استباحة دماء غير المسلمين
سنتعرض إلى ما قاله الغلاة واستماتوا في إيضاحه من أن دماء غير المسلمين من غير المحاربين -أي معصومي الدم- مستباحة، ولهم في ذلك أسباب محتوية على أدلة كلها مردودة، وذلك فيما يلي من شبهات:
الشبهة الأولى- استباحة دم معصومي الدم من غير المسلمين
ولهم في هذه الشبهة طرائق في استباحة دماء معصومي الدم من غير المسلمين، ظهر من خلالها أن دم غير المسلم معصوم الدم مستباح، ولا توجد حالة واحدة أو طريق واحد يجعل دمه معصومًا.
طريقة الغلاة الأولى في استباحة دماء الكافرين مطلقًا:
وهي: معاقبة أهل الكفر بقتل مواطنيهم دون تفريق بين كبير أو صغير أو امرأة أو شيخ كبير ردًّا على قتلهم للمسلمين.. ونص المغالين في ذلك: «من الحالات التي يجوز فيها قتل أولئك المعصومين قصدًا أن يعاقب المسلمون الكفارَ بنفس ما عوقبوا به، فإذا كان الكفار يستهدفون النساء والأطفال والشيوخ من المسلمين بالقتل، فإنه يجوز في هذه الحالة أن يفعل معهم الشيء نفسه”(1).
وفهم الغلاة في هذه الطريقة مردود عليهم بما يلي من أمور:
الأمر الأول: أن منطق المعاقبة لا دليل عليه من الشرع، ولا يوجد مذهب معتمد يقول بسقوط عصمة دم غير المسلم لأن غيره ممن على دينه يقتل المسلمين في بلده، فهذا حكم يفتقر إلى دليل شرعي.
وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ﴾ [النحل: 126] إنما يكون في الاعتداء على المعتدي نفسه بمثل ما اعتدى، بمعنى أن يرد عليه بمثل ما اعتدى، فإن كان محاربًا حاربناه أو مقاتلا قاتلناه، ومن كان على دينه ولكن لا يعتدي فلا يجوز لنا أن نعتدي عليه لحرمة قتل نساء وزراري المشركين، ويدل عليه الحديث المتفق عليه من رواية ابن عمر رضى الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى امرأة مقتولة في بعض مغازيه، فأنكر قتل النساء والصبيان.
ووجه الدلالة من هذا الحديث: أنه لا يجوز أن تقصد قتل النساء والذرية؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أنكر قتل المرأة.
ودليل آخر أن قواعد ونصوص الشريعة دلت على أن المرء لا يجوز أن يؤخذ بجريرة غيره، كما في قوله تعالى: ﴿وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [الأنعام: 16].
وقد ورد في السنة من هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم : «لا يؤخذُ الرجلُ بجريرة أبيه، ولا بجريرة أخيه»(2).
الأمر الثاني: لقد استهدف الكفارُ المسلمين الأوائل بالقتل في أول ظهور الدعوة إلى الله تعالى، والله عز وجل هو المشرع الأعلى، فلم يشرع مثل ما تشرعون، ولما أصبح للمسلمين قوة وشوكة ولهم دولتهم الأولى فرض عليهم الجهاد لحماية هذه الدولة، من خلال حروب وغزوات بين فريقي الإيمان والكفر، لكن ما يفعله الغلاة من اصطياد الكافرين نكاية في ملة الكفر ومعاقبة لها تشريع ليس له أصل أو دليل؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم : « من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد».
الأمر الثالث: أن الكف عن قتل معصوم الدم من الكافرين هو الذي عليه دليل من الشرع، ولا يسقط هذا الدليل بفعل بعض الكافرين أو تهورهم على بعض المسلمين، لأن ذلك فيه تعطيل للدليل الشرعي من ناحية، وقتل برئ بفعل غيره من ناحية أخرى.
فقد تظاهرت أدلة الكتاب والسنة ونصوص الأئمة في تحريم من لم يقاتل من النساء والصبيان والشيوخ، إلا أن العصبية جعلت الغلاة يتعامون عن هذه النصوص، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : «من خرج عن الطاعة، وفارق الجماعة، فمات مات ميتة جاهلية، ومن قاتل تحت راية عمية، يغضب لعصبية، أو يدعو إلى عصبية، أو ينصر عصبية، فقُتِل فقتْلَتُهُ جاهلية، ومن خرج على أمتي، يضرب برها وفاجرها، ولا يتحاشى من مؤمنها، ولا يفي لذي عهد عهده، فليس مني، ولَسْتُ منه» أخرجه مسلم.
فإن استباحة دماء المشركين معاقبة لهم على نحو ما أوضح الغلاة يدخل تحت قول النبي صلى الله عليه وسلم : «ومن قاتل تحت راية عمية، يغضب لعصبية، أو يدعو إلى عصبية، أو ينصر عصبية، فقُتِل فقتْلَتُهُ جاهلية».
الأمر الرابع: إن الفقه الإسلامي يقسم غير المسلمين من حيث مشروعية قتالهم إلى نوعين: الأول: الكافر الحربي، والثاني: الكافر المعاهد والذمي والمستأمن.
أما النوع الأول: فيستحل دمه باعتدائه على أرض الإسلام واستحلاله دماء المسلمين، وجهاده يكون فرض عين.
وربما يكون فرض كفاية إذا قام به مَنْ يكفي مِنَ المسلمين سقط الوجوب عن الباقين، وتبقى مشاركتهم معهم في الجهاد على الاستحباب. ومن حسن معاملة الإسلام للفريقين -أقصد أهل البلد الإسلامية الذين يحاربون العدو، والعدو- فإن منهج الإسلام يحث الباقين من دولة الإسلام الذين جهادهم على الاستحباب أن يسعوا إلى توضيح الإسلام ومنهجه للأعداء، ويدعونهم إلى الصلح الذي يضمن مصلحة البلد المسلمة المعتدَى عليها، ويدعونهم إلى الكف عن القتال، فإن استجابوا حثوا إخوانهم المسلمين عن الكف وعدم مواصلة الجهاد، وإن لم يستجيبوا أعان الباقون الدولة التي تحارب العدو بالمال والسلاح والعتاد.
أما النوع الثاني: الكافر المعاهد والذمي والمستأمن فهذا لا يستحل دمه بحال، ولا يعاقب بفعل غيره ممن على دينه، وعلى ذلك فإن استحلال الغلاة دماء الكافرين على الإطلاق لا يجوز، وجميع النصوص الشرعية التي تأمر بقتال الكافرين هي خاصة بالكافر الحربي دون الكافر المعاهد والمستأمن والذمي(3).
طريقة الغلاة الثانية في استباحة دماء الكافرين مطلقًا:
إنهم قالوا: «ومن حالات جواز قتل النساء والصبيان والشيوخ، إذا احتاج المسلمون إلى حرق الحصون أو إغراقها أو تسميمها أو تدخينها أو إرسال الحيات والعقارب والهوام عليها، لفتحها حتى لو سقط المعصومون ضحية لذلك»(4).
وفهم الغلاة في هذه الطريقة مردود بما يلي من أمور:
الأمر الأول: أن هذا إنما يكون في الحروب بين جيش الإسلام وجيش العدو، والتي يكون فيها مثل هذه الأساليب التي تقطع شوكتهم وتكون سببًا في الظفر عليهم، فإن ذلك لا يطبق على أي كافر بل على الحربي فقط الذي يتحصن بالحصون، أو يركب البحر ليهاجم المسلمين من البحر، أو يركب الخيل للهجوم على جيوش المسلمين، ففي حال الحرب يجوز للجيش المسلم قطع وصول العدو بأي وسيلة متاحة، والحرب خدعة.
الأمر الثاني: أن هذه الطريقة من الممكن وقوعها إذا لم يتميز المعصومون كما قال الفقهاء، ومبنى هذا الحكم على صعوبة تميزهم عن المحاربين لا على جواز قتلهم واستحلال دمائهم، وهذا الحكم يرد أصلا إلى حرمة قتل النساء والصبيان من الكافرين(5).
ويرد قول الغلاة أن مبنى قتل النساء والصبيان على جواز استباحة دمائهم لكونهم ضحية، أن القاتل الذي يقتل امرأة أو صبيًا أو شيخًا فانيًا من المعصومين عليه وجوبًا أن يتوب(6)، فلو كان يجوز قتلهم على أنهم ضحايا وتستباح دمائهم لذلك، فهل يتوب المسلم من فعله الجائز؟
وهذا الحكم إن جاز في العصور السالفة، فإن وقوعه اليوم بعيد؛ لأن الحروب في عصورنا كلُّ من فيها محاربون، حتى لو تحصن العدو بمدينة فيها غير محاربين فإن غير المحاربين يخرجون منها إلى غيرها، وتتم عملية الإخلاء لسكانها.
ولو احتمل وجود ضحايا من الكافرين جراء الحرب، فإن وقوعهم قتلى بسبب تواجدهم في ساحة القتال مع العدو ويصعب تميزهم، فلو وقعوا قتلى -كما قال المالكية- يتوب مَنْ قتلهم وجوبًا لثبوت النهي عن قتلهم.
الأمر الثالث: كان في الحالة الأولى استباحة دم غير المحارب من الكافرين على أن ذلك عقوبة، وفي هذه الحالة يستباح دمه على أنه ضحية، وفي حالة أخرى ستأتي أنهم يقتلون تبعًا، أنت معي أن الغلاة يسدون أي طريق يقف في سبيل عدم الاعتداء على المدنيين من غير المحاربين، فيجعلون قتلهم عقوبة؟ فإذا قيل: هم ليسوا مقاتلين، فيقولون: هم ضحايا ويجوز قتلهم وتستباح دماؤهم، فنقول لهم: هل تقصدون قتل الضحايا؟ فيقولون: لا نقتلهم قصدًا ولكن تبعًا، فقتلهم واستباحة دمائهم عقوبة وضحية وتبعية جائز.
وعمومًا، فإن القتل لو لحق بغير الحربي إذا سماه الغلاة عقوبة أو لكونه ضحية أو لأنه تابع للمحارب، فهو اختلاف حول التسمية، والعبرة ما انتهى إليه الحال، وهو وقوع معصوم الدم قتيلا، وهذا يستوجب توبة قاتله.
ولكن القضية ليست في قتل غير الحربي من معصومي الدم في وقت الحروب؛ ولكن القضية أن الغلاة يأخذون هذه الأحكام وينزلونها على غير الحربيين اليوم من معصومي الدم، من الكافرين عمومًا، فإذا كانت هناك حربًا دائرة في قطر بعيد كفلسطين أو أفغانستان وغيرها من بلاد الإسلام، استحلوا دماء الكافرين من غير المحاربين في البلد القريب أو الذين يأتون بلادهم أو يساكنونهم عقوبة وضحية وتبعية لما يحدث ممن هم على دينهم في البلد البعيد، فهل هذا منهج سديد؟ هل يحاسب المرء بجريرة غيره وقد قال ربنا تبارك وتعالى: ﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾؟.
الأمر الرابع: يبدو أن الغرض الذي يدندن عليه المغالي هو إيجاد كل طريق لاستباحة دم الكافرين عمومًا، سواء في وقت الحرب أو في وقت السلم، ويحاول صبغ ذلك بصبغة شرعية.
ونكمل طرق الكلام في فهم شبهة استباحة دماء غير المسلمين في المرة القادمة لأن الكلام يطول حولها.
——–
الهوامش:
(1) انظر: تساؤلات حول عمليات المجاهدين والعمليات الجهادية، الحالات التي يجوز فيها قتل المعصومين من الكفار، ملف من إعداد مجلة صوت الجهاد (ص 57).
(2) رواه النسائي حديث رقم: (3847).
(3) انظر: المقالات والمحاضرات للشيخ صالح الفوزان (ص 26).
(4) انظر: تساؤلات حول عمليات المجاهدين والعمليات الجهادية، الحالات التي يجوز فيها قتل المعصومين من الكفار، ملف من إعداد مجلة صوت الجهاد (ص 57).
(5) انظر: البحر الرائق (5/90)، والشرح الكبير (2/176)، وإعانة الطالبين (4/201)، والكافي في فقه ابن حنبل (4/267).
(6) انظر: الشرح الكبير (2/177).
———-
المراجع
1.انظر:كتاب قرة عين المجاهدين لعبد الرحمن أبو ناصر (ص 31).
2.انظر:شبهات.. حول مشروعية الجهاد في جزيرة العرب، شبهة رقم (21).
3.انظر:الأشباه والنظائر لابن نجيم (ص 96).
4.انظر:التشريع الجنائي في الإسلام (1/ 336).
5.انظر:الأشباه والنظائر للسيوطي (ص 84).
6.انظر:حاشية ابن عابدين (2/204)، ومجلة الأحكام العدلية (1/18)، وحواشي الشرواني (1/118)، ونهاية الزين (1/151).
7.انظر:المستصفى (/176)، والمحصول (6/220).
8.انظر:الإحكام للآمدي (4/167)، وإرشاد الفحول (1/404)، والمحصول (6/220)، والإبهاج (3/178)، والموافقات (2/350).
9.انظر:التفجيرات والاغتيالات (ص 124).
10.انظر:الجامع لأحكام القرآن ( 16/285 ).
11.انظر:الإرهاب في ميزان الشريعة (ص 271).
12.انظر:تساؤلات حول عمليات المجاهدين والعمليات الجهادية، الحالات التي يجوز فيها قتل المعصومين من الكفار، ملف من إعداد مجلة صوت الجهاد (ص 57).
13.رواه النسائي حديث رقم: (3847).
14.انظر:المقالات والمحاضرات للشيخ صالح الفوزان (ص 26).
15.انظر:تساؤلات حول عمليات المجاهدين والعمليات الجهادية، الحالات التي يجوز فيها قتل المعصومين من الكفار، ملف من إعداد مجلة صوت الجهاد (ص 57).
16.انظر:البحر الرائق (5/90)، والشرح الكبير (2/176)، وإعانة الطالبين (4/201)، والكافي في فقه ابن حنبل (4/267).
17.انظر:الشرح الكبير (2/177).
رابط الموضوع : http://www.assakina.com/shobhat/17273.html#ixzz2vSkNNbh7
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق