الرد على شبهة جواز إتلاف النفس لمصلحة
بيَّن المغالون في هذا السبب أن مصلحة الدعوة تحتاج إلى أن يفني المرء نفسه، واستدلوا بفعل غلام الأخدود؛ فقد قتل نفسه نصرة للدعوة وإقامة الحجة على الناس ليدخلوا في دين الله سبحانه وتعالى، فكان هذا القتل انتصارا للدعوة، وهو غرض شرعي محمود من أجل نصرة الدين، وهو أوسع من إحداث النكاية في صفوف الأعداء في الحرب(1).
والرد على هذا السبب فيما يلي من أمور:
الأمر الأول: أن مصلحة الدعوة ونصر الدين في قتل الغلام نفسه متحققة، بخلاف قتل أنفسكم أنتم، لما يلي:
1- أن الغلام استهدف نفسه بالقتل ولم يستهدف غيره، أما أنتم فتستهدفون أنفسكم وغيركم من المسلمين وغيرهم من معصومي الدم الذين لا يجوز قتلهم.
2- أن نصر الدعوة متحقق من فعل الغلام، ويدل عليه أن الناس أجمعين قالوا كما في قصته: « آمنا برب الغلام». أما خدمة الدعوة في فعلكم فغير متحصلة، فما زاد فعلكم العدو إلا غيظًا، وأظهرت وسائل إعلامه القوية المسلمين على أنهم إرهابيون ودمويون، وأن الدعوة الإسلامية دعوة إلى القتال والجهاد فقط، فأي مصلحة في هذا؟!
3- أن قتل النفس نصر للدعوة، وهو متحصل بالاغماس في صفوف العدو وقت الحرب، أو كما في واقعة الغلام وهي واقعة خاصة؛ لأنه أحد الملهمين كما سيأتي، أو إدراك الجهاد والخروج بالنفس إلى ساحة الجهاد، أما في الاغتيال أو التفجير كما يصنع الغلاة فهو ظلم للدعوة وليس بنصر؛ لوقوع الأبرياء ضحايا، والتعدي على الحرمات من قتل نفوس معصومة، وإتلاف أموال، وترويع آمنين، وقد تظاهرت الأدلة الشرعية على التحريم في كلٍّ، فأين نصر الدعوة مع وجود هذه الظلمات؟
الأمر الثاني: أن الواضح من سياق القصة: أن هذا الغلام أحدُ المحدَّثين الملْهَمين في الأمم السابقة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لقد شكان فيمن قبلكم من الأمم ناس مُحَدَّثون، فإن يكُ في أمتي أحدٌ؛ فهو عمر» (2).
ومن تأمل إصرار الغلام بأنه لا يُقْتَل إلا بالهيئة التفصيلية التي حكاها عَلِمَ أن ذلك لا يكون إلا عن شيء أُلهمه، ووقع في قلبه، فإن هذا السياق لا يكون عن محض الرأي، وإنما عن إلهام.
ويؤيد ذلك ما قاله القرطبي، فقد قال: لما غلب على ظنه أنه مقتول ولا بد، أو علم بما جعل الله في قلبه؛ أرشدهم إلى طريق يُظهر الله به كرامته وصحة الدين الذي كان عليه، ليُسْلم الناس، وليدينوا دين الحق عند مشاهدة ذلك، كما كان(3).
ولنسأل الغلاة: هل أنتم مُحَدَّثون مُلْهَمون؟ الجواب: لا، لأنه إن كان أحد كذلك في هذه الأمة فهو عمر رضى الله عنه للحديث الوارد في ذلك، فلا أنتم ملهمون ولا لدينكم خادمون، فما فعلتموه لا فائدة منه.
الأمر الثالث: أن ثمرة صنيع الغلام إيمان الناس أجمعين، فقد جمع الناس على فعل واحد ولم يترتب على ذلك مفاسد، وكان جازمًا بتحقيق هذه المصلحة العظمى لأنه من الملهمين، لذلك طلب هذه الصفة التي يقتل عليها، ودخل الناس في عبادة الله عز وجل، وكفروا بالطاغية، أما اليوم فقد وقعت مفاسد -سبق ذكرها– لا يعلمها إلا الله تعالى.
أما فعل الغلاة فلم يجمِّع الناس بل فرقهم، فاختلف الناس في صنيعهم، وتعامل معهم الناس بحجم الجرم الذي ارتكبوه، وزاد ما فعلوه من صعوبة بلوغ الدعوة لبعض الذين أثَّر عليهم أعداء الإسلام في وصف المسلمين بأنهم أرهابيون يعشقون الدماء ويتقربون بها إلى الله. لقد حدثني أخ أمريكي، ويعمل أستاذًا جامعيا هناك: أنه عندما أكرمه الله بالإسلام، قالت له أمه وهي على قدر كبير من الثقافة: هل ستعيش معي أم تتركني؟ فقال لها: أعيش معكِ فأنت أمي، فقالت له: إذن ستقتلني طالما أنك أسلمت، فقال لها: معاذ الله، لا يأمرني الإسلام بذلك، وصبر عليها حتى أقنعها أن الإسلام يرفض الإرهاب، وما تنقله وسائل الإعلام عن فئة لا يرضى المسلمون بما يفعلونه.
فهذا هو شعور فئة مثقفة ثقافة عالية تجاه الإسلام، وما هذا إلا ثمرة لأفعال الغلاة.
إن ما صنعه الغلاة من قتل النفس وتفجيرها في المجمعات والمؤسسات ترتب عليه مفاسد عظيمة، وقد عد أحد الباحثين هذه المفاسد التي جاءت من جراء من قتلوا أنفسهم في أحداث برجي مركز التجارة العالمي فقال:
لقد وعدت ببيان المفاسد التي أصابت الإسلام من وراء ما جرى في المركز التجاري العالمي، ولا شك أن هذه المفاسد كثيرة جدًا، ولكنني سأذكر ما حضرني منها، حسب علمي:
1- إن المخالفين هنا متفقون –فيما أعلم– على أن دولة طالبان الإمارة المسلمة الوحيدة في هذا العصر!! ويصفون أميرها بأمير المؤمنين، وقد تم التذرع بما جرى في المركز التجاري، فسحقت الشعب الأفغاني، فلا يُحصِي دماءه وآلامه وجراحه وآهاته –رجالا ونساءً وأطفالا وشيوخًا– وخساراته المادية إلا الله عز وجل، وانتهى ذلك بإسقاط إمارة طالبان؛ وهذا الأمر لا يشك فيه عاقل اليوم، فهل سقوط دولة الإسلام الوحيدة -في نظركم- أقل خسارة من بقاء المركز التجاري العالمي دون تعرض له؟!! أجيبوا ليعلم الجميع كيف تقدرون المصالح والمفاسد.
وإذا كان سقوط دولة الإسلام وآخر معاقله -عندكم- واحتلال النصارى بلاد المسلمين، وتبديل حكم الله بحكم الشرق أو الغرب، وطيّ فراش الفضيلة، ونَثْرُ جمرات الرذيلة، مع ما في ذلك من دماء وأشلاء، وإهلاك للحرث والنسل، فإذا كان هذا كله وغيره أخف ضررًا من إبقاء مركز تجاري دون حرقه فلماذا بالغتم في أمر “الحاكمية” حتى ما سلم منكم كبير ولا صغير يخالفكم؟ وهم ما خالفوكم إلا فيما هو دون خسائر المسلمين في أفغانستان بما لا يعلمه إلا الله عز وجل.
2- لا تزال الدول المتربصة بالإسلام تهدد كثيرًا من دول الإسلام بحجة مكافحة الإرهاب؛ وأسأل الله أن يدفع شر كل ذي شر عن الإسلام وأهله- وكل هذا بسبب ضعف أو تَمَسْكُن المسلمين، وبسبب تهور وغلو المخالفين.. فهل سقوط بعض هذه الدول، وتهديد أخريات لا يساوي مفسدة ترك ذلك المركز؟
3- الضغط على الدول التي لم تُحْتل أرضها، وهذا الضغط له آثاره على الدين والدنيا، بما لا ينازع فيه أحد، وما لجُرْح بميت إيلام!!
4- إثارة الفوضى في بلاد المسلمين، لأن الحكام ينظرون تجاه هذه الضغوط بنظرة ما -وقد تكون صحيحة من البعض، وباطلة من البعض الآخر- والشباب ينظرون بنظرة أخرى، ومع اختلاف النظرتين وسبيلَي العلاج –مع الإعراض عن رأي كبار العلماء من الطائفتين في كثير من البلدان- أثيرت فتن جسيمة، وقد كان الناس شبه مستورين قبل هذه الفتن، فكُشِف سترهم،، والله أعلم بماذا ينتهي المطاف، فأسأل الله أن يحفظ الإسلام وأهله وبلاده، وأن يُؤَمِّنهم في ديارهم، ويدفع عنهم شر كل من أرادهم بسوء(4).
الأمر الرابع: يبدو أن المغالين يجرون قياسًا فاسدًا، فيقيسون قاتل نفسه منهم على قتل هذا الغلام لنفسه، وهو قياس فاسد من وجوه:
الأول: أن الغلام قتل نفسه ويعلم أن الناس سيؤمنون بالله ويكفرون بالطاغية نتيجة لمصرعه لأنه أحد الملهمين، وأنتم لستم مثله بحال.
الثاني: أن الغلام لم يسعَ لقتل نفسه، أما المغالي فيسعى لقتلها.
الثالث: لم يترتب على مصرع الغلام مفسدة بل مصلحة عظمى، أما أنتم فلا مصلحة فيما تفعلونه؛ بل هناك شرور لم تنقطع.
الرابع: أن الغلام تيقن أنه مقتول ولا بد لأنه ملهم، وأنتَ يا مَنْ تقتل نفسك هل وقعت في نفس ظروف هذا الغلام حتى نقول إنك مقتول لا بد من ذلك؟ فإن الغلام أيقن أنه لا يستطيع أن يدفع ذلك عن نفسه، فهل أنت كذلك؟ الغلام كان حريصًا على خدمة الدين، فهل أنت كذلك؟ وقد جررت بفعلك الأمة إلى شر لا ينقطع.
الخامس: بعد مصرع الغلام الحال مختلف؛ فإن بعد مصرعه آمن الناس، وبعد مصرع المغالي نفر الناس من الإسلام، وأدى إلى ارتداد بعض المسلمين عن الإسلام(5)، بخلاف ما جرى للناس بسبب موقف الغلام، ولو تماديتم في ذلك كان الشر أعظم وأعظم، إلا أن يرحم الله المسلمين بلطفه وستره.
وفي تفصيل هذا السبب من أسباب استباحة المتطرف دم نفسه وهو: القتل لمصلحة الدعوة أتى الغلاة بحديث آخر فيه: جواز حمل الواحد على العدد الكثير من العدو، وهو حديث أنس رضي الله عنه أن رجلا قال: يا رسول الله، أرأيت إن انغمست في المشركين فقاتلتهم حتى قتلت إلى الجنة؟ قال صلى الله عليه وسلم: « نعم»، فانغمس الرجل في صف المشركين فقاتل حتى قتل.
ونقلوا عن محمد بن الحسن الشيباني قوله: «لا بأس أن يحمل الرجل وحده -أي على العدو- وإن ظن أنه يقتل إذا كان يرى أنه يصنع شيئا يقتل أو يجرح أو يهزم… ثم قال: « فأما إذا كان يعلم أنه لا ينكي فيهم فإنه لا يحل له أن يحمل عليهم. قال السرخسي في التعليق على ما سبق: فالشرط أن تكون حملته تنكي فيهم ظاهرا»(6).
والحديث والنقل يردان على المغالين فيما يدعونه من قتل النفس لمصلحة الدعوة وذلك للأمور الآتية:
الأمر الأول: الحديث وارد في وقت الحرب كما يدل عليه منطوق الحديث: «فانغمس الرجل في صف المشركين فقاتل حتى قتل»، فإن ختام الحديث قيد الإطلاق الذي يبدو من أوله.
الأمر الثاني: الحديث يدل على أن الانغماس في صفوف العدو نوع وصورة من صور الجهاد، وكان هذا في غزوة بدر كما جاءت روايات أخرى بذلك(7)، فدل ذلك على اختلاف الحال بين صنيع الغلاة وصنيع هذا الرجل أيضًا، وفساد القياس بين حال الحرب وحال السلم، وبين تنزيل غير المحارب منزلة المحارب.
الأمر الثالث: أما النقل عن محمد بن الحسن فهو أيضًا حكم في تصرف الرجل المحارب مع العدو في ساحة القتال، ولا يصدق هذا على التفجيرات والاغتيالات واستهداف الأبرياء من غير المحاربين؛ لأن ذلك لا يُحدث نكاية بالعدو، فقد نقل الغلاة في النص نفسه: «فأما إذا كان يعلم أنه لا ينكي فيهم فإنه لا يحل له أن يحمل عليهم» على أن ذلك شرط الانغماس، كما قال السرخسي ونقله الغلاة.
فبدون أن يشعر الغلاة نفلوا لنا الرأي الصحيح لعلماء الإسلام المعتدلين، فالإمام محمد بن الحسن يرى أنه لا بأس في وقت الحرب أن ينغمس الرجل في صفوف العدو إذا ظن أن ذلك يحدث فائدة في تحقيق الهزيمة وهذا شرط الانغماس عند الحنفية، وإلا فإنه يحرم عليه قتل نفسه إذا لم يتأكد من ذلك، فحكم الحنفية على المتطرفين بارتكاب محرم وهو قتل النفس بلا فائدة، وقد تأكدنا من أنه لم تحدث نكاية بالعدو بل حدثت مفاسد عظمى على الأمة بسبب ذلك، فحكم الغلاة عند الحنفية أنهم ارتكبوا محظورًا.
————
الموامش
1.أنظر: وجوب الجهاد وفضل الشهادة (ص 55).
2.لفظ أحمد في أصول السنة لأحمد بن حنبل،رواية عبدوس بن مالك العطار (ص66) برقم (30)،وانظر الحديث عند اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (1-2/160).
3.أنظر: المفهم (7/425).
4.أنظر: التفجيرات والاغتيالات لأبي الحسن مصطفى بن إسماعيل السليماني (ص 137).
5.أنظر: التفجيرات والاغتيالات (ص 120).
6.أنظر: وجوب الجهاد وفضل الشهادة (ص 85).
7.أنظر: تلخيص الحبير (4/105).
رابط الموضوع : http://www.assakina.com/shobhat/17049.html#ixzz2vSlSpYgv
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق