إقامةُ الدليل على خطأ من يستدل بقوله تعالى:{أم لهم شركاء …}، على كُفْر المُشَرِّعين بلا تفصيل
الحمد لله العليّ القدير، والصلاة والسلام على البشير النذير، والسراج المنير، وعلى من تبعه، واهتدى بهديه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، وبعد:
نواصل ضمن هذه السلسلة، ردودنا على أهل الغلو، التي اتخذوا الشذوذ لهم مركباً، وهجران أقوال العلماء: شعاراً، وعَدَوْا طورَهم، وركنوا إلى جهالتهم؛ وجلبوا تفسيرات للآيات القرآنية، والسنة المحمديّة، يلوون بها ألسنتهم؛ يضلون بها الأنام، ويلبّسون بها على الأغتام؛ حتى أوقعوهم في الفتن، ورموا بهم في أتونها.
ومن نفثات سموهم الفكرية؛ لتدعيم مقولاتهم التكفريّة؛ إزالة اسم الإسلام بالكليّة، ووصف الإيمان، عن كافة المشرّعين؛ استناداً إلى قوله الله تعالى:{أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله}[الشورى:21]؛ إذ اخذوا منها: أن التشريع حق خالص لله تعالى؛ من نازعه فيه؛ فقد أشرك؛ يعني: بإطلاقهم حكم الكفر على كلّ مشرَّع، ومن يتحاكم إلى تلك التشريعات!
فأصلّوا أصلاً كلّياً- هو هذا- ورتّبوا عليه ما تقدّم من إطلاق القول بتكفير كافة المشرّعين، بلا تفصيل.
والاستدلال بالآية استدلالٌ في غير محلّه، وإقحامٌ لمعنى غير مراد منها؛ أدّى إليه سوءُ الفهم، وضعف البصيرة.
وأما الردّ عليهم، فمن وجوه:
الوجه الأول: لو كان فهْم الآية كما يدّعون؛ للزم تكفير كلّ مشرّع، بما في ذلك أهل البدع، الذين يُحدثون في دين الله ما ليس منه؛ بل إنّ منهم من يُلزِمُ أتباعه ومُريديه، بما يخترعه لهم من أوضاع وبدعٍ؛ فإن استثنيتموهم؛ كان هذا منكم تخصيصاً بلا مخصص؛ يُبطِل تعلقكم بالعموم في تكفير كل مشرِعٍ، ونحن نطالبكم بالدليل على هذا التخصيص، إما من آية مُحكمة، أو حديث صحيح؛ لأن المبتدع؛ مُشرّعٌ؛ لا محالة؛ يوضّحه قولُ الإمام الشاطبي، عنه بأنه: ” قد نزّل نفسه منـزلة المضاهي للشارع؛ لأن الشارع وضع الشرائع، وألزم الخلق الجرْيَ على سننها، وصار هو المنفرد بذلك؛ لأنه حَكَمٌ بين الخلق فيما كانوا فيه يختلفون، وإلا فلو كان التشريع من مدركات الخلق؛ لم تنـزل الشرائع، ولم يبق الخلاف بين الناس، ولا احتيج لبعث الرسل عليهم السلام. فهذا الذي ابتدع في دين الله؛ قد صيّر نفسيه نظيراً ومضاهياً؛ حيث شرّع مع الشارع”(1).
فمقتضى كلام الإمام الشاطبي هنا، يُلْحِقُ المشرّعين بالمبتدعين؛ من حيث أنهما صيّرا أنفسهما نظيريْن لله، ومضاهييْن له، في التشريع, وهذا لا يردّه فيه إلا مكابر، فلا وجه للتفريق بين الأمريْن، من هذه الجهة.
الوجه الثاني: أننا وإياكم نتّفق بأن المبتدع قد زاد على مجرد الإحداث والاختراع، نسبته هذه المخترعات والبدع إلى الدين، ومشرّعو القوانين الوضعية، لا يقولون بأن تشريعاتهم من عند الله، وأنتم مع هذا تكفّرونهم، ولا تقولون بتكفير المبتدع، مع أنه ينسب ما اخترعه من أوضاع ورسومٍ إلى الشريعة فحسب، بل يُلزِم أتباعه بما شرّع بهم من الدين الباطل، فالصورة في المبتدع أشنع؛ من هذه الجهة. ومع هذا: تُحجمون عن تكفيره! فهذا جورٌ في القضيّة، وحكمٌ بلا إنصاف ولا رويّة.
الوجه الثالث: ليس كل تشريعٍ لم تأت به الشريعة الإسلامية، أو تنصّ عليه؛ يكون -بالضرورة- باطلاً، وتشريعاً مخالفاً؛ مُطَّرَحاً؛ لم يأذن به الله؛ فيكون صاحبه- على قولكم-: مشركاً؛ لأننا نقول: من التشريعات، ما لا يخالف الدين الإسلامي، ولا يضاده، ومن هنا: قال أهل العلم الراسخون: بعرْضها على النصوص، وقواعد الدين؛ فلم يردّوها بإطلاق، ولم يقبلوها بإطلاق أيضاً، بل اعملوا النظر، بما أوتوا من آلات الاجتهاد، وأدواته، وقواعد الاستباط. فليس كل أحد مؤهلاً لذلك، فهو منصبٌ لا يتجاسر عليه، ويُسرع إليه، إلا من قلّ ورعه، وتزبَّبَ قبل أن يتحصرم!
الوجه الرابع: أننا لو تابعناكم على رأيكم الباطل هذا، ووافقناكم على تكفّير كل مُشرّعٍ، فإننا نقيّد هذا بمنهج أهل السنة والجماعة في تكفير المُعيّنين، واشتراطهم في هذا الباب: استيفاء الشروط، وانتفاء الموانع، قبل إلحاق الحكم بالمعيّن، وهي مسألة (الأسماء)، و(الأحكام)، المعروفة، وهي مبسوطة في كتبهم.
الوجه الخامس: أن معنى الآية، كما قال ابن عطية: ” والشركاء في هذه الآية يحتمل أن يكون المراد بهم الشياطين والمغوين من أسلافهم، ويكون الضمير في (لهم) للكفار المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم، أي: شرع الشركاء لهم ما لم يأذن به الله؛ فالاشتراك هنا: هو في الكفر والغواية، وليس بشركة الإشراك بالله تعالى.
ويحتمل لأن يكون المراد بالشركاء: الأصنام والأوثان، على معنى: أم لهم أصنام جعلوها شركاء لله في ألوهيته؛ ويكون الضمير في (شرعوا)، لهؤلاء المعاصرين من الكفار لآبائهم، والضمير في (لهم)، للأصنام الشركاء؛ أي: شرع هؤلاء الكفار لأصنامهم وأوثانهم ما لم يأذن به الله تعالى.
و(شرعوا) معناه: أثبتوا، ونهجوا، ورسموا.
و(الدِّين) هنا: العوائد، والأحكام، والسيرة، ويدخل في ذلك أيضاً: المعتقدات؛ لأنهم في جميع ذلك وضعوا أوضاعاً، فأما في المعتقدات: فقولهم: إن الأصنام آلهة، وقولهم: إنهم يعبدون الأصنام زلفى، وغير ذلك، وأما في الأحكام: فكالبحيرة، والوصيلة، والحامي، وغير ذلك من السوائب، ونحوها.
والإذن في هذه الآية: الأمر”(2).
فظاهرها لا يدلّ على ما تذهبون إليه من كفر المشرِّعين وشرْكهم؛ لأن الله تعالى سمّاهم (شركاء)، ولم يُسمّهم (مشركين)، وفرْقٌ بين الأمريْن، فالذين اتخذوهم شركاء هم الأتباع الذين أطاعوهم في تحليل الحرام، وتحريم الحلال؛ فالآية تتعلق بالمحكومين، وهذا كقوله تعالى:{اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله}[التوبة:31]- وسيأتي الكلام عليها وعلى غيرها من الآيات، في رسالة مستقلّة-. فإذا سلمنا لكم أنها تتعلق بالحاكمين، فلا يُحكم بكفرهم إلا إذا بدّلوا الدين، وزعموا أن ما بدّلوه، هو من شريعة رب العالمين، أو أن الحكم بما شرعوه أولى وأصوب من الحكم بالشريعة الربانيّة، فلا بد إذن من التفصيل في هذا المقام، فنحن لا ننفي كفّر المشرّعين في بعض الأحوال، كما أننا لا ننفي كفر من حكم بغير ما أنزل الله، في حالٍ دون حالٍ، أمّا أن الآية تتكلم عن كفر المشرّعين مُطلقاً، أو تدلّ عليه بطريق المنطوق: فهذا ممّا لا نسلّم لكم به.
فالتفصيل بالنسبة للمشرّعين والمُقنّنين: أنّ من هذه القوانين والتشريعات، أموراً تتعلق بمصالح الناس ومعايشهم، كتقنين أنظمة المرور، وأنظمة الدراسة في الجامعات، ونحو هما مما يدخل في باب المصالح المرسلة، وتكون وسائل إلى تحقيق غايات مشروعة، فالقاعدة: أن الوسائل لها أحكام الغايات.
ومن هذه القوانين: ما يكون وسيلة إلى محرّم؛ فيأخذ حكمه، كمن يتخذ ضوابط لبعض المعاملات المحرّمة؛ كالربا، والخمر، ونحوهما.
فالمرابي -علي سبيل المثال-: يجعل لماله من يقوم بتقييده، ويتخذ لذلك السجلات والدفاتر، والحرّاس، وهذا كبيرة من الكبائر، وإثم عظيمٌ، وليس بكفر، إلا إذا استحله، وهكذا سائر المعاصي؛ يكفر باستحلالها.
ونزيد على ما تقدم بالنسبة للمُرابي، أن النبي صلى الله عليه وسلم، لم يُكفّر شاهدي الربا، وكاتبه، مع ظهور وجه التقنين في تلك الصورة، وكذلك لم يؤثر عنه صلى الله عليه وسلم، تكفير صانعي الخمر- مع أنه لعن في الخمر عشرةً- مع أن لهم في صنعها طرقاً، وقوانين. قال ابن منظور: “…وقانون كل شيء: طريقُه، ومقياسه”(3).
وهكذا: فإن المشتغلين بالكلام قد قعّدوا لهم قوانين كليّة في باب أسماء الله وصفاته، وأُسساً، ضلوا بها عن الحق، وأضلوا الخلق عن الهدى، ككتاب (أساس التقديس)، للرازي، و(قانون التأويل) لابن العربي المالكي المعافري، وشيخة أبي حامد الغزالي، وآخرين، أخذوها عن اليونانيين وغيرهم، وقدموها على النصوص، وجعلوا بموجبها: العقلَ قاضياً على النقل، وأنه لا يُحتج بالنقل إلا إذا سلم من العوارض، إلى آخر قانونهم الكلي في التأويل، الذي نقضه شيخ الإسلام ابن تيمية في كثير من مصنفاته، وكسره الإمام ابن القيم في (الصواعق المرسلة) في أكثر من خمسين وجهاً.
ومع ذلك: فإن العلماء لم يبادروا إلى تكفير هؤلاء المُقنّنين في باب العقائد، إلا بشروط، وإن كانوا يحكمون ببطلان أقوالهم، وبكفر بعض مقولاتهم، وعقائدهم حتى إن الإمام أحمد –رحمه الله-، كان لا يرى كفر من امتحنوه من الجهمية؛ لجهلهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ” مع أن الإمام أحمد، لم يُكفّر أعيان الجهمية، ولا كلّ من قال إنه جهمي: ولا كل من وافق الجهمية في بعض بدعهم، بل صلّى خلف الجهمية الذين دعوا إلى قولهم، وامتحنوا الناس، وعاقبوا من لم يوافقهم بالعقوبات الغليظة؛ لم يُكفّرهم أحمدُ وأمثاله، بل كان يعتقد إيمانهم، وإمامتهم، ويدعوا لهم” (4).
قال ابن الوزير: “طوائف الإسلام الذين وافقوا على الإيمان بالتنـزيل، وخالفوا في التأويل؛ فهؤلاء لا يكفر منهم إلا من تأويله تكذيب، ولكنه سمّاه تأويلاً؛ مخادعة للمسلمين، ومكيدة للدين؛ كالقرامطة…
وأما أهل البدع الذين آمنوا بالله ورسوله وكتبه واليوم الآخر، وإنما غلطوا في بعض العقائد؛ لشُبهة قصرت عنها أفهامهم، ولم تبلغ كشفها معرفتهم؛ فلا دليل على كفرهم، ومن كفّرهم فقد اغتر في تكفيره من الشُبهة بمثل ما اغتروا به في بدعتهم من ذلك”(5).
وأختم هذه المناقشة، بفتوى لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز-رحمه الله- وقد سُئل: ما حكم سنّ القوانين الوضعية؟ وهل يجوز العمل بها؟ وهل يكفر الحاكم بسنّه لهذه القوانين؟
فأجاب بقوله: “إذا كان القانون يوافق الشرع؛ فلا بأس، إذا سنّ قانوناً في شأن الطريق؛ في شأن الشوارع، في غير ذلك من الأشياء التي تنفع الناس، وليس فيها مخالفة للشرع، ولكن لتنفيذ الأمور: فلا بأس بها. أما القوانين التي تخالف الشرع: فلا. إذا سنّ قانوناً معناه: أنه لا حدّ على الزاني، ولا حدّ على السارق، ولا حدّ على شارب الخمر: فهذا باطلٌ، وهذه القوانين باطلة، وإذا استحلّها الوالي: كَفَرَ؛ إذا قال:إنها حلال، ولا بأس بها؛ فهذا يكون كفراً. من استحلّ ما حرّم الله: كفَرَ”(6).
انتهى ما أردت نقله من كلام سماحة الشيخ ابن باز، وبه ختام هذه التنبيهات. نسأل الله تعالى أن يرينا الحقَّ حقاً ويرزقنا اتّباعه، والباطلَ باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
نواصل ضمن هذه السلسلة، ردودنا على أهل الغلو، التي اتخذوا الشذوذ لهم مركباً، وهجران أقوال العلماء: شعاراً، وعَدَوْا طورَهم، وركنوا إلى جهالتهم؛ وجلبوا تفسيرات للآيات القرآنية، والسنة المحمديّة، يلوون بها ألسنتهم؛ يضلون بها الأنام، ويلبّسون بها على الأغتام؛ حتى أوقعوهم في الفتن، ورموا بهم في أتونها.
ومن نفثات سموهم الفكرية؛ لتدعيم مقولاتهم التكفريّة؛ إزالة اسم الإسلام بالكليّة، ووصف الإيمان، عن كافة المشرّعين؛ استناداً إلى قوله الله تعالى:{أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله}[الشورى:21]؛ إذ اخذوا منها: أن التشريع حق خالص لله تعالى؛ من نازعه فيه؛ فقد أشرك؛ يعني: بإطلاقهم حكم الكفر على كلّ مشرَّع، ومن يتحاكم إلى تلك التشريعات!
فأصلّوا أصلاً كلّياً- هو هذا- ورتّبوا عليه ما تقدّم من إطلاق القول بتكفير كافة المشرّعين، بلا تفصيل.
والاستدلال بالآية استدلالٌ في غير محلّه، وإقحامٌ لمعنى غير مراد منها؛ أدّى إليه سوءُ الفهم، وضعف البصيرة.
وأما الردّ عليهم، فمن وجوه:
الوجه الأول: لو كان فهْم الآية كما يدّعون؛ للزم تكفير كلّ مشرّع، بما في ذلك أهل البدع، الذين يُحدثون في دين الله ما ليس منه؛ بل إنّ منهم من يُلزِمُ أتباعه ومُريديه، بما يخترعه لهم من أوضاع وبدعٍ؛ فإن استثنيتموهم؛ كان هذا منكم تخصيصاً بلا مخصص؛ يُبطِل تعلقكم بالعموم في تكفير كل مشرِعٍ، ونحن نطالبكم بالدليل على هذا التخصيص، إما من آية مُحكمة، أو حديث صحيح؛ لأن المبتدع؛ مُشرّعٌ؛ لا محالة؛ يوضّحه قولُ الإمام الشاطبي، عنه بأنه: ” قد نزّل نفسه منـزلة المضاهي للشارع؛ لأن الشارع وضع الشرائع، وألزم الخلق الجرْيَ على سننها، وصار هو المنفرد بذلك؛ لأنه حَكَمٌ بين الخلق فيما كانوا فيه يختلفون، وإلا فلو كان التشريع من مدركات الخلق؛ لم تنـزل الشرائع، ولم يبق الخلاف بين الناس، ولا احتيج لبعث الرسل عليهم السلام. فهذا الذي ابتدع في دين الله؛ قد صيّر نفسيه نظيراً ومضاهياً؛ حيث شرّع مع الشارع”(1).
فمقتضى كلام الإمام الشاطبي هنا، يُلْحِقُ المشرّعين بالمبتدعين؛ من حيث أنهما صيّرا أنفسهما نظيريْن لله، ومضاهييْن له، في التشريع, وهذا لا يردّه فيه إلا مكابر، فلا وجه للتفريق بين الأمريْن، من هذه الجهة.
الوجه الثاني: أننا وإياكم نتّفق بأن المبتدع قد زاد على مجرد الإحداث والاختراع، نسبته هذه المخترعات والبدع إلى الدين، ومشرّعو القوانين الوضعية، لا يقولون بأن تشريعاتهم من عند الله، وأنتم مع هذا تكفّرونهم، ولا تقولون بتكفير المبتدع، مع أنه ينسب ما اخترعه من أوضاع ورسومٍ إلى الشريعة فحسب، بل يُلزِم أتباعه بما شرّع بهم من الدين الباطل، فالصورة في المبتدع أشنع؛ من هذه الجهة. ومع هذا: تُحجمون عن تكفيره! فهذا جورٌ في القضيّة، وحكمٌ بلا إنصاف ولا رويّة.
الوجه الثالث: ليس كل تشريعٍ لم تأت به الشريعة الإسلامية، أو تنصّ عليه؛ يكون -بالضرورة- باطلاً، وتشريعاً مخالفاً؛ مُطَّرَحاً؛ لم يأذن به الله؛ فيكون صاحبه- على قولكم-: مشركاً؛ لأننا نقول: من التشريعات، ما لا يخالف الدين الإسلامي، ولا يضاده، ومن هنا: قال أهل العلم الراسخون: بعرْضها على النصوص، وقواعد الدين؛ فلم يردّوها بإطلاق، ولم يقبلوها بإطلاق أيضاً، بل اعملوا النظر، بما أوتوا من آلات الاجتهاد، وأدواته، وقواعد الاستباط. فليس كل أحد مؤهلاً لذلك، فهو منصبٌ لا يتجاسر عليه، ويُسرع إليه، إلا من قلّ ورعه، وتزبَّبَ قبل أن يتحصرم!
الوجه الرابع: أننا لو تابعناكم على رأيكم الباطل هذا، ووافقناكم على تكفّير كل مُشرّعٍ، فإننا نقيّد هذا بمنهج أهل السنة والجماعة في تكفير المُعيّنين، واشتراطهم في هذا الباب: استيفاء الشروط، وانتفاء الموانع، قبل إلحاق الحكم بالمعيّن، وهي مسألة (الأسماء)، و(الأحكام)، المعروفة، وهي مبسوطة في كتبهم.
الوجه الخامس: أن معنى الآية، كما قال ابن عطية: ” والشركاء في هذه الآية يحتمل أن يكون المراد بهم الشياطين والمغوين من أسلافهم، ويكون الضمير في (لهم) للكفار المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم، أي: شرع الشركاء لهم ما لم يأذن به الله؛ فالاشتراك هنا: هو في الكفر والغواية، وليس بشركة الإشراك بالله تعالى.
ويحتمل لأن يكون المراد بالشركاء: الأصنام والأوثان، على معنى: أم لهم أصنام جعلوها شركاء لله في ألوهيته؛ ويكون الضمير في (شرعوا)، لهؤلاء المعاصرين من الكفار لآبائهم، والضمير في (لهم)، للأصنام الشركاء؛ أي: شرع هؤلاء الكفار لأصنامهم وأوثانهم ما لم يأذن به الله تعالى.
و(شرعوا) معناه: أثبتوا، ونهجوا، ورسموا.
و(الدِّين) هنا: العوائد، والأحكام، والسيرة، ويدخل في ذلك أيضاً: المعتقدات؛ لأنهم في جميع ذلك وضعوا أوضاعاً، فأما في المعتقدات: فقولهم: إن الأصنام آلهة، وقولهم: إنهم يعبدون الأصنام زلفى، وغير ذلك، وأما في الأحكام: فكالبحيرة، والوصيلة، والحامي، وغير ذلك من السوائب، ونحوها.
والإذن في هذه الآية: الأمر”(2).
فظاهرها لا يدلّ على ما تذهبون إليه من كفر المشرِّعين وشرْكهم؛ لأن الله تعالى سمّاهم (شركاء)، ولم يُسمّهم (مشركين)، وفرْقٌ بين الأمريْن، فالذين اتخذوهم شركاء هم الأتباع الذين أطاعوهم في تحليل الحرام، وتحريم الحلال؛ فالآية تتعلق بالمحكومين، وهذا كقوله تعالى:{اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله}[التوبة:31]- وسيأتي الكلام عليها وعلى غيرها من الآيات، في رسالة مستقلّة-. فإذا سلمنا لكم أنها تتعلق بالحاكمين، فلا يُحكم بكفرهم إلا إذا بدّلوا الدين، وزعموا أن ما بدّلوه، هو من شريعة رب العالمين، أو أن الحكم بما شرعوه أولى وأصوب من الحكم بالشريعة الربانيّة، فلا بد إذن من التفصيل في هذا المقام، فنحن لا ننفي كفّر المشرّعين في بعض الأحوال، كما أننا لا ننفي كفر من حكم بغير ما أنزل الله، في حالٍ دون حالٍ، أمّا أن الآية تتكلم عن كفر المشرّعين مُطلقاً، أو تدلّ عليه بطريق المنطوق: فهذا ممّا لا نسلّم لكم به.
فالتفصيل بالنسبة للمشرّعين والمُقنّنين: أنّ من هذه القوانين والتشريعات، أموراً تتعلق بمصالح الناس ومعايشهم، كتقنين أنظمة المرور، وأنظمة الدراسة في الجامعات، ونحو هما مما يدخل في باب المصالح المرسلة، وتكون وسائل إلى تحقيق غايات مشروعة، فالقاعدة: أن الوسائل لها أحكام الغايات.
ومن هذه القوانين: ما يكون وسيلة إلى محرّم؛ فيأخذ حكمه، كمن يتخذ ضوابط لبعض المعاملات المحرّمة؛ كالربا، والخمر، ونحوهما.
فالمرابي -علي سبيل المثال-: يجعل لماله من يقوم بتقييده، ويتخذ لذلك السجلات والدفاتر، والحرّاس، وهذا كبيرة من الكبائر، وإثم عظيمٌ، وليس بكفر، إلا إذا استحله، وهكذا سائر المعاصي؛ يكفر باستحلالها.
ونزيد على ما تقدم بالنسبة للمُرابي، أن النبي صلى الله عليه وسلم، لم يُكفّر شاهدي الربا، وكاتبه، مع ظهور وجه التقنين في تلك الصورة، وكذلك لم يؤثر عنه صلى الله عليه وسلم، تكفير صانعي الخمر- مع أنه لعن في الخمر عشرةً- مع أن لهم في صنعها طرقاً، وقوانين. قال ابن منظور: “…وقانون كل شيء: طريقُه، ومقياسه”(3).
وهكذا: فإن المشتغلين بالكلام قد قعّدوا لهم قوانين كليّة في باب أسماء الله وصفاته، وأُسساً، ضلوا بها عن الحق، وأضلوا الخلق عن الهدى، ككتاب (أساس التقديس)، للرازي، و(قانون التأويل) لابن العربي المالكي المعافري، وشيخة أبي حامد الغزالي، وآخرين، أخذوها عن اليونانيين وغيرهم، وقدموها على النصوص، وجعلوا بموجبها: العقلَ قاضياً على النقل، وأنه لا يُحتج بالنقل إلا إذا سلم من العوارض، إلى آخر قانونهم الكلي في التأويل، الذي نقضه شيخ الإسلام ابن تيمية في كثير من مصنفاته، وكسره الإمام ابن القيم في (الصواعق المرسلة) في أكثر من خمسين وجهاً.
ومع ذلك: فإن العلماء لم يبادروا إلى تكفير هؤلاء المُقنّنين في باب العقائد، إلا بشروط، وإن كانوا يحكمون ببطلان أقوالهم، وبكفر بعض مقولاتهم، وعقائدهم حتى إن الإمام أحمد –رحمه الله-، كان لا يرى كفر من امتحنوه من الجهمية؛ لجهلهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ” مع أن الإمام أحمد، لم يُكفّر أعيان الجهمية، ولا كلّ من قال إنه جهمي: ولا كل من وافق الجهمية في بعض بدعهم، بل صلّى خلف الجهمية الذين دعوا إلى قولهم، وامتحنوا الناس، وعاقبوا من لم يوافقهم بالعقوبات الغليظة؛ لم يُكفّرهم أحمدُ وأمثاله، بل كان يعتقد إيمانهم، وإمامتهم، ويدعوا لهم” (4).
قال ابن الوزير: “طوائف الإسلام الذين وافقوا على الإيمان بالتنـزيل، وخالفوا في التأويل؛ فهؤلاء لا يكفر منهم إلا من تأويله تكذيب، ولكنه سمّاه تأويلاً؛ مخادعة للمسلمين، ومكيدة للدين؛ كالقرامطة…
وأما أهل البدع الذين آمنوا بالله ورسوله وكتبه واليوم الآخر، وإنما غلطوا في بعض العقائد؛ لشُبهة قصرت عنها أفهامهم، ولم تبلغ كشفها معرفتهم؛ فلا دليل على كفرهم، ومن كفّرهم فقد اغتر في تكفيره من الشُبهة بمثل ما اغتروا به في بدعتهم من ذلك”(5).
وأختم هذه المناقشة، بفتوى لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز-رحمه الله- وقد سُئل: ما حكم سنّ القوانين الوضعية؟ وهل يجوز العمل بها؟ وهل يكفر الحاكم بسنّه لهذه القوانين؟
فأجاب بقوله: “إذا كان القانون يوافق الشرع؛ فلا بأس، إذا سنّ قانوناً في شأن الطريق؛ في شأن الشوارع، في غير ذلك من الأشياء التي تنفع الناس، وليس فيها مخالفة للشرع، ولكن لتنفيذ الأمور: فلا بأس بها. أما القوانين التي تخالف الشرع: فلا. إذا سنّ قانوناً معناه: أنه لا حدّ على الزاني، ولا حدّ على السارق، ولا حدّ على شارب الخمر: فهذا باطلٌ، وهذه القوانين باطلة، وإذا استحلّها الوالي: كَفَرَ؛ إذا قال:إنها حلال، ولا بأس بها؛ فهذا يكون كفراً. من استحلّ ما حرّم الله: كفَرَ”(6).
انتهى ما أردت نقله من كلام سماحة الشيخ ابن باز، وبه ختام هذه التنبيهات. نسأل الله تعالى أن يرينا الحقَّ حقاً ويرزقنا اتّباعه، والباطلَ باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
————————————————————
(1) الاعتصام (1/50-51).
(2) المحرر الوجيز (13/159).
(3) لسان العرب (13/349).
(4) مجموع الفتاوى (7/507-508)، وانظر: المرجع السابق (23/348-349)، و (12/489).
(5) العواصم من القواصم (3/176-177).
(6) مراجعات في فقه الواقع السياسي والفكري، ص (12)، إعداد: د. عبد الله الرفاعي.
(1) الاعتصام (1/50-51).
(2) المحرر الوجيز (13/159).
(3) لسان العرب (13/349).
(4) مجموع الفتاوى (7/507-508)، وانظر: المرجع السابق (23/348-349)، و (12/489).
(5) العواصم من القواصم (3/176-177).
(6) مراجعات في فقه الواقع السياسي والفكري، ص (12)، إعداد: د. عبد الله الرفاعي.
رابط الموضوع : http://www.assakina.com/shobhat/4691.html#ixzz2vYVgqJ9Q
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق