الأحد، 9 مارس 2014

القتال ليس غاية الجهاد

القتال ليس غاية الجهاد

لا شك أن جهاد الأعداء شُرع في الإسلام لحكم عظيمة؛ وغايات جليلة؛ وهو ذروة سنام الإسلام؛ ومع ما للجهاد من هذه المنزلة والمكانة السامقة بين شرائع الإسلام إلا أنه مرتبط بغاياته وحكمه وعلله التي ارتبطت به، ولا يمكن فصله عن تلك الغايات التي شرع من أجلها.
ومن أجلّ تلك الغايات أنه شرع لكف يد الأعداء عن الإسلام وأهله؛ وحماية بيضة الأمة وصيانة أرضها، ونشر الدعوة وبثها وإيصالها للعالمين لسماعها؛ ويكون ذلك متى ما قدر المسلمون على خوض المعركة مع أعداءهم وغلبة الظن في الحصول على الظفر والنصر على الأعداء.
أما حين تكون تلك الغايات يمكن التوصل إليها بغير القتال فلا شك أنه حينئذ يعتبر الإقدام عليه غير مأمور به؛ إن لم يأثم المقدمون عليه.
ومن أظهر الأدلة في ذلك والتي تعتبر القتال ليس مقصودا لذاته ما رواه مسلم في صحيحه عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ، أَوْ سَرِيَّةٍ، أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللهِ، وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا، ثُمَّ قَالَ: «اغْزُوا بِاسْمِ اللهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللهِ، اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تَمْثُلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا، وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ – أَوْ خِلَالٍ – فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَجَابُوكَ، فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ، وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ، وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ، فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ، يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ إِلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمُ الْجِزْيَةَ، فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَقَاتِلْهُمْ، وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تَجْعَلَ لَهُمْ ذِمَّةَ اللهِ، وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ، فَلَا تَجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّةَ اللهِ، وَلَا ذِمَّةَ نَبِيِّهِ، وَلَكِنِ اجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّتَكَ وَذِمَّةَ أَصْحَابِكَ، فَإِنَّكُمْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ وَذِمَمَ أَصْحَابِكُمْ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَّةَ اللهِ وَذِمَّةَ رَسُولِهِ، وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللهِ، فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللهِ، وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ، فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَتُصِيبُ حُكْمَ اللهِ فِيهِمْ أَمْ لَا».
فهذا الحديث النبوي الصحيح بيّن أن القتال هو من آخر ما يكون بين المسلمين وبين أعداءهم؛ حيث قدّم عليه عرض الإسلام والترغيب في الدخول فيه، أو أخذ الجزية مقابل حمايتهم لدخولهم في عهد دولة الإسلام، ثم جاء ذكر القتال في آخر ذلك، ولو كان القتال غاية في نفسه لكان الابتداء به مقدماً على غيره.
قال الصنعاني في السبل (6/ 139): وَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَدْعُو الْأَمِيرُ الْمُشْرِكِينَ إلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ قِتَالِهِمْ وَظَاهِرُهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ بَلَغَتْهُمْ الدَّعْوَةُ لَكِنَّهُ مَعَ بُلُوغِهَا يُحْمَلُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ كَمَا دَلَّ لَهُ إغَارَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَهُمْ غَارُّونَ وَإِلَّا وَجَبَ دُعَاؤُهُمْ .
والأوامر الشرعية مرتبطة بمصالحها ومقاصدها؛ ومتى ما كان الأمر مناقضا لأصله دل على أنه غير مأمور به في ذلك الوقت.
ولذلك قال الشاطبي في الموافقات (3/ 120)
ثَبَتَ أَنَّ الْأَحْكَامَ شُرِعَتْ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ كَانَتِ الْأَعْمَالُ مُعْتَبَرَةً بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَقْصُودُ الشَّارِعِ فِيهَا كَمَا تَبَيَّنَ، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ فِي ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ عَلَى أَصْلِ الْمَشْرُوعِيَّةِ؛ فَلَا إِشْكَالَ، وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ مُوَافِقًا وَالْمَصْلَحَةُ مُخَالِفَةً؛ فَالْفِعْلُ غَيْرُ صَحِيحٍ وَغَيْرُ مَشْرُوعٍ؛ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ الشَّرْعِيَّةَ لَيْسَتْ مقصودة [لأنفسها] وَإِنَّمَا قُصِدَ بِهَا أُمُورٌ أُخَرُ هِيَ مَعَانِيهَا، وَهِيَ الْمَصَالِحُ الَّتِي شُرِعَتْ لِأَجْلِهَا؛ فَالَّذِي عَمِلَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَضْعِ؛ فَلَيْسَ عَلَى وَضْعِ الْمَشْرُوعَاتِ.
والقتال مما يدل على أنه غير مقصود في ذاته وإنما هو مقصود لغيره أنه حينما يكون المسلمون في حالة ضعف وقلة عَددٍ وعُدّة فإنه لا يجب عليهم خوضه حماية للمسلمين من فنائهم وإهلاكهم جملة، فالواجبات الشرعية كما هو متقرر في الشرع أنها تسقط بالعجز.
وها هو صلى الله عليه وسلم كما هو مثبت في سيرته لم يبدأ بالقتال إلا عندما هاجر إلى المدينة؛ وصار له من الأنصار والعتاد والقوة ما قاتل به الأعداء.
وحتى في بقاءه صلى الله عليه وسلم في المدينة لم يكن القتال هو مفزعه ومفصله الوحيد بينه وبين الأعداء، فقد عاهدهم وهادنهم وصالحهم بغية كفّ شرهم عن المسلمين أو جلب مصلحة لهم.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في فرضية الجهاد: لابد فيه من شرط، وهو أن يكون عند المسلمين قدرة وقوة يستطيعون بها القتال، فإن لم يكن لديهم قدرة، فإن إقحام أنفسهم في القتال إلقاء بأنفسهم إلى التهلكة؛ ولهذا لم يوجب الله سبحانه وتعالى على المسلمين القتال وهم في مكة؛ لأنهم عاجزون ضعفاء، فلما هاجروا إلى المدينة، وكونوا الدولة الإسلامية، وصار لهم شوكة أمروا بالقتال، وعلى هذا فلابد من هذا الشرط، وإلا سقط عنهم كسائر الواجبات؛ لأن جميع الواجبات يشترط فيها القدرة؛ لقوله تعالى:[فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ]، وقوله:[لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا].
وبما سبق يتبين أن ما يدعيه البعض من أن قتال الكفار مقصود لذاته غير صحيح، وهو ما حمل بعضهم بأن يرمي نفسه في أتون حروب كثيرة لا مقصد شرعي صحيح فيها إلا إذهاب أنفس المؤمنين، ظانين أن مجرد القتال هو مأمور به دون النظر لمقصد شرعيته.
————————-
الكاتب:محمد بن عبد السلام الأنصاري


رابط الموضوع : http://www.assakina.com/taseel/34035.html#ixzz2vSaG4omQ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق