الشعور بالجسد الواحد بين الإفراط والتفريط
من مقتضيات الإيمان مولاة المؤمنين ومناصرتهم والاهتمام بأمورهم بمختلف أجناسهم وألوانهم ولغاتهم؛ ولأن الإيمان الذي جمع بين المؤمنين لم يفرق في عقد تلك الأخوة الإيمانية بين أبيض أو أسود أو عربي أو عجمي؛ وإنما ربط تلك الأخوة بوصف الإيمان فحسب؛ فقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ … } [الحجرات: 10] وقال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 55، 56].
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم بعض حقوق هذه الأخوة الإيمانية؛ وذلك فيما رواه البخاري ومسلم عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً، فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ القِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ».
وقد صور الشارع الحكيم تعاضد المسلمين وتعاونهم وتكاتفهم وتماسكهم بالجسد الواحد؛ والذي إذا شعر جزء منه بداء أو ألم تألم الجسد كله بسبب ألم ذاك العضو؛ وتعاون الجسد لإزالة ذلك الألم؛ حيث روى البخاري ومسلم عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ ، وَتَرَاحُمِهِمْ ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى.
وشبه تماسكهم أيضاً بالبنيان الذي لا يقوم إلا بجميع أجزائه؛ مهما صغر؛ كما روى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «المُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ، يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا» ثُمَّ شَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ.
وهذه الأخوة الإيمانية والحقوق الإسلامية المقررة في الكتاب والسنة تجاذبها طرفان نقيضان:
طرف لم يرع هذا العقد الإيماني؛ ولا الحق الإسلامي؛ ولم يمثل له ذلك العقد في حياته شيئاً يذكر؛ وإنما هو في شأن خاصة نفسه؛ وهذا في أحسن أحواله؛ إن لم يكن سبباً في خذلان أخيه المسلم وعوناً عليه؛ وإيصال الأذى الحسي والمعنوي له.
ولا شك بأن المتصف بذلك ناقص الإيمان بحسب ذلك الخذلان، ومن لم يهتم بما ينزل بالمسلمين من عظائم وفظائع وجراحات وآلام ويولي ظهره لكل ذلك كأنّ شيئا لم يكن فهو ضعيف الصلة بالإيمان ومقتضياته وكمالاته؛ ولأن من كمال الإيمان أن يحب المؤمن لإخوانه كما يحب لنفسه؛ ويكره لهم ما يكره لنفسه؛ كما روى البخاري في صحيحه عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ.
قال الحافظ ابن حجر في الفتح (1/ 20): قَالَ الْكَرْمَانِيّ : وَمِنْ الْإِيمَان أَيْضًا أَنْ يَبْغَض لِأَخِيهِ مَا يَبْغَض لِنَفْسِهِ مِنْ الشَّرّ ، وَلَمْ يَذْكُرهُ لِأَنَّ حُبّ الشَّيْء مُسْتَلْزِم لِبُغْضِ نَقِيضه ، فَتَرَكَ التَّنْصِيص عَلَيْهِ اِكْتِفَاء .
وروى الطبراني والبيهقي وغيرهما بإسناد فيه مقال عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ لَا يَهْتَمُّ بِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ مِنْهُمْ، وَمَنْ لَمْ يُصْبِحْ وَيُمْسِي نَاصِحًا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِإِمَامِهِ وَلِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ ; فَلَيْسَ مِنْهُمْ» .
وأما الإفراط في الشعور بهذا الحق الإسلامي والعقد الإيماني ما يقوم به البعض عند مشاهدة المآسي التي تنزل بالمسلمين شرقاً وغرباً والقتل والتشريد الذي ينزل بهم؛ وما يصاحب ذلك من التخاذل من بعض المسلمين الذين لهم قوة ومنعة؛ فيولد ذلك عندهم التكفير والتفسيق لكل من لم يقف مع إخوانه؛ وإن كان حاكماً فيُسعى لذمّه ورميه بكل نقيصة؛ وتخوينه وأنه متآمر مع الأعدء على أمة الإسلام، والحث على نزع يد الطاعة منه.
والقائمون بهذا الصنيع حالهم كحال من يبني قصراً ويهدم مصراً؛ وكمن يشفي جرحاً ويتلف نفساً، وبلاد المسلمين القائمة تحت ولايات شرعية من أوجب ما يكون المحافظة عليه في هذه الأزمنة المضطربة، وزعزعة أمنها ومحاولة بث الفرقة فيها من الخيانة للمسلمين جميعاً، وهو ما يزيد جرح المسلمين سيلاناً؛ وتفرقهم كثرة؛ وطمع الأعداء فيهم أوسع.
ومقارنة المصالح والمفاسد في مثل هذه الأحوال هي الفيصل في الإقدام على مد يد العون للمسلمين أو الإحجام عنه؛ وتقدير تلك المصالح والمفاسد ليست لآحاد الناس وعامتهم؛ وإنما هو من خصائص أولي الأمر المطلعين على خفايا الأمور ومآلاتها.
والفقهاء رحمهم الله قد جوّزا قتل بعض المسلمين الذين يتترس بهم الأعداء للحفاظ على بيضة المسلمين وقاعدتهم والخوف من استئصالهم، وكل ذلك إعمالا للمصالح والمفاسد عند تعارضها؛ قال الإمام النووي رحمه الله في روضة الطالبين (10/ 246): وإن دعت ضرورة إلى رميهم-أي الكفار- بأن تترسوا بهم-أي بالمسلمين- في حال التحام القتال وكانوا بحيث لو كففنا عنهم ظفروا بنا وكثرت نكايتهم فوجهان أحدهما لا يجوز الرمي إذا لم يمكن ضرب الكفار إلا بضرب مسلم لأن غايته أن نخاف على أنفسنا ودم المسلم لا يباح بالخوف بدليل صورة الإكراه والثاني وهو الصحيح المنصوص وبه قطع العراقيون جواز الرمي على قصد قتال المشركين ويتوقى المسلمين بحسب الإمكان لأن مفسدة الإعراض أكثر من مفسدة الإقدام ولا يبعد احتمال طائفة للدفع عن بيضة الإسلام ومراعاة للأمور الكليات.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في جامع المسائل (3/ 342): لو تَترَّس الكفارُ بأسرَى المسلمين وخِيف على جيش المسلمين إن لم يرموا، فإنه يجوز أن يرموا بقصدِ الكفار، وإن أفضَى إلى قتل هؤلاء المعصومين، لأن فساد ذلك دون فساد استيلاء الكفار على جيش المسلمين.
وهذا مذهب الفقهاء المشهورين، كأبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم.
ومما سبق يتبين الموقف الشرعي الصحيح في أداء الحق الشرعي للأخوة الإسلامية؛ والعقد الإيماني بين المسلمين؛ وهو الوقوف مع المسلمين في آلامهم وأتراحهم؛ والشعور بالجسد الواحد عندما ما ينزل بهم من الكوارث والفواجع؛ وأن ذلك هو ما أمر به الشرع في أدلته الصحيحة الثابتة دلالة ورواية؛ وأن هذا الموقف الإيماني والشعور الوجداني لا يستوجب التكفير والتفسيق؛ والمساهمة في زعزعة أمن بدلا المسلمين الآمنة والتي هي موئل المسلمين وحصنهم.
رابط الموضوع : http://www.assakina.com/taseel/25975.html#ixzz2vdS0Jnhw
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق