درء المفاسد الراجحة مقدم على جلب المنافع
من ميز ديننا أنه محكوم أتم الإحكام ؛ ومضبوط تمام الضبط ؛ فلا مجال لتحكيم الأهواء؛ ولا لتسليط الآراء حسب الرغبات الشخصية؛ أو الأطماع الدنيوية.
وقد بذل علماء الأمة منذ فجر الرسالة إلى وضع القواعد الحامية لحمى الشريعة أن يخوض فيها الخائضون أو أن يقرب من سياجها الطامعون؛ وحتى لا تكون كلأ لكل مغرض أو جاهل مفتر.
وقد بذل علماء الأمة منذ فجر الرسالة إلى وضع القواعد الحامية لحمى الشريعة أن يخوض فيها الخائضون أو أن يقرب من سياجها الطامعون؛ وحتى لا تكون كلأ لكل مغرض أو جاهل مفتر.
والمتكلم في الشريعة ملزم بتلك السياج المنيعة والتي تدل على أن متجاوزها قد خرق الإجماع وسلك سبيل غير المؤمنين في الاستنباط ومسالك الاستدلال؛ لأن تلك القواعد كانت محل اتفاق بعد أن تبين بسبرها صدق مدلولها؛ وحجية دلالتها.
والناظر في الواقع المعاش يدرك أن من أسباب التخبط والحيرة في دياجير الجهل هو البعد عن جادة العلم وما عليه الرعيل الأول من السنن والهدى؛ وهجر ما أصلوه من تلك القواعد الشاملة؛ والأصول الجامعة.
وإن من الفقه العظيم الذي يكاد أن يقل في الأزمنة المتأخرة رعاية تلك القواعد العامة وإعمالها في الحوادث المتكررة والنوازل الحادثة؛ لأن الضابط لتلك النوازل لا يمكن أن يلم بها المتكلم إن كان بعيداً عن سننها حيث لا تسعفه النصوص بنص كل حادثة بعينها وذلك لانقطاع الوحي؛ ولكون الحوادث المتكررة لا حصر لها؛ فلم يبق إلا العناية بتلك القواعد العامة والضوابط الحاصرة.
وإن من بين تلك القواعد الجامعة والتي قلَّ النظر فيها؛ قاعدة: درء المفاسد الراجحة مقدم على جلب المنافع.
وهذه القاعدة العظيمة داخلة تحت فقه الموازنات والتعارضات؛ وهو فقه جليل لا يوفق له إلا القلة من أهل العلم.
وقد نبه شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أهمية ذلك حيث قال: الشَّرِيعَة مبناها على تَحْصِيل الْمصَالح وتكميلها وتعطيل الْمَفَاسِد وتقليلها، وَإِلَّا فَمن لم يوازن مَا فِي الْفِعْل وَالتّرْك من الْمصلحَة الشَّرْعِيَّة والمفسدة الشَّرْعِيَّة فقد يدع وَاجِبَات وَيفْعل مُحرمَات .
وَيرى ذَلِك من الْوَرع كمن يدع الْجِهَاد مَعَ الْأُمَرَاء الظلمَة وَيرى ذَلِك ورعا ويدع الْجُمُعَة وَالْجَمَاعَة خلف الْأَئِمَّة الَّذين فيهم بِدعَة أَو فجور وَيرى ذَلِك من الْوَرع وَيمْتَنع عَن قبُول شَهَادَة الصَّادِق وَأخذ علم الْعَالم لما فِي صَاحبه من بِدعَة خُفْيَة وَيرى ترك قبُول سَماع هَذَا الْحق الَّذِي يجب سَمَاعه من الْوَرع. جامع الرسائل (2/ 141)
ويقول رحمه الله أيضاً: لكن إذا كان الشخص أو الطائفة لا تفعل مأمورا إلا بمحظور أعظم منه أو لا تترك مأمورا إلا لمحظور أعظم منه لم يأمر أمراً يستلزم وقوع محظور راجح ولم ينه نهيا يستلزم وقوع مأمور راجح، فإن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر هو الذي بعثت به الرسل، والمقصود تحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان.
فإذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مستلزما من الفساد أكثر مما فيه من الصلاح لم يكن مشروعا، وقد كره أئمة السنة القتال في الفتنة التي يسميها كثير من أهل الأهواء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن ذلك إذا كان يوجب فتنة هي أعظم فسادا مما في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم يدفع أدنى الفسادين بأعلاهما، بل يدفع أعلاهما باحتمال أدناهما. الاستقامة (1/ 330).
ويقول العلامة ابن القيم رحمه الله: وإذا تأملت شرائع دينه التي وضعها بين عباده وجدتها لا تخرج عن تحصيل المصالح الخالصة أو الراجحة بحسب الإمكان:
وان تزاحمت قدم أهمها وأجلها
وإن فاتت أدناهما وتعطيل المفاسد الخالصة أو الراجحة بحسب الإمكان،
وإن تزاحمت عطل أعظمها فسادا باحتمال أدناهما.
وعلى هذا وضع أحكم الحاكمين شرائع دينه دالة عليه شاهدة له بكمال علمه وحكمته ولطفه بعباده وإحسانه إليهم وهذه الجملة لا يستريب فيها من له ذوق من الشريعة وارتضاع من ثديها وورود من صفو حوضها وكلما كان تضلعه منها أعظم كان شهوده لمحاسنها ومصالحها أكمل، ولا يمكن لأحد من الفقهاء أن يتكلم في مآخذ الأحكام وعللها والأوصاف المؤثرة فيها حقا وفرقا إلا على هذه الطريقة. مفتاح دار السعادة (2/ 22).
فعند وجود المفاسد والمصالح وتزاحمهما يعمل بتقديم درء المفاسد على جلب المصالح.
وقد دلت الأدلة الشرعية على رعاية هذه القاعدة بنصوص ظاهرة؛ فمنها:
قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا.. } [البقرة: 219].
قال الشيخ محمد رشيد رضا: وَهَذَا الْقَوْلُ إِرْشَادٌ لِلْمُؤْمِنِينَ إِلَى طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ ، فَكَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَهْتَدُوا مِنْهُ إِلَى الْقَاعِدَتَيْنِ اللَّتَيْنِ تَقَرَّرَتَا بَعْدُ فِي الْإِسْلَامِ : قَاعِدَةُ دَرْءِ الْمَفَاسِدِ مُقَدَّمٌ عَلَى جَلْبِ الْمَصَالِحِ ، وَقَاعِدَةُ تَرْجِيحِ ارْتِكَابِ أَخَفِّ الضَّرَرَيْنِ إِذَا كَانَ لَا بُدَّ مِنْ أَحَدِهِمَا. تفسير المنار (2/ 264)
ومن أدلة القاعدة أيضاً: ما أخرجه البخاري في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: دَعُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِسُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ.
ومن أدلتها أيضاً: ما رواه البخاري أيضاً في صحيحه عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ قَوْمَكِ لَمَّا بَنَوْا الْكَعْبَةَ اقْتَصَرُوا عَنْ قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ. فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَلَا تَرُدُّهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ؟ فَقَالَ: لَوْلَا حِدْثَانُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ. أي لفعلت.
قال النووي في شرحه على مسلم (9/ 89): وفي هذا الحديث دليل لقواعد من الأحكام منها إذا تعارضت المصالح أو تعارضت مصلحة ومفسدة وتعذر الجمع بين فعل المصلحة وترك المفسدة بدئ بالأهم لان النبي صلى الله عليه و سلم أخبر أن نقض الكعبة وردها إلى ما كانت عليه من قواعد ابراهيم صلى الله عليه و سلم مصلحة ولكن تعارضه مفسده أعظم منه وهي خوف فتنة بعض من أسلم قريبا وذلك لما كانوا يعتقدونه من فضل الكعبة فيرون تغييرها عظيما فتركها صلى الله عليه و سلم.
ويتبين مما سبق ذكره أن هذه إعمال هذه القاعدة في كثير من تصرفات المكلفين هو غاية الفقه الذي من سلكه أداه ذلك إلى تحقيق العبودية التي أُمر به العبد.
وعلى من نصب نفسه رائداً أن يعتني بها أيما عناية حتى لا يؤتى من قبل جهله بهذه القضايا الكلية في الشريعة؛ فيكون كمن يبني قصراً ويهدم مصراً..
وعلى من نصب نفسه رائداً أن يعتني بها أيما عناية حتى لا يؤتى من قبل جهله بهذه القضايا الكلية في الشريعة؛ فيكون كمن يبني قصراً ويهدم مصراً..
رابط الموضوع : http://www.assakina.com/taseel/11101.html#ixzz2veBrjncZ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق