإسلام.

    ولتوثيق الأمثلة السابقة مع زيادات انظر: حوارات مع مسلمين أوروبيين، د.الأهدل، آفاق جديدة للدعوة، ومقدمات العلوم والمناهج، أنور الجندي، عظماء ومفكرون يعتنقون الإسلام، محمد طماش، الإسلام في قفص الاتهام، د.شوقي أبو خليل، أمريكا والإسلام تعايش أم تصادم؟ د.عبد القادر طاش، القرآن الكريم من منظور غربي، د.عماد الدين خليل، أوروبة والإسلام، د.عبد الحليم محمود، التنصير والاستعمار، عبد العزيز الكحلوت، الإسلام، د. أحمد شلبي.

    وصلى الله وبارك على إمام المرسلين وخاتمهم نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان وسلم تسليماً.

إبراهيم الدميجي

22 محرم 1434

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق