الاثنين، 10 مارس 2014

مظاهر الغلو في الاعتقاد والعمل والحكم على الناس

مظاهر الغلو في الاعتقاد والعمل والحكم على الناس


الغلو من الاعتقاد 
أما الغلو في الاعتقاد: فهو مجاوزة الحد فيما شرع الله تعالى من الأمور الاعتقادية. فإن الله تعالى إنما أنزل الكتاب وبعث المصطفى صلى الله عليه وسلم ليكون الدين كله لله، والغالي لا يكتفي بما أنزل تعالى من الشريعة الكاملة، بل يسعى إلى الزيادة على ما شرع الله، ومخالفة ما قصده الشارع من التيسير على المكلفين إلى التشديد على نفسه وعلى غيره، ونسبة ذلك إلى شرع الله تعالى. والغلو في الاعتقاد أخطر أنواع الغلو؟ ذلك بأن الاعتقاد درجة عالية من جزم القلب بما فيه من رأي أو فكر أو شرع، فأصعب ما يكون انتزاعها؛ لأن صاحبها يدافع عنها كما يدافع عن دمه وماله وعرضه، ومعلوم أن الغالي إنما يعتقد ما يتوهم أنه شرع الله وليس كذلك، بل إنما يعتقد فكرا أو رأيا مصدره الهوى. ومن هنا كان تحذير علماء المسلمين من أهل البدع والأهواء أكثر من تحذيرهم من أهل المعاصي والفسوق. فالضرر الحاصل بالغلو في الاعتقاد أعظم من الضرر الحاصل بالغلو في العمل. ومن أبرز الأمثلة على هذا النوع من الغلو: غلو الخوارج وهم الفرقة المعروفة في جسم الأمة الإسلامية منذ العصر الأول: إنهم فئة قادهم الغلو في الحكم على صاحب المعصية إلى إلحاقه بمن وقع في الكفر بالله عزوجل فكان هذا الغلو الاعتقادي دافعا لهم إلى سلسلة من الجرائم الكبرى بحق الأمة الإسلامية:
(أ) حيث دفعهم إلى تكفير حكام المسلمين بمجرد الوقوع في المعاصي.
(ب) ثم تكفير عامة من لم يقنع بقولهم هذا من المسلمين، فكفروا المجتمعات المسلمة.
(ج) فقاتلوا المسلمين، وخرجوا على حكامهم. وهكذا صور كثيرة من الظلم والاعتداء وإيهان قوة المسلمين، ارتكبها هؤلاء لأجل غلوهم في دين الله تعالى. وقد كشف الحديث النبوي الشريف هذا الجانب السيئ في هذا الاتجاه، ففي صحيح ابن حبان(1) عن جندب البجلي أن حذيفة حدثه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إِنَّ مَا أَتَخَوَّفُ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ قَرَأَ الْقُرْآنَ حَتَّى إِذَا رُئِيَتْ بَهْجَتُهُ عَلَيْهِ وَكَانَ رِدْءًا لِلْإِسْلَامِ، غَيَّرَهُ إِلَى مَا شَاءَ اللَّهُ، فَانْسَلَخَ مِنْهُ، وَنَبَذَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، وَسَعَى عَلَى جَارِهِ بِالسَّيْفِ، وَرَمَاهُ بِالشِّرْكِ ” قَالَ: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَيُّهُمَا أَوْلَى بِالشِّرْكِ، الرَّامِي أَمِ الْمَرْمِيُّ؟ قَالَ: ” بَلِ الرَّامِي ».
فهذه الصورة تكشف الغلو الاعتقادي، كيف يبدأ صاحبه؟ ومن أين يأتيه الشيطان؟ وما يترتب على غلوه من المفاسد العظيمة: حيث قتل النفس التي حرم الله، وخيانة الجار، وزعزعة أمن الدولة المسلمة. كل ذلك يشرح نظريا شؤم الغلو الاعتقادي، ويبين عموم ضرره. ومن هنا جاء كتاب الله تعالى وجاءت السنة النبوية بالتحذير الشديد من الغلو، وبيان عواقبه الوخيمة في أمور الدين وأمور الدنيا. ففي مسند الإمام أحمد (2) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: « قال رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة جمع: هَلُمَّ الْقُطْ لِي، فَلَقَطْتُ لَهُ حَصَيَاتٍ، هُنَّ حَصَى الْخَذْفِ، فَلَمَّا وَضَعَهُنَّ فِي يَدِهِ، قَالَ: ” نَعَمْ، بِأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ. وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالْغُلُوِّ فِي الدِّينِ » (3).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في ” اقتضاء الصراط المستقيم ” (4) هذا عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقادات والأعمال، وسبب هذا اللفظ العام: رمي الجمار، وهو داخل فيه مثل: الرمي بالحجارة الكبار، بناء على أنه أبلغ من الصغار، ثم علله بما يقتضي مجانبة هدي من كان قبلنا، إبعادا عن الوقوع فيما هلكوا به. وأن المشارك لهم في بعض هديهم يخاف عليه من الهلاك. اهـ وغلو أهل الكتاب من النصارى في دينهم واضح، حيث نص الله تعالى عليه في قوله ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ ) (5).
فهنا غلو منهم في الاعتقاد، ساقهم إليه الشيطان، حيث زين لهم عبادة المسيح من دون الله تعالى في هيئة محبة الأنبياء وتعظيمهم، وقد أبطل الله هذه الشبهة بأدلة متعددة، كقوله تعالى ( مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ) (6).
ومثل فعل النصارى هذا؛ فعل اليهود مع العزير، وفعل بعض فرق هذه الأمة مع علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، ولهذا حرقهم علي رضي الله عنه واتفق الصحابة رضي الله عنهم على قتلهم، واختار ابن عباس أن يقتلوا بالسيف من غير تحريق، وهو قول أكثر العلماء (7).
وقد قاد الغلو النصارى إلى ابتداع البدع في دينهم، والتعبد لله تعالى بها، كما قال تعالى (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا)(8).
فكل من غلا من هذه الأمة، واتبع هواه وحكمه في دين الله، أو زاد على ما شرعه الله ففيه شبه من أهل الكتاب، ومن تشبه بقوم فهو منهم. ومآله إلى الهلاك في الدنيا والآخرة؛ لأن الغلو هو سبب هلاك من مضى من أهل الكتاب باختلافهم وتقاتلهم وتباغضهم، وفي الآخرة هم الأخسرون. ولهذا قال صلى الله عليه وسلم « هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ ” قالها ثلاثا » (9). رواه مسلم في صحيحه عن ابن مسعود (10).
قال الخطابي في ” معالم السنن ” (11) المتنطع: المتعمق في الشيء، المتكلف للبحث عنه على مذاهب أهل الكلام الداخلين فيما لا يعنيهم، الخائضين فيما لا تبلغه عقولهم. اهـ.
فهذا خبر عن هلاك من وقع في التنطع الذي هو ضرب من الغلو في الكلام ونحوه، فدل على أن عقوبة الغالين من المتقدمين والمتأخرين هو: الهلاك، ولهذا لا يقوم لأهل الغلو دولة، ولا تجتمع الأمة عليهم، كما قال الإمام وهب بن منبه – رحمه الله تعالى – في الخوارج كنموذج للغلو، عند مناصحته لمن وقع في رأيهم: (فوالله ما كانت للخوارج جماعة قط إلا فرقها الله على شر حالاتهم، وما أظهر أحد منهم قوله إلا ضرب الله عنقه، وما اجتمعت الأمة على رجل قط من الخوارج.
ولو أمكن الله الخوارج من رأيهم لفسدت الأرض، وقطعت السبل، وقطع الحج إلى بيت الله الحرام، وإذن لعاد أمر الإسلام جاهلية، حتى يعود الناس يستعينون برءوس الجبال كما كانوا في الجاهلية، وإذن لقام أكثر من عشرة أو عشرين رجلا ليس منهم رجل إلا وهو يدعو إلى نفسه بالخلافة، ومع كل رجل منهم أكثر من عشرة آلاف يقاتل بعضهم بعضا، ويشهد بعضهم على بعض بالكفر حتى يصبح الرجل المؤمن خائفا على نفسه ودينه ودمه وأهله وماله، لا يدري أين يسلك أو مع من يكون.
غير أن الله بحكمه وعلمه ورحمته نظر لهذه الأمة فأحسن النظر لهم، فجمعهم وألف بين قلوبهم على رجل واحد ليس من الخوارج…) الخ (12). وكل ما ذكره هذا الإمام واقع ملموس في هذه الفئة ومن نحا نحوها في الغلو، ذلك بأن كل خير يحصل للأمة إنما هو بسبب اجتماعها على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومن هنا فسر حبل الله تعالى الوارد قي قوله جل وعلا ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) (13) بالجماعة في قول ابن مسعود رضي الله عنه وغيره (14).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وأهل الإثبات من المتكلمين مثل الكلابية والكرامية والأشعرية أكثر اتفاقا وائتلافا من المعتزلة، فإن في المعتزلة من الاختلافات وتكفير بعضهم بعضا، حتى ليكفر التلميذ أستاذه، من جنس ما بين الخوارج، وقد ذكر من صنف في فضائح المعتزلة من ذلك ما يطول وصفه.
ولست تجد اتفاقا وائتلافا إلا بسبب اتباع آثار الأنبياء من القرآن والحديث وما تبع ذلك، ولا تجد افتراقا واختلافا إلا عند من ترك ذلك، وقدم غيره عليه، قال تعالى: ( وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ) (15) فأخبر أن أهل الرحمة لا يختلفون، وأهل الرحمة هم أتباع الأنبياء قولا وفعلا، وهم أهل القرآن والحديث من هذه الأمة، فمن خالفهم في شيء فاته من الرحمة بقدر ذلك… اهـ (16).
ومن هذا المنطلق جعل أهل العلم: من علامات المبتدعة: الغلو، فليس مع من ركبه أي حجة، ومن عباراتهم في ذلك، ما سطره العلامة الشيخ سليمان بن سحمان في كتابه الذي رفض فيه الغلو، وأنكر على أهله، وفند ما يظنونه حجة لهم، وهو كتاب: ” منهاج أهل الحق والاتباع في مخالفة أهل الجهل والابتداع ” قال رحمه الله: ومن علامات صاحب البدعة: التشديد، والغلظة، والغلو في الدين، ومجاوزة الحد في الأوامر والنواهي، وطلب ما يعنت الأمة ويشق عليهم ويحرجهم ويضيق عليهم في أمر دينهم، وتكفيرهم بالذنوب والمعاصي إلى غير ذلك مما هو مشهود مذكور من أحوال أهل البدع “. اهـ.
وقد كشف الشيخ ابن سحمان ضلال طائفة من الغالين في كتابه هذا بما يحسن تلخيصه، إذ البلية تتكرر بمثل هذه الطائفة في كل زمن.
وقد قام الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن رحمه الله بمنع هؤلاء الغالين من الذهاب إلى البادية للدعوة مما أثار حفيظة بعضهم، فذم الولاية، وذم العلماء، قال الشيخ ابن سحمان رحمه الله (17).
قد كان من المعلوم عند الخاصة والعامة أن الذي منع هؤلاء من الذهاب إلى هذه الأماكن المذكورة في السؤال هو الإمام – أعزه الله بطاعته وأحاطه بحياطته – لأمرين: أحدهما: أنهم افتاتوا على منصب الإمامة، فذهبوا إلى البادية من رعيته ومن تحت يده وفي ولايته، من غير إذن منه، ولا أمر لهم بذلك. وقد كان من المعلوم أن الإمام هو الذي يبعث العمال والدعاة إلى دين الله. الثاني: ما بلغه عنهم من الغلو والمجازفة والتجاوز للحد في المأمورات والمنهيات وإحداثهم في دين الله ما لم يشرعه الله ولا رسوله، فمن ذلك: أنهم كفروا البادية بالعموم.. ومنها: أنهم يلزمون من دخل في هذا الدين أن يلبس عصابة على رأسه، ويسمونها: العمامة، وأنها من السنة. ومنها: أنهم لا يسلمون إلا على من يعرفون وتميز بالعمامة.
وهم مع ذلك يزعمون أنهم هم على السنة، وأن المشايخ يميتون السنن. ومنها: أنهم لا يدعون أحدا صلى معهم صلاة الصبح أن يخرج من المسجد إلا بعد طلوع الشمس.
ومنها:أنهم أدخلوا في دين الله ما ليس منه، فزعموا أن تدوية البدو للإبل عند ورودها وصدورها بدعة.
ومنهم من تجاوز الحد في التأديب عند فوات بعض الصلاة، فضربوا رجلا منهم حتى مات…. فلما اشتهر هذا الأمر عنهم، وهذا الغلو والتجاوز للحد، خاف الإمام أن يسيروا بسيرة الخوارج، فيمرقون من الدين بعد أن دخلوا فيه، كما مرق منه من غلا في الدين وتجاوز الحد ممن كانوا من أعبد الناس وأزهدهم وأكثرهم تهليلا، حتى إن الصحابة يحقرون أنفسهم عندهم، وهم تعلموا العلم من الصحابة… إلى أن قال الشيخ:
وأما سبهم المشايخ وثلبهم إياهم وإساءة الظن بهم، وكذلك ما نسبوه إلى ولي الأمر من الأقوال التي لا تروج على عاقل، ويغتر بها كل مغرور جاهل، فهذا كله مما يرفع الله به درجات الإمام، والمشايخ، وحسابهم على الله، وسيجازيهم بما جازى به المفترين؛ لأن الإمام والمشايخ لم يمنعوهم إلا خوفا على من دخل هذا الدين أن يسلك مسلك الخوارج، الذين مرقوا من دين الإسلام وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
وأما قول بعضهم: ما فعل المشايخ ذلك إلا حسدا منهم للإخوان في دعوتهم. فنقول: وهل يدور في عقل عاقل أن المشايخ يحسدونهم على ما أحدثوه من البدع والغلو والمجازفة والتجاوز للحد !!
وأما قولهم: إن المشايخ داهنوا في دين الله، والإخوان أمروا وأنكروا. فنقول: ما أشبه الليلة بالبارحة، فلا جرم قد قالها الذين من قبلهم لما نهاهم أهل الحق عن الغلو في الدين، قالوا لمن نهاهم: يا أعداء الله قد داهنتم في الدين (18). وهم يزعمون أنهم ما فعلوا ذلك إلا من أجل أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، تشابهت قلوبهم.
وأما قولهم: الإخوان علمونا ملة إبراهيم وبينوها، والمشايخ كتموها ودفنوها. فنقول: إن كان هذا حقا فسيجازيهم الله على ذلك. لكنهم مع ذلك قد سلكوا بهم مسلك أهل البدع، وتجاوزوا بهم الحد في الأقوال والأفعال، وشرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله، فإن كان هذا هو ملة إبراهيم فقد أعظموا على الله الفرية وعلى ملة إبراهيم.
وأما قولهم: ما أطاع الإمام المشايخ إلا لسكوتهم عنه للمآكل والأغراض. فنقول: هذا – أيضا – من جنس ما قبله من الطعن على الإمام وعلى المشايخ بالزور والبهتان… اهـ.
فصل في الغلو في العمل
والغلو في العمل: تشديد المسلم على نفسه في عمل طاعة من غير ورود الشرع بذلك: كالذي يجعل حبلا يتعلق به إذا فتر عن قيام الليل، ونحوه، فإن هذا العمل غير ناتج عن عقيدة فاسدة، وإنما قد يظن المكلف أن ذلك زيادة خير. فإن صاحب هذا العمل عقيدة فاسدة فهو الغلو الاعتقادي الذي تقدم ذكره، كحالة بعض المنتسبين إلى التصوف، ممن يعتقد أن تعذيب النفس في الطاعة مطلقا من أفعال الخير والهدى. ولما كان هذا النوع من الغلو قد يدخل في نفس بعض المجتهدين في العبادة، عالجه صلى الله عليه وسلم بأساليب متعددة، تارة بالعموم، وتارة بتوجيه من وقع فيه إلى خطأ فعله، وما كان من الصحابة رضي الله عنهم إلا التسليم المطلق لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ففي سنن الترمذي (19) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: « إِنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي إِذَا أَصَبْتُ اللَّحْمَ انْتَشَرْتُ لِلنِّسَاءِ، وَأَخَذَتْنِي شَهْوَتِي، فَحَرَّمْتُ عَلَيَّ اللَّحْمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ) (20) »قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.. اهـ. وحسنه الشاطبي في ” الاعتصام ” (21). ومثل هذه الحادثة كثير، فيوجه النبي صلى الله عليه وسلم من وقع منه ذلك إلى البعد عنه، والحذر منه. وقد روى ابن جرير الطبري في ” تفسيره ” (22) عن أبي قلابة قال: « أَرَادَ أُنَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَرْفُضُوا الدُّنْيَا، وَيَتْرُكُوا النِّسَاءَ وَيَتَرَهَّبُوا. فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَغَلَّظَ فِيهِمُ الْمَقَالَةَ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالتَّشْدِيدِ، شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، أُولَئِكَ بَقَايَاهُمْ فِي الدِّيَارِ وَالصَّوَامِعِ، اعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَحُجُّوا وَاعْتَمِرُوا، وَاسْتَقِيمُوا يَسْتَقِمْ لَكُمْ ” قال: ونزلت فيهم ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ) (23) ». قال الشاطبي رحمه الله في ” الاعتصام ” (24) الاقتصار على البشع في المأكول من غير عذر تنطع. والاقتصار في الملبوس على الخشن من غير ضرورة، من قبيل التشديد والتنطع المذموم، وفيه أيضا من قصد الشهرة ما فيه. وقد روي عن الربيع بن زياد الحارثي: أنه قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه اعْدِني على أخي عاصم. قال: ما باله؟ قال: لبس العباء يريد النسك. فقال علي رضي الله عنه علي به. فأتى به مؤتزرا بعباءة، مرتديا بالأخرى، شعث الرأس واللحية. فعبس في وجهه، وقال: ويحك ! أما استحييت من أهلك؟ أما رحمت ولدك؟ أترى الله أباح لك الطيبات، وهو يكره أن تنال منها شيئا؟ بل أنت أهون على الله من ذلك، أما سمعت الله يقول في كتابه ( وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ ( (25) إلى قوله ) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ ) (26) أفترى الله أباح لعباده إلا ليبتذلوه، ويحمدوا الله عليه، فيثيبهم عليه؟ وإن ابتذالك نعم الله بالفعل خير منه بالقول.اهـ.
وأدلة الشرع في النهي عن الغلو العملي كثيرة جدا، فالوقوع فيه: ارتكاب للنهي، ومعارضة لمقاصد الشريعة التي بنيت على التيسير والتخفيف. وإذا تأمل المسلم ما جرى في حادثة الإسراء والمعراج من فرضية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ومراجعته ربه جل وعلا في تخفيف عدد الصلوات من خمسين إلى أن بلغ خمس صلوات؛ علم يقينا أن الشارع الحكيم لا يقصد في تكاليفه المشقة على العباد وإلحاق العنت بهم.
فلم يبق لمن ألزم نفسه بالغلو في جزئيات الشريعة حجة. وكل ما تقدم في ذم من غلا في جزئية أو جزئيتين، أما من كثر غلوه في الجزئيات فلا ريب أن غلوه هذا يلحق بالغلو الاعتقادي.
وقد جرت سنة الله تعالى في هؤلاء الغالية في العمل: أن ينقطعوا عن العمل بالكلية، إلا من أراد هدايته فوفقه للرجوع إلى الطريق المستقيم.
وهذا بينه صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه البخاري (27) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه « إِنَّ هَذَا الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا » (28).
قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله- في ” الفتح ” (29) المشادة بالتشديد المغالبة، والمعنى: لا يتعمق أحد في الأعمال الدينية ويترك الرفق إلا عجز وانقطع؛ فيغلب. قال ابن المنير: في هذا الحديث علم من أعلام النبوة، فقد رأينا ورأى الناس قبلنا أن كل متنطع في الدين ينقطع.. اهـ. وتلافيا للوقوع في هذا المزلق الخطير: أمر الشارع الحكيم بالقصد وهو الوسط في العمل. فقد بوب البخاري – رحمه الله – في صحيحه (30) باب القصد والمداومة على العمل، في كتاب الرقاق. وذكر فيه حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: « سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: ” أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ ” وَقَالَ: ” اكْلَفُوا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ »(31).
فصل في الغلو في الحكم على الناس
وأما الغلو في الحكم على الناس: فهو مجاوزة الحد في إلحاق الحكم عليهم بالكفر أو البدعة أو الفسوق. فإن الحكم بهذه الأمور على أحد من الناس إنما هو إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فمن دل الدليل القاطع على إلحاق هذه الأحكام به؛ ألحقت به، ومن لم يدل الدليل على لحوقها به؛ فإن تنزيلها عليه من تعدي حدود الله تعالى، والقول عليه بغير علم، وهو الغلو الفاحش الذي أردى الأمة ونخر في جسمها، وفرق جماعتها. بل إن أول الغلو في الأمة إنما هو هذا، يوم غلا الخوارج في الحكم على المسلمين، وحكام المسلمين بالكفر والخروج من الإسلام، فترتب على فعلهم هذا: إراقة دماء طاهرة مسلمة، وتمزق الجماعة، وانتشار التباغض والشحناء بين أهل الإسلام.
ومثل هذا يقال في التبديع بغير حق، والتفسيق بغير حق، فإنه يقود إلى التقاطع والتباغض، وهو سبيل إلى التكفير بغير حق.
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في صحيح البخاري – منع من تنزيل الحكم العام على شارب الخمر بأن تحل عليه لعنة الله، على الشخص المعين لما قام به من إيمان بالله ورسوله، فكيف يتسارع الغالون إلى تنزيل أحكام الكفر والفسق العامة على الأشخاص المعينين دونما روية وتؤدة؟! ونص الحديث كما في صحيح البخاري (32) عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ« أَنَّ رَجُلًا كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللَّهِ وَكَانَ يُلَقَّبُ حِمَارًا وَكَانَ يُضْحِكُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ جَلَدَهُ فِي الشَّرَابِ، فَأُتِيَ بِهِ يَوْمًا، فَأَمَرَ بِه، فَجُلِدَ. فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: اللَّهُمَّ الْعَنْهُ، مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ ! فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَا تَلْعَنُوهُ فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ أَنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ » (33).
فتنزيل هذه الأحكام على الشخص المعين لا بد لها من شروط تتوفر، وموانع تنتفي، كما أجمع على ذلك علماء أهل السنة والجماعة. ومن هذا المنطلق تتابعت نصوص العلماء على أن المتصدي للأحكام على الناس في عقائدهم أو عدالتهم لا بد أن يكون من العلماء وأهل الورع: من ذلك قول الحافظ الذهبي – رحمه الله تعالى -: والكلام في الرجال لا يجوز إلا لتام المعرفة تام الورع. اهـ (34).
وقد بلينا في هذه الأزمان ببعض المنتسبين إلى السلفية ممن يغلون في الحكم على الناس بالبدعة، حتى بلغ الأمر إلى التعميم في التبديع على كل المجتمع، وأن الأصل في غيرهم البدعة حتى يتبينوا في شأنهم.
وهؤلاء جهال بالشريعة، جهال بفهم عبارات العلماء في البدع وأهلها، فلا عبرة بقولهم، بل هو هباء لا وزن له. وقد أجاد العلامة الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد في نصحهم والتحذير من منهجهم في كتابه: رفقا يا أهل السنة بأهل السنة. نسأل الله تعالى السلامة من الغلو كله. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
————–
الهوامش:
(1) الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان ، 1/ 282.
(2) (1/ 215 – 347) وصححه شيخ الإسلام في ” اقتضاء الصراط المستقيم ” (1 / 289).
(3) النسائي مناسك الحج (3057) ، ابن ماجه المناسك (3029) ، أحمد (1/215).
(4) 1/ 289 ونقله عنه الشيخ سليمان في تيسير العزيز الحميد (ص 275) والنقل بواسطته.
(5) سورة النساء 171.
(6) سورة المائدة 75.
(7) ينظر منهاج السنة لابن تيمية (1 / 28).
(8) سورة الحديد آية: 27.
(9) مسلم العلم (2670) ، أبو داود السنة (4608) ، أحمد (1/386).
(10) صحيح مسلم (2670).
(11) (7/ 12 -13).
(12) رسالة مناصحة الإمام وهب بن منبه لرجل تأثر بمذهب الخوارج ، ص 17.
(13) سورة آل عمران آية: 103.
(14) المحرر الوجيز لابن عطية (3 / 182).
(15) سورة هود الآيتان : 118 ، 119.
(16) مجموع الفتاوى 4/ 52.
(17) ص 87 – 88.
(18) مقولة الخوارج لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه.
(19) أبواب التفسير ، باب في تفسير سورة المائدة 5 / 255.
(20) سورة المائدة آية: 87.
(21) 2/ 196.
(22) 8/ 608 ط دار هجر.
(23) سورة المائدة آية: 87.
(24) 2/ 228.
(25) سورة الرحمن آية: 10.
(26) سورة الرحمن آية: 22.
(27) صحيح البخاري كتاب الإيمان ، باب الدين يسر 1 / 15.
(28) النسائي الإيمان وشرائعه (5034).
(29) 1/ 94.
(30) 7/ 114.
(31) البخاري الرقاق (6100) ، مسلم صلاة المسافرين وقصرها (783) ، النسائي القبلة (762) ، أحمد (6/273).
(32) كتاب الحدود ، باب ما يكره من لعن شارب الخمر وأنه ليس بخارج من الملة (12 / 75) ” فتح “.
(33) البخاري الحدود (6398).
(34) ميزان الاعتدال 3 / 46.
*******************
المقال: لفضيلة الشيخ /عبدالسلام بن برجس آل عبدالكريم  - رحمه الله -


رابط الموضوع : http://www.assakina.com/book/29499.html#ixzz2vXp8Tno5

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق