المقصد من الجهاد
الجهاد مفردة شرعية وردت في نصوص الكتاب والسنة؛ ولا يستطيع أي كائن أن يلغي هذه المفردة في تاريخ الأمة حاضراً ولا مستقبلاً؛ لكونها لصيقة بالخلود المضمون لتلك النصوص المباركة من الوحي المعصوم.
وقد اعتورت هذه المفردة الشرعية تصورات خاطئة فحملتها ما لا تحتمل؛ ما بين غلو وإجحاف؛ وقصور ومجاوزة.
والراجع للنصوص الشرعية يجدها حافلة بهذه المفردة المباركة؛ ولا تخطئه العين في النظر إليها؛ أو التكلف في استخراجها.
ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ } [آل عمران: 142]؛ وقوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا } [النساء: 95].
أما النصوص النبوية فقد حفلت صحاح السنة بالكم الكثير الدالة على ورود هذه المفردة؛ من ذلك ما رواه البخاري في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ. قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: جِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ حَجٌّ مَبْرُورٌ.
وروى مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: تَكَفَّلَ اللَّهُ لِمَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ ، لاَ يُخْرِجُهُ مِنْ بَيْتِهِ إِلاَّ جِهَادٌ فِي سَبِيلِهِ ، وَتَصْدِيقُ كَلِمَتِهِ ، بِأَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ ، أَوْ يَرْجِعَهُ إِلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ، مَعَ مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ ، أَوْ غَنِيمَةٍ.
وقد كتب علماء الإسلام عبر تاريخ الإسلام حول هذه المفردة مئات المصنفات الخاصة؛ وأدرجوها في شتى أنواع العلوم الإسلامية؛ مما لا يدع مجالا للشك بأصالتها وشرعيتها.
ولكن هذه المفردة المباركة تناولها أقوام خرجوا بمعانيها الشرعية إلى معان بعيدة كل البعد عن المعنى الصحيح لها؛ والمعنى المراد منها.
فمن تلك المعاني المغلوطة أن هذه المفردة المباركة مقصودة لذاتها؛ ولأي فرد أو جماعة غير الأمة بمجموعها التلبس بهذه الشعيرة وقت ما أرادوا؛ غير آبهين بما ينتج عن فعلهم من ضرر على عامة المسلمين؛ وأن قتل الكفار مقصود لذاته، مستدلين على أن هذه عبادة مطلقة غير مرتبطة بمقاصدها والتي قررها الشرع.
والمتأمل في النصوص الشرعية وأحوال المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم يجد خلاف هذا المعنى مما أدى لنتاج واستنتاج خاطئ لمقصد هذه العبادة.
فالجهاد عبادة مرتبطة بمقاصدها المشروعة من أجلها؛ ومنوطة بشروطها التي وضعها العلماء؛ ومتى ما تخلفت تلك المقاصد والشروط أصبحت وبالاً على صاحبها؛ ووزره أقرب من أجره.
وإن من المقاصد العظيمة التي ورد النص عليها أن تكون هذه العبادة مقصودة لوجه الله تعالى وحده لا شريك له؛ ومتى ما كان القصد منها غير ذلك فهو دليل على أنها عبادة فاسدة؛ غير مقبولة.
ولذلك لم ترد هذه المفردة المباركة في النصوص الشرعية إلا ومقرونة “بسبيل الله” للدلالة على أهمية هذا الارتباط؛ لأن الجهاد قد يكون لأغراض كثيرة لم يأمر بها الشرع؛ كما ورد في الصحيحين من حديث أَبِي مُوسَى، قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الرَّجُلِ يُقَاتِلُ شَجَاعَةً، وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً ، وَيُقَاتِلُ رِيَاءً ، أَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللهِ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا ، فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
ومن مقاصد هذه العبادة خلق أرضية صالحة لتبليغ الدعوة الربانية؛ وصدّ أي صاد يحول بين الناس وبين سماع الحجج الشرعية؛ ومتى ما استجاب الناس للدخول في هذا الدين أصبح جهادهم ضرب من الطغيان والظلم؛ فالدعوة هي الأصل؛ والقتال فرع عنها؛ ولأن إزهاق النفوس ليس من مقاصد هذه العبادة.
ومن أصرح ما يبين ذلك ما رواه البخاري في صحيحه عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ مُعَاذًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى الْيَمَنِ، فَقَالَ: ادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ؛ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ؛ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِي أَمْوَالِهِمْ تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ.
وقتل غير المسلمين غير مقصود لذاته؛ وإنما هو تبع؛ ومتى ما تحقق إقامة الملة وتبليغ الشريعة صار القتل عندئذ ظلم وخروج بهذه العبادة عن مقصدها.
ولذلك قال الشربيني في مغني المحتاج (4/ 210): وأما قتل الكفار فليس بمقصود حتى لو أمكن الهداية بإقامة الدليل بغير جهاد كان أولى من الجهاد.
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي في تفسيره: “ذكر تعالى المقصود من القتال في سبيله، وأنه ليس المقصود به، سفك دماء الكفار، وأخذ أموالهم، ولكن المقصود به أن { يَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ } تعالى، فيظهر دين الله تعالى، على سائر الأديان، ويدفع كل ما يعارضه، من الشرك وغيره، وهو المراد بالفتنة، فإذا حصل هذا المقصود، فلا قتل ولا قتال”
ومن مقاصد هذه العبادة: أن تُحقق المقصد من شرعيتها في غالب الظن؛ وهو تحقق دفع الظلم ورفع الطغيان ودحر الكفر؛ وبمعنى آخر أن تكون جالبة للمنافع الدينية والدنيوية؛ دافعة للمضار، ومتى ما كان هذا المقصد غير متحقق فيعتبر الخوض فيها مرجوحا لا راجحاً.
فإزهاق أرواح المسلمين في قتال غير متكافئ غير مقصود شرعاً؛ وقد أشار لهذا الملحظ العز بن عبد السلام حينما قال في قواعد الأحكام ” أي قتال للكفار لا يتحقق به نكاية بالعدو فإنه يجب تركه ؛ لأن المخاطرة بالنفوس إنما جازت لما فيها من مصلحة إعزاز الدين ، والنكاية بالمشركين ، فإذا لم يحصل ذلك وجب ترك القتال لما فيه من فوات النفوس وشفاء صدور الكفار وإرغام أهل الإسلام ، وبذا صار مفسدة محضة ليس في طيها مصلحة” أ.هـ
أما جانب التفريط في هذه المفردة الشرعية فإنه يتبين عند أولئك القائلين بمحوها في التشريع؛ أو المحرفين لمدلولها عند اقتضاءها بأي سبب كان ذلك الدافع؛ وهؤلاء واضح تفريطهم وخروجهم بتلك المعاني الفاسدة عن سنن الهدي المستقيم؛ فلا نقف لبيان فساد تصورهم.
وبعد فإن الجهاد عبادة شريفة؛ مقررة شرعاً؛ لا يجادل موقن بخاتمة الرسالة بشرعيتها؛ وهي مرتبطة بمقاصدها وشروطها؛ فمتى ما تخلفت مقاصدها عنها؛ أو اختل شرط من شروطها كانت وبالاً على صاحبها؛ ولا تكون مؤداة على الوجه الشرعي الذي شرعت من أجله.
رابط الموضوع : http://www.assakina.com/taseel/14162.html#ixzz2ve1ecS1p
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق