فضل العلم ومنزلة العلماء
الحمد لله رب العالمين، الذي شرف أهل العلم ورفع منزلتهم على سائر الخلق، وأصلي وأسلم على سيد الأولين والآخرين، الذي لم يُورِّث دينارًا ولا درهمًا، وإنما وَرَّث العلم، فمن أخذه فقد أخذ حظًّا وافرًا، ومن حُرِمه فهو المحروم، أما بعد:
أيها الأخوة، إن مِن سنن الله – عز وجل – في خلقه أن أرسل إليهم رسلًا، يهدون الناس إلى عبادة الله – عز وجل – ويبصرون الخلق بشرعه وحقوقه. وكان من سُنة الله – عز وجل – في الأمم السابقة أن الناس إذا دب إليهم الانحراف والضلال، وبدءوا يحيدون عن صراط الله المستقيم، أرسل إليهم رسولاً، يذود الناس إلى صراطه سبحانه وتعالى.
ثم ختمت النبوة برسالة نبينا – عليه أفضل الصلاة والسلام – لكن رحمة الله – عز وجل – بهذه الأمة أن هيَّأ لها علماءَ ربانيين، أخذوا بميراث نبيها – عليه الصلاة والسلام – وتلقاه الخلف عن السلف، ولا يزال لهم في هذه الأمة أثر وباقية، إلى أن يرث الأرض ومن عليها.
ومن رحمة الله – عز وجل – بهذه الأمة أن علماءها خيارُها، بخلاف الأمم السابقة، كما ذكر شيخ الإسلام أحمد بن تيمية – رحمه الله – حيث قال: “كل أمة قبل مبعث محمد – صلى الله عليه وسلم – علماؤُها شرارها، إلا المسلمين فإن علماءَها خيارُها” (1).
ولعلي أذكر شيئًا مما ورد في شرف العلم ومنزلة العلماء، ومن هذه النصوص يمكن أن نقف على هذه المنزلة العظيمة لهذه الفئة المباركة.
أدلة فضل العلم والعلماء من القرآن:
فمن ذلك قول الله – عز وجل – في أعظم شهادة في القرآن: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُو العِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ [سورة آل عمران: الآية 18]. ذكر الإمام ابن القيم أن في هذه الآية عشرة أوجه تدل على شرف العلم وفضل العلماء. ومنها:
1 – أن الله – عز وجل – استشهدهم من بين سائر الخلق.
2 – وضمَّ شهادتهم إلى شهادته تعالى.
3 – وضم شهادتهم إلى شهادة ملائكته.
4 – وكونه تعالى استشهدهم فمعناه أنه عدَّلهم؛ لأنه لا يمكن أن يستشهد بقولهم إلا وأنهم عدول. وفي هذا جاء الأثر: “يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله”.
5 – أنهم جعلهم هم والأنبياء في وصف واحد، فلم يفرد الأنبياء عن العلماء، فأشهد نفسه، ثم أشهد ملائكته ثم أشهد أولي العلم، الذين على رأسهم الأنبياء، ومن ضمنهم العلماء.
6 – أنه أشهدهم على أعظم مشهود به، وهذه أجلُّ وأعظم شهادة في القرآن؛ لأن المشهود به هو: شهادة: إن لا إله إلا الله. التي لا يعدلها شيء. (2)
ومن الآيات الدالة على فضل العلم وشرف العلماء قول الله – عز وجل -: ﴿وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ [سورة طه: الآية 114]. أمر نبيه – عليه الصلاة والسلام – أن يسأله أن يزداد من العلم، وما ذاك إلا لشرفه ومكانته.
وأيضًا قوله سبحانه: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [سورة الزمر: الآية 9]. وهذا أيضًا يدل على غاية فضلهم وشرفهم، كما أنه لم يساو بين أصحاب الجنة وأصحاب النار، فكذلك لم يساو بين مَن يعلم ومن لا يعلم.
ويقول – جل وعز -: ﴿أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو الأَلْبَابِ﴾ [سورة الرعد: الآية 19] ولهذا وصف سائر الخلق بالعمى إلا من أوتي العلم.
ويقول سبحانه: ﴿وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ العَزِيزِ الحَمِيدِ﴾ [سورة سبأ: الآية 6].
ويقول جل وعز: ﴿وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ العَالِمُونَ﴾ [سورة العنكبوت: الآية 43]. ولهذا قال بعض السلف: “إذا استعصى عليَّ فَهم مَثَلٍ في القرآن حزنت لذلك؛ لأن الله – عز وجل – يقول: ﴿وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ العَالِمُونَ﴾ [سورة العنكبوت: الآية 43].
ويقول سبحانه: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ [سورة المجادلة: الآية 11]. رفع الله درجاتهم في الدنيا والآخرة، في الدنيا رفع ذكرهم عند الخلق، ورفع مكانتهم ومنزلتهم. وأما في الآخرة فلهم الدرجات العلى، وأي شرف وأي منزلة أعظم من ذلك.
ولهذا لاحظوا – يرعاكم الله – كم مرَّ عبر التاريخ من الملوك والأمراء والعظماء والتجار والمخترعون انتهوا بمماتهم، فانتهى ذكرهم، فقد يأتي ذكرهم عابرًا في صفحات التاريخ، ولكن هؤلاء أهل العلم، ذِكرهم يتجدد مع الزمان، لا يُذكَرون إلا ويُترحَّم عليهم، أجسادهم مفقودة، لكن آثارهم باقية بين أيدينا.
قبل مئات السنين جاء الإمام أحمد، والإمام الشافعي، والإمام مالك، والإمام أبو حنيفة، وسفيان الثوري، والإمام البخاري، والإمام مسلم، أعلام ما زال ذكرهم عاليًا بين الخلق، منهم من مات في مقتبل عمره مثل الإمام النووي – رحمه الله – فقد مات في العِقد الرابع من عمره، ومع ذلك ما زال ذِكره يطبق مشارق الأرض ومغاربها. هذه مؤلفاته بين أيدينا تقرأ صباحَ مساءَ، وكلما ذُكر ترحم عليه، فأي شرف وأي منزلة هذه، هذا ذكرهم في الدنيا، وقد أعد الله – عز وجل – لهم من الأجر في الآخرة أضعافَ أضعافَ ذلك.
ومما ورد في فضلهم ومنزلتهم قول الله – عز وجل -: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ﴾ [سورة فاطر: الآية 28]. و﴿إِنَّمَا﴾ أداة حصر. الذين يخشون الله حق خشيته هم أهل العلم؛ والسبب في ذلك أنهم أعلم الخلق بالله – عز وجل – وكلما ازداد الإنسان معرفةً بربه وخالقه ومعبوده ازدادت خشيته. ولهذا هم أعلم الناس بما يجب لله، وما يجوز عليه، وما يمتنع عليه، ولهذا صاروا أكثر الناس خشية، بل الله – عز وجل – جعل الخشية محصورة فيهم.
ويقول سبحانه: ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ الظَّالِمُونَ﴾ [سورة العنكبوت: الآية 49]. هذا القرآن آيات بينات، لكن عند مَن؟ عند أهل العلم. ولهذا عرفوا كلام الله، فقدروه حق قدره، بخلاف غيرهم، فقد يَقرأ القرآن كاملاً، وقد يسمع القرآن كاملاً، ولا يؤثر هذا فيه؛ لأنه ليس من أولو العلم.
ويقول سبحانه: ﴿وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ [سورة التوبة: الآية 122]. الله – عز وجل – ذكر أنه ما كان لأهل الإيمان أن ينفروا جميعًا إلى الجهاد، بل لتبقَ طائفة تتفقه في هذا الدين؛ لتتعلَّم وتعلم الناس الخير. ولهذا ذكر الأمام أحمد – رحمه الله – أن طلب العلم أفضل من الجهاد في سبيل الله.
ويقول سبحانه: ﴿أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا﴾ [سورة الأنعام: الآية 122]. فأهل العلم هم حياة القلوب، وما معهم من العلم هو النور الذي يهتدون به في ظلمات البر والبحر.
ويقول سبحانه: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلًا﴾ [سورة النساء: الآية 83]. وقد قال المفسرون: إن أولي الأمر هنا هم العلماء، كما أن أولي الأمر في قوله سبحانه: ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ﴾ [سورة النساء: الآية 59]. على قول ابن عباس وغيره أنهم العلماء، وذكر شيخ الإسلام أن هذه الآية تشمل أولي الأمر أولي السلطان، وأيضًا أولي الأمر تشمل العلماء.
أدلة فضل العلم من السنة المطهرة:
فهذه بعض الآيات الدالة على مكانة ومنزلة العلم، ومنزلة أهل العلم.
أما الأحاديث فكثيرة جدًّا منها:
ما ثبت في الصحيحين، من حديث النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – أنه قال: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» (3). منطوق الحديث أن من أراد الله به خيرًا وَفَّقه لهذا العلم. ومفهوم الحديث أن من لم يتفقه في هذا الدين ومن لم يتعلم فلم يرد الله – عز وجل – به خيرًا. وهذا ما ذهب إليه كثيرٌ من أهل العلم.
وهناك أيضًا ما ثبت عن النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – كما عند أبي داود وابن ماجه والترمذي بسند صحيح أنه قال: «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ، وَمَنْ فِي الْأَرْضِ، وَالْحِيتَانُ فِي جَوْفِ الْمَاءِ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ» (4). وهذا حديث عظيم يبين مكانة ومنزلة أهل العلم. لاحظ – أخي المسلم – قوله: «إِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ، وَمَنْ فِي الْأَرْضِ». وفي الحديث الآخر – كما سيأتي – أن الله وملائكته يصلون عليه.
لو قيل لأحدنا: إن من في هذا المسجد يدعون لك. لما وسعته ثيابه من الفرح والسرور، وربما بقي الأيام والليالي وهو يتذكر هذه المنزلة العظيمة، أن أهل المجسد يستغفرون له، أو يدعون الله – عز وجل – له. كيف – يا أخي – هذا العالم يصلي عليه الله – عز وجل – من فوق سبع سماوات، يثني عليه، وتصلي عليه الملائكة، تدعو له، ويصلي عليه سائر الخلق، حتى البهائم، حتى النملة في جحرها، حتى الحوت في قعر البحر، يدعو ويصلي على هذا العالم. أي منزلة أعظم من هذه المنزلة؟ أي شرف أعظم من هذا الشرف؟
ويقول – عليه الصلاة والسلام – كما في الصحيحين: «مَثَل مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ (5) الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّة قَبِلَتِ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتِ الْكَلأَ (6) وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ» (7). إلى آخر الحديث. وهذه الطائفة هم أهل العلم، هم الذين تلقفوا عن النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – أقواله وأفعاله، فحفظوها للناس، فانتفع الخلق جميعًا من هذا العلم بفضل حفظ هؤلاء، ونقل هؤلاء ونشر هؤلاء.
ويقول – عليه الصلاة والسلام -: «فَضْلُ العَالِمِ عَلَى العَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ» (8). الله أكبر، فضل العالم على العابد – وليس على سائر الناس – العابد الذي لزم المسجد في الصلاة والصيام والقيام والاستغفار والتوبة، كفضل النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – على أدنى واحد من أمته. وهل هناك أدنى تقارب بين الفضلين؟ كذلك العالم مع سائر الخلق.
وفي الحديث الآخر: «وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ» (9).
أيها الأخوة، لو وجد عندنا أثر من آثار النبي – صلى الله عليه وسلم – لو ثبت عندنا أن هذه صحفة النبي – صلى الله عليه وسلم – التي كان يأكل فيها، أو هذا الحصير الذي كان يجلس عليه، لَتقاتل الناس على هذا الأثر، فكيف لو كان هذا الأثر ملتصقًا بجسمه كشعَره لربما بذل فيه الغالي والنفيس، فما ظنكم بشيء موجود عندنا من أعظم آثار النبي – صلى الله عليه وسلم – ألا وهو شرعه، وحيه عليه الصلاة والسلام بين أيدينا أعظم وأرفع من آثاره المادية، مبذول كلٌّ يستطيع الأخذ به، وهذا هو ميراث النبوة، ليس ميراث النبوة المال والعقار، بل ميراث النبوة هذا العلم وهذا الوحي، وهو مشاع، ليس خاصًّا لفئة بعينها. ميراثه عليه الصلاة والسلام ليس خاصًّا لذريته، أو لبني هاشم، أو لبني عبد المطلب، بل لكل من أراد أن ينال هذا الميراث، ألا وهو العلم.
يقول ابن القيم: “وقوله: «العلماءُ ورثةُ الأنبياءِ»… دليل على أنهم أقرب الناس إلى الأنبياء؛ في الفضل والمكانة والمنزلة؛ لأن أقرب الناس إلى المورث ورثته، ولهذا كانوا أحقَّ بالميراث من غيرهم، كذلك العلماء أحق الناس بالنبي – صلى الله عليه وسلم – وأقرب الناس بالنبي – صلى الله عليه وسلم – هم أهل العلم”(10).
وفي الحديث الآخر في صحيح مسلم: «إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاثَةٍ». وذكر: «أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ» (11). فإن العالم آثاره باقية حتى بعد وفاته، فالناس تنقطع أعمالهم، حتى الذين خلفوا ولدا صالحًا، أو خلفوا صدقة جارية، ففي وقت من الأوقات سينقطع غالبًا؛ وذلك إذا جاء الجيل الثالث أو الرابع أو الخامس، فغالبًا سينقطع هذا الباب، إلا العالم، فإن أثره باقٍ ما بقيت السماوات والأرض. ولهذا لاحظوا أن الأئمة والعلماء في القرن الأول – قبل ألف وأربعمائة سنة – ما زالت أثارهم وأقوالهم باقية، يُذكَرون ويُترحَّم عليهم، وقد اهتدى واستقام على أقوالهم مئات، بل آلاف، بل ملايين من البشر، وأجورهم ليست كأجور أولئك. فأي منزلة، وأي مكانة أعظم من هذه المنزلة؟
وفي الحديث الآخر: «مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ لَا يُرِيدُ إِلَّا أَنْ يَتَعَلَّمَ خَيْرًا أَوْ يَعْلَمَهُ، كَانَ لَهُ كَأَجْرِ حَاجٍّ تَامًّا حِجَّتُهُ» (12).
وفي حديث آخر: «مَنْ دَخَلَ مَسْجِدَنَا هَذَا لِيَتَعَلَّمَ خَيْرًا، أَوْ لِيُعَلِّمَهُ، كَانَ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللهِ» (13). رواه أحمد بسند صحيح.
وفي حديث آخر رواه الترمذي بسند صحيح، أن النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – قال: «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا وَحَفِظَهَا وَبَلَّغَهَا» (14). «نَضَّرُ اللهُ» دعاءٌ من النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – لهذا العالم، لطالب العلم الذي تلقى عن النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – كلامه ووحيه، فوعاه فَقِهه وبَلَّغه إلى الآخرين.
إن نجاة الناس منوط بوجود العلماء، فذهاب العلماء هلاك الناس، فهم صمام الأمان بعد الله – عز وجل – ولهذا جاء في الحديث المتفق عليه: «إِنَّ اللهَ لا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقَ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالاً، فَسُئِلُوا، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا» (15).
وفي حديث ابن عباس قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «هَلْ تَدْرُونَ مَا ذَهَابُ الْعِلْمِ؟» قَالَ: «هُوَ ذَهَابُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الأَرْضِ» (16).
وفي حديث أبي أمامة، أن رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – قال: «خُذُوا الْعِلْمَ قَبْلَ أَنْ يَذْهَبَ». قالوا: كيف يذهب العلم يا نبي الله، وفينا كتاب الله؟ قال: فغضب النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – ثم قال: «ثَكِلَتْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ» – لاحظ المثل «أَوَلَمْ تَكُنِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمْ شَيْئًا؟ إِنَّ ذَهَابَ الْعِلْمِ أَنْ يَذْهَبَ حَمَلَتُهُ» (17). رواه الدارمي بسند صحيح.
لا شك أن القرآن وحده لا يكفي، لا بد من أهل العلم؛ ليبينوا للأمة العام والخاص، والناسخ والمنسوخ، والمنطوق والمفهوم. وإلا إذا أخذ الإنسان النصوص بنفسه بعيدًا عن أهل العلم ضل وأضل، وما ضل أكثر الفرق وأكثر الطوائف إلا لأنهم اعتمدوا على عقولهم، وعلى أنفسهم، وأخذوا شطرًا وجزءًا من هذه النصوص.
فالخوارج أخذوا بنصوص الوعيد، وتركوا نصوص الوعد. والمرجئة أخذوا نصوص الوعد، وتركوا نصوص الوعيد. والمعتزلة النفاة أخذوا النصوص التي فيها إثبات فعل العبد. والجهمية والمعطلة أخذوا النصوص التي فيها تنزيه الرب.
أما أهل العلم، الذين أنار الله – عز وجل – بصائرهم وأبصارهم، فأخذوا كلام الله – عز وجل – متكاملاً، وعرفوا الخاص والعام، والمقيد والمطلق، والناسخ والمنسوخ، وجمعوا بين كلام الله – عز وجل – ولهذا سلموا، وسلم من اقتفى أثرهم.
الآثار الواردة في فضل العلم ومنزلة العلماء:
أختم كلامي بذكر بعض الآثار عن بعض السلف، في فضل العلم ومنزلة العلماء.
فهذا الشافعي – رحمه الله – يقول: “إن لم يكن الفقهاء أولياء لله في الآخرة فما لله ولي”. ويقول عكرمة – رحمه الله -: “إياكم أن تؤذوا أحدًا من العلماء، فإن مَن آذى عالمًا فقد آذى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لأنهم حملة كلام الرسول – صلى الله عليه وآله وسلم – الذائدون عن حياضه، المنافحون عن كلامه، رحمهم الله”. ويقول الحسن: “موت العالم ثلمة في الإسلام، لا يسدها شيء، ما طرد الليلُ النهارَ”. ويقول أيضًا: “الدنيا كلها ظلمة إلا مجالس العلماء”. ويقول سعيد بن جبير: “علامة هلاك الناس إذا هلك علماؤهم”. ويقول سفيان الثوري: “اطلبوا العلم؛ فإنه شرف في الدنيا، شرف في الآخرة”.
أسأل الله – سبحانه وتعالى – أن يغفر لمن مات من علمائنا، وأن يبارك في عُمر وعمل من كان منهم حيًّا، وأن يوفقه ويسدده لما يحب ويرضى، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
جزى الله صاحب الفضيلة الدكتور حمد بن عبد المحسن التويجري خير الجزاء، على ما تفضل به في هذه الكلمة الطيبة الزاكية عن “فضل العلم وعن منزلة العلماء” ولنتم موضوع هذه الندوة ببيان “حرمة الوقيعة في أهل العلم”. يتفضل بالحديث عن ذلك صاحب الفضيلة الدكتور عبد الحكيم محمد العجلان، فليتفضل جزاه الله خيرًا.
حرمة الوقيعة بين أهل العلم :- للدكتور عبد الحكيم محمد العجلان
الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأصلي وأسلم على نبيه وصفيه من خلقه، وآله من بعده وصحبه، وأسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، أما بعد:
أهمية العلم وأهله:
إن الحديث عن العلماء حديث عظيم؛ فهو حديث عن أعلام الأمة، وحافظي الملة، الناطقين بالكتاب والسُّنة، القامعين لكل هوًى وبدعة، المحذرين من الشيطان ومِن غَيِّه.
الحديث عن أهل العلم حديث عمَّن بهم شفاءٌ ودواء للأدواء والأمراض، التي تحل بالناس، في قلوبهم، وفي أديانهم، وفي مجتمعاتهم.
ولذا قال النبي – صلى الله عليه وسلم – لما هلك صاحب الشجة، الذي سأل أصحابه حين أصابته شجة في رأسه، فقالوا: لا نجد لك رخصة عن الغسل. فاغتسل فمات، فذُكِر ذلك للنبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: «قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللهُ، ألَّا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا، فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ (18) السُّؤَالُ» (19).
فسؤال أهل العلم، والصدور عنهم، هو شفاء ودواء؛ ولذلك أمر الله – جل وعلا – به في غير ما آية من كتابه، فقال سبحانه: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [سورة النحل: الآية 43]. فأهل العلم يُصدَر عنهم، ويُورد إليهم، يُسألون ويُستفتون، ومنهم يُتعلَّم العلم، ومنهم يُتعرَّف على الأحكام، فهم الموقِّعون عن رب العالمين، وهم المبلغون لسنة سيد المرسلين، محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
ولذلك يقول ابن القيم – رحمه الله -: “
هم النجوم لكل عبد سائر يبغي الإله وجنة الحيوان (20)
ويقول ميمون بن مهران في بيان حقيقة أهل العلم: “إنهم في البلد كالماء العذب”. أي أن الناس يردون إليه. وكما قال الحسن: “الدنيا ظلمة إلا مجالس أهل العلم”.
والناس بدون أهل العلم يَتخبَّطون في الجهالات، ويقعون في المهالك والحفر، ولا يجدون طريقًا يتنسَّمون به السلامة، ويصلون به إلى المراد والغاية. وبترك العلم وأهل العلم يَتجرَّع الناس ماءً أجاجًا، فلا يروون من عطشٍ، ولا يسلمون من تعبٍ، ولا يتخلصون من عطبٍ.
العلم – أيها الأخوة – سبب للنجاة؛ فإن أهل العلم أُمناء الله على وحيه. ولذلك قال الله – جل وعلا: ﴿ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [سورة الأنعام: الآية 88] ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ [سورة الأنعام: الآية 90]. فهذه الآية في أنبياء الله ورسله، ومن حذا حذوهم، واقتفى سنتهم، وأخذ من حياضهم، وأخذ من سنتهم. ولذا جاء في بعض الآثار: “أن العالم أمين الله في أرضه”.
فدرجة أهل العلم عالية، فهم في أنفسهم خاشعون لله، مخبتون له، متضرعون. ولذلك يقول الله جل وعلا: ﴿إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا﴾ [سورة الإسراء: الآية 107]. وأهل العلم هم الذين يكون بهم الانتفاع، ويكون بهم النجاة، ويكون بهم الخير، إذا ادلهمت المدلهمات، ونزلت المعضلات، وتوالت المصابات، فالناس يتخبطون، وأولو العلم – بإذن الله جل وعلا – ناطقون بكتاب الله.
يقول الله سبحانه: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ [سورة النساء: الآية 83]. نقل أهل التفسير – كما سمعنا من الشيخ – أن ﴿أُوْلِي الأَمْرِ﴾ هم أولو العقل، وأولو الفقه في الدين.
وبهلاك العلماء يهلك الناس، كما سمعنا قول سعيد بن جبير، قيل: ما علامة هلاك الناس؟ قال: ” هلاك علمائهم “. وهلاك العلماء كما أنه يكون بموتهم، فإنه يكون أيضًا بتسلط المتسلطين عليهم؛ بالوقيعة بينهم، والتنفير منهم، والخوض في أعراضهم، والتشكيك في نياتهم، وإرادة إبعاد الناس عنهم، وصرف القلوب إلى الأهواء وإلى البدع، وإلى الأقوال التي لا سند لها من كتاب الله، ولا من سُنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم.
كيف لا، وقد قال أهل التفسير في أن موت العلماء هو المراد بقول الله جل وعلا: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا﴾ [سورة الرعد: الآية 41 ]. جاء عن ابن عباس – أو غيره – أنه موت العلماء.
ولذلك قال القائل:
الأَرْضُ تَحْيَا إِذَا مَا عَاشَ عَالِمُهَا وَإِنْ يَمُتْ عَالِمٌ مِنْهَا يَمُتْ طَرَفُ
كَالأَرْضِ تَحْيَا إِذَا مَا الْغَيْثُ حَلَّ بِهَا وَإِنْ أَبَى حَلَّ فِي أَكْنَافِهَا التَّلَفُ
الخوض في علماء الأمة وبيان حرمته:
إن العلماء – مع ما سمعنا من هذا الكلام العظيم في رفيع درجتهم، وعلو مكانتهم، وما اختصه الله جل وعلا لهم من إرث نبيهم – صاروا محل كلام الناس، لا بنقل أقوالهم، ولا بسماع توصياتهم، ولكن بالوقوع في أعراضهم، يلوكونها ويتسلطون عليهم بكلام لا حق فيه، وإنما هو محض الباطل والهوى، وينقلون ما يقول الناس، ويقول الدهماء، ويقول الغوغاء.
ولذا لم نر فوضى ولا بلاءً أعظم مما نزل بالمسلمين في مجتمعاتهم في هذه الأوقات، تركوا أهل العلم الراسخين، الذابين عن الملة، الداعين إلى الكتاب والسنة، لأقوال أهل الهوى، أو لناعق في منبر إعلامي، أو قناة أو مجلة أو غيرها، يتكلم بالهوى، ويتكلم بما لا يعرف، ويهذي بما لا يعقل، والناس له تابعون، وعن كتاب الله – جل وعلا – وسُنته والناطقين بها منصرفون.
إن الوقيعة في أهل العلم – مع ما فيها من الحرمة العظيمة؛ لرفيع درجتهم – كما قال بعض السلف: ” لحوم العلماء مسمومة “. وعادة الله في هتك منتقصيهم معلومة، ومن رامهم بالثلب ابتلاه الله قبل موته بموت القلب.
إن الكلام في العلماء كلام في مؤمن، والله – جل وعلا – قد حفظ للمؤمنين أعراضهم، كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم – في حجة الوداع: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ بَيْنَكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ، اللَّهُمَّ فَاشْهَدْ» (21). وشهد الله – جل وعلا – بحفظ أعراض أهل الأيمان، والعلماء هم صفوة أهل الإيمان، وهم المتسلمون للوائهم، والحافظون لهم، والمنادون إلى سبيلهم.
والوقيعة فيها من الوعيد، الذي بينه النبي – صلى الله عليه وسلم – في الحديث المشهور: «وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ – أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ – فِي النَّارِ إَلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ» (22). وفي الوقيعة في العلماء إيذاءٌ للنبي – صلى الله عليه وسلم – كما سمعنا من قول السلف، فإنهم ورثته، وهم الناقلون لدينه، وفي الوقيعة آثار عظيمة، وبلاء كبير:
فأول شيء يُحرَم الناس منه بالوقيعة في العلماء هو: ذهاب العلم، فإذا تكلم الناس في العلماء، فمِن أين يصدرون؟ ومَن سيستفتون؟ وبمن يثقون؟ وعمن يأخذون؟ ولذلك قال أبو سنان الأسدي: ” إذا كان طالب العلم قبل أن يتفقَّه المسألة في الدين يتعلم الوقيعة في الناس متى يفلح؟ “. ومتى يفلح الناس، وهم يخوضون في علمائهم وأولي الأمر منهم، الذين يدعون إلى كتاب الله، وإلى سُنة رسوله – صلى الله عليه وسلم – بالوقيعة والنقص والذم، وإبداء الخلات والعيب.
إن الوقيعة في أهل العلم سبب لهلاك الإنسان في آخرته، ولذا يقول ابن المبارك – رحمه الله -: “من تكلم في الأمراء ذهبت دنياه، ومن تكلم في العلماء ذهبت آخرته، ومن تكلم في الإخوان ذهبت مروءته”.
بالحديث عن العلماء يتعرَّض الإنسان لوعيد شديد، وبلاء كبير؛ فإنه يبارز الله – جل وعلا – بالعداوة. ففي الحديث الصحيح، الذي رواه البخاري في صحيحه، أن النبي صلى الله عليه سلم قال: «قَالَ اللهُ تَعَالَى: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ» (23). وإنما الولاية – ولا شك – لأهل العلم أصالة، ويتبعهم الناس، بما عندهم من كتاب الله، وسُنة رسوله – صلى الله عليه وسلم.
إن الحديث عن أهل العلم، والوقيعة فيهم، سبب لترك ما عندهم من الخير، وما عندهم من الكتاب، وما عندهم من السنة. وتأمل – يا رعاك الله – ما جاء في الحديث الصحيح، أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «لاَ تَسُبُّوا الدِّيكَ؛ فَإِنَّهُ يُوقِظُ للصلاةِ» (24). فكيف بأقوام يستبيحون أعراض أهل العلم، الذين يدعون إلى توحيد الله، وإلى كتاب الله، وإلى سنة رسول الله، وإلى الصلاة، وإلى الزكاة، وإلى الصيام، وإلى الحج، وإلى صغير فروع هذا الدين وكباره، وقليله وكثيره. أليسوا ممن يقعون في أمر عظيم. قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ﴾ [سورة فصلت: الآية 33]. فإن هذا هو شأن أهل العلم. والمتكلم فيهم متكلم بأمر عظيم.
القدح – أيها الأخوة – في أهل العلم سبب لهلاك المجتمع برمته، وسبب لفساد الديار والعباد. ولذلك يقول الإمام السخاوي – رحمه الله -: “إنما الناس بشيوخهم، فإذا ذهب الشيوخ فمع من يكون العيش؟”.
نعم، فتأملوا – يا رعاكم الله – إلى أقل أموركم وأكثرها، وصغيرها وكبيرها، فيما تتعبدون به لربكم، وفيما تتعاملون فيه من بيعكم وشرائكم، وأعمالكم ووظائفكم، وتتعاملون فيه مع أهليكم وأزواجكم، وأبنائكم وبناتكم، أليس كل ذلك إنما تأخذونه من كتاب الله، وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم – والذي يبصركم في ذلكم هم أهل العلم، فإذا تُكلِّم فيهم فأُسقِطوا، فممَّن يتعلم الناس ذلك كله؟
ولذا تبين تبينًا كاملاً، لا مرية فيه، تبينًا يقينيًّا أن المتكلم في أهل العلم متكلم في كتاب الله – جل وعلا – وسُنة رسوله – صلى الله عليه وسلم – ودليل ذلك ما جاء في الحديث المعروف المشهور، لمَّا تكلم المنافقون، فقالوا: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء؛ أرغب بطونًا، ولا أجبن عند اللقاء. يعنون رسول الله – صلى والله عليه وسلم – وأصحابه، فماذا قال الله – جل وعلا – في ذلك؟ أنزل قوله سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ * لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ [سورة التوبة: الآيتان 65 - 66].
فهل استهزءوا بآيات الله؟ لا، ولكن لما كانت الوقيعة في رسول الله وفي أصحابه مستلزم لا محالة الوقيعة في آيات الله – جل وعلا – جعل الله ذلك استهزاءً بآيات الله، وبكتابه وبسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم – فبيَّن الله ذلك في هاتين الآيتين: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ * لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ [سورة التوبة: الآيتان 65-66].
أيها الأخوة، ألا يكفي أن الوقيعة في العلماء هي طريقة المنافقين، الذين يبطنون خلاف ما يظهرون، الذين يريدون الفساد بالمجتمع، الذين يتربصون بالأمة الدوائر، الذين يريدون بها البلاء، الذين يظهرون الإصلاح ويبطنون الإفساد. ألا يكفي ذلك وازعًا لنا، ومانعًا ورادعًا أن نتكلم في أهل العلم، أو نقع فيهم، أو أن يصلهم منا ما يسوءهم، أو ما ينقص قدرهم، ويذهب مكانتهم.
فما ترونه من تتابع أهل البلاء، وأهل الفساد، من أصحاب الأقلام العفنة، والمنابر السيئة، من الوقيعة في العلماء، ما هو إلا لتعلموا علمًا يقينيًّا أن أولئك ما أرادوا الإصلاح، ولم يريدوا الخير، ولا الفلاح لهذه الأمة، وإنما أرادوا أن يفرقوا بين المجتمعات وعلمائها، وأرادوا أن يفصلوا بين الأمة وبين كِتابها وسنة نبيها – صلى الله عليه وسلم – بفصلهم عن علمائهم، فلا يزالون يحاولون الوقيعة في المجالس والمنتديات والمحافل مرة بعد مرة، في قناة أو في أخرى.
أثر الخوض في العلماء:
ولذا رأينا أثر ذلك جليًّا، فما انتشر الفساد، ولا البلاء، ولا كثرت المنكرات، ولا اتسع الناس في الشهوات المحرمة إلا ببعدهم عن علمائهم، ولا انتشرت الشبهات ولا التساهل في الدماء، ولا الوقوع في أمن المجتمعات، ولا التسلط على كثير مما يكون سببًا للفساد في البلاد والعباد إلا بسبب ترك العلماء، والصدور عمن لا يستحق أن يصدر عنه، ممن تسلم لواءً ليس له بقائد، وليس له بمستحق.
عند ذلك كله نعلم – أيها الإخوة – عظم هذه الكلمة، التي ربما لم تتجاوز أحرفًا قليلة، يتكلم الإنسان فيها، في عرض أحدٍ من أهل العلم، بدون حجة ولا برهان، يكون سببًا لنقل الفساد، وسببًا لحصول البلاء في الأمة بين المجتمع، ولتهوين شأن أهل العلم عند الناس.
ولئن كان الناس آذانًا صاغية لمثل هؤلاء الذين ينعقون بالكلام في أهل العلم فإن بلاءً كثيرًا سيصيب هذه الأمة، وإن شرًّا عظيمًا سيحصل على المجتمع المسلم؛ لأن بقاء أهل العلم وحفظ قدرهم هو بقاء للدين، وبقاء للكتاب والسنة.
وتأمل – يا رعاك الله – ما سمعته من الحديث السابق، الذي رواه مسلم في صحيحه: «إِنَّ اللهَ لا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقَ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالاً، فَسُئِلُوا، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا» (25).
إن من يتكلم في أهل العلم يريد للأمة أن تصل إلى هذه الدرجة؛ أن يتخلى الناس عن علمائها الربانيين، الذين ينطقون دون ما هوى، ودون ما جهل، وإنما بمحض فَهمهم لكتاب الله – جل وعلا – وسُنة رسوله – صلى الله عليه سلم.
إن أولئك يريدون الصدود عن هؤلاء؛ ليذهب إلى أهل الأهواء، ولا تسأل عن بلاء الناس عند ذلك الحد، فإنه سوف يكون بلاء عريض، وشر كبير.
أيها الناس، أليس يفضي تَرْك العلماء إلى أن يؤخذ العلم ممن ليس له بأهل، فيأتي مَن يفتي الناس حسب رغباتهم، وحسب شهواتهم، ومن يفتي الناس حسب ما يستقر في صدره من بغض لهذا، ومن إرادة سوء لذلكم المجتمع، أو لذلكم البلد، أو بما يكون سببًا لاستحسان السائل، وعند ذلك يترك دين الله – جل وعلا – وتتبع الأهواء، ويتبع الهوى والشيطان، فيحصل البلاء الكبير.
لذا كان لزامًا علينا أن نعلم أن أعظم شيء يكون المرء حريصًا عليه هو أن يحفظ لسانه عن الوقيعة في كل أمر محرم؛ من غيبة، أو نميمة، أو سباب، أو شتم. وإن من أعظم القول المحرم الوقيعةَ في أهل العلم، وفي أهل الفضل، وفي أهل الديانة، الذين بهم يحفظ الكتاب، وبهم تحفظ السُّنة، وبهم يكون نقل قول الله – جل وعلا – وقول رسوله – صلى الله عليه وسلم.
شبهات الواقعين في سبِّ العلماء:
وإن ما يدعيه بعض الناس عند التطاول على أهل العلم، أنه بغرض النصح، فغير صحيح؛ فإن باب النصح باب معروف في الشريعة، فليس باب النصح أن تُلاك لحوم أهل العلم في مجالس من ليس لهم علاقة بالعلماء، أو في لحوم أهل العلم، ويتكلم في أعراضهم بالثلب والنقيصة وبالهوى وبالظن وبالخرص، بدون علم، ولا برهان، ولا حجة، ولا بيان.
أما ما يكون من بيان الخطأ، من تبيين ما يجري من هفوة أو ذلة، فإن أهل العلم لا يُعتَبون على ذلك، وما من أحد من أهل العلم إلا ويُرَدُّ عليه، ولكن بطريقة أهل العلم، وبالنصح والتوجيه، وبالدليل من كتاب الله، ومن سنة رسوله – صلى الله عليه وسلم.
ولذلك لما تكلم يوسف بن أسباط في الحسن بن صالح، وكان وقع في زلة؛ وهي أنه كان يرى السيف على الولاة، فقال له بعض الحاضرين: يا إمام، ألا ترى أنك اغتبته؟ قال: ويحك، نحن أحب إليهم من آبائهم وأمهاتهم، إنما نحذر الناس أن يقعوا في خطئهم. فما كان من تحذير من الخطإ، والوقوع في الزلل، فتلكم سُنة ماضية عند أهل العلم، على طريقة رصينة، وعلى منهج متين، وهو خلاف ما يكون من الوقيعة في أهل العلم.
حفظنا الله جل وعلا وإياكم فيما نقول وما نتكلم به وما نسمعه. وحفظ الله – جل وعلا – علماءنا في أنفسهم، وفي أعراضهم، وفي أقوالهم، وفي أعمالهم. واجعلهم الله زخرًا للإسلام والمسلمين، آمرين بالمعروف، ناهين عن المنكر، قائلين بالكتاب والسُّنة، ناهين عن السيئات والبدعة. إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
تعليق سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ المفتي العام للملكة ورئيس هيئة كبار العلماء ورئيس إدارة البحوث العلمية والإفتاء
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على رسول الله، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
كان موضوع هذه الندوة العلم والعلماء، وحكم القدح في أهل العلم. تحدث كل من الشيخ الدكتور حمد بن عبد المحسن التويجري، والدكتور عبد الحكيم العجلان في هذا الموضوع، فأجادا وأفادا، وبيَّنا من النصوص؛ من الكتاب والسنة، وأقوال السلف الصالح، في فضل العلم، وفي حكم مَن يقدح في أهل العلم. وقد أتى الشيخان على هذا الموضوع بما فيه الكفاية والفائدة، فجزى الله الشيخين عنا خيرًا.
العلم والعلماء نعمة من الله:
ولا شك أن العلم نعمة من الله على عباده، وفي الحديث: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» (26). فمَن أراد الله به السعادة في الدنيا والآخرة فقَّهه في دينه، ورزقه بصيرة في دينه، عَلِم بها الحلال من الحرام، والحقَّ من الباطل، والهدى من الضلال.
وهؤلاء العلماء قد رفع الله منزلتهم، كما قال تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ [سورة المجادلة: الآية 11]. وهم أهل خشية الله على الحقيقة إن هم صدقوا في علمهم، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ﴾ [سورة فاطر: الآية 28]. والعلماء هم ورثة الأنبياء، فالأنبياء لم يُخلِّفوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما خَلَّفوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر.
وقد أقام الله العلماء في هذه الأمة مقام الأنبياء في بني إسرائيل، كانوا إذا مضى فيهم نبي أعقبه نبي آخر، فلما انقطعت النبوة بمبعث محمد – صلى الله عليه وسلم – جعل الله علماء هذه الأمة يقومون مقام الأنبياء في بني إسرائيل، فهم القدوة في الحلال والحرام والأسوة، يبينون الحلال من الحرام، وما يجب لله، وما يمتنع عن الله، يبينون للناس رب العالمين، فيصفونه بصفات الجلال والكمال، وينزهونه عن صفات العيب والنقص، ويبينون وجوب إفراد العبادة لله، ويبينون حقيقة النبي – صلى الله عليه وسلم – حقيقة الإيمان به، واتباع سنته، والعمل بشريعته.
هؤلاء العلماء أنعم الله عليهم بالعلم، فلما حمَّلهم العلم أوجب عليهم تبليغه لغيرهم، قال الله تعالى محذرًا من كتمان العلم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ * إِلاَّ الَذيِنَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا﴾ [سورة البقرة: الآيتان 159-160]. وقال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾ [سورة آل عمران: الآية 187]. وقال: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾ [سورة الأعراف: الآيتان 175- 176]. فهو ذم لمن حمل العلم ثم ناقضه. وقال – جل وعلا -: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [سورة الجمعة: الآية 5].
وصاحب العلم هو أحد الثلاثة الذين تُسعَّر عليهم النار يوم القيامة، إذا سئل، فقال: يا رب، قرأت فيك القرآن، وتعلمت فيك العلم. فيقول: كذبت، ولكن ليقال قارئ، ليقال عالم، فقد قيل.
فلابد من إخلاصٍ لله في العلم، واتقاءٍ لله. وكون هذا العلم سببًا للخشية والإنابة والورع؛ ليقتدي به الناس، ويتأسوا بأقواله وأفعاله. أما الطعن في العلماء، فالأصل أن الطعن في عموم المسلم لا يجوز، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا﴾ [سورة الأحزاب: الآية 58]. وقال: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [سورة الحجرات: الآية 11]. وقال تعالى: ﴿وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا﴾ [سورة الحجرات: الآية 12].
العالم المجتهد المخطئ يعذر:
فلا يحل لأحد أن يقدح في طالب العلم العامل بعلمه، المستقيم عليه، لم يظهر منه مخالفة، ولا انعكاس للعلم، وإنما هو على الطريق المستقيم، والمنهج الواضح القويم، وسبه نقص في حق الإنسان، ودليل على ضعف الإيمان. وليس طالب العلم معصومًا، فما منا إلا رادٌّ ومردود عليه، إلا محمدًا – صلى الله عليه وسلم – الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى.
وإذا أخطأ العالم بحث له أخوه عن عذر له يعتذر به، واتصل به، فلعل ما نقل عنه غير صحيح، ولعله محرف، أو مزيد، أو منقوص فيه. وهب أن العالم أخطأ، فهل أحدٌ معصوم من الخطإ.
إن المصيبة هي الإصرار على الخطإ بعد العلم به، وأما مجرد الخطإ فكلنا خُطَّاءون، وخير الخطاءين التوابون. كم من أناس تعمر مجالسهم بالقدح في الناس، والنيل من أعراضهم، بلا حجة، ولا برهان، ولا يدرون أنهم يقدمون لهم حسناتهم، ويتحملون الأوزار والآثام.
فالحديث يقول: «مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلَمَةٌ مِنْ أَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ، أَوْ مَالِهِ فَلْيَتَحَلَّلْهُ الْيَوْمَ، قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ حِينَ لاَ يَكُونُ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ، وَإِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَجُعَلَتْ عَلَيْهِ» (27).
فاتق الله – أخي المسلم – ولا تقدح في الناس بغير علم، ولا تنتهك أعراضهم وادن للنصيحة، وصل واسأل ربك العافية في الدنيا والآخرة، هذا وصلى الله وسلم وبارك على محمد.
الأسئلة
يقول السائل: ما قولكم – حفظكم الله – فيمن صار ديدنهم تجريح العلماء وتنفير الناس منهم، والتحذير منهم، ما نصيحتكم لهؤلاء؟
الجواب: أقول إن هؤلاء ما بين جاهلٍ لا يدري، يتكلم بما لا يعلم، قليل العلم، ضعيف الإيمان، يسمع ويقلد من سمع، كمن يقول: سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته. ولو أنه يتبصر في كلامه، ويعلم عواقبه ونتائجه السيئة لما قاله. ولكن لقلة الإيمان وقلة العلم أصبح يقول ما يقول، وتارة يكون قوله صادرًا عن نفاق، وبغضًا للدين وآله، ومحاولة الانتقاص منهم، وتهوين شأنهم عند الناس لتضعف ثقة الناس بهم.
يقول السائل: أنا من الجزائر، وهناك بعض من يقول للشباب: إن علماء المملكة لا يملكون الوقت لكم، فما صحة هذا القول، وما توجيهكم؟
الجواب: هذا قول فيه افتراء، فعلماء هذه البلاد يجيبون عن الأسئلة من خلال ما يرد على الرئاسة العامة لإدارة البحوث والإفتاء، ومن خلال الصحافة، ومن خلال الاتصال الهاتفي. فالعلماء يؤدون واجبهم، لكن هذه المقالة يقولها إنسان جاهل بهذا البلد وعلمائه، أو يسمع ممن لا بصيرة عنده، فيقلده على جهله، وعدم علمه.
يقول السائل: أنا من دولة لوكسمبورج، وقد كثرت عندنا في الآونة الأخيرة بعض الشباب الذين يقولون: إن تارك جنس العمل لا يكفر. فما صحة كلامهم؟
الجواب: يا إخواني هذا قول خاطئ؛ فالأصل أن الإيمان والأعمال شيء واحد، فالعمل جزء من الإيمان، والإيمان يشمل تصديق القلب، ونطق اللسان، وعمل الجوارح، فلا انفكاك بين الإيمان والعمل، ومن زعم أن الأعمال ليست مرتبطة بالإيمان فهذا جاهل مخالف للحق.
يقول السائل: أحيانًا يقع بعض الذين يتسمون بالخير والصلاح وطلب العلم في العلماء وأهل العلم، ويصفونهم بالمداهنة، فما توجيهكم؟
الجواب: يقول ابن القيم – رحمه الله – في الجواب الكافي: ” كم ترى من رجل متورع عن الفواحش والظلم، ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات، ولا يبالي بما يقول ” (28). فمن المصيبة أن بعض الناس قد يكون فيه صلاح وخير، لكنه لا يبالي بأعراض الناس، يسب هذا، ويلعن هذا، ويتهم هذا، وهو لم يقدم شيئًا، ولم ينصح أحدًا، ولم يوجه إنسانًا، لكنه سليط اللسان في أعراض الناس، وهذا من قلة التوفيق.
*************************************************************
(1 ) رفع الملام عن الأئمة الأعلام لابن تيمية (1/8).
(2 ) مفتاح السعادة لابن القيم (1/49).
(3 ) رواه البخاري (1/39، رقم 71)، ومسلم (2/718، رقم 1037).
(4 ) أخرجه أحمد (5/196، رقم 21763)، وأبو داود (3/317، رقم 3641)، والترمذي (5/48، رقم 2682) وقال: لا نعرف هذا الحديث إلا من حديث عاصم بن رجاء بن حيوة، وليس هو عندي بمتصل. ثم أورد له إسنادًا وقال هذا أصح. وابن ماجه (1/81، رقم 223)، وابن حبان (1/289، رقم 88)، والبيهقي في شعب الإيمان (2/262، رقم 1696). وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب 70.
(5 ) هو المطر. النهاية: غيث.
(6 ) الكَلأ: النَّبات والعُشْب وسَواءٌ رَطْبُه ويابِسُه. النهاية: كلأ.
(7 ) أخرجه البخاري (1/42، رقم 79)، ومسلم (4/1788 رقم 2283).
(8 ) أخرجه الترمذي (5/50، رقم 2685) وقال: غريب. والطبراني (8/233، رقم 7911). وصححه الشيخ الألباني في مشكاة المصابيح (1/74).
(9 ) سبق تخريجه.
(10 ) مفتاح السعادة لابن القيم (1/66) بتصرف.
(11 ) أخرجه مسلم (3/1255، رقم 1631).
(12 ) أخرجه الطبراني (8/94، رقم 7473) قال الهيثمي (1/123): رجاله موثقون كلهم. والحاكم (1/169، رقم 311) وقال: احتج البخاري بثور بن يزيد وخرجه مسلم في الشواهد، وأبو نعيم في الحلية (6/97)، وابن عساكر (16/456)، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/20).
(13 ) أخرجه أحمد (2/350، رقم 8587)، وابن حبان (1/287، رقم 87)، والحاكم في المستدرك (1/169، رقم 310)، وحسنه الشيخ الألباني في صحيح ابن حبان (1/287).
(14 ) رواه الترمذي (5/34، رقم 2658) قال الشيخ الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/21، رقم 91): صحيح لغيره.
(15 ) أخرجه أحمد (2/162، رقم 6511)، والبخاري (1/50، رقم 100)، ومسلم (4/2058، رقم 2673).
(16 ) أخرجه أحمد (3/416، رقم 1946).
(17 ) أخرجه الدارمي (1/308، رقم 246)، والطبراني في الكبير (8/232، رقم 790).
(18 ) أي الجهل. النهاية: عيا.
(19 ) أخرجه أحمد (1/330، رقم 3057)، وأبو داود (1/93، رقم 336). وحسنه الألباني في صحيح أبي داود 325.
(20 ) نونية ابن القيم (1/93).
(21 ) أخرجه أحمد (5/37، رقم 20402)، والبخاري (5/2110، رقم 5230)، ومسلم (3/1305، رقم 1679).
(22 ) أخرجه الطيالسي (ص 76، رقم 560)، وأحمد (5/231، رقم 22069)، والترمذي (5/11، رقم 2616)، وابن ماجه (2/1314، رقم 3973)، وقال: حسن صحيح.
(23 ) أخرجه البخاري (5/2384، رقم 6137).
(24 ) أخرجه أبو داود (4/327، رقم 5101)، والطبراني (5/240، رقم 5210)، والبيهقي في شعب الإيمان (4/299، رقم 5173)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (2/1204، رقم 4136).
(25 ) أخرجه أحمد (2/162، رقم 6511)، والبخاري (1/50، رقم 100)، ومسلم (4/2058، رقم 2673).
(26 ) رواه البخاري (1/39، رقم 71)، ومسلم (2/718، رقم 1037).
(27 ) أخرجه البخاري (5/2394، رقم 6169).
(28 ) الجواب الكافي لابن القيم (1/159).
رابط الموضوع : http://www.assakina.com/mohadrat/26165.html#ixzz2vTemHIqY
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق