بر الوالدين .. من محاسن ديننا
في عصرِنا الزاخِر بالوقائِع والمُستجدَّات، اللاهِثِ وراء طُوفان المادِّيَّات، الراكِضِ صوبَة قناة الفضاءِ المُذهِلات، الوثَّابِ حِيالَ وسائل الاتصال المُتعدِّدات؛ يدورُ كلٌّ في فلَكِه ومدارِه، وينشغلُ كلٌّ بشأنِه وتِسيارِه.
وفي هذا الخِضَمِّ المُتلاطِم، والعُبابِ المُتراكِم، تبرُزُ قضيةٌ – ويا لَها من قضية – لو أنفقَ الإنسانُ فيها عُمرَه لم يذهب سُدًى وهدَرًا، ولو كابَدَ حياتَه من أجلِها لصارَ أعزَّ نفرًا، وأنفذَ بصيرةً وأحدَّ بصرًا؛ بل أزكَى خُبرًا وآرَجُ خبرًا.
قضيةٌ غفَلَ عنها فِئامٌ فلزِمَ التذكيرُ بها كلَّ آنٍ، قضيةٌ عظيمةٌ دون مَيْن، إنها – يا رعاكم الله – قضيةُ “برِّ الوالدين” والإحسان إليهما أمواتًا وأحياءً، قُربةً ووفاءً، ذُخرًا خالدًا وجزاءً.
عليكم ببرِّ الوالدَين فإنها ***وصيةُ مولانا وليس له ضِدُّ
وقارَنَ شُكرَ الوالدَين بشُكرِه ***له المَنُّ والآلاءُ والحمدُ والمجدُ
معاشر المسلمين:
وإذا كانت النفوسُ مجبولةً على حبِّ من أحسنَ إليها؛ فإن أعظمَ الناس إحسانًا، وأحقَّهم برًّا وحنانًا: الوالِدان الكريمان.
فبِرُّ الوالدَين فريضةٌ لازِمة، وفضيلةٌ جازِمة، وصفةٌ كم هي حازِمة، وجوبُها حتمٌ مُؤكَّد، وأداؤُها عزمٌ مُوطَّد، لا عُذر لأحدٍ في جفائِها، أو التهاوُن في إبدائِها.
الدينُ والنقلُ، والشرعُ والعقلُ، والمروءةُ والنُّبلُ، والرحمةُ والفضلُ، وردُّ الجميل والإنسانيَّة، وبدائِعُ الخِصال السَّنِيَّة، والخِلال الكريمة، والشمائل الشريفة، روافِدُ ودلائِلُ للقيام على المُراد المرغوب، وأدائِها على الوجهِ المطلوب.
ولقد تكرَّرت الوصيةُ في كتاب الله تعالى في حقِّ الوالدَيْن في مواضِع عديدة، وآياتٍ مجيدةٍ، قال تعالى: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا) [الأحقاف: 15]، وقال – سبحانه -: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا) [العنكبوت: 8].
قال الإمام الطبريُّ – رحمه الله -: “أي: وصَّاه فيهما بجميع معانِي الحُسن، وأمرَ في سائرِ الناسِ ببعض الذي أمرَه به في والدَيْه، فقال: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) [البقرة: 83] يعني بذلك: بعضَ معانِي الحُسن.
وبِرُّ الوالدَين منهجٌ ربَّانيٌّ تمثَّله الأنبياءُ والمُرسَلون، وهرعَ إلى شرَفِه الكرامُ والصالِحون، يقول تعالى عن عيسى – عليه السلام -: (وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا) [مريم: 32]، ويقول عن يحيى بن زكريا – عليهما السلام -: (وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا) [مريم: 14].
والدعاءُ لهما أحياءً وأمواتًا دأبُ المؤمنين المتقين، يقول تعالى عن نوحٍ – عليه السلام -: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) [نوح: 28]، وقال عن إبراهيم – عليه السلام -: (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) [إبراهيم: 41].
إن للوالدَين حقًّا علينا ***بعد حقِّ الإلهِ في الاحتِرامِ
أولدَانا وربَّيانا صِغارًا ***فاستحَقَّا نهايةَ الإكرامِ
إنهما بهجةُ الحياة وزينتُها، وأملُها الباسِمُ وقيمتُها، بأُنسِهما تتبدَّدُ الكُلوم، وبعطفِهما تتقشَّعُ الغيوم، وبفَيضِ دُعائِهما المِحنُ أنَّى تدوم؟!
وفي مِشكاةِ النبُوَّة المُحمديَّة يأتي برُّ الوالدَين قرينًا للصلاة عمودِ الإسلام، ومُتقدِّمًا على الجِهاد ذِروة سَنام الإسلام؛ في “الصحيحين” عن ابن مسعود – رضي الله عنه – قال: سألتُ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم -: أيُّ العمل أحبُّ إلى الله؟ قال: «الصلاةُ على وقتِها». قلتُ: ثم أيٌّ؟ قال: «برُّ الوالدَين». قلتُ: ثم أيٌّ؟ قال: «الجهادُ في سبيلِ الله».
ففاقَ برُّ الوالدَين الجهادَ والدخولَ في معامِع القتالِ والجِلاد.
ويشهَدُ لذلك: ما في “الصحيحين” أيضًا أن رجلاً جاء إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – يستأذِنُه في الجِهاد، فقال: «أحيٌّ والدِاك؟»، قال: نعم. قال: «ففيهما فجاهِد».
لأن برَّهما يجمعُ من المحاسِن أرفعَها، ومن المحابِّ أنفعَها.
هذان من ليس بعد اللهِ غيرُهما ***يُرجَى رِضاهُ ولا يُعصَى ببُهتانِ
فلا تقُل لهما قولاً يسُوؤُهما ***واخفِض جناحَكَ من ذُلٍّ وعِرفانِ
إخوة الإيمان:
لقد قرنَ الله – عز وجل – حقَّ الوالدَين بحقِّه – سبحانه -، وما ذلك إلا لعِظَم حقِّهما، وكريمِ فضلِهما، قال تعالى: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) [النساء: 36]، وقال – سبحانه -: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) [الإسراء: 23].
قال ابن عباس – رضي الله عنهما -: “نزلت ثلاثُ آياتٍ مقروناتٌ بثلاث ..”، وذكرَ منها: “(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ ..) إلى قوله – سبحانه -: (.. أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) [لقمان: 14]“.
فمن لم يشكُر لوالدَيه لم يشكُر الله – عز وجل -.
ولقِيَ ابنُ عمر – رضي الله عنهما – رجُلاً في المطاف يحمِلُ أمَّه على ظهرِه يطوفُ بها، فقال: يا ابنَ عُمر! أتُرانِي جزيتُها؟ قال: “ولا بزَفرةٍ واحِدةٍ”؛ رواه البخاري في “الأدب المفرد”.
تحرَّ برَّ الوالدَين فإنه ***فرضٌ عليك في سرٍّ وإعلانِ
أمة الإسلام:
وإن برَّ الوالدَين ليتأكَّدُ شهودُه، ويعظُمُ وُرودُه، وتتفقُ عن محض البرِّ وُرودُه عند المرضِ والسَّقَم، ودواعِي الإدنافِ والهرَم؛ بل إنه يستمرُّ حتى بعد الوفاة؛ ابتِغاءَ نيلِ أعلى الدرجَات.
روى الإمام أحمد في “مسنده” عن أبي أُسيدٍ الساعديِّ – رضي الله عنه – قال: قال رجلٌ من الأنصار: يا رسول الله! هل بقِيَ من برِّ أبوَيَّ شيءٌ أبرُّهما بهِ بعد موتِهما؟ قال: «نعم، الصلاةُ عليهما، والاستغفارُ لهما، وإنفاذُ عهدِهما من بعدِهما، وصِلةُ الرَّحِمِ التي لا تُوصَلُ إلا بهما، وإكرامُ صديقِهما».
وعن عبد الله بن دينارٍ، عن عبد الله بن عُمر – رضي الله عنهما – أن رجُلاً من الأعرابِ لقِيَه بطريقِ مكَّة، فسلَّم عليه عبدُ الله بنُ عُمر، وحملَه على حِمارٍ كان يركبُه، وأعطاهُ عِمامةً كانت على رأسِه. فقال ابنُ دينارٍ: فقلنا له: أصلَحَك الله، إنهم الأعرابُ وإنهم يرضَون باليسير. فقال عبدُ الله: إن أبا هذا كان وُدًّا لعُمر بن الخطاب، وإني سمعتُ رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: «إن أبرَّ البرِّ: صِلةُ الولد أهلَ وُدِّ أبِيه»؛ رواه مسلم.
أمة البرِّ والإحسان:
إن برَّ الوالدَين حقٌّ أصيل، وفرضٌ أثِيل، لا معدَى عنه ولا تسويفَ ولا تسويل، حقيقٌ في المسرَّات والمُلمَّات، وفي جميع مراحِل الحياة، وإن عاتَبَاك لإصلاحِك استِنذارًا، فكم نحَلُوك صادِقَ الدعاءِ بالتوفيق سِرًّا وجِهارًا.
برُّهما واجبٌ، والإحسانُ إليهما مُتعيِّن، (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) [لقمان: 15].
في “الصحيحين” عن أسماء – رضي الله عنها – قالت: قدِمَت عليَّ أمي وهي مُشرِكةٌ في عهدِ رسولِ الله – صلى الله عليه وسلم -، فاستفتَيتُ رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – فقلتُ: إن أمي قدِمَت وهي راغِبَةٌ، أفأصِلُ أمِّي؟ قال: «نعم، صِلِي أمَّكِ»؛ متفق عليه.
هذا في حالِ الشركِ؛ فكيف بما دُون ذلك؟!
إن جاهَداكَ على شركٍ فقل لهما ***خيرًا، ولا طاعةٌ تأتي بعِصيانِ
واطلُب من الله أن يرأَف بحالِهما ***وأن يزيدَ عطاءً دُون نُقصانِ
وأن يقودَ إلى الإسلام قلبَهما ***وأن يُكافِئَ في جُودٍ وإحسانِ
ولنا في السَّلَفِ خيرُ مِثالٍ، وأحسنُ مقالٍ؛ فعن الزهريِّ – رحمه الله – قال: “كان الحسنُ بن عليٍّ لا يأكُلُ مع أمِّه، وكان أبرَّ الناس بأمِّه. فقيلَ له في ذلك، فقال: أخافُ أن آكُلَ معها، فتسبِقَ عينُها إلى شيءٍ من الطعامِ وأنا لا أدرِي فآكُلُه، فأكونُ قد عققتُها”.
وهذا أبو هريرة – رضي الله عنه – يُبصِرُ رجُلَين، فقال لأحدِهما: من هذا منك؟ فقال: إنه فلانٌ – أبي -، فقال: “لا تُسمِّه باسمِه، ولا تُنادِي أباكَ باسمِه”. فلا تقُل: يا فلان؛ “بل تُسمِّه بصفتِه، فتقول: يا أبِي أو يا أبتَاه”.
فاعتبرَ أبو هريرة – رضي الله عنه – هذا عقوقًا. وهذا من تمام الأدبِ والبرِّ.
وكان أبو هريرة – رضي الله عنه – إذا ابتدَرَ الخروجَ من بيتِه وقفَ على بابِ أمِّه، فقال: السلامُ عليكِ يا أمَّاه ورحمةُ الله وبركاتُه. فتقول: وعليك السلامُ يا ولدِي ورحمةُ الله وبركاته، فيقول: رحمَكِ الله كما ربَّيتِني صغيرًا، فتقول: رحمَكَ الله كما برَرتَني كبيرًا. وإذا أراد أن يدخُل صنعَ مثلَ ذلك.
الله أكبر، الله أكبر! ما أروع هذا البرَّ وهذا الأدب. وايْمُ الله؛ إنه أرجحُ من النُّضار والذَّهب، في أنموجٍ مُشرِقٍ مُتألِّقٍ من نماذِجِ حضارتِنا الإسلامية، ومحاسِن دينِنا الحَنيف الذي بلغَ الثُّريَّا في رحمتِه وبرِّه وسماحتِه واعتِدالِه، ولا مُقارنَة في ذلك بينَه وبين الحضارَةِ الماديَّة المُعاصِرَة في النَّظرة إلى الوالدَين والأُسرَة، والتمرُّغ في الثَّرَى ورميِهم في دُور الرِّعايَة الاجتماعيَّة!
ثم أين هذا من بعضِ صُور العُقوق المأساويَّة المُعاصِرة، التي وصلَت – عياذًا بالله – إلى حدِّ القتلِ، في صُورٍ يائِسَة تنِمُّ عن قِلَّة الديانَة، وتئِنُّ منها الفضيلة، وتبكِي منها الشهامة والمُروءة.
حين تجِفُّ المشاعِر، وتموتُ الضمائِر، وتجمُدُ الأحاسِيس عند هؤلاء المفالِيس. وكأن لسان حالِ والدِيهم كما قال الأولُ:
غذَوتُك مولودًا وعُلتُك يافِعًا ***تُعلُّ بما أُحنِيَ عليك وتنهَلُ
فلما بلغتَ السنَّ والغايةَ التي ***إليها مدَى ما كنتُ فيك أُؤمِّلُ
جعلتَ جزائِي غلظةً وفظاظةً ***كأنَّك أنت المُنعِمُ المُتفضِّلُ
فليتَك إذ لم ترعَ حقَّ أُبُوَّتي ***فعلتَ كما الجارُ المُجاوِرُ يفعلُ
إن أعظمَ ما ينشُدُه المُسلمُ: رِضا ربِّه – جل وعلا -، ورِضا الإله تعالى في رِضاهما؛ فعن عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «رِضا الربِّ في رِضا الوالدَين، وسخَطُ الربِّ في سخَط الوالدَين»؛ رواه الترمذي، وصحَّحه ابن حبان والحاكم.
أوسِعهما برًّا ولا تنهَرهما ****وامنَحهما قولاً كريمًا واشكرِ
واخفِض جناحَكَ رحمةً لكلَيهما ***تمهَد لنفسِك لو فعلتَ وتذخَرِ
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23).
فاتقوا الله – عباد الله -، وأدُّوا حقَّه كما أمرَكم، وإياكم وعقوقَ الوالدَين، فقد نهاكم المولَى عن ذلك وحذَّرَكم؛ فعن أبي بَكرَة – رضي الله عنه – قال: قال رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم -: «ألا أُنبِّئُكم بأكبَر الكبائِر؟». قلنا: بلى يا رسول الله، قال: «الإشراكُ بالله، وعقوقُ الوالدَين»؛ متفق عليه.
وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – أنه – صلى الله عليه وسلم – قال: «رغِمَ أنفُ ثم رغِمَ أنفُ من أدركَ أبوَيه عند الكِبَر أحدَهما أو كليهما فلم يدخُل الجنة»؛ رواه مسلم.
فليعتبِر من يجفُو أمَّه وأباه اتباعًا لأنانيَّته وهواه، وليخفِض لهما جناحَ الذُّلِّ والانعِطاف، وعظيمَ البرِّ والإتحاف.
عباد الرحمن:
وليكن منكم بحُسبان: أن أشدَّ الأمور وقعًا على النفوس: فقدُ الأقرَبين والمُحبِّين، ويعظُمُ الخَطبُ حين يكون الفقدُ للوالدَين أو أحدِهما.
إن فقدَ الوالدَين مُصابٌ جِدُّ جلَلٍ، ورُزءٌ أشدُّ وقعًا من الأسَل، يهدِمُ الرُّكنَ الوثيق، ويُصوِّحُ الروضَ الوَريق، ويرُضُّ الفُؤاد والأكباد، ويبعَثُ على اللَّوعة والأسَى والسُّهاد. وما العزاءُ إلا جميلُ الصبر وصادِقُ الاحتِساب، ومُرتَقَبُ الأجر والثوابِ، من الكرِيم الوهَّاب.
فإنا لله وإنا إليه راجِعون؛ استِسلامًا لقدَرِه وقضائِه، ورغَبًا في مغفرتِه وإرضائِه. لله ما أخذ، وله ما أعطَى، وكلُّ شيءٍ عندَه بأجلٍ مُسمَّى.
إيمانًا بقضائِه وقدَره، ورِضًا في حُكمِه في صفاءِ الأمرِ وكَدَرِه.
والحمدُ لله أن جبَرَ مُصابًا، وفتحَ للصبر أبوابًا. إن القلبَ ليحزَن، وإن العينَ لتدمَع، وإنا لفِراقِ والدِينا لمحزونون.
وإن مما يُبدِّدُ الأسَى والأحزان، ويُخفِّفُ المُصابَ ويبعَثُ على السُّلوان: صادِقَ العزاء، ونبيلَ المُواساة بإسراعٍ من وليِّ أمرٍ كريمٍ مِضواع، ومُحبٍّ داعٍ مِطواع، وقريبٍ مُواسٍ مُلتاع. لا حرَمَ الجميعَ أجرَه وثوابَه، في تلاحُمٍ فريدٍ، وتآخٍ رشيد، ليس بمُستغرَبٍ على أبناء المجتمع المُسلم.
ولقد أُعِنتُ على فِراقِ أحِبَّتي***لما علِمتُ فِراقَهم ليَ أنفعُ
يا أيها القمرُ المُغيَّبُ وهو في ***أُفقِ الجوانِحِ والسرائِرِ يطلُعُ
قد كنتُ أجزعُ من مرارَة فقدِكم ***فالصبرُ أفضلُ ما إليه يُرجَعُ
رحمهم الله وأكرمَ مثواهم، وجعل جنَّاتِ النعيم مقرَّهم ومأواهم، ونفعَهم بإيمانِهم وتلقَّاهم بروح الفِردوس وريحانِه، وجعلَهم في المهديِّين، ورفعَ درجاتِهم في عليِّين، وخلَفَهم في عقِبِهم في الغابِرين.
اللهم ارزُقنا برَّ آبائِنا وأمَّهاتِنا أمواتًا وأحياءً، اللهم ارحمهما كما ربَّونا صِغارًا، اللهم من كان منهم حيًّا فأطِل عُمرَه على عبادةٍ وعملٍ صالحٍ، ومن كان منهم مستًا فأمطِر على قبرِه شآبيبَ الرحمةِ والرِّضوان، والعفوِ والغُفران، واجعل قبرَه روضةً من رِياضِ الجِنان، يا كريم يا منَّان.
ألا فاتقوا الله – عباد الله – في برِّ الوالدَين.
اللهَ اللهَ في البرِّ والصِّلَة والإحسان قبل فوات الأوان، والتوبةَ التوبةَ أيها المُقصِّرون في أداء الحقوق، الواقِعون في شيءٍ من العُقوق، قبل أن تقول نفسٌ: يا حسرتَى على ما فرَّطتُ في جنبِ الله، وعلى ما قصَّرتُ في حقِّ والدَتي وأبَتاه.
واستثمِروا وسائل العصر وتِقاناتِه، ومواقِع التواصُلِ الاجتماعيِّ في البرِّ والتكافُل، ولا تشغلَنَّكم عن برِّ والدِيكم في حياتِهم وبعد مماتِهم؛ تُحقِّقُوا سعادةَ الدنيا وتفوزُوا بنعيم الآخرة.
—————–
المُلقي:فضيلة الشيخ الدكتور/عبدالرحمن السديس
قضيةٌ غفَلَ عنها فِئامٌ فلزِمَ التذكيرُ بها كلَّ آنٍ، قضيةٌ عظيمةٌ دون مَيْن، إنها – يا رعاكم الله – قضيةُ “برِّ الوالدين” والإحسان إليهما أمواتًا وأحياءً، قُربةً ووفاءً، ذُخرًا خالدًا وجزاءً.
عليكم ببرِّ الوالدَين فإنها ***وصيةُ مولانا وليس له ضِدُّ
وقارَنَ شُكرَ الوالدَين بشُكرِه ***له المَنُّ والآلاءُ والحمدُ والمجدُ
معاشر المسلمين:
وإذا كانت النفوسُ مجبولةً على حبِّ من أحسنَ إليها؛ فإن أعظمَ الناس إحسانًا، وأحقَّهم برًّا وحنانًا: الوالِدان الكريمان.
فبِرُّ الوالدَين فريضةٌ لازِمة، وفضيلةٌ جازِمة، وصفةٌ كم هي حازِمة، وجوبُها حتمٌ مُؤكَّد، وأداؤُها عزمٌ مُوطَّد، لا عُذر لأحدٍ في جفائِها، أو التهاوُن في إبدائِها.
الدينُ والنقلُ، والشرعُ والعقلُ، والمروءةُ والنُّبلُ، والرحمةُ والفضلُ، وردُّ الجميل والإنسانيَّة، وبدائِعُ الخِصال السَّنِيَّة، والخِلال الكريمة، والشمائل الشريفة، روافِدُ ودلائِلُ للقيام على المُراد المرغوب، وأدائِها على الوجهِ المطلوب.
ولقد تكرَّرت الوصيةُ في كتاب الله تعالى في حقِّ الوالدَيْن في مواضِع عديدة، وآياتٍ مجيدةٍ، قال تعالى: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا) [الأحقاف: 15]، وقال – سبحانه -: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا) [العنكبوت: 8].
قال الإمام الطبريُّ – رحمه الله -: “أي: وصَّاه فيهما بجميع معانِي الحُسن، وأمرَ في سائرِ الناسِ ببعض الذي أمرَه به في والدَيْه، فقال: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) [البقرة: 83] يعني بذلك: بعضَ معانِي الحُسن.
وبِرُّ الوالدَين منهجٌ ربَّانيٌّ تمثَّله الأنبياءُ والمُرسَلون، وهرعَ إلى شرَفِه الكرامُ والصالِحون، يقول تعالى عن عيسى – عليه السلام -: (وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا) [مريم: 32]، ويقول عن يحيى بن زكريا – عليهما السلام -: (وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا) [مريم: 14].
والدعاءُ لهما أحياءً وأمواتًا دأبُ المؤمنين المتقين، يقول تعالى عن نوحٍ – عليه السلام -: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) [نوح: 28]، وقال عن إبراهيم – عليه السلام -: (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) [إبراهيم: 41].
إن للوالدَين حقًّا علينا ***بعد حقِّ الإلهِ في الاحتِرامِ
أولدَانا وربَّيانا صِغارًا ***فاستحَقَّا نهايةَ الإكرامِ
إنهما بهجةُ الحياة وزينتُها، وأملُها الباسِمُ وقيمتُها، بأُنسِهما تتبدَّدُ الكُلوم، وبعطفِهما تتقشَّعُ الغيوم، وبفَيضِ دُعائِهما المِحنُ أنَّى تدوم؟!
وفي مِشكاةِ النبُوَّة المُحمديَّة يأتي برُّ الوالدَين قرينًا للصلاة عمودِ الإسلام، ومُتقدِّمًا على الجِهاد ذِروة سَنام الإسلام؛ في “الصحيحين” عن ابن مسعود – رضي الله عنه – قال: سألتُ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم -: أيُّ العمل أحبُّ إلى الله؟ قال: «الصلاةُ على وقتِها». قلتُ: ثم أيٌّ؟ قال: «برُّ الوالدَين». قلتُ: ثم أيٌّ؟ قال: «الجهادُ في سبيلِ الله».
ففاقَ برُّ الوالدَين الجهادَ والدخولَ في معامِع القتالِ والجِلاد.
ويشهَدُ لذلك: ما في “الصحيحين” أيضًا أن رجلاً جاء إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – يستأذِنُه في الجِهاد، فقال: «أحيٌّ والدِاك؟»، قال: نعم. قال: «ففيهما فجاهِد».
لأن برَّهما يجمعُ من المحاسِن أرفعَها، ومن المحابِّ أنفعَها.
هذان من ليس بعد اللهِ غيرُهما ***يُرجَى رِضاهُ ولا يُعصَى ببُهتانِ
فلا تقُل لهما قولاً يسُوؤُهما ***واخفِض جناحَكَ من ذُلٍّ وعِرفانِ
إخوة الإيمان:
لقد قرنَ الله – عز وجل – حقَّ الوالدَين بحقِّه – سبحانه -، وما ذلك إلا لعِظَم حقِّهما، وكريمِ فضلِهما، قال تعالى: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) [النساء: 36]، وقال – سبحانه -: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) [الإسراء: 23].
قال ابن عباس – رضي الله عنهما -: “نزلت ثلاثُ آياتٍ مقروناتٌ بثلاث ..”، وذكرَ منها: “(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ ..) إلى قوله – سبحانه -: (.. أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) [لقمان: 14]“.
فمن لم يشكُر لوالدَيه لم يشكُر الله – عز وجل -.
ولقِيَ ابنُ عمر – رضي الله عنهما – رجُلاً في المطاف يحمِلُ أمَّه على ظهرِه يطوفُ بها، فقال: يا ابنَ عُمر! أتُرانِي جزيتُها؟ قال: “ولا بزَفرةٍ واحِدةٍ”؛ رواه البخاري في “الأدب المفرد”.
تحرَّ برَّ الوالدَين فإنه ***فرضٌ عليك في سرٍّ وإعلانِ
أمة الإسلام:
وإن برَّ الوالدَين ليتأكَّدُ شهودُه، ويعظُمُ وُرودُه، وتتفقُ عن محض البرِّ وُرودُه عند المرضِ والسَّقَم، ودواعِي الإدنافِ والهرَم؛ بل إنه يستمرُّ حتى بعد الوفاة؛ ابتِغاءَ نيلِ أعلى الدرجَات.
روى الإمام أحمد في “مسنده” عن أبي أُسيدٍ الساعديِّ – رضي الله عنه – قال: قال رجلٌ من الأنصار: يا رسول الله! هل بقِيَ من برِّ أبوَيَّ شيءٌ أبرُّهما بهِ بعد موتِهما؟ قال: «نعم، الصلاةُ عليهما، والاستغفارُ لهما، وإنفاذُ عهدِهما من بعدِهما، وصِلةُ الرَّحِمِ التي لا تُوصَلُ إلا بهما، وإكرامُ صديقِهما».
وعن عبد الله بن دينارٍ، عن عبد الله بن عُمر – رضي الله عنهما – أن رجُلاً من الأعرابِ لقِيَه بطريقِ مكَّة، فسلَّم عليه عبدُ الله بنُ عُمر، وحملَه على حِمارٍ كان يركبُه، وأعطاهُ عِمامةً كانت على رأسِه. فقال ابنُ دينارٍ: فقلنا له: أصلَحَك الله، إنهم الأعرابُ وإنهم يرضَون باليسير. فقال عبدُ الله: إن أبا هذا كان وُدًّا لعُمر بن الخطاب، وإني سمعتُ رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: «إن أبرَّ البرِّ: صِلةُ الولد أهلَ وُدِّ أبِيه»؛ رواه مسلم.
أمة البرِّ والإحسان:
إن برَّ الوالدَين حقٌّ أصيل، وفرضٌ أثِيل، لا معدَى عنه ولا تسويفَ ولا تسويل، حقيقٌ في المسرَّات والمُلمَّات، وفي جميع مراحِل الحياة، وإن عاتَبَاك لإصلاحِك استِنذارًا، فكم نحَلُوك صادِقَ الدعاءِ بالتوفيق سِرًّا وجِهارًا.
برُّهما واجبٌ، والإحسانُ إليهما مُتعيِّن، (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) [لقمان: 15].
في “الصحيحين” عن أسماء – رضي الله عنها – قالت: قدِمَت عليَّ أمي وهي مُشرِكةٌ في عهدِ رسولِ الله – صلى الله عليه وسلم -، فاستفتَيتُ رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – فقلتُ: إن أمي قدِمَت وهي راغِبَةٌ، أفأصِلُ أمِّي؟ قال: «نعم، صِلِي أمَّكِ»؛ متفق عليه.
هذا في حالِ الشركِ؛ فكيف بما دُون ذلك؟!
إن جاهَداكَ على شركٍ فقل لهما ***خيرًا، ولا طاعةٌ تأتي بعِصيانِ
واطلُب من الله أن يرأَف بحالِهما ***وأن يزيدَ عطاءً دُون نُقصانِ
وأن يقودَ إلى الإسلام قلبَهما ***وأن يُكافِئَ في جُودٍ وإحسانِ
ولنا في السَّلَفِ خيرُ مِثالٍ، وأحسنُ مقالٍ؛ فعن الزهريِّ – رحمه الله – قال: “كان الحسنُ بن عليٍّ لا يأكُلُ مع أمِّه، وكان أبرَّ الناس بأمِّه. فقيلَ له في ذلك، فقال: أخافُ أن آكُلَ معها، فتسبِقَ عينُها إلى شيءٍ من الطعامِ وأنا لا أدرِي فآكُلُه، فأكونُ قد عققتُها”.
وهذا أبو هريرة – رضي الله عنه – يُبصِرُ رجُلَين، فقال لأحدِهما: من هذا منك؟ فقال: إنه فلانٌ – أبي -، فقال: “لا تُسمِّه باسمِه، ولا تُنادِي أباكَ باسمِه”. فلا تقُل: يا فلان؛ “بل تُسمِّه بصفتِه، فتقول: يا أبِي أو يا أبتَاه”.
فاعتبرَ أبو هريرة – رضي الله عنه – هذا عقوقًا. وهذا من تمام الأدبِ والبرِّ.
وكان أبو هريرة – رضي الله عنه – إذا ابتدَرَ الخروجَ من بيتِه وقفَ على بابِ أمِّه، فقال: السلامُ عليكِ يا أمَّاه ورحمةُ الله وبركاتُه. فتقول: وعليك السلامُ يا ولدِي ورحمةُ الله وبركاته، فيقول: رحمَكِ الله كما ربَّيتِني صغيرًا، فتقول: رحمَكَ الله كما برَرتَني كبيرًا. وإذا أراد أن يدخُل صنعَ مثلَ ذلك.
الله أكبر، الله أكبر! ما أروع هذا البرَّ وهذا الأدب. وايْمُ الله؛ إنه أرجحُ من النُّضار والذَّهب، في أنموجٍ مُشرِقٍ مُتألِّقٍ من نماذِجِ حضارتِنا الإسلامية، ومحاسِن دينِنا الحَنيف الذي بلغَ الثُّريَّا في رحمتِه وبرِّه وسماحتِه واعتِدالِه، ولا مُقارنَة في ذلك بينَه وبين الحضارَةِ الماديَّة المُعاصِرَة في النَّظرة إلى الوالدَين والأُسرَة، والتمرُّغ في الثَّرَى ورميِهم في دُور الرِّعايَة الاجتماعيَّة!
ثم أين هذا من بعضِ صُور العُقوق المأساويَّة المُعاصِرة، التي وصلَت – عياذًا بالله – إلى حدِّ القتلِ، في صُورٍ يائِسَة تنِمُّ عن قِلَّة الديانَة، وتئِنُّ منها الفضيلة، وتبكِي منها الشهامة والمُروءة.
حين تجِفُّ المشاعِر، وتموتُ الضمائِر، وتجمُدُ الأحاسِيس عند هؤلاء المفالِيس. وكأن لسان حالِ والدِيهم كما قال الأولُ:
غذَوتُك مولودًا وعُلتُك يافِعًا ***تُعلُّ بما أُحنِيَ عليك وتنهَلُ
فلما بلغتَ السنَّ والغايةَ التي ***إليها مدَى ما كنتُ فيك أُؤمِّلُ
جعلتَ جزائِي غلظةً وفظاظةً ***كأنَّك أنت المُنعِمُ المُتفضِّلُ
فليتَك إذ لم ترعَ حقَّ أُبُوَّتي ***فعلتَ كما الجارُ المُجاوِرُ يفعلُ
إن أعظمَ ما ينشُدُه المُسلمُ: رِضا ربِّه – جل وعلا -، ورِضا الإله تعالى في رِضاهما؛ فعن عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «رِضا الربِّ في رِضا الوالدَين، وسخَطُ الربِّ في سخَط الوالدَين»؛ رواه الترمذي، وصحَّحه ابن حبان والحاكم.
أوسِعهما برًّا ولا تنهَرهما ****وامنَحهما قولاً كريمًا واشكرِ
واخفِض جناحَكَ رحمةً لكلَيهما ***تمهَد لنفسِك لو فعلتَ وتذخَرِ
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23).
فاتقوا الله – عباد الله -، وأدُّوا حقَّه كما أمرَكم، وإياكم وعقوقَ الوالدَين، فقد نهاكم المولَى عن ذلك وحذَّرَكم؛ فعن أبي بَكرَة – رضي الله عنه – قال: قال رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم -: «ألا أُنبِّئُكم بأكبَر الكبائِر؟». قلنا: بلى يا رسول الله، قال: «الإشراكُ بالله، وعقوقُ الوالدَين»؛ متفق عليه.
وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – أنه – صلى الله عليه وسلم – قال: «رغِمَ أنفُ ثم رغِمَ أنفُ من أدركَ أبوَيه عند الكِبَر أحدَهما أو كليهما فلم يدخُل الجنة»؛ رواه مسلم.
فليعتبِر من يجفُو أمَّه وأباه اتباعًا لأنانيَّته وهواه، وليخفِض لهما جناحَ الذُّلِّ والانعِطاف، وعظيمَ البرِّ والإتحاف.
عباد الرحمن:
وليكن منكم بحُسبان: أن أشدَّ الأمور وقعًا على النفوس: فقدُ الأقرَبين والمُحبِّين، ويعظُمُ الخَطبُ حين يكون الفقدُ للوالدَين أو أحدِهما.
إن فقدَ الوالدَين مُصابٌ جِدُّ جلَلٍ، ورُزءٌ أشدُّ وقعًا من الأسَل، يهدِمُ الرُّكنَ الوثيق، ويُصوِّحُ الروضَ الوَريق، ويرُضُّ الفُؤاد والأكباد، ويبعَثُ على اللَّوعة والأسَى والسُّهاد. وما العزاءُ إلا جميلُ الصبر وصادِقُ الاحتِساب، ومُرتَقَبُ الأجر والثوابِ، من الكرِيم الوهَّاب.
فإنا لله وإنا إليه راجِعون؛ استِسلامًا لقدَرِه وقضائِه، ورغَبًا في مغفرتِه وإرضائِه. لله ما أخذ، وله ما أعطَى، وكلُّ شيءٍ عندَه بأجلٍ مُسمَّى.
إيمانًا بقضائِه وقدَره، ورِضًا في حُكمِه في صفاءِ الأمرِ وكَدَرِه.
والحمدُ لله أن جبَرَ مُصابًا، وفتحَ للصبر أبوابًا. إن القلبَ ليحزَن، وإن العينَ لتدمَع، وإنا لفِراقِ والدِينا لمحزونون.
وإن مما يُبدِّدُ الأسَى والأحزان، ويُخفِّفُ المُصابَ ويبعَثُ على السُّلوان: صادِقَ العزاء، ونبيلَ المُواساة بإسراعٍ من وليِّ أمرٍ كريمٍ مِضواع، ومُحبٍّ داعٍ مِطواع، وقريبٍ مُواسٍ مُلتاع. لا حرَمَ الجميعَ أجرَه وثوابَه، في تلاحُمٍ فريدٍ، وتآخٍ رشيد، ليس بمُستغرَبٍ على أبناء المجتمع المُسلم.
ولقد أُعِنتُ على فِراقِ أحِبَّتي***لما علِمتُ فِراقَهم ليَ أنفعُ
يا أيها القمرُ المُغيَّبُ وهو في ***أُفقِ الجوانِحِ والسرائِرِ يطلُعُ
قد كنتُ أجزعُ من مرارَة فقدِكم ***فالصبرُ أفضلُ ما إليه يُرجَعُ
رحمهم الله وأكرمَ مثواهم، وجعل جنَّاتِ النعيم مقرَّهم ومأواهم، ونفعَهم بإيمانِهم وتلقَّاهم بروح الفِردوس وريحانِه، وجعلَهم في المهديِّين، ورفعَ درجاتِهم في عليِّين، وخلَفَهم في عقِبِهم في الغابِرين.
اللهم ارزُقنا برَّ آبائِنا وأمَّهاتِنا أمواتًا وأحياءً، اللهم ارحمهما كما ربَّونا صِغارًا، اللهم من كان منهم حيًّا فأطِل عُمرَه على عبادةٍ وعملٍ صالحٍ، ومن كان منهم مستًا فأمطِر على قبرِه شآبيبَ الرحمةِ والرِّضوان، والعفوِ والغُفران، واجعل قبرَه روضةً من رِياضِ الجِنان، يا كريم يا منَّان.
ألا فاتقوا الله – عباد الله – في برِّ الوالدَين.
اللهَ اللهَ في البرِّ والصِّلَة والإحسان قبل فوات الأوان، والتوبةَ التوبةَ أيها المُقصِّرون في أداء الحقوق، الواقِعون في شيءٍ من العُقوق، قبل أن تقول نفسٌ: يا حسرتَى على ما فرَّطتُ في جنبِ الله، وعلى ما قصَّرتُ في حقِّ والدَتي وأبَتاه.
واستثمِروا وسائل العصر وتِقاناتِه، ومواقِع التواصُلِ الاجتماعيِّ في البرِّ والتكافُل، ولا تشغلَنَّكم عن برِّ والدِيكم في حياتِهم وبعد مماتِهم؛ تُحقِّقُوا سعادةَ الدنيا وتفوزُوا بنعيم الآخرة.
—————–
المُلقي:فضيلة الشيخ الدكتور/عبدالرحمن السديس
رابط الموضوع : http://www.assakina.com/alislam/37347.html#ixzz2vY5G11pz
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق