الثلاثاء، 11 مارس 2014

سريّة النصيحة للحاكم

سريّة النصيحة للحاكم

قبل البدء في الحديث عن سرية النصيحة للحاكم، أود أن أعرج على أمر مهم ، وهو أن البعض إذا تحدث عن سرية النصيحة للحاكم، وأنكر كثيرا من الوسائل التي يروجها بعض الناس من تشهير لولي الأمر في وسائل الإعلام، يظن المستمع أن القصد من ذلك إيقاف سبيل الإصلاح ، أو إغلاق شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر !!
وهذا للأسف فهم خاطئ، وقصور عن إدراك حقيقة الشريعة المحمدية .
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإصلاح والتوجيه، لا يتعارض مع سرية النصيحة للحاكم ، فأنت إذا نصحت أخاك في السر ووعظته فيما بينك وبينه ، وبينت له خطأ فعله وقوله ، كنت بذلك آمرا بالمعروف ، ناهيا عن المنكر ، فليس من شرط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون علانية أو في الملأ ، بل إذا كان في السر كان أدعى للقبول والإجابة ، وقد روي عن الشافعي رحمه الله قوله : من نصح أخاه سرا فقد نصحه وزانه ، ومن وعظه علانية فقد فضحه وخانه ، وكان يقول :
تعمدني نصــحك بانفراد *** وجنبني النصــح في الجماعة
فإن النصح في الإخوان شيء *** من التوبيخ لا أرضى استماعه
فإن نازعتني وعصيت قولي *** فلا تجــزع إذا لم تلق طاعة
هذا فيما يخص عموم النصيحة ، أما نصيحة السر للحاكم :
فلا شك أن الإسلام أدب المسلمين عموما في تعامل بعضهم مع بعض ، وأدب عموم الرعية في التعامل مع الحاكم ، وجعل لذلك أدبا ونهجا معينا ، فمن تلك الآداب أن تكون نصيحة الرعية للحاكم في السر وليس في العلن ، وصار هذا الأدب أصلا من أصول أهل السنة والجماعة، وصار خلافه شعارا من شعار أهل الجهل والبدع ، والأدلة على ذلك كثيرة جدا من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ومن فعل السلف الصالحين خيار الأمة رضي الله عنهم .
أما الأدلة من كتاب الله تعالى :
أولا : قول الله تعالى : (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا )
هذه الآية أصل فيما يسر به أو يعلن من الأقوال والأعمال، فقد ذم الله تعالى طائفة من الناس، وهم كل من يذيع في الناس كلاما من دون درك لما يترتب عليه من النتائج والمصالح، مما يكون له خطر ووقع في الأمة والمجتمع وجماعة المسلمين .
ثم أخبر الله تعالى أن الواجب فيما يكون هذا شأنه أن يعرض على ذوي الاختصاص وولاة الأمور ، فقال جل شأنه : (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ ) أي أن الواجب فيما كان هذا شأنه أن يرد إلى ذوي الاختصاص وولاة الأمور، ذوي الخبرة والرأي والمسؤولية، والإحاطة بعامة شؤون المسلمين، ثم بعد ذلك يقرر هؤلاء ما يصلح أن ينشر ويذاع ، وما يجب كتمانه وإسراره ، قال تعالى : (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ) ، فأهل الاستنباط والنظر هم الذين يقرون ما يصلح نشره وما لا .
وقد امتثل عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذه الآية حين تكلم الناس في طلاق النبي صلى الله عليه وسلم نساءه، فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم وسأله الخبر، قائلا للنبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله ، أطلقتهن ؟ قال : لا ، قال فقلت : يا رسول الله ، إني دخلت المسجد والمسلمون ينكتون بالحصى ، يقولون : طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه ، أفأنزل ، فأخبرهم أنك لم تطلقهن ، قال : نعم ، إن شئت ، فقمت على باب المسجد ، فناديت بأعلى صوتي ، لم يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه .
قال عمر رضي الله عنه : ونزلت هذه الآية : ( وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ) أخرجه مسلم . 
فهذا هدي المؤمنين فيما يعلن ويشاع من الأقوال والأفعال .
والعلة التي لأجلها جاء الذم لهؤلاء هو جهرهم – دون الرجوع لذوي الاختصاص -  لما يتناول أمن المجتمع أو خوفه ، وقد عبر المفسرون عن ذلك بقولهم – كما في قول الشيخ ابن سعدي رحمه الله – : ” إذا جاءهم أمر من الأمور المهمة، والمصالح العامة؛ ما يتعلق بالأمن وسرور المؤمنين ، أو بالخوف الذي فيه مصيبة عليهم “
فهذا النوع من الأقوال والأفعال يمس مصالح المسلمين العامة ، ويخشى من الجهر به على عامة مصالح المسلمين ، أو أن الجهر به قد يضر عموم المسلمين ولا ينفعهم لا في دينهم ولا في دنياهم .
ويدخل في ضمن هذا أنواع ، فمنها : 
أولا : ما يكون من أمر الحرب والسلم، مما يكون في إخفائه  رحمة للمؤمنين ، ويكون في إذاعته ضعف للمسلمين ، ووهنهم ، وتثبيط لعزائمهم .
وقد وقع من ذلك مما أراده الله تعالى لنبيه والمؤمنين يوم بدر ، فإن الله تعالى أخفى عن المسلمين يوم بدر عدد عدوهم، بل قللهم في أعينهم، قال الله تعالى : ( إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44) )
فالله تعالى أخفى عن المسلمين حقيقة عدد عدوهم ومقدار قوتهم ، إذ كانوا ضعفي عدد المسلمين ، قال مجاهد : أراه إياهم في منامه قليلا، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بذلك، وكان تثبيتا لهم .
وقال ابن مسعود رضي الله عنه : لقد قللوا في أعيننا يوم بدر ، حتى قلت لرجل إلى جنبي ، أتراهم سبعين ؟ قال : أراهم مائة ، قال : فأسرنا منهم ، فقلنا : كم هم ؟ فقال ألفا ! !
وقد أشار الله تعالى إلى الحكمة من إخفاء حقيقة عدد المشركين؛ أن المسلمين لو علموا عدد عدوهم وأنهم ضعفي عدد المسلمين لدخل إلى قلوبهم الجبن والخوف ، ولتأخروا عن قتال عدوهم، فكان هذا سبيلا للفشل ، وداعيا من دواعي الهزيمة ، ولكن الله تعالى لطف بهم ، وأراهم عدوهم بعدد قليل ، وذلك حتى يجرئ المؤمنين على عدوهم ويطمعهم فيهم.
فهذا الإخفاء من الله تعالى مع إبانة الحكمة في ذلك ، تشريع للأمة أن يتعاملوا مع الوقائع والحقائق بهذه الكيفية.
ومما وقع من ذلك في التاريخ ما ذكره الحافظ ابن جرير الطبري رحمه الله في تاريخه عند الحديث عن معركة اليرموك ، حين نشب القتال بين المسلمين والروم ، والتحم الناس ، وتطارد الفرسان ، فبينما هم كذلك إذ جاءهم البريد من المدينة بخبر وفاة خليفة المسلمين أبي بكر وتولية عمر، وفيه أمر من عمر بعزل خالد قائد الجيش ، وتولية أبي عبيدة رضي الله عنهم أجمعين ، فأخذت الخيول صاحب البريد وسألوه الخبر ، فكان من فطنة الرسول أنه لم يخبرهم إلا بالسلامة ، وأخبرهم عن أمداد تأتيهم تشجيعا لعزيمتهم .
فلما وصل الرسول عند خالد وخلى به؛ أخبره أن الخليفة أبا بكر الصديق رضي الله عنه قد مات ، وأن أميرهم على الحرب أبو عبيدة بن الجراح ، وأخبر الرسول خالدا بما أخبر به عامة الجند ، فقال له خالد : أحسنت ، فقف ، وأخذ منه الكتاب وجعله في كنانته ، وخاف إن ترك الرسول أن ينتشر أمر الخبر ، فأوقف الرسول إلى جانبه تحرزا من انتشار الخبر وفشوه .
فلما انتهى القتال وأظفر الله المسلمين على عدوهم عزى خالد أهل الإيمان بوفاة أبي بكر الصديق رضي الله عنهم أجمعين، واستخلاف المؤمنين عمر رضي الله عنهم أجمعين .الطبري، تاريخ الطبري 3/398 .
ثانيا : ومن ذلك الأقوال التي تمس جماعة المسلمين مما يترتب على الجهر به ونشره افتراق المسلمين إلى فرق وجماعات وطوائف، كتاريخ القبائل الذي يكون فيه سفك للدماء ، وإزراء بالآخرين وتنقص يعود على الجيل الحاضر من الأبناء بالنقص والازدراء، فهذا يذكي نار العصبية ويحيى روح الجاهلية، والتعصب للأولين ضد الحاضرين .
وهل كان فعل عبد الله بن أبي بن سلول سوى تذكير المهاجرين والأنصار بيوم بعاث ، وما حصل فيه من أفعال الأوس والخزرج ، حتى أدى تذكيرهم بتلك الأيام إلى تداعي كل من الطائفتين بدعوى الجاهلية، إلى أن جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم وهدأ كل فريق وقال : أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم !!؟
وقد دل على هذا فقه الصحابي الجليل سلمان الفارسي رضي الله عنه ، ففي سنن أبي داود : عن عمرو بن أبي قرة، قال: كان حذيفة بالمدائن فكان يذكر أشياء قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأناس من أصحابه في الغضب، فينطلق ناس ممن سمع ذلك من حذيفة فيأتون سلمان فيذكرون له قول حذيفة، فيقول سلمان: حذيفة أعلم بما يقول- يعني من دون أن يصدق حذيفة ، فيرجعون إلى حذيفة فيقولون له قد ذكرنا قولك لسلمان فما صدقك ولا كذبك.
فأتى حذيفة سلمان وهو في مبقلة فقال: يا سلمان، ما يمنعك أن تصدقني بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
فقال سلمان: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغضب؛ فيقول في الغضب لناس من أصحابه، ويرضى فيقول في الرضا لناس من أصحابه، أما تنتهي حتى تورث رجالا حب رجال ورجالا بغض رجال، وحتى توقع اختلافا وفرقة !! ولقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فقال: أيما رجل من أمتي سببته سبة، أو لعنته لعنة في غضبي، فإنما أنا من ولد آدم أغضب كما يغضبون، وإنما بعثني رحمة للعالمين، فاجعلها عليهم صلاة يوم القيامة والله لتنتهين، أو لأكتبن إلى عمر.
وفي صحيح البخاري : عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: ” دخلتُ على حفصة ونسْواتها تنطف، قلت: قد كان من أمر الناس ما تَرَيْن، فلم يُجعل لي من الأمر شيء، قالت: اِلْحق فإنهم ينتظرونك، وأخشى أن يكون في احتباسك عنهم فرقة، فلم تدَعْهُ حتى ذهب، فلما تفرَّق الناسُ خطب معاوية رضي الله عنه فقال: من كان يريد أن يتكلم في هذا الأمر فليُطْلع لنا قرنه، فلنحن أحقُّ به منه ومن أبيه.
قال حبيب بن مسلمة: فهلاَّ أجبته؟ قال عبد الله: فحللتُ حَبْوتي وهممت أن أقول: أحقّ بهذا الأمر منك مَن قاتلك وأباك على الإسلام، فخشيتُ أن أقول كلمة تفرِّق بين الجمع وتَسفِك الدم ويُحمَل عني غير ذلك، فذكرتُ ما أعدَّ الله في الجنان.
قال حبيب: حُفظتَ وعُصمتَ “.
فلو فرض أن طائفتين من المسلمين اختصمتا ، فلا يجوز لمسلم أن يعلن أو يظهر ما يزيد النفرة بين الطرفين ، بل الواجب أنه إذا رأى من الأقوال والأفعال ما يوغر الصدور دفنه وستره ، وإذا رأى من الأقوال والأفعال ما تجتمع عليه القلوب نشره وأذاعه ، بل يجوز له أن يكذب في مثل هذا الموطن حتى يؤلف بين القلوب المتنافرة .
أما نشر ما يوغر الصدور ويفرق المسلمين فإنه من فعل المنافقين لا من فعل عباد الله المؤمنين فضلا عن المصلحين .
ثالثا : ومن ذلك ؛ أمور سياسة الرعية والملك ، مما لو جهر به لفهم على غير وجهه ، وصار فتنة للبعض من الناس ، وسبيلا لاختلاف كلمة عموم المسلمين ، وتفرقهم ، فهذا لا يجهر به أمام من لا يقدره ، ولا يفهمه ، بل يخاطب به من يعقله ويعلم وجهه ، فبعض الكلام يكون لبعض الناس فتنة ، كما قال علي رضي الله عنه : ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم .
ومثال على هذا :
روى البخاري عن ابن عباس قال: كنتُ أُقْريء رجالا من المهاجرين؛ منهم عبد الرحمن بن عوف، فبينما أنا في منزله بمنى وهو عند عمر بن الخطاب في آخر حجة حجها، إذ رجع إلي عبد الرحمن فقال:
لو رأيتَ رجلا أتى أمير المؤمنين اليوم فقال: يا أمير المؤمنين هل لك في فلان يقول: لو قد مات عمر لقد بايعت فلانا، فو الله ما كانت بيعة أبي بكر إلا فلتة فتمت،
فغضب عمر ثم قال: إني إن شاء الله لقائم العشية في الناس فمحذِّرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم،
 قال عبد الرحمن: فقلت: ” يا أمير المؤمنين! لا تفعل.
فإن الموسم يجمع رَعاع الناس وغوغاءهم؛ فإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطيِّرها عنك كل مطير، وأن لا يَعُوها، وأن لا يضعوها على مواضعها، فأمهل حتى تقدم المدينة فإنها دار الهجرة والسنة، فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس، فتقول ما قلت متمكنا، فيعي أهل العلم مقالتك، ويضعونها على مواضعها “، فقال عمر: ” أما والله ـ إن شاء الله ـ لأقومن بذلك أول مقام أقومه بالمدينة … “
 
رابعا : ومن ذلك ما يتعلق بالنصيحة للحاكم وأمره ونهيه ، والإنكار عليه أمام الملأ ، وعلى رؤوس الناس، فهذا يمنع منه لعظيم مكانة السلطان ، وبالغ أثره فيما يقوم به ويأمر، ولعظم الخطر فيما يعترضه من النوائب والحوادث ويحصل، فبالسلطان تنتظم الجماعة، بل لك أن تقول إنه لا قيام للدين والدنيا إلا بوجوده ، فالدين والملك توأمان إذا ارتفع أحدهما ارتفع الآخر .
ولما كان منصبه بهذه الخطورة كان إعلان الأمر والنهي والنصيحة له على رؤوس الملأ ، وأمام الناس له وقع خطير، وعاقبته غير مأمونة ، ويخشى أن يؤدي إلى شرخ في الجماعة، وعدم انتظام لشؤون الملك والرعية، وداعية لاختلال الأمن ، وظهور أسباب الخوف والفزع ، ولأجل ذا فالجهر فيما هذا شأنه من دون الرجوع لذوي الاختصاص – الذي هو ولي الأمر نفسه – داخل في الآية بداهة.
وهذه النصيحة العلنية أمام الملأ ، وعلى رؤوس الناس لها وقع كبير :
أولا : إذ قد يرى أنها من التعيير والتوبيخ أمام الرعية ، وهذا مدعاة لعدم القبول والرد ، والنصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنما شرعا للإصلاح لا للرد ، ولأجل ذا فمن علم من شخص من الناس أنه إذا نصحه ازداد في غيه وأتى بمنكر أعظم منه لم يجز له أن ينكر هذا المنكر ، دفعا للمنكر الأعظم .
وقد بوب الخلال في كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باب : ما يوسع على الرجل في ترك الأمر والنهي إذا رأى قوما سفهاء ، ثم روى عن عباس العنبري ، قال : كنت مارا مع أبي عبد الله بالبصرة ، قال : فسمعت رجلا يقول لرجل: يا ابن الزاني، قال : فوقفت ومضى أبو عبد الله ، فالتفت فقال لي : يا أبا الفضل، امش ! قال فقلت : قد سمعنا ، قد وجب علينا ، قال : امض ، ليس هذا من ذلك .
ثانيا : أن النصيحة للحاكم في العلن قد يؤديها من غرضه صادق في الإصلاح والتوجيه، وتكثير الخير وتقليل الشر ، وإصلاح الفساد، مع تدينه بطاعة الله وطاعة رسوله ، وطاعة ولي أمر المسلمين ، وهذا مأجور على حسن نيته ، لكن النية وحدها لا تشفع له .
وكذلك قد ينهض بهذه النصيحة في العلن من غرضه القدح في الحاكم للتوصل إلى إثارة الناس في الخروج عليه، والاستيلاء على السلطة ، وقد يكون في الباطن أحد المنافقين، أو أحد أعوان الرافضة المندسين بين المتحمسين من الشباب، أو يكون أحد الحاقدين على الإسلام وأهله ، يغيظه أن يرفع صوت الأذان في مساجد المسلمين ، ويغيظه نشر التوحيد وعقيدة الإسلام الصافية الصحيحة ، والثناء على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وأزواجه .
ومما ذكر من ذلك في التاريخ ما فعله المهدي ابن تومرت، فإنه كان يظهر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لقصد الرئاسة والوصول إلى الحكم والسلطة ، قال الحافظ الذهبي في ترجمته :
” كان أمَّاراً بالمعروف ، نهاء عن المنكر ، عمالا على الملك ، غاويا في الرياسة والظهور، ذا هيبة ووقار …
وكان خشن العيش ، فقيرا ، قانعا باليسير ، مقتصرا على زي الفقر ، لا لذة له في مأكل ولا منكح ولا مال ، ولا في شيء غير رياسة الأمر …
وقال : وكان له فصاحة في العربية والبربرية ، وكان يؤذى ويضرب ويصبر ، أوذي بمكة ، فراح إلى مصر ، وبالغ في الإنكار ، فطردوه وآذوه ….
ثم ذهب إلى مراكش وهي تحت إمارة ابن تاشفين ، فأخذ في الإنكار على الملك وسبه علانية ، فأحضره الملك بحضرة الفقهاء ، وكلموه فيما وقع فيه من سب الملك ، فقال بكل جرأة : ما نقل من الوقيعة في الملك فقد قلته ، هل من ورائه أقوال ؟!
وأنتم تطرونه وهو مغرور بكم ، فيا قاضي ، هل بلغك أن الخمر تباع جهارا ؟! وتمشي الخنازير في الأسواق ؟! وتؤخذ أموال اليتامى ؟
فلان الملك وذرفت عيناه وأطرف .
وفهم الدهاة طمع ابن تومرت في الملك ، فنصحوا السلطان، وقال له مالك بن وهيب : إني خائف عليك من هذا ، فاسجنه وأصحابه ، وأنفق عليهم مؤنتهم ، وإلا أنفقت عليهم خزائنك ، فلم يجبه الملك وصرفه وسأله الدعاء .
ولم يزل ابن تومرت يظهر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ويجمع حوله الشباب وصغار السن، قال ابن خلكان 5/51 : وكان يستميل الأحداث وذوي الغِرَّة ، وكان ذوو العقل والحلم من أهاليهم يحذرونهم من أتباعه ، ويخوفونهم من سطوة الملك ،،،
فلم يزل في ذلك حتى توصل إلى الرئاسة بل إلى القول بعصمته ، وقتل كل من خالف أمره … الذهبي ، سير أعلام النبلاء 19 /539.
وليت جناية ابن تومرت في إذهاب دولة الإسلام في المغرب ، بل بدل عقائد المسلمين ، وأتى بالاعتزال والتشيع ، والإلحاد في أسماء الله وصفاته ، ووصف أهل السنة الموحدين بالمجسمة !


رابط الموضوع : http://www.assakina.com/taseel/9802.html#ixzz2veE5znZW

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق