وسطية القيم بين العقل والإيمان
اقتضَت حكمةُ الله – عزَّ شأنُه – أن يجعل الإنسان في هذه الدنيا محورَ المسؤولية، ومحلَّ التكليف. (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) [البقرة: 30].
وغايةُ الإنسان التي خُلِق من أجلِها، ويحيا في سبيلِها هي غايةٌ إيمانية، وعقليةٌ فكرية، (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات: 56]، (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج: 46]، (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [النحل: 78].
ولا تستقيمُ إنسانيةُ الإنسان، ولا تصلُحُ حياتُه إلا بالإيمان والعمل الصالح، (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا) [الكهف: 30].
وهو – أي: الإنسان – إن تخلَّى عن ذلك فهو كمثَلِ الحِمار يحمِلُ أسفارًا، وكمثَلِ الكلبِ إن تحمِل عليه يلهَث أو تترُكه يلهَث.
إن الإنسان الصالح هو إنسانُ الإيمان والأخلاق، والقِيَم والمبادِئ، والشرَفِ والفضيلَة، والكرامةِ والنزاهَةِ، والصدقِ والاستقامةِ والمسؤوليةِ.
العقلُ الإنسانيُّ وحدَه – أيها الإخوة في الله – لا يستطيعُ أن يستقِلَّ بالقرارات الصحيحة والأحكام الصائِبَة، (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ) [المؤمنون: 71]. ذلكم أن الإنسان ذو نزَعَاتٍ نفعيَّةٍ ضيِّقةٍ؛ بل إنه بعقلِه واستِبدادِه وهواه يُحاول أن يغتصِبَ ما يستطيعُ اغتِصابَه، وينهَبُ ما يقدِرُ على انتِهابِه.
الإنسان بعقلِه المُجرَّد، وهواه الطاغِي تجلَّى وتجسَّد في كثيرٍ من مظاهِر حضارَةِ اليوم. فلا اعتِرافَ بعالم الغيب، ولا بما وراء الطبيعة – كما يُعبِّرون -، وإنما هو العالمُ المحسوسُ المنظورُ ولا شيء غيرُه.
بل لقد جعَلوا الإنسان هو الصانِعُ لقِيَمه، فاتَّخذَ لنفسِه نهجًا ومسارًا ابتعَدَ فيه عن الدين والإيمان، وما جاءَت به الرُّسُل وتنزَّلَت به الكتُب. حتى قالوا: لا توجد حقائِقُ ثابتةٌ للعدل والحرية، ولا معايِيرُ ضابِطةٌ للأخلاق والمصالِح، ولكنها النسبيةُ القاتِلةُ، فلا عداوات وصداقات، ولا صِدقَ في العلاقات؛ بل هي مصالِحُ الأقوى، وأحكام الأظلَم، وهوَى الأطغَى.
معاشر الأحِبَّة:
بسبب تحكيم العقل – بل تحكيم الهوى – ضعُفَت القِيَم، وطغَت النظرةُ الماديَّة؛ بل برزَت العنصرياتُ، وتجسَّدَت العصبيَّات. وإنك لترَى المُنتسِبَ للتقدُّم والعلم وهو يحمِلُ التعصُّب المقيت للونِه وقوميَّته رغم ما حقَّقه من تقدُّم مادِّي، بل لقد حاربَ الدينَ والتديُّنَ، حتى أصبحَ أسيرًا للماديات والمحسوسات، فحقَّق فيها نجاحًا لا يُنكَر، ولكنَّه فشل في الحِفاظِ على كرامةِ البشر من غير أجناسِهم وقوميَّاتهم.
بل لقد عولَموا الحروبَ والصراعاتِ والتظالُم، ولسوف يكون الوضعُ أكثرَ حِدَّةً، وأشدَّ قسوةً، وأقسَى وحشيَّةً، كلما تعاظمَت وسائلُ قوَّته وأدواته في جشَع المادة، واستِعظام القوة. ولقد تضاعَفَ تِعدادُ الضعفاء والبُؤساء من ملايين الثَّكلَى، والجوعَى، والعُراة، والمرضَى، والمُعدَمين.
وإنك لترَى المُخترِع في اختِراعِه، والمُكتشِف في اكتِشافِه، والصانِعَ في صناعتِه يهدِفُ نفعَ الناس في ميادين الطعام والغِذاء والكِساء والدواء من أجل مزيدٍ من الصحة والعافية والسلامة. غيرَ أن معاملَهم هذه ومُختبراتهم ومصانِعهم هي التي تُنتِجُ – وبشكلٍ أكبر وأفظَع وأثرَى – تُنتِجُ الغازات السامَّة القاتِلة، والأسلِحة الفتَّاكة المُدمِّرة، وهي التي تُهدِّد بالحروب الجرثوميَّة، والكيميائية، والنووية.
وسِباقُ التسلُّح لا سقفَ له ولا حدود، وصدقَ الله العلي العظيم: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) [الروم: 7]، (وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ) [الرعد: 31].
معاشر المسلمين:
إن إفراغَ العلوم من الإيمان والقِيَم والمُثُل العُليا أصابَ دُنيا هذا العصر بالعُقم والانحِطاط، وأوصلَ إلى الطريق المسدود. فالحريةُ لا حدود لها، والعدل لا ضابِط له، والمصالِح لا معايير لها، والغايةُ تُبرِّرُ الوسيلة!
وما كان ذلك – وربِّكم – إلا بسبب قيام هذه القِيَم على الفصلِ بين العلم والإيمان، والدين والحياة، والعلوم والأخلاق. فلا صداقات ولا عداوات، ولكن مصالِح يُديرُها الأقوى، ويتحكَّم فيها الأغنَى.
فالعلمُ فروضٌ ونظريَّاتٌ وظواهِرُ لا شأنَ لها بالقِيَم، وتكون القاصِمة حين يتقرَّر أنه لا علاقة لها بالدين والحياة.
أيها العقلاء:
العلمُ من غير دينٍ فاقِدُ البصيرة، بل هو وحشٌ ضارٍ يُهلِكُ الحرثَ والنسلَ، والإنسانُ من غير إيمانٍ حيوانٌ بهيمٌ، مفترسٌ شرسٌ، (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ) [البقرة: 205].
نعم، حين توجَّه العلمُ إلى هذا المسار المادِّي اتَّجهت نتائِجُه إلى هذا التوجُّه التخريبيِّ التي أرعبَ الإنسانيَّة جمعاء، في كِلا مسارَيْه: العلمي والنظري. ومن هنا؛ فإن كل قوانين البشر ومواثيقها واتفاقياتها سُرعان ما تتلاشَى، وتظهر عيوبُها وثغرَاتُها وظُلمُها وانحِيازُها.
ليتَ أهل الحضارة يعلمون أن هناك ارتِباطًا وثيقًا، بل ميثاقًا غليظًا لا انفِكاك عنه بين الإيمان والحياة، والإيمان والعلم، والعقيدة والعمل، (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا) [الأحزاب: 7]، (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ) [يونس: 9]، (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل: 97].
إن القِيَم العظيمة من البرِّ والإحسانِ، والصدقِ والإخلاصِ والوفاءِ، واحتِرام كرامَة الإنسان، والتواضُع والتعاوُن، ونُكران الذات، وحبّ الخير للناس، والصبر في الشدائد والكُروب وغيرها، كل أولئك لا يمكن أن تُقام على وجهها إلا بسِياجٍ من الإيمان بالله وتقواه وخشيَته، وحُسن عبادتِه، والرَّغبَة والرَّهبَة فيما عنده في الدنيا والآخرة.
معاشر العقلاء، أيها المسلمون:
ومما يُجلِّي ذلك ويُبرِزُه: هذه المُقارنة في قيمةٍ من القِيَم، كيف هي في الميزان الصحيح، وكيف آلَت إليه في هذا العصر؟! إنها قيمةُ الزواج وغايتُه.
الزواجُ في الميزان الصحيح ميثاقٌ غليظٌ، (وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا) [النساء: 21].
نسبٌ وصِهرٌ، وبناءُ أسرة، ورِباطُ عشيرة، وأهلُون وأقرَبون، وحُسن عِشرة، وإحسانٌ ومودَّة، وإمساكٌ بمعروف، وتحمُّلٌ ومسؤوليَّةٌ. الأسرةُ مأوَى ومدرسة، وحِضنٌ دافِئٌ، ودارُ رعايةِ حانِيَة.
أما في هذا العصر وما يُريده مادِّيُو هذا العصر بقِيَمهم المادية، ونظرتهم الأنانية والعُنصرية؛ فالزواجُ عقدٌ باهِت، وارتِباطٌ مهزوز، وعلاقةٌ جامدةٌ، تفتقِدُ كل وظائِفِ الأسرة، يلتقِي فيها الشَّبَحان (الزوج والزوجة) في تواصُلٍ بارِدٍ، حتى استبدَلوا الأولادَ بحيواناتٍ استِأنسوها وتألَّفُوها.
أما وظائِفُ الأسرة فقد أُنيطَت بمُؤسَّسات وهيئات مُختلفة؛ فزادَت دورُ الرعاية لرعاية اللُّقطاء، والمُسنِّين والعَجَزة، والضمانُ الاجتماعيُّ في رعاية الدولة أو الهيئات الاجتماعيَّة.
في الأسرة المُعاصِرة إذا بلغَ الأمة والأب مرحلةَ العجز والشيخوخة، فالحلُّ هو إيداعُه في إحدى هذه الدُّور، حتى يبلُغ الكتابُ أجلَه، لا يزُورُ ولا يُزار، وقد يُحسِنُون إليه في بعض المناسبات بزيارةٍ أو وردةٍ أو بطاقةٍ.
وأما الأولادُ فإذا بلَغوا سِنَّ الرُّشدِ عندهم فلا علاقةَ لهم بأُسرتهم، ولا والدِيهم، ولا مسؤوليَّة ولا رحِمٍ ولا صِهرٍ. ومع الأسف أن هذه الصورة من المُقارنة لم تعُد قاصِرةً على إقليمٍ دون إقليم، إلا من رحِمَ ربُّك.
وإن شِئتُم صورة أخرى، أو قيمةً أخرى يُمكن التمثيلُ بها؛ فهي قيمةُ العفاف، أو خُلُق العِفَّة. وهل للعفاف وُجودٌ في الحياة العادية المُعاصِرة؟!
العِفَّةُ – حفِظَكم الله – هي ضبطُ النفس واعتِدالُها في لذَّاتها الجسميَّة والنفسيَّة، أكلاً وشُربًا، وكسبًا واتصالاً وعواطِف.
والمسارُ المعاصِر مُنهمِكٌ في الملذَّات بنَهَمٍ لا ينتهِي، وظمأٍ لا يرتَوِي. لماذا؟ لأن الحياةَ عندهم لا تتجاوزُ عالَمَ الأرض، في ارتِماءٍ مقيتٍ في أحضانِ المادَّة لا قعرَ له. ناهِيكُم بقانون: (الغاية تُبرِّرُ الوسيلة) حينما يُكشِّرُ عن أنيابِه البشِعَة، يجرِفُ كل ما بين يدَيه وما خلفَه.
ومن خلال ذلك: ترَى صورةَ الإنسان المُعاصِر فارِغَ الأكواب، ظمآنَ الشَّفَتَين، مصقُولَ المظهر، مُظلِمَ المخبَر، كليلَ البصر، ضعيفَ اليقين، كثيرَ اليأس. عيونٌ لا تعِفُّ عن الحُرُمات، وقلوبٌ لا تزجُرُها القوارِع. كل ما عندهم من علمٍ وفنٍّ، وسياسةٍ وتربية، وعقلٍ وقلبٍ يطوفُ حول الماديَّات.
وبعد – حفظكم الله -:
لقد قُتِل الإنسان من غير حربٍ، وعُذِّب من غير ضربٍ، آنَ لأهل الفقهِ والنظر أن يعرِفُوا معالِمَ التحضُّر الحقيقيِّ، وأين هي مساراتُ التقدُّم المنشود؟ وأين هي آثارُ القِيَم؟
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) [العصر: 1- 3].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمدٍ – صلى الله عليه وسلم -، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ؛ فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله قدَّر الأرزاقَ والآجال، وكتبَ الآثار والأعمال، أحمدُه – سبحانه – وأشكرُه هو أهلُ الجُود والإنعام والإفضال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الإكرام والجلال، وأشهد أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه سامِقُ المجد كريمُ الخِصال، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آلِهِ الطيبين الأطهار، وأصحابِهِ المُكرَّمين الأخيار خيرِ صحبٍ وآل، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ ما تعاقَبَت الأيامُ والليال، وسلَّم تسليمًا كثيرًا مزيدًا في الحال والمآل.
أما بعد، أيها المسلمون:
إنها سُنَّةُ التدافُع بين الحقِّ والباطِل، والخيرِ والشرِّ، والعدلِ والجَورِ. ونحن المسلمون لسنَا نشُكُّ لحظةً واحِدةً بأن القادِر – بإذن الله – على تخليصِ البشريَّة من شِقوَتها، وتزوِيدها بمنهَج الحياة الصالِح هي هذه الأمة بدينِ الحقِّ، (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى) [طه: 123]، (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) [آل عمران: 110].
إن الطريقَ واضِحٌ، والنهجَ أبلَج، إنه الاعتِصامُ بحبل الله والتمسُّك بشرعِه. والإيمانُ هو الآصِرةُ التي تجمعُ القلوب، والأُخوَّةُ الحقَّةُ هي الأُخوَّة الإيمانية.
الدينُ لا يقِفُ عند الدعوة إلى مكارِم الأخلاق، وعدد القِيَم وتمجيدِها؛ بل هو الذي يُرسِّيها، ويُحدِّدُ معالِمَها، ويضبِطُ مقاييسَها، ويضعُ الجزاءَ لها ثوابًا وعِقابًا.
واعلَموا – حفِظَكم الله – أن خزائنَ الإسلام لم تنفَد، وجدَّة الإسلام لم تخلَق. إن سرَّ بقاءِ هذا الدين وعِصيانَه على الذَّوَبان، وقوة مقاومَته؛ لأنه حقٌ من عند الله، ومحفوظٌ بحفظِه، ربَّانيٌّ كاملٌ شاملٌ في عقائِدِه وتشريعاتِه وقِيَمِه وأخلاقِه. وكلُّها قِيَمٌ عُظمَى، ومُثُلٌ عُليا مُتماسِكةٌ بقوةٍ تجعلُها – بحفظِ الله وحِكمته – العقبةَ على كل من يُحاولُ النَّيلَ منها، أو عصرَها أو قهرَها.
ويكفِيكُم عزَّةً وقوَّةً وأملاً: ما يُحقِّقُه دينُكم من انتشارٍ في كل أصقاع الدنيا قوِّيِّها وضعيفِها، شمالِها وجنوبِها، رغم حملات التشويه والتجنِّي. دينٌ عظيمٌ عزيزٌ إذا تطاوَلُوا عليه اشتدَّ، وإذا ترَكوه امتدَّ، فلله الحمدُ والمنَّة.
والمسلمون حين يعُودون إلى دينِهم، ويعتزُّون بقِيَمهم، ويتمسَّكُون بشريعَتهم سوف لن يُنقِذُوا أنفسَهم وحدَهم، ولكنَّهم سوف يُنقِذون البشريَّة كلَّها التي تئِنُّ من وحشيَّةِ الغابِ، وتعاظُمِ الدمار والخرابِ.
فدينُنا هُدًى للناس أجمعين، ونبيُّنا محمدٌ – صلى الله عليه وسلم – هو رحمةُ الله للعالمين، وجميلٌ أن يُوقِنَ أهلُ الحقِّ أن ما يرونَه من صِراعِ مصالِحٍ ما هو إلا صِراعُ مبادِئٍ، صِراعٌ بين الحقِّ والباطِل، صِراعٌ بين ما جاء به هذا الدين ومن يُريدون إطفاءَ نور الله، (وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) [التوبة: 32]، وليُؤثِرَ دينَه على الدين كلِّه ولو كرِه المُشرِكون.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك نبيِّنا محمدٍ الحبيب المُصطفى، والنبي المُجتبى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الصحابة والتابعين .
——————–
المُلقي : فضيلة الشيخ الدكتور:د صالح بن حميد
وغايةُ الإنسان التي خُلِق من أجلِها، ويحيا في سبيلِها هي غايةٌ إيمانية، وعقليةٌ فكرية، (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات: 56]، (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج: 46]، (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [النحل: 78].
ولا تستقيمُ إنسانيةُ الإنسان، ولا تصلُحُ حياتُه إلا بالإيمان والعمل الصالح، (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا) [الكهف: 30].
وهو – أي: الإنسان – إن تخلَّى عن ذلك فهو كمثَلِ الحِمار يحمِلُ أسفارًا، وكمثَلِ الكلبِ إن تحمِل عليه يلهَث أو تترُكه يلهَث.
إن الإنسان الصالح هو إنسانُ الإيمان والأخلاق، والقِيَم والمبادِئ، والشرَفِ والفضيلَة، والكرامةِ والنزاهَةِ، والصدقِ والاستقامةِ والمسؤوليةِ.
العقلُ الإنسانيُّ وحدَه – أيها الإخوة في الله – لا يستطيعُ أن يستقِلَّ بالقرارات الصحيحة والأحكام الصائِبَة، (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ) [المؤمنون: 71]. ذلكم أن الإنسان ذو نزَعَاتٍ نفعيَّةٍ ضيِّقةٍ؛ بل إنه بعقلِه واستِبدادِه وهواه يُحاول أن يغتصِبَ ما يستطيعُ اغتِصابَه، وينهَبُ ما يقدِرُ على انتِهابِه.
الإنسان بعقلِه المُجرَّد، وهواه الطاغِي تجلَّى وتجسَّد في كثيرٍ من مظاهِر حضارَةِ اليوم. فلا اعتِرافَ بعالم الغيب، ولا بما وراء الطبيعة – كما يُعبِّرون -، وإنما هو العالمُ المحسوسُ المنظورُ ولا شيء غيرُه.
بل لقد جعَلوا الإنسان هو الصانِعُ لقِيَمه، فاتَّخذَ لنفسِه نهجًا ومسارًا ابتعَدَ فيه عن الدين والإيمان، وما جاءَت به الرُّسُل وتنزَّلَت به الكتُب. حتى قالوا: لا توجد حقائِقُ ثابتةٌ للعدل والحرية، ولا معايِيرُ ضابِطةٌ للأخلاق والمصالِح، ولكنها النسبيةُ القاتِلةُ، فلا عداوات وصداقات، ولا صِدقَ في العلاقات؛ بل هي مصالِحُ الأقوى، وأحكام الأظلَم، وهوَى الأطغَى.
معاشر الأحِبَّة:
بسبب تحكيم العقل – بل تحكيم الهوى – ضعُفَت القِيَم، وطغَت النظرةُ الماديَّة؛ بل برزَت العنصرياتُ، وتجسَّدَت العصبيَّات. وإنك لترَى المُنتسِبَ للتقدُّم والعلم وهو يحمِلُ التعصُّب المقيت للونِه وقوميَّته رغم ما حقَّقه من تقدُّم مادِّي، بل لقد حاربَ الدينَ والتديُّنَ، حتى أصبحَ أسيرًا للماديات والمحسوسات، فحقَّق فيها نجاحًا لا يُنكَر، ولكنَّه فشل في الحِفاظِ على كرامةِ البشر من غير أجناسِهم وقوميَّاتهم.
بل لقد عولَموا الحروبَ والصراعاتِ والتظالُم، ولسوف يكون الوضعُ أكثرَ حِدَّةً، وأشدَّ قسوةً، وأقسَى وحشيَّةً، كلما تعاظمَت وسائلُ قوَّته وأدواته في جشَع المادة، واستِعظام القوة. ولقد تضاعَفَ تِعدادُ الضعفاء والبُؤساء من ملايين الثَّكلَى، والجوعَى، والعُراة، والمرضَى، والمُعدَمين.
وإنك لترَى المُخترِع في اختِراعِه، والمُكتشِف في اكتِشافِه، والصانِعَ في صناعتِه يهدِفُ نفعَ الناس في ميادين الطعام والغِذاء والكِساء والدواء من أجل مزيدٍ من الصحة والعافية والسلامة. غيرَ أن معاملَهم هذه ومُختبراتهم ومصانِعهم هي التي تُنتِجُ – وبشكلٍ أكبر وأفظَع وأثرَى – تُنتِجُ الغازات السامَّة القاتِلة، والأسلِحة الفتَّاكة المُدمِّرة، وهي التي تُهدِّد بالحروب الجرثوميَّة، والكيميائية، والنووية.
وسِباقُ التسلُّح لا سقفَ له ولا حدود، وصدقَ الله العلي العظيم: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) [الروم: 7]، (وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ) [الرعد: 31].
معاشر المسلمين:
إن إفراغَ العلوم من الإيمان والقِيَم والمُثُل العُليا أصابَ دُنيا هذا العصر بالعُقم والانحِطاط، وأوصلَ إلى الطريق المسدود. فالحريةُ لا حدود لها، والعدل لا ضابِط له، والمصالِح لا معايير لها، والغايةُ تُبرِّرُ الوسيلة!
وما كان ذلك – وربِّكم – إلا بسبب قيام هذه القِيَم على الفصلِ بين العلم والإيمان، والدين والحياة، والعلوم والأخلاق. فلا صداقات ولا عداوات، ولكن مصالِح يُديرُها الأقوى، ويتحكَّم فيها الأغنَى.
فالعلمُ فروضٌ ونظريَّاتٌ وظواهِرُ لا شأنَ لها بالقِيَم، وتكون القاصِمة حين يتقرَّر أنه لا علاقة لها بالدين والحياة.
أيها العقلاء:
العلمُ من غير دينٍ فاقِدُ البصيرة، بل هو وحشٌ ضارٍ يُهلِكُ الحرثَ والنسلَ، والإنسانُ من غير إيمانٍ حيوانٌ بهيمٌ، مفترسٌ شرسٌ، (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ) [البقرة: 205].
نعم، حين توجَّه العلمُ إلى هذا المسار المادِّي اتَّجهت نتائِجُه إلى هذا التوجُّه التخريبيِّ التي أرعبَ الإنسانيَّة جمعاء، في كِلا مسارَيْه: العلمي والنظري. ومن هنا؛ فإن كل قوانين البشر ومواثيقها واتفاقياتها سُرعان ما تتلاشَى، وتظهر عيوبُها وثغرَاتُها وظُلمُها وانحِيازُها.
ليتَ أهل الحضارة يعلمون أن هناك ارتِباطًا وثيقًا، بل ميثاقًا غليظًا لا انفِكاك عنه بين الإيمان والحياة، والإيمان والعلم، والعقيدة والعمل، (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا) [الأحزاب: 7]، (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ) [يونس: 9]، (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل: 97].
إن القِيَم العظيمة من البرِّ والإحسانِ، والصدقِ والإخلاصِ والوفاءِ، واحتِرام كرامَة الإنسان، والتواضُع والتعاوُن، ونُكران الذات، وحبّ الخير للناس، والصبر في الشدائد والكُروب وغيرها، كل أولئك لا يمكن أن تُقام على وجهها إلا بسِياجٍ من الإيمان بالله وتقواه وخشيَته، وحُسن عبادتِه، والرَّغبَة والرَّهبَة فيما عنده في الدنيا والآخرة.
معاشر العقلاء، أيها المسلمون:
ومما يُجلِّي ذلك ويُبرِزُه: هذه المُقارنة في قيمةٍ من القِيَم، كيف هي في الميزان الصحيح، وكيف آلَت إليه في هذا العصر؟! إنها قيمةُ الزواج وغايتُه.
الزواجُ في الميزان الصحيح ميثاقٌ غليظٌ، (وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا) [النساء: 21].
نسبٌ وصِهرٌ، وبناءُ أسرة، ورِباطُ عشيرة، وأهلُون وأقرَبون، وحُسن عِشرة، وإحسانٌ ومودَّة، وإمساكٌ بمعروف، وتحمُّلٌ ومسؤوليَّةٌ. الأسرةُ مأوَى ومدرسة، وحِضنٌ دافِئٌ، ودارُ رعايةِ حانِيَة.
أما في هذا العصر وما يُريده مادِّيُو هذا العصر بقِيَمهم المادية، ونظرتهم الأنانية والعُنصرية؛ فالزواجُ عقدٌ باهِت، وارتِباطٌ مهزوز، وعلاقةٌ جامدةٌ، تفتقِدُ كل وظائِفِ الأسرة، يلتقِي فيها الشَّبَحان (الزوج والزوجة) في تواصُلٍ بارِدٍ، حتى استبدَلوا الأولادَ بحيواناتٍ استِأنسوها وتألَّفُوها.
أما وظائِفُ الأسرة فقد أُنيطَت بمُؤسَّسات وهيئات مُختلفة؛ فزادَت دورُ الرعاية لرعاية اللُّقطاء، والمُسنِّين والعَجَزة، والضمانُ الاجتماعيُّ في رعاية الدولة أو الهيئات الاجتماعيَّة.
في الأسرة المُعاصِرة إذا بلغَ الأمة والأب مرحلةَ العجز والشيخوخة، فالحلُّ هو إيداعُه في إحدى هذه الدُّور، حتى يبلُغ الكتابُ أجلَه، لا يزُورُ ولا يُزار، وقد يُحسِنُون إليه في بعض المناسبات بزيارةٍ أو وردةٍ أو بطاقةٍ.
وأما الأولادُ فإذا بلَغوا سِنَّ الرُّشدِ عندهم فلا علاقةَ لهم بأُسرتهم، ولا والدِيهم، ولا مسؤوليَّة ولا رحِمٍ ولا صِهرٍ. ومع الأسف أن هذه الصورة من المُقارنة لم تعُد قاصِرةً على إقليمٍ دون إقليم، إلا من رحِمَ ربُّك.
وإن شِئتُم صورة أخرى، أو قيمةً أخرى يُمكن التمثيلُ بها؛ فهي قيمةُ العفاف، أو خُلُق العِفَّة. وهل للعفاف وُجودٌ في الحياة العادية المُعاصِرة؟!
العِفَّةُ – حفِظَكم الله – هي ضبطُ النفس واعتِدالُها في لذَّاتها الجسميَّة والنفسيَّة، أكلاً وشُربًا، وكسبًا واتصالاً وعواطِف.
والمسارُ المعاصِر مُنهمِكٌ في الملذَّات بنَهَمٍ لا ينتهِي، وظمأٍ لا يرتَوِي. لماذا؟ لأن الحياةَ عندهم لا تتجاوزُ عالَمَ الأرض، في ارتِماءٍ مقيتٍ في أحضانِ المادَّة لا قعرَ له. ناهِيكُم بقانون: (الغاية تُبرِّرُ الوسيلة) حينما يُكشِّرُ عن أنيابِه البشِعَة، يجرِفُ كل ما بين يدَيه وما خلفَه.
ومن خلال ذلك: ترَى صورةَ الإنسان المُعاصِر فارِغَ الأكواب، ظمآنَ الشَّفَتَين، مصقُولَ المظهر، مُظلِمَ المخبَر، كليلَ البصر، ضعيفَ اليقين، كثيرَ اليأس. عيونٌ لا تعِفُّ عن الحُرُمات، وقلوبٌ لا تزجُرُها القوارِع. كل ما عندهم من علمٍ وفنٍّ، وسياسةٍ وتربية، وعقلٍ وقلبٍ يطوفُ حول الماديَّات.
وبعد – حفظكم الله -:
لقد قُتِل الإنسان من غير حربٍ، وعُذِّب من غير ضربٍ، آنَ لأهل الفقهِ والنظر أن يعرِفُوا معالِمَ التحضُّر الحقيقيِّ، وأين هي مساراتُ التقدُّم المنشود؟ وأين هي آثارُ القِيَم؟
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) [العصر: 1- 3].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمدٍ – صلى الله عليه وسلم -، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ؛ فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله قدَّر الأرزاقَ والآجال، وكتبَ الآثار والأعمال، أحمدُه – سبحانه – وأشكرُه هو أهلُ الجُود والإنعام والإفضال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الإكرام والجلال، وأشهد أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه سامِقُ المجد كريمُ الخِصال، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آلِهِ الطيبين الأطهار، وأصحابِهِ المُكرَّمين الأخيار خيرِ صحبٍ وآل، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ ما تعاقَبَت الأيامُ والليال، وسلَّم تسليمًا كثيرًا مزيدًا في الحال والمآل.
أما بعد، أيها المسلمون:
إنها سُنَّةُ التدافُع بين الحقِّ والباطِل، والخيرِ والشرِّ، والعدلِ والجَورِ. ونحن المسلمون لسنَا نشُكُّ لحظةً واحِدةً بأن القادِر – بإذن الله – على تخليصِ البشريَّة من شِقوَتها، وتزوِيدها بمنهَج الحياة الصالِح هي هذه الأمة بدينِ الحقِّ، (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى) [طه: 123]، (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) [آل عمران: 110].
إن الطريقَ واضِحٌ، والنهجَ أبلَج، إنه الاعتِصامُ بحبل الله والتمسُّك بشرعِه. والإيمانُ هو الآصِرةُ التي تجمعُ القلوب، والأُخوَّةُ الحقَّةُ هي الأُخوَّة الإيمانية.
الدينُ لا يقِفُ عند الدعوة إلى مكارِم الأخلاق، وعدد القِيَم وتمجيدِها؛ بل هو الذي يُرسِّيها، ويُحدِّدُ معالِمَها، ويضبِطُ مقاييسَها، ويضعُ الجزاءَ لها ثوابًا وعِقابًا.
واعلَموا – حفِظَكم الله – أن خزائنَ الإسلام لم تنفَد، وجدَّة الإسلام لم تخلَق. إن سرَّ بقاءِ هذا الدين وعِصيانَه على الذَّوَبان، وقوة مقاومَته؛ لأنه حقٌ من عند الله، ومحفوظٌ بحفظِه، ربَّانيٌّ كاملٌ شاملٌ في عقائِدِه وتشريعاتِه وقِيَمِه وأخلاقِه. وكلُّها قِيَمٌ عُظمَى، ومُثُلٌ عُليا مُتماسِكةٌ بقوةٍ تجعلُها – بحفظِ الله وحِكمته – العقبةَ على كل من يُحاولُ النَّيلَ منها، أو عصرَها أو قهرَها.
ويكفِيكُم عزَّةً وقوَّةً وأملاً: ما يُحقِّقُه دينُكم من انتشارٍ في كل أصقاع الدنيا قوِّيِّها وضعيفِها، شمالِها وجنوبِها، رغم حملات التشويه والتجنِّي. دينٌ عظيمٌ عزيزٌ إذا تطاوَلُوا عليه اشتدَّ، وإذا ترَكوه امتدَّ، فلله الحمدُ والمنَّة.
والمسلمون حين يعُودون إلى دينِهم، ويعتزُّون بقِيَمهم، ويتمسَّكُون بشريعَتهم سوف لن يُنقِذُوا أنفسَهم وحدَهم، ولكنَّهم سوف يُنقِذون البشريَّة كلَّها التي تئِنُّ من وحشيَّةِ الغابِ، وتعاظُمِ الدمار والخرابِ.
فدينُنا هُدًى للناس أجمعين، ونبيُّنا محمدٌ – صلى الله عليه وسلم – هو رحمةُ الله للعالمين، وجميلٌ أن يُوقِنَ أهلُ الحقِّ أن ما يرونَه من صِراعِ مصالِحٍ ما هو إلا صِراعُ مبادِئٍ، صِراعٌ بين الحقِّ والباطِل، صِراعٌ بين ما جاء به هذا الدين ومن يُريدون إطفاءَ نور الله، (وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) [التوبة: 32]، وليُؤثِرَ دينَه على الدين كلِّه ولو كرِه المُشرِكون.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك نبيِّنا محمدٍ الحبيب المُصطفى، والنبي المُجتبى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الصحابة والتابعين .
——————–
المُلقي : فضيلة الشيخ الدكتور:د صالح بن حميد
رابط الموضوع : http://www.assakina.com/wastiah/36829.html#ixzz2vY2QVc6q
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق