حصن الإسلام
من أفعال الله تعالى الاختيارية اختياره واصطفاؤه للأزمنة والأمكنة ومن البشر؛ فضلاً منه وتكرماً، كما قال تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص: 68]، وقال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج: 75]، فهو سبحانه يخلق ما يشاء ويختار من ذلك الخلق ما يشاء.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد (1/ 43) منبهاً على هذا الاختيار وأنواعه وحكمه: وَإِذَا تَأَمّلْت أَحْوَالَ هَذَا الْخَلْقِ رَأَيْتَ هَذَا الِاخْتِيَارَ وَالتّخْصِيصَ فِيهِ دَالّا عَلَى رُبُوبِيّتِهِ تَعَالَى وَوَحْدَانِيّتِهِ وَكَمَالِ حِكْمَتِهِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَأَنّهُ اللّهُ الّذِي لَا إلَهَ إلّا هو فَلَا شَرِيكَ لَهُ يَخْلُقُ كَخَلْقِهِ وَيَخْتَارُ كَاخْتِيَارِهِ وَيُدَبّرُ كَتَدْبِيرِهِ فَهَذَا الِاخْتِيَارُ وَالتّدْبِيرُ وَالتّخْصِيصُ الْمَشْهُودُ أَثَرُهُ فِي هَذَا الْعَالَمِ مِنْ أَعْظَمِ آيَاتِ رُبُوبِيّتِهِ وَأَكْبَرِ شَوَاهِدِ وَحْدَانِيّتِهِ وَصِفَاتِ كَمَالِهِ وَصِدْقِ رُسُلِهِ فَنُشِيرُ مِنْهُ إلَى يَسِيرٍ يَكُونُ مُنَبّهًا عَلَى مَا وَرَاءَهُ دَالّا عَلَى مَا سِوَاهُ .
فَخَلَقَ اللّهُ السّمَوَاتِ سَبْعًا فَاخْتَارَ الْعُلْيَا مِنْهَا فَجَعَلَهَا مُسْتَقَرّ الْمُقَرّبِينَ مِنْ مَلَائِكَتِهِ وَاخْتَصّهَا بِالْقُرْبِ مِنْ كُرْسِيّهِ وَمِنْ عَرْشِهِ وَأَسْكَنَهَا مَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ فَلَهَا مَزِيّةٌ وَفَضْلٌ عَلَى سَائِرِ السّمَوَاتِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إلّا قُرْبُهَا مِنْهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى . وَهَذَا التّفْضِيلُ وَالتّخْصِيصُ مَعَ تَسَاوِي مَادّةِ السّمَوَاتِ مِنْ أَبْيَنِ الْأَدِلّةِ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَأَنّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ.
وَمِنْ هَذَا تَفْضِيلُهُ سُبْحَانَهُ جَنّةَ الْفِرْدَوْسِ عَلَى سَائِرِ الْجِنَانِ وَتَخْصِيصُهَا بِأَنْ جَعَلَ عَرْشَهُ سَقْفَهَا..
وَمِنْ هَذَا اخْتِيَارُهُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ الْمُصْطَفَيْنَ مِنْهُمْ عَلَى سَائِرِهِمْ كَجِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ…
وَكَذَلِكَ اخْتِيَارُهُ سُبْحَانَهُ لِلْأَنْبِيَاءِ مِنْ وَلَدِ آدَمَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ الصّلَاةُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ عَلَى مَا فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرّ الّذِي رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبّانَ فِي ” صَحِيحِهِ “، وَاخْتِيَارُهُ أُولِي الْعَزْمِ مِنْهُمْ وَهُمْ خَمْسَةٌ الْمَذْكُورُونَ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ والشّورَى، وَاخْتَارَ مِنْهُمْ الْخَلِيلَيْنِ إبْرَاهِيمَ وَمُحَمّدًا صَلّى اللّهُ عَلَيْهِمَا وَآلِهِمَا وَسَلّمَ .
وَمِنْ هَذَا اخْتِيَارُهُ سُبْحَانَهُ وَلَدَ إسْمَاعِيلَ مِنْ أَجْنَاسِ بَنِي آدَمَ ثُمّ اخْتَارَ مِنْهُمْ بَنِي كِنَانَةَ مِنْ خُزَيْمَةَ ثُمّ اخْتَارَ مِنْ وَلَدِ كِنَانَةَ قُرَيْشًا ثُمّ اخْتَارَ مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ ثُمّ اخْتَارَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ سَيّدَ وَلَدِ آدَمَ مُحَمّدًا صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَكَذَلِكَ اخْتَارَ أَصْحَابُهُ مِنْ جُمْلَةِ الْعَالَمِينَ وَاخْتَارَ مِنْهُمْ السّابِقِينَ الْأَوّلِينَ وَاخْتَارَ مِنْهُمْ أَهْلَ بَدْرٍ وَأَهْلَ بَيْعَةِ الرّضْوَانِ وَاخْتَارَ لَهُمْ مِنْ الدّينِ أَكْمَلَهُ وَمِنْ الشّرَائِعِ أَفْضَلَهَا وَمِنْ الْأَخْلَاقِ أَزْكَاهَا وَأَطْيَبَهَا وَأَطْهَرَهَا . وَاخْتَارَ أُمّتَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ.
وَمِنْ هَذَا اخْتِيَارُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِنْ الْأَمَاكِنِ وَالْبِلَادِ خَيْرَهَا وَأَشْرَفَهَا وَهِيَ الْبَلَدُ الْحَرَامُ فَإِنّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى اخْتَارَهُ لِنَبِيّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَجَعَلَهُ مَنَاسِكَ لِعِبَادِهِ وَأَوْجَبَ عَلَيْهِمْ الْإِتْيَانَ إلَيْهِ مِنْ الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ مِنْ كُلّ فَجّ عَمِيقٍ فَلَا يَدْخُلُونَهُ إلّا مُتَوَاضِعِينَ مُتَخَشّعِينَ مُتَذَلّلِينَ كَاشِفِي رُءُوسِهِمْ مُتَجَرّدِينَ عَنْ لِبَاسِ أَهْلِ الدّنْيَا. وَجَعَلَهُ حَرَمًا آمِنًا لَا يُسْفَكُ فِيهِ دَمٌ وَلَا تُعْضَدُ بِهِ شَجَرَةٌ خَلَاهُ وَلَا تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهُ لِلتّمْلِيكِ بَلْ لِلتّعْرِيفِ لَيْسَ إلّا وَجَعَلَ قَصْدَهُ مُكَفّرًا لِمَا سَلَفَ مِنْ الذّنُوبِ مَاحِيًا لِلْأَوْزَارِ حَاطّا لِلْخَطَايَا فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْبَلَدُ الْأَمِينُ خَيْرَ بِلَادِهِ وَأَحَبّهَا إلَيْهِ وَمُخْتَارَهُ مِنْ الْبِلَادِ لَمَا جَعَلَ عَرَصَاتِهَا مَنَاسِكَ لِعِبَادِهِ فَرَضَ عَلَيْهِمْ قَصْدَهَا وَجَعَلَ ذَلِكَ مِنْ آكَدِ فُرُوضِ الْإِسْلَامِ وَأَقْسَمَ بِهِ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْهُ فَقَالَ تَعَالَى : { وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ } [ التّينُ 3 ] وَقَالَ تَعَالَى : { لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ } [ الْبَلَدُ 1 ] وَلَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ بُقْعَةٌ يَجِبُ عَلَى كُلّ قَادِرٍ السّعْيُ إلَيْهَا وَالطّوَافُ بِالْبَيْتِ الّذِي فِيهَا غَيْرَهَا وَلَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مَوْضِعٌ يُشْرَعُ تَقْبِيلُهُ وَاسْتِلَامُهُ وَتُحَطّ الْخَطَايَا وَالْأَوْزَارُ فِيهِ غَيْرَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ وَالرّكْنِ الْيَمَانِيّ. ا. هـ
ومن اختياره تعالى لخلقه اختياره لبلد مهاجر رسوله صلى الله عليه وسلم، “طَيْبةَ الطيِّبةَ ومهبطُ الوحي ومتنزَّلُ جبريلَ الأمين على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وهي مأرزُ الإيمان، وملتقى المهاجرين والأنصار، وموطن الذين تبوؤوا الدارَ والإيمان، وهي العاصمة الأولى للمسلمين، فيها عُقدت ألويةُ الجهاد في سبيل الله، فانطلقت كتائبُ الحق لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، ومنها شعَّ النور، فأشرقت الأرض بنور الهداية، وهي دارُ هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، إليها هاجر، وفيها عاش آخر حياته صلى الله عليه وسلم، وبها مات، وفيها قُبر، ومنها يُبعث، وقبره أول القبور انشقاقاً عن صاحبه، ولا يُقطع بمكان قبر أحد من الأنبياء سوى مكان قبره صلى الله عليه وسلم”.
والبلاد التي تضم هاتين البقعتين الشريفتين وهي جزيرة العرب هي حصن الإسلام، ومأرز الإيمان، ومرجع المسلمين؛ وبها أصل العرب الذين اختارهم الله تعالى ليبعث فيهم خاتم رسله محمد صلى الله عليه وسلم؛ وبها نشأ وخرج أفضل جيل عرفه التاريخ وهو جيل الصحب الكرام.
وفي مثل ذلك يقول القاضي عياض رحمه الله في كتابه الشفا (2 / 622 – 623): “وجدير بمواطن عمرت بالوحي و التنزيل، وتردد بها جبريل وميكائيل، وعرجت منها الملائكة والروح، وضجت عرصاتها بالتقديس والتسبيح، واشتملت تربتها على جسد سيد البشر، وانتشر عنها من دين الله وسنة رسوله ما انتشر، مدارس آيات، ومساجد وصلوات، ومشاهد الفضائل والخيرات، ومعاهد البراهين والمعجزات، ومناسك الدين، ومشاعر المسلمين، ومواقف سيد المرسلين، ومُتَبَوَّأُ خاتم النبيين، حيث انفجرت النبوة، وأين فاض عبابها، ومواطن مهبط الرسالة، وأول أرض مس جلد المصطفى ترابها .. أن تعظم عرصاتها ، و تتنسم نفحاتها”
ولهذه الجزيرة العربية من الخصائص التي تميزها عن غيرها ما ليس لغيرها من بقاع الدنيا؛ ويكفي منها أن الشيطان قد أيس أن يُعبد فيها عبادة كاملة بعد نزول الوحي فيها، كما روى مسلم في صحيحه عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : “إن الشيطان يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ، ولكن في التحريش بينهم”، وبما رواه مسلم في صحيحه أيضاً عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الْإِسْلَامَ بَدَأَ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، وَهُوَ يَأْرِزُ بَيْنَ الْمَسْجِدَيْنِ، كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ فِي جُحْرِهَا».
فهذه الجزيرة منبت الرسالة؛ ومنطلق الإيمان؛ وحصن الإسلام، ولا يكيدها هي وأهلها إلا من هو كاره لهذه المعاني التي امتازت بها عن غيرها والله المستعان..
رابط الموضوع : http://www.assakina.com/taseel/28160.html#ixzz2vZBfM0lM
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق