الأحد، 9 مارس 2014

شروط التكفير

لقد وضع علماء الإسلام المعتبرين شروطاً وألزموا بانتفاء موانع لتحقق تكفير شخص بعد أن تلبس بالإسلام؛ وتحقق دخوله فيه، انطلاقاً من الأدلة الشرعية التي جاء بها الكتاب والسنة، ولم يفعلوا ذلك تشهياً من قبل أهوائهم أو تلبية لرغباتهم، وإنما الحامل لهم على ذلك تقريب العلم الذي جاء به الكتاب والسنة؛ كما فعلوه في كثير من المسائل العلمية العقدية والفقهية والسلوكية.
ولما كان التكفير وهو الحكم على مسلم بالخروج من الإسلام خطير، ومزلق أثيم؛ بعد أن لم يتحقق فيه ذلك الوصف، احتاط له الشرع أيما احتياط، وحماه بسياجات عديدة، حتى لا يتقحمه كل أحد إلا بعد وجود تلك الشروط وانتفاء تلك الموانع التي استخرجها العلماء من الأدلة الشرعية.
وقد نبه على ضرورة رعاية ذلك كثير من العلماء من المتقدمين والمتأخرين لأهمية ذلك؛ حيث أن التكفير بغير تلك الضوابط الشرعية يكون وبالاً على مطلقه ويعود أثره عليه، كما جاء ذلك صريحاً في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِأَخِيهِ يَا كَافِرُ، فَقَدْ بَاءَ بِهِ أَحَدُهُمَا».
وممن نبه على ضرورة رعاية ذلك الإمام الشافعيُّ رحمه الله وذلك عند كلامِه على الأسماءِ والصِّفات الثابتة في القرآن والسُّنة حيث قال: “فإنْ خالف بعد ذلك بعد ثبوت الحجة عليه، فهو كافر، فأمَّا قبْل ثبوت الحجة عليه، فمعذور بالجهل” “مختصر العلو” ص 177،”واجتماع الجُيُوش الإسلاميَّة” ص 165.
ومن أكثر العلماء الذين نبهوا على أهمية ذلك القيد قبل إطلاق التكفير شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ حيث نبه على هذا القيد في كثير من كتبه ورسائله، ومن أقواله في ذلك قوله في مجموع الفتاوى (10/ 372): وَإِنَّمَا ” الْمَقْصُودُ هُنَا ” أَنَّ مَا ثَبَتَ قُبْحُهُ مِنْ الْبِدَعِ وَغَيْرِ الْبِدَعِ مِنْ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَوْ الْمُخَالِفِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إذَا صَدَرَ عَنْ شَخْصٍ مِنْ الْأَشْخَاصِ فَقَدْ يَكُونُ عَلَى وَجْهٍ يُعْذَرُ فِيهِ؛ إمَّا لِاجْتِهَادِ أَوْ تَقْلِيدٍ يُعْذَرُ فِيهِ وَإِمَّا لِعَدَمِ قُدْرَتِهِ كَمَا قَدْ قَرَّرْته فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَقَرَّرْته أَيْضًا فِي أَصْلِ ” التَّكْفِيرِ وَالتَّفْسِيقِ ” الْمَبْنِيِّ عَلَى أَصْلِ الْوَعِيدِ. فإِنَّ نُصُوصَ ” الْوَعِيدِ ” الَّتِي فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَنُصُوصَ الْأَئِمَّةِ بِالتَّكْفِيرِ وَالتَّفْسِيقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَا يُسْتَلْزَمُ ثُبُوتُ مُوجَبِهَا فِي حَقِّ الْمُعَيَّنِ إلَّا إذَا وُجِدَتْ الشُّرُوطُ وَانْتَفَتْ الْمَوَانِعُ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ.
وقال رحمه الله أيضاً في الكيلانية (ص: 73) وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّا نَشْهَدُ بِأَنَّ { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا } عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالْعُمُومِ وَلَا نَشْهَدُ لِمُعَيَّنِ أَنَّهُ فِي النَّارِ ؛ لِأَنَّا لَا نَعْلَمُ لُحُوقَ الْوَعِيدِ لَهُ بِعَيْنِهِ ؛ لِأَنَّ لُحُوقَ الْوَعِيدِ بِالْمُعَيَّنِ مَشْرُوطٌ بِشُرُوطِ وَانْتِفَاءِ مَوَانِعَ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ ثُبُوتَ الشُّرُوطِ وَانْتِفَاءَ الْمَوَانِعِ فِي حَقِّهِ وَفَائِدَةُ الْوَعِيدِ بَيَانُ أَنَّ هَذَا الذَّنْبَ سَبَبٌ مُقْتَضٍ لِهَذَا الْعَذَابِ وَالسَّبَبُ قَدْ يَقِفُ تَأْثِيرُهُ عَلَى وُجُودِ شَرْطِهِ وَانْتِفَاءِ مَانِعِهِ . يُبَيِّنُ هَذَا : أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَعَنَ الْخَمْرَ وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إلَيْهِ وَشَارِبَهَا وَسَاقِيَهَا وَبَائِعَهَا وَمُبْتَاعَهَا وَآكِلَ ثَمَنِهَا } . وَثَبَتَ عَنْهُ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عُمَرَ { أَنَّ رَجُلًا كَانَ يُكْثِرُ شُرْبَ الْخَمْرِ فَلَعَنَهُ رَجُلٌ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَلْعَنْهُ ؛ فَإِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } ” فَنَهَى عَنْ لَعْنِ هَذَا الْمُعَيَّنِ وَهُوَ مُدْمِنُ خَمْرٍ؛ لِأَنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَقَدْ لُعِنَ شَارِب الْخَمْرِ عَلَى الْعُمُومِ.
وقال أيضاً في منهاج السنة النبوية (4/ 573): وَلَوْ كَانَ كُلُّ ذَنْبٍ لُعِنَ فَاعِلُهُ، يُلْعَنُ الْمُعَيَّنُ الَّذِي فَعَلَهُ؛ لَلُعِنَ جُمْهُورُ النَّاسِ. وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الْوَعِيدِ الْمُطْلَقِ، لَا يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَهُ فِي حَقِّ الْمُعَيَّنِ إِلَّا إِذَا وُجِدَتْ شُرُوطُهُ وَانْتَفَتْ مَوَانِعُهُ.
وقال ابن أبي العِزِّ الحنفي في “شرح الطحاوية”، عند كلامه على تكفير المُعَيَّن: “الشَّخص المعيَّن يمكن أن يكونَ مجتهدًا مخطِئًا مغفورًا له، أو يمكن أن يكونَ ممن لم يبلغْه ما وراء ذلك منَ النصوص، ويمكن أن يكونَ له إيمان عظيم، وحسنات أوجبتْ له رحمة الله… ثمَّ إذا كانَ القول في نفسِه كفرًا، قيل: إنَّه كفر، والقائل له يَكْفُر بشروط، وانتفاء موانع”
وقال الشيخ عبدالله بن عبداللطيف، وأخوه الشيخ إبراهيم بن عبداللطيف، والشيخ سليمان بن سحمان رحمهم الله تعالى: “ومسألة تَكْفِيرِ المُعَيَّن مسألة معروفة، إذا قال قولاً يكون القول به كفرًا، فيقال: مَن قال بهذا القول فهو كافِر؛ ولكن الشخص المُعَيَّن إذا قال ذلك لا يُحْكَم بكفره، حتى تقومَ عليه الحجة التي يكفر تاركُها” “الدُّرر السنية” 10/ 432، 433.
وقال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله: “إن المتأولين من أهل القِبلة الذين ضلوا وأخطؤوا في فَهم ما جاء به الكتاب والسنة، مع إيمانهم بالرسول، واعتقادهم صدقه في كل ما قال، وأن ما قاله كله حق، والتزموا ذلك، لكنهم أخطؤوا في بعض المسائل الخبرية أو العملية، فهؤلاء قد دلَّ الكتاب والسنة على عدم خروجهم من الدِّين، وعدم الحكم لهم بأحكام الكافرين، وأجمع الصحابة – رضي الله عنهم – والتابعون، ومِن بعدهم أئمة السلف على ذلك” “الإرشاد إلى معرفة الأحكام” ص 207
وجاء في بيان مجلس هيئة كبار العلماء في هذه البلاد – المملكة العربية السعودية – في دورته التاسعة والأربعين المنعقدة في 2/ 4/ 1419هـ برئاسة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز رحمه الله ما نصه: “التكفير حكم شرعي، مَرَدُّه إلى الله ورسوله، فكما أن التحليل والتحريم والإيجاب إلى الله ورسوله، فكذلك التكفير، وليس كلُّ ما وصف بالكفر مِن قول أو فعل، يكون كفرًا أكبر مخرجًا عن الملة.
ولما كان مردُّ حكم التكفير إلى الله ورسوله، لم يَجُز أن نكفِّر إلا مَن دل الكتاب والسنة على كفره دلالةً واضحة، فلا يكفي في ذلك مجردُ الشبهة والظن؛ لما يترتب على ذلك من الأحكام الخطيرة، وإذا كانت الحدود تُدرأ بالشبهات، مع أن ما يترتب عليها أقلُّ مما يترتب على التكفير، فالتكفير أولى أن يُدْرَأَ بالشبهات؛ ولذلك حذر النبي – صلى الله عليه وسلم – من الحكم بالتكفير على شخص ليس بكافر، فقال: ((أيما امرئ قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما، إن كان كما قال، وإلا رجعت عليه))، وقد يَرِد في الكتاب والسنة ما يُفهم منه أن هذا القول، أو العمل، أو الاعتقاد – كفرٌ، ولا يكفر مَن اتَّصف به؛ لوجود مانع يمنع مِن كفره، وهذا الحكم كغيره من الأحكام التي لا تتم إلا بوجود أسبابها وشروطها، وانتفاء موانعها،…
وقال الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله في مجموع فتاويه ورسائله (7/ 42): فالواجب قبل الحكم بالتكفير أن ينظر في أمرين: الأمر الأول: دلالة الكتاب والسنة على أن هذا مكفر لئلا يفتري على الله الكذب.
الثاني: انطباق الحكم على الشخص المعين بحيث تتم شروط التكفير في حقه، وتنتفي الموانع.
وهذه النماذج من أقوال العلماء سلفاً وخلفاً تؤكد على ضرورة رعاية ذلك القيد؛ وهو أن التكفير لا يمكن أن يتحقق في شخص مالم تجتمع فيه الشروط المعتبرة وتنتفي عنه الموانع.
وهذا ما اختلط على بعض المنتسبين للعلم حيث لم يفرقوا بين التكفير المطلق وبين تكفير المعين، ودخلوا في باب التكفير والتبديع من أوسع أبوابه.
والقصد أن بيان هذا القيد في التكفير قد تواتر نقله عن العلماء الثقات جيلاً بعد جيل، وهو ما يتجاهله البعض غلواً في الخوض في التكفير بدون علم.
وأما معرفة تفاصيل تلك الشروط وتلك الموانع فمحلها كتب اعتقاد أهل السنة الموسعة؛ وبعض كتب الأحكام وخاصة في أبواب حكم المرتد؛ ولا تحتملها هذه المقالة المختصرة.
———————-
الكاتب:محمد بن عبد السلام الأنصاري

رابط الموضوع : http://www.assakina.com/taseel/36079.html#ixzz2vSYL4Fye

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق